حقيقة الوضع - مسلك التعهد 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5522


في حقيقة الوضع

وأمّا الكلام في الجهة الثالثة : وهي تعيين حقيقة الوضع : فذهب بعض الأعاظم (قدس سره)(1) إلى أنّها من الاُمور الواقعية ، لا بمعنى أنّها من إحدى المقولات ، ضرورة وضوح عدم كونها من مقولة الجوهر ، لانحصارها في خمسة أقسام : العقل ، النفس ، الصورة ، المادة ، الجسم ، وهي ليست من إحداها ، وكذا عدم كونها من المقولات التسع العرضية أيضاً ، لأنّها متقوّمة بالغير في الخارج ، لاستحالة تحققها في العين بدون موضوع توجد فيه ، فانّ وجودها في نفسها عين وجودها لغيرها ، وهذا بخلاف حقيقة العلقة الوضعية فانّها قائمة بطبيعي اللفظ والمعنى ومتقوّمة بهما فلا يتوقّف ثبوتها وتحققها على وجودهما في الخارج ،

ـــــــــــــــــــــ
(1) نهاية الأفكار 1 : 25 ـ 26 .

 
 

ــ[41]ــ

وهذا واضح ، ولذا يصح وضع اللفظ لمعنى معدوم بل مستحيل كما لو فرضنا وضع لفظ الدور أو التسلسل لخصوص حصّة مستحيلة منه لا للمعنى الجامع بينها وبين غيرها ، فلو كانت حقيقتها من إحدى هذه المقولات لاستحال تحققها بدون وجود اللفظ والمعنى الموضوع له .

بل بمعنى أنّها عبارة عن ملازمة خاصّة وربط مخصوص بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له ، نظير سائر الملازمات الثابتة في الواقع بين أمرين من الاُمور التكوينية، مثل قولنا: إن كان هذا العدد زوجاً فهو منقسم إلى متساويين، وإن كان فرداً فهو غير منقسم كذلك . فالملازمة بين زوجية العدد وانقسامه إلى متساويين، وبين فرديته وعدم انقسامه كذلك، ثابتة في نفس الأمر والواقع أزلاً، غاية الأمر أنّ تلك الملازمة ذاتية أزلية وهذه الملازمة جعلية اعتبارية ، لا بمعنى أنّ الجعل والاعتبار مقوّم لذاتها وحقيقتها ، بل بمعنى أ نّه علّة وسبب لحدوثها وبعده تصير من الاُمور الواقعية ، وكونها جعلية بهذا المعنى لا ينافي تحققها وتقررها في لوح الواقع ونفس الأمر ، وكم له من نظير .

وقد حققنا في محلّه أنّ هذه الملازمات ليست من سنخ المقولات في شيء كالجواهر والأعراض ، فانّها وإن كانت ثابتة في الواقع في مقابل اعتبار أيّ معتبر وفرض أيّ فارض كقوله تعالى : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا )(1) فانّ الملازمة بين تعدد الآلهة وفساد العالم ثابتة واقعاً وحقيقة ، إلاّ أنّها غير داخلة تحت شيء منها ، فإن سنخ ثبوتها في الخارج غير سنخ ثبوت المقولات فيه ، كما هو واضح .

والجواب عن ذلك : أ نّه (قدس سره) إن أراد بوجود الملازمة بين طبيعي

ـــــــــــــــــــــ
(1) الأنبياء 21 : 22 .

ــ[42]ــ

اللفظ والمعنى الموضوع له وجودها مطلقاً حتى للجاهل بالوضع ، فبطلانه من الواضحات التي لا تخفى على أحد ، فان هذا يستلزم أن يكون سماع اللفظ وتصوره علّة تامّة لانتقال الذهن إلى معناه ، ولازمه استحالة الجهل باللغات مع أنّ إمكانه ووقوعه من أوضح البديهيات . وإن أراد (قدس سره) به ثبوتها للعالم بالوضع فقط دون غيره ، فيرد عليه : أنّ الأمر وإن كان كذلك ـ يعني أنّ هذه الملازمة ثابتة له دون غيره ـ إلاّ أنّها ليست بحقيقة الوضع بل هي متفرعة عليها ومتأخرة عنها رتبة ، ومحل كلامنا هنا في تعيين حقيقته التي تترتب عليها الملازمة بين تصور اللفظ والانتقال إلى معناه .

