الأخبار التي استدلّ بها على عدم منجِّسيّة المتنجِّس 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الثالث:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 7607


   الوجه الثالث : الأخبار ، وقد استدلوا بجملة منها على عدم منجسية المتنجس ولنتعرض إلى أهمها فمنها : موثقة حنان بن سدير ، قال : «سمعت رجلاً سأل أبا عبدالله (عليه السلام) فقال : إني ربما بلت فلا أقدر على الماء ويشتد ذلك عليَّ ؟ فقال : إذا بلت وتمسحت فامسح ذكرك بريقك ، فان وجدت شيئاً فقل هذا من ذاك» (1) بتقريب أن المتنجس لو كان منجساً لما أصابه كان مسح موضع البول المتنجس به بالريق ونحوه موجباً لاتساع النجاسة وزيادتها لا موجباً لطهارته ، فمنه يظهر أن المتنجس غير منجس لما أصابه . وفيه : أن تقريب الاستدلال بالموثقة إنما هو بأحد وجهين :

   أحدهما : أن يكون وجه الاشتداد على السائل خروج البلل منه بعد بوله وتمسحه وقبل استبرائه ، فانه يحتمل أن يكون بولاً حينئذ وهو يوجب تنجس ثوبه بل بدنه وانتقاض طهارته لأنه من البلل الخارج قبل الاسـتبراء وبه يقع في الشدة لا محالة فعلّمه (عليه السلام) طريقاً يتردد بسببه في أن الرطوبة من البلل أو من غيره ، وهو أن يمسح موضع البول من ذكره بريقه حتى إذا وجد رطوبة يقول إنها من ريقه لا من البلل الخارج منه بعد بوله ، فعلى هذا تدل الموثقة على عدم تنجيس المتنجس أعني موضع البول المتنجس به .

   ولكن يبعّد ذلك أمران : أحدهما : أنه (عليه السلام) إنما أمره بأن يمسح ذكره بريقه ولم يأمره بمسح موضع البول من ذكره فلا وجه لتقييده بموضع البول أبداً . وثانيهما : أن المتنجس إذا لم يكن منجساً فلماذا لم يعلّم السائل طريقة الاستبراء التي توصله إلى القطع بعدم كون الرطوبة بولاً منجساً وناقضاً لطهارته ، لأنه إذا بال واستبرأ فلا محالة يحكم بطهارة البلل الخارج منه بعد ذلك ، لأن البلل بعد الاستبراء محكوم بطهارته في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 284 / أبواب نواقض الوضوء ب 13 ح 7 .

ــ[222]ــ

نفسه ولا ينجّسه ملاقاة موضع البول المتنجس به لعدم تنجيس المتنجس على الفرض ، ومعه لم تكن حاجة إلى تعليم طريقة لا تفيده القطع بطهارته . هذا على أن الإشتداد لو كان مستنداً إلى خروج البلل بعد بوله لم يفرق الحال في الاشتداد بين قدرته على الماء وعدمها ، لأن البلل قبل الاستبراء محتمل البولية وناقض للطهارة سواء تمكن من الماء وغسل موضع البول به أم لا ، وانما يحكم بطهارته فيما إذا خرج بعد الاستبراء ومعه ما معنى قوله : فلا أقدر على الماء .

   وثانيهما : أن يكون الاشتداد عليه مستنداً إلى خروج البلل بعد بوله واستبرائه ـ  كما قد يتّفق  ـ فانه أيضاً يوجب الضيق والاشتداد ، لأن البلل متنجس بملاقاة موضع البول حينئذ لعدم طهارته فانه مسحه ولم يغسله ، والإمام (عليه السلام) أراد أن يعلّمه طريق التخلص عن ذلك فأمره بأن يمسح ذكره بريقه حتى يتردد فيما يجده من الرطوبة في أنها من البلل الخارج عن موضع البول ليكون متنجساً به ، أو أنها من ريق فمه ولم يخرج عن موضع البول كي يحكم بطهارته ، ومع الشك في نجاسته يحكم بطهارته بقاعدة الطهارة .

