الكلام في صحّة تصرّفات غير ذي الخيار 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الخامس : الخيارات-3   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 4641


ــ[176]ــ

الكلام في صحة تصرف غير ذي الخيار

هذه هي المسألة التي وعدناك آنفاً بالبحث عنها وهي تبتني على القول بانتقال المال إلى غير ذي الخيار في زمان الخيار ، إذ لو قلنا بما سلكه الشيخ الطوسي (قدّس سرّه)(1) من توقّف الملك على انقضاء الخيار فلا ينبغي الإشكال في عدم صحة تصرفات من ليس له الخيار ولا يحتاج ذلك إلى البحث ، لأنه تصرف في ملك الغير وهو باطل وحرام ، وهذا من غير فرق بين التصرفات المعدمة للمال وغيرها فإنها تصرف في ملك الغير وهي محرّمة كانت معدمة للمال أم لم تكن ، فهذا التفصيل لا يرجع إلى محصّل بناءً على ما سلكه الشيخ الطوسي (قدّس سرّه) .

وأمّا على مسلك المشهور فيقع الكلام في أنّ تصرف غير ذي الخيار تصرفاً يمنع عن استرداد العين عند الفسخ صحيح أو أنه تصرف في متعلّق حقّ الغير وغير صحيح ؟ المقتضي لصحة التصرفات موجود حينئذ وهو الملك فلابدّ من أن نتكلّم فيما يمنع عن صحتها .

المشهور بينهم أنّ التصرف فيه باطل بل ربما يظهر من كلماتهم أنّ حرمة التصرفات حينئذ كانت مورداً لاتّفاق الأقدمين ، وهذا لا من جهة أنّ المال ملك ذي الخيار ولم ينتقل إلى من ليس له خيار ، بل من جهة أنّ المال متعلّق لحق الغير والتصرف فيه موجب لزوال حقه نظير بيع عين المرهونة لتعلّق حق الغير بها ، فإنّ البائع كان متمكّناً من إرجاع المال إلى ملكه فالمال متعلّق لحقه .

وأجاب عن ذلك شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(2) وغيره من المحقّقين : بأنّ الخيار إنما هو ملك فسخ العقد وإقراره وليس متعلّقاً بالمال ومن هنا لا يرتفع الخيار

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الخلاف 3 : 22 مسألة 29 ، المبسوط 2 : 211 .

(2) المكاسب 6 : 149 .

ــ[177]ــ

فيما إذا أتلف المال نسياناً أو عصياناً باختياره أو بغير اختياره وصح التقايل مع ذهاب كلا العينين ، ومنهما يظهر أنّ التفاسخ لا يتوقّف على بقاء العوضين لأنه إنما يتعلّق بالعقد لا بالمال وبعد فسخه يرجع المتعاملان إلى عين ماليهما لو كان وإلاّ فإلى بدلهما ، هذا كلّه بناءً عى أنّ المانع يتشبّث بتعلّق حق الخيار بالعين فالجواب عنه حينئذ هو ما أفاده شيخنا الأنصاري .

وأمّا إذا اعترف المانع بعدم تعلّق حق الخيار بالعين ابتداءً ولكنّه ادّعى أنّ الخيار وإن كان متعلّقاً بالعقد لما عرفت من بقائه مع تلف العين وصحة التقايل مع تلف العينين إلاّ أنّ نتيجة هذا الخيار هو إرجاع عين ماله إلى ملكه على تقدير بقائها لأنه معنى الفسخ أعني جعل العقد كالعدم في عالم الاعتبار ، فإن لازمه رجوع كل من المالين إلى ملك مالكهما الأول ، وليس الفسخ كالقرض في أنّ الدائن لا يتمكّن من مطالبة عين ماله مع بقائها لأنه تضمين للمثل أو القيمة ، والعين ملك للمديون فلا يطالبه إلاّ بمثلها أو قيمتها ، بل الفسخ بالخيار معناه جعل المبادلة والعقد كالعدم اعتباراً ، ولازمه رجوع عين المالين إلى مالكهما ومع بقائها لا ينتقل إلى بدلها من المثل أو القيمة ، وحينئذ فلا يجوز إعدام متعلّق حق الغير بهذا المعنى لأنه تفويت لحقّه  ، فلا يكون ما أفاده شيخنا الأنصاري جواباً عن ذلك ، والظاهر أنّ المانع يريد هذا المعنى ولا يدّعي أنّ الخيار حق متعلّق بالعين .