وذهب كثير من الأعلام والمحققين (قدس سرهم) إلى أنّ حقيقة الوضع حقيقة اعتبارية ، ولكنهم اختلفوا في كيفيتها على أقوال :

القول الأوّل : ما قيل (1) من أنّ حقيقة الوضع عبارة عن : اعتبار ملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له ، وحقيقة هذه الملازمة متقوّمة باعتبار مَن بيده الاعتبار ـ أي الواضع ـ كسائر الاُمور الاعتبارية من الشرعية أو العرفية . ثمّ إنّ الموجب لهذا الاعتبار والداعي إليه إنّما هو قصد التفهيم في مقام الحاجة ، لعدم إمكانه بدونه .

ولكن لا يمكن المساعدة عليه، وذلك لأ نّه لو اُريد به اعتبارها خارجاً بمعنى أنّ الواضع جعل الملازمة بين اللفظ والمعنى في الخارج ، فيردّه : أ نّه لا يفيد بوجه ما لم تكن الملازمة بينهما في الذهن ، ضرورة أنّ بدونه لا يحصل الانتقال إلى المعنى من تصور اللفظ وسماعه ، وعلى تقدير وجودها وثبوتها فالملازمة الخارجية غير محتاج إليها ، فانّ الغرض وهو الانتقال يحصل بتحقق هذه

ـــــــــــــــــــــ
(1) كما في نهاية الأفكار 1 : 25 ـ 26 .

ــ[43]ــ

الملازمة الذهنية ، سواء كانت هناك ملازمة خارجية أم لم تكن ، فلا حاجة إلى اعتبار المعنى موجوداً في الخارج عند وجود اللفظ فيه، بل هو من اللغو الظاهر.

وإن اُريد به اعتبار الملازمة ذهناً ، يعني أنّ الواضع اعتبر الملازمة بين اللفظ والمعنى في الذهن ، ففيه : أ نّه لا يخلو إمّا أن يكون مطلقاً حتى للجاهل بالوضع أو يختص بالعالم به .

لا يمكن المصير إلى الأوّل ، فانّه لغو محض لا يصدر من الواضع الحكيم لأ نّه لا أثر له بالقياس إلى الجاهل به ، ولا معنى لأن يعتبر الانتقـال إلى المعنى من سماع اللفظ له ، فانّه إن علم بالوضع فالانتقال من اللفظ إلى معناه ضروري له وغير قابل للجعل والاعتبار ، وإن لم يعلم فالاعتبار يصبح لغواً .

ولا إلى الثاني لأ نّه تحصيل حاصل ، بل من أردأ أنحائه ، فانّه لو كان عالماً بالوضع كان اعتبار الملازمة في حقّه من قبيل إثبات ما هو ثابت بالوجدان بالاعتبار وبالتعبّد .

وعلى الجملة : فالملازمة الذهنية أمر تكويني غير قابلة للجعل والاعتبار وليست معنى الوضع في شيء ، بل هي مترتبة عليه فلا بدّ حينئذ من تحقيق معناه وأ نّه ما هو الذي تترتب عليه تلك الملازمة ؟

القول الثاني: أنّ حقيقة الوضع عبارة عن اعتبار وجود اللفظ وجوداً تنزيلياً للمعنى ، فهو هو في عالم الاعتبار وإن لم يكن كذلك حقيقة (1) .
بيان ذلك : أنّ الموجود على قسمين :

أحدهما : ما له وجود تكويني عيني في نظام التكوين والعين ، كالمقـولات الواقعية من الجواهر والأعراض .

ـــــــــــــــــــــ
(1) شرح منطق الاشارات : 21 ـ 22 .

ــ[44]ــ

والثاني : ما له وجود اعتباري فهو موجود في عالم الاعتبار وإن لم يكن موجوداً في الخارج، وذلك كالاُمور الاعتبارية الشرعية أو العرفية من الأحكام التكليفية والوضعية ، وقد قيل إن حقيقة العلقة الوضعية من قبيل القسم الثاني بمعنى أنّ الواضع جعل وجود اللفظ وجوداً للمعنى في عالم الاعتبار واعتبره وجوداً تنزيلياً له في ذلك العالم دون عالم الخارج والعين كالتنزيلات الشرعية أو العرفية مثل قوله (عليه السلام) : «الطواف في البيت صلاة» (1) وقوله (عليه السلام) : «الفقاع خمر استصغره الناس»(2) ونحوهما. ومن ثمة يكون نظر المستعمل إلى اللفظ آلياً في مرحلة الاستعمال ، وإلى المعنى استقلالياً بحيث لا يرى في تلك المرحلة إلاّ المعنى ولا ينظر إلاّ إليه .

