القول بأنّ المعاني الحرفية نسب وروابط 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6049


القول الرابع : ما اختاره بعض مشايخنا المحققين (قدس سرهم) (1) من أنّ المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية عبارة عن النسب والروابط الخارجية التي ليس لها استقلال بالذات ، بل هي عين الربط لا ذات له الربط .

وأفاد في وجه ذلك ما ملخصه : أنّ المعاني الحرفية تباين الاسمية ذاتاً بدون أن تشتركا في طبيعي معنى واحد ، فانّ الفرق بين الاسم والحرف لو كان بمجرّد اللحاظ الآلي والاستقلالي ، وكانا متحدين في المعنى ، لكان قابلاً لأن يوجد في الخارج على نحوين ، كما يوجد في الذهن كذلك، مع أنّ المعاني الحرفية كأنحاء النسب والروابط لا توجد في الخارج إلاّ على نحو واحد ، وهو الوجود لا في نفسه .

وبيان ذلك : أنّ الفلاسفة قد قسّموا الوجود على أقسام أربعة :

القسم الأوّل : وجود الواجب (تعالى شأنه) ، فانّ وجوده في نفسه ولنفسه وبنفسه ، يعني أ نّه موجود قائم بذاته وليس بمعلول لغيره ، فالكائنات التي يتشكل منها العالم بشتى ألوانها وأشكالها ، معلولة لوجوده (تعالى وتقدس) ، فانّه سبب أعمق وإليه تنتهي سلسلة العلل والأسباب بشتّى أشكالها وأنحائها .

ـــــــــــــــــــــ
(1) نهاية الدراية 1 : 51 .

ــ[75]ــ

القسم الثاني : وجود الجوهر ، وهو وجود في نفسه ولنفسه ، ولكن بغيره ، يعني أ نّه قائم بذاته لكنّه معلول لغيره ، ولذا يقال : الجوهر ما يوجد في نفسه لنفسه .

القسم الثالث : وجود العرض ، وهو وجود في نفسه ولغيره ، يعني أ نّه غير قائم بذاته بل متقوّم بموضوع محقق في الخارج وصفة له ، فان وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، فلا يعقل تحقق عرض ما بدون موضوع موجود في العين ، ولذا يقال : العرض ما يوجد في نفسه لغيره، ويسمى ذلك الوجود بالوجود الرابطي في الاصطلاح .

القسم الرابع : الوجود الرابط في مقابل الوجود الرابطي ، وهو وجود لا في نفسه ، فان حقيقة الربط والنسبة لا توجد في الخارج إلاّ بتبع وجود المنتسبين من دون نفسية واستقلال لها أصلاً، فهي بذاتها متقوّمة بالطرفين لا في وجودها ، وهذا بخلاف العرض فان ذاته غير متقوّمة بموضوعه ، بل لزوم القيام به ذاتي وجوده .

وقد استدلّوا على ذلك ، أي على الوجود الرابط في مقابل الوجود الرابطي : بأن كثيراً ما كنّا نتيقن بوجود الجوهر والعرض ولكن نشك في ثبوت العرض له ، ومن الواضح جداً أ نّه لا يعقل أن يكون المتيقن بعينه هو المشكوك فيه ، بداهة استحالة تعلق صفة اليقين والشك بشيء في آن واحد ، لتضادهما غاية المضادة ، وبذلك نستدل على أن للربط والنسبة وجوداً في مقابل وجود الجوهر والعرض ، وهو مشكوك فيه دون وجودهما .

أمّا أنّ وجوده وجود لا في نفسه، فلأنّ النسبة والربط لو وجدت في الخارج بوجود نفسي ، لزمه أن لا يكون مفاد القضيّة الحملية ثبوت شيء لشيء ، بل ثبوت أشياء ثلاثة ، فيحتاج حينئذ إلى الرابطة بين هذه الموجودات الثلاثة ،

ــ[76]ــ

فإذا كانت موجودة في نفسها احتجنا إلى رابطة ، وهكذا إلى ما لا يتناهى .

ويترتب على ذلك : أنّ الأسماء موضوعة للماهيات القابلة للوجود المحمولي ـ الوجود في نفسه ـ بجواهرها وأعراضها على نحوين، كما توجد في الذهن كذلك ، والتي تقع في جواب ما هو إذا سئل عن حقيقتها .

والحروف والأدوات موضوعة للنسب والروابط الموجودات لا في أنفسها المتقوّمة بالغير بحقيقة ذاتها لا بوجوداتها فقط ، ولا تقع في جواب ما هو ، فانّ الواقع في جواب ما هو ، ما كان له ماهية تامة ، والوجود الرابط سنخ وجود لا ماهية له ، ولذا لا يدخل تحت شيء من المقولات ، بل كان وجوده أضعف جميع مراتب الوجودات .