   وعليه فالموثقة تقتضي منجسية المتنجس وتدل على أن الرطوبة لو كانت من البلل الخارج عن موضع البول حكم بنجاستها لملاقاتها المتنجس وهو موضع البول ، وإنما لا يحكم بنجاستها فيما إذا مسح ذكره بريقه حتى يتردد في أن الرطوبة من ريقه أو مما خرج عن المحل المتنجس ، فلا دلالة لها على عدم تنجيس المتنجس بوجه . وهذا الاحتمال هو الذي يقتضيه ظاهر الموثقة ، وعلى تقدير التنزل وعدم كونها ظاهرة في ذلك فلا أقل من احتماله ومعه تصبح مجملة وتسقط عن الاعتبار .

   ومنها : صحيحة حكم بن حكيم ابن أخي خلاد أنه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) فقال له : «أبول فلا اُصيب الماء وقد أصاب يدي شيء من البول فأمسحه بالحائط والتراب ثم تعرق يدي فأمسح (فأمس) به وجهي أو بعض جسدي ، أو يصيب ثوبي قال : لا بأس به»(1) لأنها نفت البأس عن مسح الوجه أو بعض جسده أو إصابة ثوبه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 401 / أبواب النجاسات ب 6 ح 1 .

ــ[223]ــ

باليد المتنجسة الرطبة وهو معنى عدم تنجيس المتنجس . وفيه : أن السائل لم يفرض في كلامه أن مسح وجهه أو بعض جسده كان بالموضع المتنجس من يده ، لأن المتنجس إنما هو موضع معيّن أو غير معين منها ولم تجر العادة على مسح الوجه أو غيره بجميع أجزاء اليد ، كما أن العرق لا يحيط بتمامها عادة وإنما تتعرق الناحية التي أصابها شيء من البول مثلاً ، فان كانت تلك الناحية معينة في يده وعلمنا أنها قد لاقت وجهه أو بعض جسده وشككنا في أن الملاقي هل كان هو الموضع المتنجس منها أو غيره من المواضع الطاهرة فالأصل أن الموضع المتنجس لم يلاق الوجه أو بعض جسده ، وأما إذا كانت الناحية التي أصابها شيء من البول غير معينة فتكون اليد من الشبهة المحصورة للعلم بنجاسة بعض مواضعها وقد بيّنا في محله أن ملاقي أحد أطراف الشبهة محكوم بالطهارة (1) .

   ومنها : رواية سماعة قال «قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام) : إنِّي أبول ثم أتمسّح بالأحجار فيجيء مني البلل ما يفسد سراويلي ؟ قال : ليس به بأس»(2) لأنّ نفيها البأس عن البلل مع العلم بملاقاته الموضع المتنجس بالبول لا يستقيم إلاّ على القول بعدم تنجيس المتنجس ، هذا . ولا يخفى أنّ الرواية لا بدّ من تقييدها بما إذا كان البلل قد خرج بعد استبرائه ، وذلك لما دلّ على نجاسة البلل إذا خرج قبله فلا بدّ من تقييدها بذلك ، بل عن النسخة المطبوعة من التهذيب أنها مقيدة بالاستبراء في نفسها فكأنه قال فيجيء مني البلل بعد استبرائي ما يفسد سراويلي (3) هذا .

   ثم إن الرواية غير صالحة للاعتماد عليها في مقام الاستدلال وذلك أما أوّلاً : فلأن في سندها الحكم بن مسكين وهو ممن لم ينص الأصحاب على مدحه ووثاقته ، نعم ذهب الشهيد (قدس سره) إلى اعتبار رواياته حيث عمل بها معللاً بأنه لم يرد طعن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الاُصول 2 : 410 .

(2) الوسائل 1 : 283 /  أبواب نواقض الوضوء ب 13 ح 4 .

(3) التهذيب 1 : 51 / 150 .

ــ[224]ــ

في حقه (1) واعترضه الشهيد الثاني (قدس سره) بأن مجرد عدم الجرح لا يكفي في الاعتماد على رواية الرجل بل يعتبر توثيقه ومدحه(2) ، وهو كما لم يرد طعن في حقه كذلك لم يرد مدحه وتوثيقه ومن هنا ذهب السبزواري وصاحب المدارك (قدس سرهما) إلى تضعيفه . وكذلك الحال في الهيثم ابن أبي مسروق النهدي وهو الذي روى عن الحكم حيث لم تثبت وثاقته ولم يرد في حقه غير أنه فاضل وأنه قريب الأمر فليراجع .