وإن شئت قلت : إنّ الوضع لأجل الاستعمال ومقدمة له ، فهمّ المستعمل في هذه المرحلة إيجاد المعنى باللفظ وإلقاؤه إلى المخاطب ، فلا نظر ولا التفات له إلاّ إليه .

ويرد عليه أوّلاً : أنّ تفسيرها بهذا المعنى تفسير بمعنى دقيق بعيد عن أذهان عامّة الواضعين غاية البعد ولا سيما القاصرين منهم كالأطفال والمجانين الذين قد يصدر الوضع منهم عند الحاجة ، بل قد يصدر الوضع من بعض الحيوانات أيضاً ، وكيف كان فحقـيقة الوضع حقيقة عرفية سهل التناول والمأخذ ، فلا تكون بهذه الدقّة التي تغفل عنها أذهان الخاصّة فضلاً عن العامّة .

وثانياً : أنّ الغرض الداعي إلى الوضع ، هو استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له لكي يدل عليه ويفهم منه معناه ، فالوضع مقدمة للاستعمال والدلالة ، ومن الواضح أنّ الدلالة اللفظية إنّما تكون بين شيئين أحدهما دال والآخر مدلول ،

ـــــــــــــــــــــ
(1) المستدرك 9 : 410 / أبواب الطواف ب 38 ح 2 . وفيه «بالبيت» .
(2) الوسائل 25 : 365 / أبواب الأشربة المحرّمة ب 28 ح 1 (مع اختلاف يسير) .

ــ[45]ــ

فاعتبار الوحدة بينهما بأن يكون وجود اللفظ وجوداً للمعنى أيضاً لغو وعبث .

وأمّا ما ذكره أخيراً ففيه : أنّ لحاظ اللفظ آلة في مقام الاستعمال ، لا يستلزم أن يكون ملحوظاً كذلك في مقام الوضع للفرق بين المقامين .

وبكلمة واضحة : أنّ حال واضع اللفظ كحال صانع المرآة ومستعمله كمستعملها ، فكما أنّ صانع المرآة في مقام صنعها يلاحظها استقلالاً من حيث الكم والكيف والوضع وفي مرحلة استعمالها تلاحظ آلياً ، فكذلك وضع الألفاظ واستعمالاتها من هذه الناحية . وعلى الجملة : أنّ لحاظ اللفظ آلياً في مرحلة الاستعمال لا يلازم اعتبار وجوده وجوداً للمعنى حال الوضع بوجه .

القول الثالث : ما عن بعض مشايخنا المحققين (قدّس الله أسرارهم) قال : وقد لا يكون المعنى المعتبر تسبيبياً كالاختصاص الوضعي ، فانّه لا حاجة في وجوده إلاّ إلى اعتبار من الواضع ، ومن الواضح أنّ اعتبار كل معتبر قائم به بالمباشرة لا بالتسبيب ، كي يتسبب إلى اعتبار نفسه بقوله : وضعت ونحوه ، فتخصيص الواضع ليس إلاّ اعتباره الارتباط والاختصاص بين لفظ خاص ومعنى خاص .

ثمّ إنّه لا شبهة في اتحاد حيثية دلالة اللفظ على معناه وكونه بحيث ينتقل من سماعه إلى معناه مع حيثية دلالة سائر الدوال كالعَلَم المنصوب على رأس الفرسخ، فانّه أيضاً ينتقل من النظر إليه إلى أنّ هذا الموضع رأس الفرسخ ، غاية الأمر أنّ الوضع فيه حقيقي وفي اللفظ اعتباري ، بمعنى أنّ كون العَلَم موضوعاً على رأس الفرسخ خارجي ليس باعتبار معتبر ، بخلاف اللفظ فانّه كأ نّه وضع على المعنى ليكون علامة عليه ، فشأن الواضع اعتبار وضع لفظ خاص على معنى خاص .

