تصوير الجامع على الصحيح 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5183


[ تصوير الجامع على الصحيح ]

أمّا الكلام في المقام الأوّل : فقد ذهب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)(1)إلى أنّ وجود الجامع بين الأفراد الصحيحة ممّا لا بدّ منه ، وقد استدلّ على ذلك بقاعدة فلسفية وهي : أنّ الواحد لا يصدر إلاّ من الواحد ، إذ لا بدّ من السنخية بين العلّة ومعلولها ، والواحد بما هو واحد لا يعقل مسانخته للكثير بما هو كثير ، إذن لا بدّ من الالتزام بأنّ العلّة هو الجامع بين الكثير وهو أمر واحد ، ثمّ طبّق

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 24 .

ــ[164]ــ

(قدس سره) هذه القاعدة على المقام بتقريب أنّ الأفراد الصحيحة من الصلاة مثلاً تشترك جميعها في أثر وحداني وهو النهي عن الفحشاء والمنكر بمقتضى قوله تعالى : (إِنّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ ا لْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ )(1) كما هي تشترك في أ نّها عماد الدين ومعراج المؤمن ، كما في عدّة من الروايات ، ولا يعقل أن يكون المؤثر في ذلك الأثر الوحداني جميع الأفراد الصحيحة على كثرتها ، لما عرفت من أنّ الواحد لا يسانخ الكثير ، فلا محالة يستكشف كشفاً قطعياً عن وجود جامع وحداني بين تلك الأفراد الصحيحة يكون هو المؤثر في ذلك الأثر الوحداني ، ومن هنا قال (قدس سره) إنّ تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة بمكان من الامكان بل هو ضروري ، دون الأعم لعدم تحـقق صغرى هذه القاعـدة على قول الأعمي وبدونها لا طريق لنا إلى كشف الجامع من ناحية اُخرى .

ولكن لا يخفى ما فيما أفاده (قدس سره) بل لم يكن يترقب صدوره منه ، وذلك من وجوه .

الأوّل : أنّ هذه القاعدة وإن كانت تامّة في العلل الطبيعية لا محالة ، دون الفواعل الارادية ، ولكن ذلك فيما إذا كان المعلول واحداً بوحدة شخصية ، وأمّا إذا كان واحداً بوحدة نوعية فلا تجري فيه هذه القاعدة ، وقد مرّ الكلام في ذلك في البحث عن حاجة العلوم إلى وجود الموضوع فليراجع(2) . وحيث إنّ وحدة الأثر في المقام وحدة نوعية لا شخصية ، فانّ النهي عن الفحشاء كلّي له أفراد وحصص بعدد أفراد الصلاة وحصصها في الخارج ، فلا شيء هناك يكشف عن وجود جامع بين أفرادها ، مثلاً صلاة الصبح يترتب عليها نهي عن

ـــــــــــــــــــــ
(1) العنكبوت 29 : 45 .
(2) ص 16 .

ــ[165]ــ

منكر ، وصلاة المغرب يترتب عليها نهي آخر ، وهكذا ، فلا كاشف عن جهة جامعة بين الأفراد والحصص بقانون أنّ الاُمور المتباينة لا تؤثر أثراً واحداً .

الثاني : لو تنزلنا عن ذلك وسلّمنا تمامية القاعدة حتى في الواحد النوعي ، فانّها لا تتم في المقام ، لأ نّها لو تمّت فيما إذا كانت الوحدة وحدة ذاتية مقولية فلا تتم فيما إذا كانت الوحـدة وحدة بالعنوان ، دون الحقـيقة والذات ، ولمّا كانت وحدة النهي عن الفحشاء وحدة عنوانية لا وحدة مقولية ، ضرورة أنّ النهي عن الفحشاء عنوان ينتزع عن ترك الأعمال القبيحة بالذات ، أو من جهة النهي الشرعي ، فكل واحد من هذه الأعمال حصّة من الفحشاء والمنكر ، ويعبّر عن النهي عنه بالنهي عن الفحشاء ، ولا مانع من أن ينتزع الواحد بالعنوان عن الحقائق المختلفة ، والاُمور المتباينة خارجاً .

وعليه فلا كاشف عن جهة جامعة ذاتية مقولية ، وغاية ما هناك وجود جامع عنواني بين الأفراد الصحيحة كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر ، مع الاختلاف في الحقيقة والذات ، ومن الضروري عدم وضع لفظ الصلاة لنفس العنوان .

