الكلام في تنجيس المتنجِّس مع الواسطة 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الثالث:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 7798


   إلاّ أن الكلام كله في أن تنجيس المتنجس هل يختص بالمتنجس بلا واسطة أعني ما تنجس بالعين النجسة من غير واسطة ، أو أنه يعمّه والمتنجس بالمتنجس وهكذا ولو إلى ألف واسطة ؟ حيث إن الأخبار المتقدمة بحسب الغالب واردة في المتنجس بلا واسطة كما في الأواني والفرش ونحوهما ، وأما المتنجس بالمتنجس ومع الواسطة فلم يدل على تنجيسه شيء فيحتاج تعميم الحكم له إلى اقامة الدليل .

   فقد يقال بالتعميم ويسـتدل عليه بصحيحة البقبـاق ، قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن فضل الهرّة والشّاة والبقرة والابل إلى أن قال فلم أترك شيئاً إلاّ سألته عنه ، فقال : لا بأس به حتى انتهيت إلى الكلب فقال : رجس نجس لا تتوضأ بفضله واصبب ذلك الماء واغسله بالتراب أوّل مرّة ثم بالماء»(1) بتقريب أنها دلّت على أنّ المناط في تنجّس الماء وعدم جواز استعماله في الشرب أو الوضوء إنما هو ملاقاته النجس ، والنجس كما يشمل الأعيان النجسة كذلك يشمل المتنجسات ، وحيث إن قوله (عليه السلام) «رجس نجس» بمنزلة كبرى كلية للصغرى المذكورة في كلامه أعني ملاقاة الماء للنجس وكالعلة للحكم بعدم جواز شربه أو التوضؤ منه ، فلا محالة يتعدزى من الكلب في الصحيحة إلى كل نجس أو متنجس ، لأنّ العلّة تعمّم الحكم كما أنها قد تخصّصه وكأنه قال : هذا ماء لاقى نجساً وكل ما لاقى النجس لا يتوضأ به ولا يجوز شربه ، وهذا يأتي فيما إذا لاقى الماء مثلاً بالمتنجس فيقال : إنه لاقى نجساً وكل ما  لاقى النجس لا يجوز شربه ولا التوضؤ به ، وهكذا تتشكل صغرى وكبرى في جميع ملاقيات النجس والمتنجس سواء كان مع الواسطة أم بدونها ونتيجته الحكم بتنجيس المتنجس ولو بألف واسطة .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 226 / أبواب الأسآر ب 1 ح 4 .

ــ[214]ــ

   ويؤيد ذلك برواية معاوية بن شريح ، قال : «سأل عذافر أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا عنده عن سؤر السنور والشاة والبقرة والبعير والحمار والفرس والبغل والسباع يشرب منه أو يتوضأ منه ؟ فقال : نعم ، إشرب منه وتوضأ منه ، قال قلت له : الكلب ؟ قال : لا ، قلت : أليس هو سبع ؟ قال : لا والله إنه نجس ، لا والله إنه نجس» (1) حيث إن ظاهرها أنّ العلّة في الحكم بعدم جواز الشرب والتوضؤ من سؤر الكلب إنما هي نجاسة ما باشره ولاقاه فيتعدّى من الكلب إلى كل ما هو نجس أو متنجس هذا .

   ولا يخفى أن إطلاق النجس على المتنجّس وإن كان أمراً شائعاً لأنه أعم من الأعيان النجسة والمتنجسة ويصحّ أن يقال : إنّ ثوبي نجس ، إلاّ أن كلمة الرجس لم يعهد استعمالها في شيء من المتنجسات ، بل لا يكاد أن يصح ، فهل ترى صحة إطلاقها على مؤمن ورع إذا تنجس بدنه بشيء ؟ وذلك لأن الرجس بمعنى «پليد» وهو ما بلغ أعلى مراتب الخباثة والقذارة فلا يصح إطلاقه على المتنجس بوجه .