ومنه ظهر أنّ الاختصاص والارتباط من لوازم الوضع لا عينه ، وحيث عرفت اتحاد حيثية دلالة اللفظ مع حيثية دلالة سائر الدوال ، تعرف أنّه لا

ــ[46]ــ

حاجة إلى الالتزام بأنّ حقيقة الوضع تعهد ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى كما عن بعض أجلّة العصر ، فانّك قد عرفت أنّ كيفية الدلالة والانتقال في اللفظ وسائر الدوال على نهج واحد بلا إشكال ، فهل ترى تعهداً من ناصب العَلَم على رأس الفرسخ . بل ليس هناك إلاّ وضعه عليه بداعي الانتقال من رؤيته إليه ، فكذلك فيما نحن فيه ، غاية الأمر أنّ الوضع هناك حقيقي وهنا اعتباري (1) .

يتلخّص ما أفاده (قدس سره) في اُمور :

الأمر الأوّل : أنّ حقيقة الوضع ليست أمراً تسبيبياً ، بل هو أمر مباشري قائم بالمعتبر بالمباشرة .

الأمر الثاني : أنّ الارتباط والاختصاص ليسا من حقيقة الوضع في شيء ، بل هما من لوازمها .

الأمر الثالث : أنّ حقيقته ليست التعهد والالتزام النفساني ، ولكن من دون أن يشيده بالبرهان .

الأمر الرابع : أنّها من سنخ وضع سائر الدوال ، غاية الأمر أنّ الوضع فيها حقيقي خارجي وفي المقام جعلي واعتباري ، فهذا الأمر في الحقيقة نتيجة الاُمور الثلاثة المتقدمة ووليدتها .

أقول : أمّا الأمر الأوّل والثاني فهما في غاية الصحّة والمتانة على جميع المسالك في تفسير حقيقة الوضع ، من دون فرق بين مسلكنا ومسلك القوم .

وأمّا الأمر الثالث فيدفعه ما سنبيّنه إن شاء الله تعالى عن قريب من أنّ الصحيح عند التحقيق هو انّ حقيقة الوضع عبارة عن ذلك التعهد والالتزام النفساني .

ـــــــــــــــــــــ
(1) نهاية الدراية 1 : 47 .

ــ[47]ــ

وأمّا الأمر الرابع وهو أنّ سنخ الوضع هنا سنخ الوضع الحقيقي الخارجي فيرد عليه :

أوّلاً : عين الايراد الذي أوردناه على القول الثاني ، وهو أنّ تفسير الوضع بهذا المعنى على فرض صحّته في نفسه ، تفسير بمعنى دقيق خارج عن أذهان عامّة الواضعين ولا سيما القاصرين منهم كالأطفال والمجانين ، مع أ نّا نرى صدور الوضع منهم كثيراً ، والحال أ نّهم لا يدركون هذا المعنى الدقيق ، وأ نّه من قبيل وضع العَلَم على رأس الفرسخ ، غاية الأمر أنّ الوضع فيه حقيقي وفي المقام اعتباري . ومن الواضح أ نّه لا يكاد يمكن أن يكون الوضع أمراً يغفل عنه الخواص فضلاً عن العوام .

وثانياً : أنّ وضع اللفظ ليس من سنخ الوضع الحقيقي كوضع العَلَم على رأس الفرسخ ، والوجه في ذلك : هو أنّ وضع العلم يتقوّم بثلاثة أركان :

الركن الأوّل : الموضوع وهو العَلَم .

الركن الثاني : الموضوع عليه وهو ذات المكان .

الركن الثالث : الموضوع له وهو الدلالة على كون المكان رأس الفرسخ .

وهذا بخلاف الوضع في باب الألفاظ فانّه يتقوّم بركنين :

الأوّل : الموضوع وهو اللفظ .

الثاني : الموضوع له وهو دلالته على معناه ، ولا يحتاج إلى شيء ثالث ليكون ذلك الثالث هو الموضوع عليه ، وإطلاقه على المعنى الموضوع له لو لم يكن من الأغلاط الظاهرة فلا أقل من أ نّه لم يعهد في الاطلاقات المتعارفة والاستعمالات الشائعة ، مع أنّ لازم ما أفاده (قدس سره) هو أن يكون المعنى هو الموضوع عليه .

ــ[48]ــ

ويتلخص نتيجة ما ذكرناه إلى الآن في خطوط ثلاثة :

الخط الأوّل : بطلان الدلالة الذاتية وأنّها وضعية محضة .