ومن هنا يظهر أنّ تنظير المعنى الحرفي والاسمي بالجوهر والعرض في غير محلّه ، إذ العرض موجود في نفسه لغيره .

ثمّ إنّ الحروف والأدوات لم توضع لمفهوم النسبة والربط فانّه من المفاهيم الإسمية الاستقلالية في عالم مفهوميتها ، وإنّما الموضوع لها الحروف واقع النسبة والربط ـ أي ما هو بالحمل الشائع نسبة وربط ـ الذي نسبة ذلك المفهوم إليه نسبة العنوان إلى المعنون لا الطبيعي وفرده ، فإنّه متّحد معه ذهناً وخارجاً ، دون العنوان فانّه لا يتعدى عن مرحلة الذهن إلى الخارج ، ومغاير للمعنون ذاتاً ووجوداً ، نظير مفهوم العدم ، وشريك الباري (عزّ وجلّ) ، واجتماع النقيضين ، بل مفهوم الوجود على القول بأصالة الوجود ، فانّ نسبة هذه المفاهيم إلى واقعها نسبة العنوان إلى المعنون لا الطبيعي وأفراده ، لأنّ تلك المفاهيم لا تتعدى عن مرحلة الذهن إلى الخارج ، ولأجل ذلك لا يصحّ حملها على واقعها بالحمل الشائع الصناعي ، فمفهوم النسبة والربط نسبة وربط بالحمل الأوّلي الذاتي ولا يكون كذلك بالحمل الشائع الصناعي ، فان ما كان بهذا الحمل نسبة وربطاً

ــ[77]ــ

معنون هذا العنوان وواقعه .

ومن ثمة كان المتبادر من إطلاق لفظ الربط والنسبة واقعه لا مفهومه ، فانّ إرادته تحتاج إلى عناية زائدة ، كما هو الحال في قولهم : شريك الباري ممتنع ، واجتماع النقيضين مستحيل ، والمعدوم المطلق لا يخبر عنه ، فانّ المحكوم به بهذه الأحكام معنونات هذه الاُمور ، لا مفاهيمها فانّها غير محكومة بها ، كيف وأ نّها موجودة وغير معدومة ولا ممتنعة .

تحصّل ممّا ذكرناه : أنّ الحروف موضوعة لأنحاء النسب والروابط مطلقاً ، سواء كانت بمفاد هل المركبة، أم بمفاد هل البسيطة ، أم كانت من النسب الخاصة المقوّمة للأعراض النسبية ، ككون الشيء في الزمان أو المكان ، أو نحو ذلك .

وأمّا الموضوع بازاء مفاهيمها فهي ألفاظ النسبة والربط ونحوهما من الأسماء ، المحكية عنها بتلك الألفاظ ، لا بالحروف والأدوات ، هذا ملخّص ما أفاده شيخنا المحقق (قدس سره) .

أقول : يقع الكلام هنا في مقامين :

المقام الأوّل : في أنّ للنسبة والربط وجوداً في الخارج في مقابل وجودي الجوهر والعرض ، أم لا ؟

المقام الثاني : على تقدير تسليم أنّ لها وجوداً ، فهل الحروف موضوعة لها ؟

أمّا الكلام في المقام الأوّل : فالصحيح هو أ نّه لا وجود لها في الخارج في قبال وجود الجوهر أو العرض ، وإن أصرّ على وجودها جماعة من الفلاسفة .

والوجه في ذلك : هو أ نّه لا دليل على ذلك سوى البرهان المذكور وهو غير تام ، وذلك لأنّ صفتي اليقين والشك وإن كانتا صفتين متضادتين فلا يكاد يمكن أن تتعلّقا بشيء في آن واحد من جهة واحدة ، إلاّ أنّ تحققهما في الذهن لايكشف

ــ[78]ــ

عن تعدد متعلقهما في الخارج ، فانّ الطبيعي عين فرده ومتحد معه خارجاً ، ومع ذلك يمكن أن يكون أحدهما متعلقاً لصفة اليقين والآخر متعلقاً لصفة الشك ، كما إذا علم إجمالاً بوجود إنسان في الدار ولكن شكّ في أ نّه زيد أو عمرو ، فلا يكشف تضادّهما عن تعدّد متعلقيهما بحسب الوجود الخارجي، فانّهما موجودان بوجود واحد حقيقة ، وذلك الوجود الواحد من جهة انتسابه إلى الطبيعي متعلق لليقين ، ومن جهة انتسابه إلى الفرد متعلق للشك . أو إذا أثبتنا أنّ للعالم مبدأ ، ولكن شككنا في أ نّه واجب أو ممكن على القول بعدم استحالة التسلسل فرضاً ، أو أثبتنا أ نّه واجب ولكن شككنا في أ نّه مريد أو لا ، إلى غير ذلك ، مع أنّ صفاته تعالى عين ذاته خارجاً وعيناً كما أن وجوبه كذلك .
وما نحن فيه من هذا القبيل، فانّ اليقين متعلق بثبوت طبيعي العرض للجوهر، والشك متعلق بثبوت حصّة خاصّة منه له ، فليس هنا وجودان أحدهما متعلق لليقين والآخر للشك ، بل وجود واحد حقيقة مشكوك فيه من جهة ومتيقن من جهة اُخرى .