فالجواب عن هذا الوجه هو : أنّ كون حقّ الخيار ثابتاً لذي الخيار بهذا المعنى أي بمعنى كون نتيجته إرجاع عين ماله على تقدير بقائها وإن كان صحيحاً وممّا لا مجال لانكاره لأنه مقتضى الفسخ كما مرّ ، إلاّ أنه لا يقتضي ذلك أزيد من رجوع العين إلى ملك الفاسخ على تقدير بقائها ، وأمّا وجوب إبقائها حتى يرجع إلى مالكها بعد فسخه فهو يحتاج إلى دليل .

وبعبارة اُخرى : أنّ هذا المعنى من الحق لا يمنع عن التصرف في المال وليس

ــ[178]ــ

كسائر الحقوق المانعة عنه كحق الرهانة فإنّ الخيار لا يقتضي إلاّ رجوع المال إليه على تقدير بقائه ، وهذه الملازمة والقضية الشرطية أعني كون العين راجعة إلى الفاسخ لو كانت باقية ثابتة ولكنّها لا توجب إبقاء الموضوع والمال حتى يرجع إلى مالكه بعد الفسخ ، فإنّ وجوب إبقائه وحرمة إتلافه حقيقة أو حكماً يحتاج إلى دليل فإنه ليس من الضروريات والبديهيات لئلاّ يحتاج إلى إقامة البرهان ، ولا برهان يقتضي وجوب حفظ المال حينئذ ، نعم لا نضايق من إطلاق الحق على مثل ذلك أي كون المال راجعاً إليه على تقدير بقائه ولكنه لا يقتضي رجوعه إليه إلاّ على تقدير بقائه ولا يقتضي وجوب إبقائه لأنه بلا دليل ، بل مقتضى عموم « الناس مسلّطون على أموالهم »(1)، أو عمومات البيع والهبة وغيرها جواز التصرف فيه ببيعه وهبته وإتلافه ، فالمقتضي وهو الملك موجود والمانع عنه مفقود ، فلا وجه لعدم جواز تصرفاته في ملكه .

وهذا المقام نظير تعلّق حق الورثة بمال المورّث فإنه لا يمنع عن تصرفات المورّث فيه ببيعه وإتلافه ، لأنّ حقّهم إنما ثبت على تقدير بقائه لا أنه يجب إبقاؤه لينتقل إليهم ، وفي المقام أيضاً لو بقي المال رجع إلى مالكه بالفسخ لا أنه يجب إبقاؤه بل له إتلافه حتى فيما إذا علم أنه أراد الفسخ حتى لا يدفع إليه عين المال ويدفع بدله .

نعم في بعض الموارد قام الدليل على عدم جواز إعدام المال الذي تعلّق به حق ذي الخيار كما في بيع الخيار فإنه إذا باع داره بخمسمائة مع أنها تسوى بألف مشترطاً رجوعها إليه إذا جاء بمثل ثمنها فلا يسوغ للمشتري أن يتلف الدار حتى ينتقل إلى بدلها على تقدير مجيء المشتري بالثمن ، وذلك لأجل الشرط الضمني فإنه اشترط في ضمن المعاملة أن لا يعدم المال ما دام لم ينقض الخيار ، وهو كالشرط الصريح يمنع

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) عوالي اللآلي 3 : 208 ح49 ، بحار الأنوار 2 : 272 .

ــ[179]ــ

عن جواز إتلافه ، وأمّا في غير موارد قيام الدليل على وجوب إبقاء المال فلا وجه لعدم جواز تصرفاته بعد كونه ملكه ، هذا كلّه .

على أنّ سيرة العقلاء والمتشرّعين جرت على جواز التصرف في المال في زمان الخيار ، ومن هنا لم نرَ ولم نسمع عدم تصرف البائع في ثمن المبيع فيما إذا كان حيواناً من جهة ثبوت الخيار للمشتري إلى ثلاثة أيام ، أو إذا باع شيئاً مع اشتراط الخيار لا يتصرف من عليه الخيار في الثمن أو المثمن إلى أن ينقضي زمان الخيار فإنه في الحقيقة على خلاف المقصود بالبيع ، فإنه إنما باعه ليتصرف في ثمنه لا أنه باعه حتى يبقى ثمنه ولا يتصرف فيه .