   وأمّا ثانياً : فلأنها قاصرة عن إثبات المدعى ، لأنه لم يظهر من الرواية أن نفيه (عليه السلام) البأس ناظر إلى عدم تنجيس المتنجس وأن محل البول المتنجس به لا يتنجس به البلل الخارج منه لتكون الرواية مثبتة للمدعى ، لاحتمال أنها ناظرة إلى طهارة محل البول بالتمسح بشيء كما هو كذلك في موضع الغائط ، فكأنه (عليه السلام) سئل عن أن محل البول يطهر بالتمسح حتى لا يتنجس به البلل الخارج منه أو لا يطهر بغير الغسل ، فالبلل الخارج منه متنجس به لا محالة ، فأجاب عنه بقوله : «ليس به بأس» ومعناه أن المحل يطهر بالتمسح ولا يتنجس البلل الخارج منه بسببه ، ومعه تحمل الرواية على التقية لموافقتها لمذهب العامة كما هو الحال في غيرها من الأخبار الواردة بهذا المضمون ، بل إنّ هذا الاحتمال هو الظاهر البادي للنظر من الرواية ، وعلى تقدير التنزل فهي مجملة لاحتمالها لكلا الأمرين المتقدمين ومعه لا يمكن الاعتماد عليها في شيء .

   وأما ما ربما يحتمل من حمل الرواية على صورة خروج البلل من غير أن يصيب مخرج البول المتنجس به ، كما إذا خرج مستقيماً وأصاب السراويل أو غيره فهو بعيد غايته ، لأنه يصيب المخرج عادة ولا سيما إذا خرج بالفتور .

   ومنها : صحيحة العيص قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء ، فمسح ذكره بحجر وقد عرق ذكره وفخذاه ، قال : يغسل ذكره

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ، (2) نقلهما المجلسي في روضة المتقين 14 : 63 .

ــ[225]ــ

وفخـذيه . وسألته عمّن مسح ذكره بيده ثم عرقت يده فأصـابه ثوبه يغسل ثوبه ؟ قال : لا»(1) حيث نفت لزوم غسل ثوبه مع ملاقاته اليد المتنجسة بمسح ذكره .

   ويدفعه أوّلاً : أن الرواية لم يفرض في ذيلها مسح موضع البول من الذكر بيده حتى تتنجس به يده ولعلّه مسح غير ذلك المحل ، إلاّ أنه توهّم أن مسح الذكر يوجب نجاسة اليد كما أنه ينقض الوضوء عند أكثر المخالفين(2) .

   وثانياً : أنه لو سلمنا أن ذيل الصحيحة مطلق لعدم استفصاله بين مسح موضع البول ومسح غيره من مواضع الذكر وترك الاستفصال دليل العموم ، وأن مقتضى إطلاقه عدم تنجيس المتنجس ، فلا مناص من تقييد إطلاقها بما دلّ على منجسية المتنجس ، ومنه صدر الصحيحة حيث دلت على وجوب غسل ذكره وفخذيه عند عرقها ، لوضوح أنه لا وجه له إلاّ تنجسها بالعرق المتنجس بموضع البول من ذكره فصدرها وغيره مما دلّ على منجسية المتنجس قرينة على حمل إطلاق الذيل على التمسح بغير موضع البول من ذكره .

   وأما احتمال أن العرق لعله كان موجوداً حال بوله في ذكره فقد أصابه البول ونجّسه ثم أصاب ذلك العرق المتنجس فخذه وذكره أو غيرهما ، وأن الصحيحة خارجة حينئذ عما نحن بصدده ، لما تقدّم من أن المائعات المتنجسة مما لا كلام في تنجيسها لملاقياتها ، وإنما الكلام في المتنجسات التي زالت عنها عين النجس وجفت ثم أصابها شيء رطب ، فهو من البعد بمكان ، حيث إن عرق الذكر بحيث أن يصيبه البول عند خروجه أمر غير معهود ، وعلى تقدير تحققه فلا ريب في ندرته ولا مساغ معه لحمل الصحيحة عليه .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ورد صدرها في الوسائل 1 : 350 / أبواب أحكام الخلوة ب 31 ح 2 وكذا في 3 : 441 / أبواب النجاسات ب 26 ح 1 وذيلها في 3 : 401 / أبواب النجاسات ب 6 ح 2 .

(2) الأم 1 : 19 ، المجموع 2 : 41 ، مقدّمات ابن رشد 1 : 69 ، المبسوط للسرخسي 1 : 66 المحلّى 1 : 237 ، بداية المجتهد 1 : 39 ، الوجيز 1 : 16 فتح العزيز 2 : 37 ـ 38 المغني لابن قدامة 1  : 202 ، الشرح الكبير 1 : 216 .