تلخّص : أنّ تضاد صفتي اليقين والشك لا يستدعي إلاّ تعدد متعلقهما في اُفق النفس ، وأمّا في الخارج عنه فقد يكون متعدداً وقد يكون متحداً .

وإن شئت فقل : إنّ الممكن في الخارج إمّا جوهر أو عرض ، وكل منهما زوج تركيبي ـ يعني مركب من ماهية ووجود ـ ولا ثالث لهما ، والمفروض أنّ ذلك الوجود ـ أي الوجود الرابط ـ سنخ وجود لا ماهية له ، فلا يكون من أقسام الجوهر ولا من أقسام العرض ، والمفروض أ نّه ليس في الخارج موجود آخر لا يكون من أقسام الجوهر ولا العرض .

وأمّا الكلام في المقام الثاني : فعلى تقدير تسليم أنّ للنسبة والرابط وجوداً في الخارج في مقابل الجوهر والعرض ، لا نسلّم أنّ الحروف والأدوات موضوعة

ــ[79]ــ

لها ، لما بيّناه سابقاً من أنّ الألفاظ موضوعة لذوات المفاهيم والماهيات لا للموجودات الخارجية ولا الذهنية ، فانّ الاُولى غير قابلة للاحضار في الذهن وإلاّ فلا تكون بخارجية ، والثانية غير قابله للاحضار ثانياً ، فانّ الموجود الذهني لا يقبل وجوداً ذهنياً آخر ، والمفروض أنّ الغرض من الوضع التفهيم والتفهم وهو لا يجتمع مع الوضع للموجود الذهني أو الخارجي ، بل لا بدّ أن يكون الوضع لذات المعنى القابل لنحوين من الوجود .

وبتعبير آخر : أنّ اللفظ موضوع بازاء المعنى اللاّ بشرطي، سواء كان موجوداً في الخارج أم معدوماً ، ممكناً كان أو ممتنعاً ، وقد يعبّر عنه بالصور المرتسمة العلمية أيضاً ، وعلى ذلك فلا يمكن أن تكون الحروف موضوعة لأنحاء النسب والروابط ، لأ نّها كما عرفت سنخ وجود لا ماهية لها فلا تكون قابلة للاحضار في الذهن ، وأمّا مفاهيم نفس النسب والروابط فهي من المفاهيم الاسمية وليست ممّا وضعت لها الحروف والأدوات .

هذا ، ولو تنزلنا عن ذلك وسلّمنا إمكان وضع اللفظ للموجود بما هو، ولكنّا نقطع بأنّ الحروف لم توضع لأنحاء النسب والروابط لصحّة استعمالها بلا عناية في موارد يستحيل فيها تحقق نسبة ما حتى بمفاد هل البسيطة فضلاً عن المركّبة ، فلا فرق بين قولنا : (الوجود للانسان ممكن) و (لله تعالى ضروري) و (لشريك الباري مستحيل) فان كلمة اللام في جميع ذلك تستعمل في معنى واحد ، وهو تخصص مدخولها بخصوصية ما في عالم المعنى على نسق واحد ، بلا عناية في شيء منها ، وبلا لحاظ أيّة نسبة في الخارج حتى بمفاد كان التامة ، فان تحقق النسبة بمفاد كان التامة إنّما هو بين ماهية ووجودها كقولك : زيد موجود . وأمّا في الواجب تعالى وصفاته وفي الانتزاعيات والاعتبارات فلا يعقل فيها تحقق أيّة نسبة أصلاً .

ــ[80]ــ

فالمتحصّل ممّا ذكرناه : هو أنّ صحة استعمال الحروف في موارد يستحيل فيها ثبوت أيّة نسبة خارجية كما في صفات الواجب تعالى وغيرها من دون لحاظ أيّة علاقة ، تكشف كشفاً يقيناً عن أنّ الحروف لم توضع لأنحاء النسب والروابط في الخارج .

ومن هنا يظهر : أنّ حكمة الوضع لا تدعو إلى وضع الحروف لتلك النسب ، وإنّما تدعو إلى وضعها لما يصح استعمالها فيه في جميع الموارد . فهذا القول لو تمّ فانّما يتم في خصوص الجواهر والأعراض ، وما يمكن فيه تحقق النسبة بمفاد هل البسيطة ، وأمّا في غير تلك الموارد فلا .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net