   على أنه لا قرينة في الصحيحة على أن قوله (عليه السلام) «رجس نجس» تعليل للحكم بعدم جواز التوضؤ أو الشرب منه ، بل فيها قرينة على عدم إرادة التعليل منه وهي قوله (عليه السلام) : «واغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء» ، فان لازم حمله على التعليل والتعدِّي عن مورد الصحيحة إلى غيره الحكم بوجوب التعفير في ملاقي جميع الأعيان النجسة والمتنجسة . مع أنه مختص بولوغ الكلب ولا يأتي في غيره من النجاسات فضلاً عن المتنجسات . وأما الرواية فهي ضعيفة بمعاوية ، على أنها قاصرة الدلالة على المدّعى ، لأنّ قوله (عليه السلام) «لا والله إنه نجس» لم يرد تعليلاً للحكم المتقدِّم عليه وإنما ورد دفعاً لما توهمه السائل من أن الكلب من السباع التي حكم (عليه السلام) بطهارة سؤرها ، فقد دفعه بأن الكلب ليس من تلك السباع ، فهو في الحقيقة كالإخبار دون التعليل ، فهذا الاستدلال ساقط .

   والصحيح أن يستدل على تنجيس المتنجس ـ ولو مع الواسطة ـ بالأخبار الواردة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 226 / أبواب الأسآر ب 1 ح 6 .

ــ[215]ــ

في عدم جواز التوضؤ بالماء القليل الذي أصابته يد قذرة ، وقد تقدمت الاشارة إليها آنفاً ، ومن جملتها : حسنة زرارة الواردة في الوضوءات البيانية حيث اشتملت على حكاية الإمام (عليه السلام) عن وضوء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنه دعا بقعب فيه شيء من الماء ، وبعد ما حسر عن ذراعيه وغمس فيه كفه اليمنى قال : «هكذا إذا كانت الكف طاهرة»(1) فانّ مفهومها أن الكف إذا لم تكن طاهرة فلا يجوز التوضؤ بادخالها في الماء القليل ، ولا وجه لمنعه إلاّ انفعال الماء القليل بملاقاة اليد المتنجسة ومقتضى إطلاقها أنه لا فرق في ذلك بين أن تكون الكف متنجسة بلا واسطة وبين ما إذا تنجّست مع الواسطة ، كما إذا تنجست يده بالمتنجس بلا واسطة ثم أدخلها في الماء القليل ، فان المتنجس بلا واسطة قد عرفت منجسيته فبملاقاته تكون الكف قذرة ، فاذا أدخلها في الاناء فيصح أن يقال : إن الماء لاقته كف غير طاهرة فتؤثر في انفعاله ولا يجوز شربه ولا التوضؤ به ، ثم ننقل الكلام إلى ما أصابه ذلك الماء المتنجس بواسطتين ونقول : إنه مما أصابه ما ليس بطاهر فينجس ولا يجوز التوضؤ به ولا شربه وهكذا .

   والمناقشة في دلالتها بأن منعه (عليه السلام) عن التوضؤ من الماء في مفروض المسألة غير ظاهر الاستناد إلى تنجيس المتنجس ، وذلك لاحتمال اسـتناده إلى عدم جواز الغسل والتوضؤ من الماء المستعمل في رفع الخبث ـ كما هو الحال في المستعمل في رفع الحدث الأكبر ـ مع الحكم بطهارته في نفسه ، فان الماء يصدق عليه عنوان المستعمل بمجرّد إدخال اليد فيه ، وقد دلّت رواية ابن سنان على أن الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به الرجل من الجنابة لا يتوضأ منه وأشباهه (2) ، ولما ذكرناه بنوا على عدم جواز التوضؤ بماء الاستنجاء مع القول بطهارته ، فهذه الأخبار مجملة وغير قابلة للاستدلال بها على منجسية المتنجسات مطلقاً  كما ناقشنا بذلك في بحث انفعال الماء القليل .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 387 / أبواب الوضوء ب 15 ح 2 .

(2) الوسائل 1 : 215 / أبواب الماء المضاف ب 9 ح 13 .

ــ[216]ــ

   مندفعة بوجوه : الأوّل : أن الظاهر المتفاهم من الصحيحة وغيرها أن منعهم عن التوضؤ بذلك الماء مستند إلى منجسية اليد المتنجسة ـ ولو من جهة بنائهم على تنجيس المتنجس في الجملة ـ ولا يكاد يستفاد منها حسب المتفاهم العرفي أن المنع من جهة كون الماء من المستعمل في إزالة الخبث ، فاحتمال ذلك على خلاف ظواهر الأخبار .