ــ[226]ــ

   وثالثاً : أنّ الصحيحة لو سلّمنا أن ظاهرها مسح خصوص موضع البول من ذكره بقرينة مقابله أعني قوله : «فمسح ذكره بحجر» لأنه بمعنى مسح خصوص موضع البول بالحجر ، لما أمكننا الاعتماد عليها ، فيما نحن فيه ، إذ لا دلالة لها على أن ما أصاب ثوبه إنما هو خصوص الموضع المتنجس من يده ، لاحتمال أن يكون ما أصابه هو الموضع غير المتنجس منها ، لاطلاق الرواية وعدم تقييدها بشيء ، وعليه فان كان الموضع المتنجس من يده معيناً فيشك في أنه هل أصاب ثوبه أم لم يصبه فالأصل عدم إصابته وإذا  كان الموضع المتنجس غير معين فيكون الثوب من ملاقي أحد أطراف الشبهة وملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة محكوم بالطهارة على ما حقّقناه في محلِّه (1) . وبعبارة اُخرى : أنّ الرواية كما عرفتها مشتبهة الوجه والمراد ، حيث لم تقم قرينة على أنّ الوجه في نفيها الغسل بقوله : «لا» هو عدم تنجيس المتنجس ، أو أنّ وجهه أنّ الثوب لاقى أحد أطراف الشبهة المحصورة وهو محكوم بالطهارة كما مر . وكيف كان فهذه الرواية غير قابلة للاعتماد عليها .

   ومنها : رواية حفص الأعور(2) حيث دلّت على أن الدنّ المتنجس بالخمر إذا جف فلا بأس بجعل الخل فيه . ويدفعها أن تجفيف الدّن من الخمر ثم جعل الخل فيه إنما وقع في كلام السائل ، حيث لم يرد في كلامه (عليه السلام) غير قوله : «نعم» وهو كما يحتمل أن يراد به جعل الخل في دنّ الخمر بعد تجفيفه من دون غسله ـ وهو معنى الاستدلال بها على عدم تنجيس المتنجس ـ كذلك يحتمل أن يراد به جعل الخل فيه بعد غسله فدلالتها إنما هو بالاطلاق ، ولكن لا مناص من تقييدها بما بعد الغسل ، لموثقة عمّار المتقدِّمة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «سألته عن الدنّ يكون فيه الخمر هل يصلح أن يكون فيه خل أو ماء كامخ أو زيتون ؟ قال : إذا غسل فلا بأس»(3) .. حيث وردت في تلك المسألة بعينها ودلت على عدم البأس بجعل الخل في الدنّ المتنجس

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الاُصول 2 : 410 .

(2) الوسائل 3 : 495 / أبواب النجاسات ب 51 ح 2 .

(3) الوسائل 3 : 494 / أبواب النجاسات ب 51 ح 1  وتقدّمت الإشارة إليها في ص 211 .

ــ[227]ــ

بالخمر مقيداً بما إذا كان بعد غسله .

   هذا ، ثم إنّ الرواية على تقدير صراحتها في إرادة كفاية الجفاف من دون غسل أيضاً لا يمكننا الاعتماد عليها في المقام ، وذلك لاجمالها حيث إنها وإن احتمل أن يكون الوجه في قوله (عليه السلام) فيها «نعم» هو عدم منجسـية المتنجس ، إلاّ أن من المحتمل أن تكون ناظرة إلى طهارة الخمر كغيرها من الأخبار الواردة في طهارتها وعليه فقوله «نعم» مستند إلى عدم نجاسة الدنّ في نفسه لطهارة ما أصابه من الخمر وإن حرم شربها ، لأنها إذا جفت حينئذ ولم يبق فيه شيء من أجزائها فلا مانع من أن يجعل فيه الخل أو شيء آخر من المائعات . ويقرّب هذا الاحتمال أن لراوي هذا الحديث رواية اُخرى أيضاً تقتضي طهارة الخمر في نفسها ، قال «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إني آخذ الركوة فيقال إنه إذا جعل فيها الخمر وغسلت ثم جعل فيها البختج كان أطيب له ، فنأخذ الركوة فنجعل فيها الخمر فنخضخضه ثم نصبه فنجعل فيها البختج ، قال : لا بأس به» (1) .