الخط الثاني : فساد كون حقيقة الوضع حقيقة واقعية .

الخط الثالث : بطلان تفسير الوضع بكل واحد من التفسيرات الثلاثة المتقدمة، فالنتيجة على ضوئها هي أنّ حقيقة الوضع ليست إلاّ عبارة عن التعهّد والالتزام النفساني ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : يرشد إلى ذلك الغرض الباعث على الوضع ، بل الرجوع إلى الوجدان والتأمل فيه أقوى شاهد عليه ، وبيان ذلك : أنّ الانسان بما أ نّه مدني بالطبع يحتاج في تنظيم حياته المادية والمعنوية، إلى آلات يبرز بها مقاصده وأغراضه ويتفاهم بها وقت الحاجة ، ولمّا لم يمكن أن تكون تلك الآلة الاشارة أو نحوها لعدم وفائها بالمحسوسات فضلاً عن المعقولات ، فلا محالة تكون هي الألفاظ التي يستعملها في إبراز مراداته من المحسوسات والمعقولات ، وهي وافية بهما ، ومن هنا خصّ (تبارك وتعالى) الإنسان بنعمة البيان بقوله عزّ من قائل : (خَلَقَ الاِْنسَانَ * عَلَّمَهُ ا لْبَيَانَ )(1) .

ومن هنا ـ أي من أنّ الغرض منه قصد التفهيم وإبراز المقاصد بها ـ ظهر أنّ حقيقة الوضع هي التعهد والتباني النفساني ، فان قصد التفهيم لازم ذاتي للوضع بمعنى التعهد . وإن شئت قلت : إنّ العلقة الوضـعية حينئذ تختص بصورة إرادة تفهيم المعنى لا مطلقاً ، وعليه يترتب اختصاص الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية كما سيأتي بيانه مفصّلاً من هذه الجهة إن شاء الله تعالى .

وعلى ذلك فنقول : قد تبيّن أنّ حقيقة الوضع عبارة عن التعهد بابراز المعنى

ـــــــــــــــــــــ
(1) الرّحمن 55 : 3 ـ 4 .

ــ[49]ــ

الذي تعلّق قصد المتكلم بتفهيمه بلفظ مخصوص ، فكل واحد من أهل أيّ لغة متعهد في نفسه متى ما أراد تفهيم معنى خاص ، أن يجعل مبرزه لفظاً مخصوصاً . مثلاً التزم كل واحد من أفراد الاُمّة العربية بأ نّه متى ما قصد تفهيم جسم سيّال بارد بالطبع أن يجعل مبرزه لفظ الماء ، ومتى قصد تفهيم معنى آخر أن يجعل مبرزه لفظاً آخر ، وهكذا .

فهذا التعهد والتباني النفساني بابراز معنى خاص بلفظ مخصوص عند تعلق القصد بتفهيمه ، ثابت في أذهان أهل كل لغة بالاضافة إلى ألفاظها ومعانيها بنحو القوّة ، ومتعلق هذا التعهد أمر اختياري وهو التكلم بلفظ مخصوص عند قصد تفهيم معنى خاص .

ثمّ إنّ ذلك ثابت بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له بنحو القضيّة الحقيقية . نعم ، في مرحلة الاستعمال يوجد المستعمل فرداً منه في استعمال، وفرداً آخر منه في استعمال آخر ، وهكذا .

وبهذا يندفع إشكال الدور الذي قد يتوهم هنا ، بتقريب أنّ تعهد ذكر اللفظ عند قصد تفهيم المعنى ، يتوقف على العلم بأ نّه وضع له ، فلو فرض أنّ الوضع عبارة عن ذلك التعهد لدار .

وتوضيح الاندفاع : أنّ ما يتوقف على العلم بالوضع إنّما هو التعهد الشخصي الفعلي الثابت في مرحلة الاسـتعمال ، دون التعهد الكلي النفساني المتعلق بذكر طبيعي اللفظ عند إرادة تفهيم طبيعي المعنى بنحو القضيّة الحقيقية ، وقد عرفت أنّ حقيقة الوضع عبارة عن ذلك التعهد، ومن الظاهر أ نّه لا يتوقف على شيء ، فظهر أنّ منشأ التوهم خلط المتوهم بين التعهد في مرحلة الاستعمال والتعهد في مرحلة الوضع ، والذي يتوقف على الثاني هو الأوّل دونه .