   الثاني : أن المتنجس الملاقي مع الماء من اليد ونحوها على ثلاثة أقسام : فان المتنجس قد يكون متحملاً لشيء من الأجزاء النجسة من البول والدم ونحوهما ، وقد يتنجّس بعين النجس إلاّ أنه لا يتحمّل شيئاً من أجزائها لازالتها عنه بخرقة أو بشيء آخر ، وثالثة يتنجس بالمتنجس كاليد المتنجسة بملاقاة الاناء المتنجس فان المتنجس بلا واسطة منجس كما مرّ . أما القسمان الأولان فلا نزاع في تنجيسـهما الماء القليل لأنهما من المتنجس بلا واسطة أو حامل للأجزاء النجسة ، فالمنع عن التوضؤ يستند إلى سراية النجاسة من النجس إلى الماء ، وأما القسم الثالث فالمنع عن استعماله أيضاً يستند إلى سراية النجاسة إليه إذا قلنا بمنجسية المتنجس ولو مع الواسطة ، ويستند إلى كونه من الماء المستعمل في إزالة الخبث إذا منعنا عن تنجيس المتنجس مع الواسطة ، إلاّ أن حمل الرواية على خصوص قسم واحد من أقسام المتنجس الملاقي للماء خلاف الظاهر فلا يصار إليه .

   الثالث : أن المنع عن استعمال الماء القليل في مفروض الكلام لو كان مستنداً إلى أنه من الماء المستعمل في رفع الخبث لم يكن للأمر بإراقته في بعض الأخبار المانعة وجه صحيح ، لأنه باق على طهارته ولا مانع من استعماله في الشرب وتطهير البدن ونحوهما وإن لم يصح منه الوضوء . فالانصاف أن دلالة الأخبار على منجسية المتنجس ولو مع الواسطة غير قابلة للمناقشة ، وما ناقشنا به في دلالتها على ذلك في بحث انفعال الماء القليل مما لا يمكن المساعدة عليه .

   إلاّ أ نّا مع هذا  كلّه بحاجة في تتميم هذا المدعى من التشبث بذيل الاجماع وعدم القول بالفصل ، لأن مورد الأخبار إنما هو الماء وهو الذي لا يفرق فيه بين المتنجس

ــ[217]ــ

بلا واسطة والمتنجس معها ، والتعدي عنه إلى الجوامد لا يتم إلاّ بالاجماع وعدم القول بالفصل بين الماء وغيره ، لأ نّا نحتمل أن يكون تأثير المتنجس في الماء مطلقاً من أجل لطافته وتأثره بما لا يتأثر به غيره ، ومن هنا اهتم الشارع بحفظه ونظافته ، وورد أن من اغتسل من الماء الذي قد اغتسل فيه فأصابه الجذام فلا يلومنّ إلاّ نفسه (1) أو أمر بالاجتناب عنه إذا لاقاه المتنجس ولو مع الواسطة ، وليس هذا إلاّ لاهتمام الشارع بنظافة الماء وتحفظه عليه ، ومع هذا الاحتمال لا مسوّغ للتعدي عن الماء إلى غيره ، فلو تعدينا فنتعدى إلى بقية المائعات لأن حكمها حكم الماء ، وأما الجوامد فلا .

   على أن السراية المعتبرة في نجاسة الملاقي أمر ارتكازي ولا إشكال في عدم تحققها عند تعدد الواسطة وكثرتها ، مثلاً إذا لاقى شيء نجساً رطباً فلا محالة تسري نجاسته إلى ملاقيه بالارتكاز وإذا لاقى ذلك المتنجس شيئاً ثالثاً فهب أ نّا التزمنا بتحقق السراية منه إلى الثالث أيضاً بالارتكاز ، إلاّ أن الثالث إذا لاقى شيئاً رابعاً وهكذا إلى التاسع والعاشر فتنقطع السراية بالارتكاز ، ومن هنا لا يسعنا التعدي من الماء إلى الجوامد بوجه . ولولا مخافة الاجماع المدعى والشهرة المتحققة على تنجيس المتنجس مطلقاً لاقتصرنا في الحكم بتنجيس المتنجس على خصوص الماء أو المائعات ، ولذا استشكلنا في تعاليقنا على المتن في تنجيس المتنجس على إطلاقه لما عرفت من عدم دلالة الدليل على منجسية المتنجس ـ في غير الماء والمائعات ـ مع الواسطة ، ومعه فالحكم بمنجسيته على إطلاقه مبني على الاحتياط .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net