   ومنها : ما رواه علي بن مهزيار قال : «كتب إليه سليمان بن رشيد يخبره أنه بال في ظلمة الليل وأنه أصاب كفه برد نقطة من البول لم يشك أنه أصابه ولم يره ، وأنه مسحه بخرقة ثم نسي أن يغسله وتمسح بدهن فمسح به كفيه ووجهه ورأسه ثم توضأ وضوء الصلاة فصلّى ؟ فأجابه بجواب قرأته بخطه : أما ما توهّمت مما أصاب يدك فليس بشيء إلاّ ما تحقّق ، فان حقّقت ذلك كنت حقيقاً أن تعيد الصلوات اللواتي كنت صليتهن بذلك الوضوء بعينه ما كان منهن في وقتها ، وما فات وقتها فلا إعادة عليك لها ، من قبل أن الرجل إذا كان ثوبه نجساً لم يعد الصلاة إلاّ ما كان في وقت ، وإذا كان جنباً أو صلّى على غير وضوء فعليه إعادة الصلوات المكتوبات اللواتي فاتته ، لأن الثوب خلاف الجسد ، فاعمل على ذلك إن شاء الله» (2) حيث إنها تكفلت ببيان أمرين :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 25 : 368 / أبواب الأشربة المحرمة ب 30 ح 3 .

(2) الوسائل 3 : 479 / أبواب النجاسات ب 42 ح 1 .

ــ[228]ــ

   أحدهما : صغرى أن الرجل قد تنجست يده بالبول وأنه لم يغسلها ، وإنما مسحها بخرقة ثم تمسح بالدهن ومسح به كفيه ووجهه ورأسه ثم توضأ وصلّى . وثانيهما : كبرى أن من صلّى في النجس ـ من ثوب أو بدن ـ والتفت إلى ذلك بعد الصلاة فانما يجب عليه إعادتها في الوقت ولا يجب قضاؤها خارج الوقت . نعم ، لو صلّى محدثاً ثم التفت إلى حدثه بعد الصلاة تجب عليه إعادتها في الوقت كما يجب قضاؤها خارج الوقت سواء أ كان محدثاً بالأصغر أم كان محدثاً بالأكبر . وقد علم من تطبيق الكبرى المذكورة على موردها وصغراها أن المتنجس غير منجّس ، فانه لولا ذلك لتعيّن الحكم ببطلان الوضوء لانفعال الماء المستعمل فيه بملاقاة يده المتنجسة ومعه تجب إعادة الصلاة التي صلاها بذلك الوضوء في وقتها ، كما يجب قضاؤها خارج الوقت مع أنه (عليه السلام) لم يحكم ببطلان الوضوء بل عدّ الرجل ممن صلّى بوضوء وأوجب عليه الاعادة في وقتها لانكشاف أن صلاته وقعت مع النجس في وقتها ، فصريح تطبيقه هذا أنّ المتنجس غير منجس لما أصابه .

   وتوهّم أنّ الوضوء في مورد الصحيحة غير صحيح مطلقاً قلنا بمنجسية المتنجس أم قلنا بعدمه فان طهارة المحل معتبرة في صحة الوضوء ، وحيث إن يده متنجسة ـ  في مفروض الرواية  ـ بملاقاتها البول وعدم غسلها فلا مناص من الحكم ببطلان وضوئه وصلاته التي صلاّها بهذا الوضوء ، مندفع بأن اشتراط طهارة الأعضاء في الوضوء مما لم يرد في أي دليل ، غير أنهم اعتبروها شرطاً في صحته نظراً إلى أنّ المتنجس كالنجس منجّس عندهم ، فانّ نجاسة المحل حينئذ تقتضي سراية النجاسة إلى الماء وطهارة الماء شرط في صحة الوضوء ، فاذا أنكرنا منجسية المتنجس فلا يبقى موقع لاشتراط الطهارة في أعضاء الوضوء ، لأن الماء على ذلك لا ينفعل بملاقاة العضو المتنجس ومع طهارة الماء لا مناص من الحكم بصحة الوضوء . نعم ، يبقى المحل على نجاسته ، وحيث إنه صلّى مع نجاسة بدنه فقد وجبت عليه إعادة صلاته في الوقت ولا يجب عليه قضاؤها خارج الوقت لتمامية وضوئه على الفرض .