وبتعبير آخر : أنّ حال الألفاظ حال الاشارت الخارجية ، فكما قد يقصد

ــ[50]ــ

بها إبراز المعنى الذي تعلّق القصد بتفهيمه مثل ما إذا قصد إخفاء أمر عن الحاضرين في المجلس ، أو قصد تصديق شخص ، أو غير ذلك فيجعل مبرزه الاشارة باليد أو بالعين أو بالرأس ، فكذلك الألفاظ فانّه يبرز بها أيضاً المعاني التي يقصد تفهيمها ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية . نعم، فرق بينهما من ناحية اُخرى وهي أنّ الاشارة على نسق واحد في جميع اللغات والألسنة دون الألفاظ .

وعلى ضوء هذا البيان تبين أنّ كل مستعمل واضع حقيقة ، فانّ تعهد كل شخص فعل اختياري له ، فيستحيل أن يتعهد شخص آخر تعهده في ذمته ، لعدم كونه تحت اختياره وقدرته . نعم ، يمكن أن يكون شخص واحد وكيلاً من قبل طائفة في وضع لغاتهم ابتداءً لمعانيها فيضعها بازائها ـ يعني يجعلها مستعدة لابرازها عند قصد تفهيمها ـ ويتعهد بذلك ، ثمّ إنّهم تبعاً له يتعهدون على طبق تعهداته . أو يضع لغاتهم بلا توكيل من قبلهم بل فضولياً ولكنّهم بعد ذلك يتبعونه في ذلك ويتبانون على وفق تبانيه والتزاماته ، ومع هذا فهم واضعون حقيقة .

ومن هنا لا فرق بين الطبقات السابقة واللاّحقة ، غاية الأمر أنّ الطبقات اللاّحقة تتبعها في ذلك ، بمعنى أنّهم يتعهدون على وفق تعهداتهم وتبانيهم ، وقد تتعهد الطبقات اللاّحقة تعهدات اُخرى ابتدائية بالنسبة إلى المعاني التي يحتاجون إلى تفهيمها في أعصارهم ، وقد سبق أنّ الوضع تدريجي الحصول فيزيد تبعاً لزيادة الحاجة في كل قرن وزمن .

ومن ذلك تبين ملاك أنّ كل مستعمل واضع حقيقة . وأمّا إطلاق الواضع على الجاعل الأوّل دون غيره فلأسبقيته في الوضع ، لا لأجل أ نّه واضع في الحقيقة دون غيره .

ولكن ربّما يشكل بأنّ التعهد والالتزام حسب ما ارتكز في الأذهان ، أمر

ــ[51]ــ

متأخر عن الوضع ومعلول له ، فانّ العلم بالوضع يوجب تعهد العالم به بابراز المعنى عند قصد تفهيمه بمبرز مخصوص لا أ نّه عينه ، ومن هنا لا يصح إطلاق الواضع على غير الجاعل الأوّل ، فلو كان معنى الوضع ذلك التعهد والالتزام النفساني لصحّ إطلاقه على كل مستعمل من دون عناية ، مع أنّ الأمر ليس كذلك .

والجواب عنه أن يقال : إنّه لو اُريد بتأخر التعهد عن الوضع تعهد المتصدي الأوّل للوضع فذاك غير صحيح ، وذلك لأنّ تعهّده غير مسبوق بشيء ما عدا تصوّر اللفظ والمعنى ، ومن الواضح أنّ ذلك التصور ليس هو الوضع بل هو من مقدماته ، ولذا لا بدّ منه في مقام الوضع بأيّ معنى من المعاني فسّر ، وعليه فنقول : إنّ المتصدي الأوّل له بعد تصور معنى خاص ولفظ مخصوص ، يتعهد في نفسه بأ نّه متى قصد تفهيمه ، أن يجعل مبرزه ذلك اللفظ ثمّ يبرز ذلك التعهد بقوله : وضعت ، أو نحوه في الخارج .

وممّا يدلنا على ذلك بوضوح : وضع الأعلام الشخصية ، فان كل شخص إذا راجع وجدانه ظهر له أ نّه إذا أراد أن يضع اسماً لولده مثلاً يتصوّر أوّلاً ذات ولده ، وثانياً لفظاً يناسبه ، ثمّ يتعهد في نفسه بأ نّه متى قصد تفهيمه يتكلم بذلك اللفظ ، وليس هاهنا شيء آخر ما عدا ذلك .