بل ادّعى شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) عدم الخلاف في جواز التصرف في موارد خيار الغبن والعيب والرؤية ونحوها قبل العلم بالغبن أو العيب أو الرؤية ، نعم علّله (قدّس سرّه) بعدم ثبوت الخيار في الموارد المذكورة قبل العلم بالغبن أو بالعيب أو بتخلّف الوصف ، ولكنّك عرفت في محلّه أنّ الخيار ثابت في الموارد المذكورة من الابتداء والعلم شرط في إعمال الخيار لا في ثبوته ، فالخيار فيها ثابت قبل علمه ولكنّه لا يعلم بالخيار .

والوجه في ذلك : أنّ الخيار في الموارد المذكورة إنما ثبت بالاشتراط الضمني حيث اشتراه منه على أن لا تكون قيمته أزيد من القيمة السوقية أو أن يكون سالماً أو أن يكون متّصفاً بما وصفه به قبل المعاملة ، وحيث إنّ الشرط يتخلّف فيها من الابتداء فيثبت له الخيار من الابتداء لا محالة ، إذ ليس معنى الاشتراط إلاّ جعل الخيار لنفسه على تقدير التخلّف ، فإذا ثبت الخيار فيها من الابتداء وقد ادّعى (قدّس سرّه) عدم الخلاف في جواز التصرف فيها مع وجود الخيار فيثبت بذلك أنّ التصرف

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 6 : 153 ـ 154 .

ــ[180]ــ

في زمان الخيار ممّا لا مانع عنه إذا صدر عمّن لا خيار له ، لأنه صدر من أهله ووقع في محلّه .

نعم الخيار في بعض الموارد يكون منفصلا عن العقد كما في خيار التفليس فلا يكون هناك مانع عن التصرف قبل ثبوته ، ولا يمكن الاستشهاد به في المقام إذ لا خيار فعلي حينئذ ، فإذا باعه مالا وهو مليّ ولم يقبض منه الثمن حتى صار مفلّساً يثبت له حق استرداد عين ماله ، لأنه أولى بها من الديّان ولا يضرب مع الغرماء كما تقدّم ، ومثله لا يكون مانعاً عن جواز تصرفات المشترى في المال قبل التفليس لعدم ثبوت حق في زمان التصرف وإنما يصير فعلياً بعد تفليسه ، وهذا بخلاف خيار الغبن والعيب والرؤية كما تقدّم .

والمتحصّل إلى هنا : أنه لا دليل على عدم جواز تصرفات من عليه الخيار في ملكه بوجه ، وبعد ما بيّنا لك مدرك المشهور وأنّهم ذهبوا إلى المنع من جهة تعلّق حق الغير بالمال على نحو تقدّم بيانه تعرف أنّ المسألة ليست محلا للإشكال كما ذكره شيخنا الاُستاذ(1) وشيخنا الأنصاري (قدّس سرّهما) فإنّ ذهاب المشهور إلى المنع مستند إلى تعلّق حقّ الغير بالمال وقد عرفت الجواب عنه ، ولا نحتمل أن يكون المشهور قد عثروا في ذلك على دليل لم نعثر عليه ، فالمسألة إذن ظاهرة لا إشكال فيها  .

ثم إنه إذا قلنا بحرمة التصرف في المال في زمان الخيار فهل إذا خالف وباع ماله أو وهبه تقع معاملاته باطلة أو أنه لا ملازمة بين عصيانه ونفوذ معاملاته ؟ فيه خلاف بيننا وبين شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه) فعلى مسلك شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه) تقع تصرفاته باطلة لأنه يرى الممنوع شرعاً كالممتنع عقلا ، فلا قدرة له على تسليم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منية الطالب 3 : 316 .

 
 

ــ[181]ــ

المبيع شرعاً ومع عدم القدرة عليه تبطل المعاملة كما سننقل كلامه هذا في بحث الاُصول(1) عند التعرّض لمسألة النهي في المعاملات ، وأمّا على مسلكنا فلا مانع من نفوذ المعاملة وإن كان ذلك معصية ، إذ لا ملازمة بين الحرمة التكليفية وعدم نفوذ المعاملة وسيأتي أنه لا دليل على اعتبار القدرة على المعاملة شرعاً في صحتها ، إذ المعتبر هو القدرة عليها تكويناً فقط .
ــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 4 (موسوعة الإمام الخوئي 46) : 175 فما بعدها .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net