   فالانصاف أن الصحيحة ظاهرة الدلالة على المدعى . ويؤكد ذلك ـ أعني عدم تنجيس المتنجس ـ تقييد الإمام (عليه السلام) الحكم بالاعادة بالصلوات اللّواتي

ــ[229]ــ

صلاّها بذلك الوضوء بعينه ، والوجه في ذلك أن بهذا القيد قد خرجت الصلاة الواقعة بغير ذلك الوضوء كما إذا توضأ ثانياً أو ثالثاً وصلّى به فلا تجب إعادتها ولا قضاؤها ولا يتم هذا إلاّ على القول بعدم تنجيس المتنجس ، لأن يده المتنجسة لو كانت منجسة لما أصابها لأوجبت تنجس الماء وجميع أعضاء الوضوء ، ولا بد معه من الحكم ببطلان صلواته مطلقاً سواء أ كان صلاّها بذلك الوضوء أم بغيره ، لأن أعضاء وضوئه المتنجسة بسبب ذلك الوضوء باقية على نجاستها ولم يقع عليها أي مطهّر إلاّ أن المتنجس لما لم يكن منجّساً ولم تستلزم نجاسة يده تنجس الماء ولا أعضاء وضوئه لم يحكم ببطلان صلواته اللّواتي صلاّها بالوضوء الثاني أو الثالث وهكذا ، وذلك لطهارة بدنه وأعضاء وضوئه عند التوضؤ الثاني أو الثالث وهكذا ، أما غير يده المتنجسة بالبول فلعدم سراية النجاسة من يده إليه ، وأما يده المتنجسة فللقطع بطهارتها لأنه غسلها مرتين حيث توضأ مرّتين أو أكثر ، وهذا بخلاف الصلوات اللواتي صلاّها بذلك الوضوء بعينه لأن النجاسة البولية لا ترتفع بغسل يده مرّة واحدة ، فاذا صلّى مع نجاسة بدنه فلا محالة يحكم بوجوب إعادتها في الوقت ، فالصحيحة غير قابلة للمناقشة في دلالتها .

   والصحيح في الجواب أن يقال : إن الرواية مضمرة ولا اعتبار بالمضمرات إلاّ إذا ظهر من حال السائل أنه ممن لا يسأل غير الإمام كما في زرارة ومحمّد بن مسلم وهكذا علي بن مهـزيار وأضرابهم ، والكاتب فيما نحـن فيه ـ  وهو سليمان بن رشيد  ـ لم يثبت أنه ممن لا يسأل غير الإمام (عليه السلام) حيث لا نعرفه ولا ندري من هو فلعلّه من أكابر أهل السنة وقد سأل المسألة عن أحد المفتين في مذهبه أو عن أحد فقهائهم ، وغاية ما هناك أن علي بن مهزيار ظن ـ  بطريق معتبر عنده  ـ أنه سأل الإمام (عليه السلام) أو اطمأن به إلاّ أنّ ظنه أو اطمئنانه غير مفيد بالاضافة إلى غيره كما لعلّه ظاهر .

   ومنها : الأخبار الواردة في طهارة القطرات المنتضحة من الأرض في الاناء وهي طوائف من الاخبار فمنها : ما ورد في غسل الجنب من أنه يغتسل فينتضح من الأرض

ــ[230]ــ

في الاناء ، قال : لا بأس (1) حيث دلت على أن الأرض ـ  ولو كانت متنجسة  ـ غير موجبة لتنجس القطرات المنتضحة منها في الاناء هذا . ويمكن أن يقال إن الأخبار الواردة بهذا المضمون غير ناظرة إلى عدم تنجيس المتنجس وإنما سيقت لبيان أن القطرات المنتضحة من غسالة الجنابة في الاناء غير مانعة عن صحة الاغتسال بالماء الموجود فيه ، وأن حكمها ليس هو حكم الغسالة في كونها مانعة عن صحته .

   ومنها : ما ورد في القطرات المنتضحة من الكنيف أو المكان الذي يبال فيه عند الاغتسال أو غيره ، قال : لا بأس به . حيث دلت باطلاقها على طهارة القطرات المنتضحة من الكنيف وإن علمنا بنجاسة الموضع المنتضح منه الماء ، لعدم استفصالها بين العلم بنجاسة الموضع وبين العلم بطهارته أو الشك فيها وترك الاستفصال دليل العمـوم . وهذه الأخبار على طائفتين فان منها ما يقتضي طهارة القطرات المنتضحة مطلقاً بلا فرق في ذلك بين صورتي جفاف الأرض ورطوبتها (2) ومنها ما دلّ على طهارتها مقيدة بما إذا كانت الأرض جافة ، وهذا كما رواه علي بن جعفر عن أخيه قال : «سألته عن الكنيف يصب فيه الماء فينضح على الثياب ما حاله ؟ قال : إذا كان جافاً فلا بأس» (3) وظاهرها أن للجفاف مدخلية في الحكم بطهارة القطرات المنتضحة من الكنيف كما أن للرطوبة خصوصية في الحكم بنجاستها ، وبها يقيد إطلاق الطائفة المتقدِّمة فيختص الحكم بطهارة الماء المنتضح بما إذا كانت الأرض جافة .