وإن اُريد به تعهد غيره من المستعملين ، فالأمر وإن كان كذلك ـ يعني أنّ تعهدهم وإن كان مسبوقاً بتعهده ـ إلاّ أ نّه لا يمنع عن كونهم واضعين حقيقة ، ضرورة أنّ تعهد كل أحد لمّا كان فعلاً اختيارياً له ، يستحيل أن يصدر من غيره ، غاية الأمر التعهد من الواضع الأوّل تعهد ابتدائي غير مسبوق بشيء ، ومن غيره ثانوي ، ولأجله ينصرف لفظ الواضع إلى الجاعل الأوّل .

وعلى هذه الالتزامات والتعهدات قد استقرّت السيرة العقلائية في مقام

ــ[52]ــ

الاحتجاج واللجاج ، فيحتجّ العقـلاء بعضهم على بعض بمخالفته التزامه ، ويؤاخذونه عليها، وكذلك الموالي والعبيد ، فلو أن أحداً خالف التزامه ولم يعمل على طبق ظهور كلام مولاه ، يحتجّ المولى عليه بمخالفته التزامه ويعاقب عليها ولا عذر له في ذلك ، ولو عمل على طبق ظهوره فله حجـة يحتجّ بها على مولاه ، وهكذا . وعلى الجملة : أنّ أنظمة الكون كلّها من المادية والمعنوية تدور مدار الجري على وفق هذه الالتزامات ، ولولاه لاختلّت .

فبالنتيجة : أنّ مذهبنا هذا ينحل إلى نقطتين :

النقطة الاُولى : أنّ كل متكلم واضع حقيقة ، وتلك نتيجة ضرورية لمسلكنا : أنّ حقيقة الوضع التعهد والالتزام النفساني .

النقطة الثانية : أنّ العلقة الوضعية مختصّة بصورة خاصّة ، وهي ما إذا قصد المتكلم تفهيم المعنى باللفظ ، وهي أيضاً نتيجة حتمية للقول بالتعهد، بل وفي الحقيقة هذه هي النقطة الرئيسية لمسلكنا هذا ، فانّ عليها تترتب نتائج ستأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى .

وأمّا ما ربّما يتوهم هنا من أنّ العلقة الوضعية لو لم تكن بين الألفاظ والمعاني على وجه الاطلاق فلا يتبادر شيء من المعاني منها فيما إذا صدرت عن شخص بلا قصد التفهيم ، أو عن شخص بلا شعور واختيار ، فضلاً عمّا إذا صدرت عن اصطكاك جسم بجسم آخر ، مع أ نّه لا شبهة في تبادر المعنى منها وانتقال الذهن إليه في جميع هذه الصور ، فمدفوع : بأنّ تبادر المعنى فيها وانسباقه إلى الذهن غير مستند إلى العلقة الوضعية ، بل إنّما هو من جهة الاُنس الحاصل بينهما بكثرة الاستعمال أو بغيرها ، وذلك لأنّ الوضع حيث كان فعلاً اختيارياً فصدوره من الواضع الحكيم في أمثال هذه الموارد التي لا يترتب على الوضع فيها أيّ أثر وغرض داع إليه ، يصبح لغواً وعبثاً .

ــ[53]ــ

ثمّ إنّ الوضع بذلك المعنى الذي ذكرناه ، موافق لمعناه اللغوي أيضاً ، فانّه في اللغة بمعنى الجعل والاقرار، ومنه وضع اللفظ ، ومنه وضع القوانين في الحكومات الشرعية والعرفية ، فانّه بمعنى التزام تلك الحكومة بتنفيذها في الاُمّة . كما أ نّه بذلك المعنى أيضاً يصحّ تقسيمه إلى التعييني والتعيّني، باعتبار أنّ التعهد والالتزام المزبور إن كان ابتدائياً فهو وضع تعييني ، وإن كان ناشئاً عن كثرة الاستعمال فهو وضع تعيّني ، وعليه فيصح تعريفه بتخصيص شيء بشيء وتعيينه بإزائه أيضاً .

هذا كلّه في بيان الأقوال في حقيقة الوضع وقد عرفت المختار من بينها .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net