الثالث : أ نّا نعلم بالضرورة أنّ الأثر في المقام غير مترتب على الجامع بين الأفراد، وإنّما هو مترتب على أفراد الصلاة بخصوصياتها من الأجزاء والشرائط المعتبرة فيها ، فان ترتب النهي عن الفحشاء والمنكر على الصلاة ليس كترتب الإحراق على النار ، أو كترتب سائر الآثار الخارجية على أسبابها ، فانّ الأثر في جميع هذه الموارد مترتب على الجامع من دون دخل لأيّة خصـوصية من الخصوصيات الفردية .

وهذا بخلاف المقام ، فانّ النهي عن الفحشاء والمنكر ممّا يترتب على أفراد الصلاة وحصصها بخصوصياتها الخاصّة المعتبرة في صحّتها خارجاً ، ولا ريب

ــ[166]ــ

في أنّ صحّة صلاة الصبح منوطة بخصوصية وقوع التسليمة في الركعة الثانية ، وصحّة صلاة المغرب منوطة بخصوصية وقوع التسليمة في الركعة الثالثة ، وعدم وقوعها في الركعة الثانية ، وصحّة صلاة الظهرين أو صلاة العشاء متوقفة على خصوصية وقوع التسليمة في الركعة الرابعة ، ومشروطة بعدم وقوعها في الركعة الثالثة ، وهكذا بقية الخصوصيات ، فالمؤثر في جهة النهي عن الفحشاء حقيقة تلك الخصوصيات ، ومع هذا كيف يمكن القول بأنّ المؤثر فيه الجامع بين الأفراد، فانّ الالتزام بذلك إنّما هو فيما إذا لم يكن دخل للخصوصيات في ترتب الأثر ، وهذا لايعقل في المقام، إذ كيف يمكن وجود جامع بين المشروط بشيء والمشروط بعدمه .

فتلخّص : أنّ الجامع الذاتي المقـولي ولو سـلّمنا إمكان تعقّله بين الأفراد الصحيحة ، لم يكن لنا طريق إليه في مقام الاثبات .

الرابع : أنّ هذا الجامع الذي فرضه (قدس سره) لا يخلو من أن يكون مركباً أو يكون بسيطاً ، ولا ثالث لهما .

والأوّل : لا يعقل ، لأنّ الصحّة والفساد كما عرفت مفهومان إضافيان ، ومن المعلوم أنّ كل مركب فرض جامعاً فذلك المركب يتداخل فيه الصحّة والفساد ، سواء كان المركب من المراتب العالية كصلاة المختار أو من المراتب الدانية ، أو من المراتب الوسطى ، فعلى جميع التقادير كان ذلك المركب صحيحاً بالقـياس إلى شخص أو زمان أو حالة ، وفاسداً بالقياس إلى غير ذلك ، مثلاً الصلاة قصراً صحيحة من المسافر وفاسدة من غيره ، والصلاة قاعداً صحيحة للعاجز عن القيام ، وفاسدة للقادر عليه ، والصلاة مع الطهارة المائية صحيحة من واجد الماء وفاسدة من فاقده ، ومع الطهارة الترابيـة بعكس ذلك ، وهكذا ، وعليه فكيف يعقل أن يكون المركب بما هو جامعاً .

ــ[167]ــ

وعلى الجملة : قد ذكرنا سابقاً أنّ للصلاة مراتب عريضة ، ومن المعلوم أنّ تلك المراتب بأجمعها متداخلة صحّة وفساداً، فما من مرتبة من مراتب الصحيحة إلاّ وهي فاسدة من طائفة ، حتّى المرتبة العليا فانّها فاسدة ممّن لم يكلف بها فلا يعقل أن يؤخذ منها جامع تركيبي .

فقد أصبحت النتيجة أنّ استحالة تصوير الجامع التركيبي بين الأفراد الصحيحة أمر بديهي .

والثاني : وهو فرض الجامع بسيطاً أيضاً غير معقول ، والوجه في ذلك هو أنّ الجامع المقولي الذاتي لا يعقل أن ينطبق على مركب من حقيقتين متباينتين بالذات والهوية ، بداهة استحالة تحقق جامع ماهوي بين الحقيقتين المتباينتين ذاتاً ، وإلاّ فلا تكونان متباينتين ، بل كانتا مشتركتين في حقيقة واحدة ، وهذا خلف ، ومقامنا من هذا القبيل بعينه ، لأنّ الصلاة مركبة وجداناً من مقولات متباينة بحد ذاتها ، كمقولة الوضع والكيف ونحوهما .