   ودعوى أنّ التقييد بالجفاف إنما هو من جهة ملازمته للشك في نجاسة المكان وطهارته ، كما أن رطوبة الكنيف تلازم العلم بنجاسته . مندفعة بأن الجفاف غير مسلتزم للشك في نجاسة الكنيف كما أن الرطوبة غير مستلزمة للعلم بنجاسته ، إذ الجفاف قد يقترن بالشك في نجاسته وقد يقترن بالعلم بها وكذلك الرطوبة تارة تقترن بالعلم بالنجاسة واُخرى تجتمع مع الشك فيها ، وكيف كان ، فالمستفاد من هذه الطائفة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 211 / أبواب الماء المضاف ب 9 ح 1 ، 5 ، 6 .

(2) الوسائل 1 : 213 / أبواب الماء المضاف ب 9 ح 7 .

(3) الوسائل 3 : 501 / أبواب النجاسات ب 60 ح 2 .

ــ[231]ــ

بعد تقييد مطلقها بمقيدها عدم تنجيس المتنجس الجاف للماء الوارد عليه هذا .

   ولا يخفى أنها وإن دلت على طهارة القطرات المنتضحة من الأرض النجسة حال جفافها إلاّ أنه لا بد من الاقتصار فيها على موردها ، وهو الماء القليل الذي أصابه النجس من غير أن يستقر معه ولا يمكننا التعدي عنه إلى غيره ، فان الالتزام بعدم انفعال الماء القليل حينئذ أولى من الحكم بعدم تنجيس المتنجس على وجه الاطلاق فان الحكم بعدم انفعال الماء القليل في مورد الرواية لا يستلزم سوى ارتكاب تقييد المطلّقات الواردة في انفعال الماء القليل بملاقاة النجس ، فيستثنى منها ما إذا لم يستقر القليل مع النجس ولا محذور في التقييد أبداً ، وهذا بخلاف الالتزام بعدم تنجيس المتنجسات ، لأنه مخالف للأدلة الواردة في منجسية المتنجس كالنجس هذا .

   بل يمكن أن يقال : إن الحكم بعدم انفعال الماء في مفروض الكلام مما لا يستلزمه أي محذور حتى تقييد المطلقات ، وذلك لأن ما دلّ على انفعال الماء القليل بملاقاة النجس أمران : أحدهما : مفهوم ما ورد من أن الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجّسه شيء (1) . وثانيهما : الأخبار الواردة في موارد خاصة كالماء الذي وقعت فيه فأرة ميتة أو الاناء الذي قطرت فيه قطرة من الدم (2) وغير ذلك من الموارد المتقدمة في تضاعيف الكتاب ، ولا إطلاق في شيء منهما يقتضي انفعال الماء القليل بمجرد ملاقاة النجس وإن لم يستقر معه . أما مفهوم قوله : الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شيء فلما حققناه في محلِّه من أنه لا إطلاق في مفهـوم ذلك ولا دلالة له على أن الماء إذا لم يبلغ قدر كر ينجسه كل شيء ، وانما يقتضي بمفهومه أنه إذا لم يبلغ قدر كر ينجسه شيء ما ، وليكن ذلك هو الأعيان النجسة بل المتنجسات أيضاً ولو كان الماء وارداً ـ  على خلاف السيد المرتضى (قدس سره) حيث فصّل بين الوارد والمورود (3)  ـ ولا يستفاد من مفهومه أنّ النجس أو المتنجس منجس للماء في جميع الأحوال والكيفيات وإن لم يستقر معه .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 158 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 1 ، 2 ، 5 ، 6 .

(2) الوسائل 1 : 142 / أبواب الماء المطلق ب 4 ح 1 وفي ص 150 ب 8 ح 1 .

(3) الناصريات : 215 المسألة الثالثة .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net