وقد برهن في محلّه أنّ المقولات متباينات بتمام ذاتها وذاتياتها فلا اشتراك لها في حقيقة واحدة ، ومن هنا كانت المقولات أجناساً عالية ، فلو كانت مندرجة تحت مقولة واحدة لم تكن أجناساً عالية ، ومع ذلك كيف يعقل جامع مقولي بين الأفراد الصحيحة ، بل لا يعقل فرض جامع لمرتبة واحدة منها فضلاً عن جميع مراتبها المختلفة، والمركب بما هو مركب لا يعقل أن يكون مقولة على حدة ، ضرورة اعتبار الوحدة الحقيقية في المقولة وإلاّ لم تنحصر المقولات ، بل لا يعقل تركب حقيقي بين أفراد مقولة واحدة فضلاً عن مقولات متعددة .

وقد تحصّل من ذلك : أ نّه لايعقل تصور الجامع الحقيقي البسيط لمرتبة واحدة من الصلاة فضلاً عن جميع مراتبها ، كما كان الأمر كذلك في الجامع التركيبي .

الخامس : قد ذكرنا سابقاً أنّ الصحّة في المقام بمعنى تمامية الشيء في نفسه ،

ــ[168]ــ

أعني بها تماميته من حيث الأجزاء والشرائط ، وقد تقدّم (1) أنّ الصحّة من جهة قصد القربة ، أو من جهة عدم النهي أو المزاحم ، خارجة عن محل النزاع وغير داخلة في المسمّى ، فانّه في مرتبة سابقة قد يوجد له مزاحم وقد يقصد به التقرب وقد ينهى عنه ، ولكن مع ذلك لهذه الاُمور دخل في الصحّة وفي فعلية الأثر ، فلو كان للصلاة مثلاً مزاحم واجب ، أو أ نّها نهي عنها ، أو لم يقصد بها التقرّب ، لم يترتب عليها الأثر ، وعليه فما يترتب عليه الأثر بالفعل لم يوضع له اللفظ يقيناً ، وما وضع له اللفظ ليس إلاّ ما يكون مقتضياً وقابلاً لترتب الأثر عليه ، وهذا كما يمكن صدقه على الأفراد الصحيحة يمكن صدقه على الأفراد الفاسدة ، لأ نّها أيضاً قد تقع صحيحة بالإضافة إلى شخص أو زمان أو حالة لا محالة .

وعلى الجملة : أنّ ما يترتب عليه الأثر بالفعل لم يوضع له اللفظ قطعاً ، وما يترتب عليه الأثر بالاقتضاء جامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة جميعاً .

وقد تحصّل من ذلك: أنّ ترتب النهي عن الفحشاء والمنكر على الصلوات الصحيحة بالفعل لا يفي باثبات القول بوضع الألفاظ للجامع بين الأفراد الصحيحة بخصوصها ، فانّه سواء قلنا بذلك القول أم لم نقل ، فترتبه متوقف على اعتبار شيء زائد على المسمّى لا محالة .

السادس : أنّ الجامع لا بدّ من أن يكون أمراً عرفياً ، وما ذكره من الجامع على تقدير تسليم وجوده والاغماض عن جميع ما ذكرناه ، لا يكون معنى عرفياً حتّى يكون مسمّى بلفظ الصلاة ومورداً للخطاب ، ضرورة أنّ اللفظ لا يوضع لمعنى خارج عن المتفاهم العرفي ، ولا يكون مثله متعلقاً للخطاب الشرعي ،

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 156 .

ــ[169]ــ

فانّ الخطابات الشرعية كلّها منزّلة على طبق المفاهيم العرفية ، فلو فرض معنى يكون خارجاً عن الفهم العرفي لم يقع مورداً للخطاب الشرعي أو العرفي ، ولا يوضع اللفظ بازائه ، وحيث إنّ الجـامع في المقام ليس أمراً عرفياً فلا يكون مسمّى بلفظ الصلاة مثلاً ، ضرورة أنّ محل كلامنا ليس في تصوير جامع كيف ما كان ، بل في تصوير جامع عرفي يقع تحت الخطاب ، لا في جامع عقلي بسيط يكون خارجاً عن متفاهم العرف .

وبتعبير آخر : أنّ المصلحة الداعية إلى وضع الألفاظ إنّما هي الدلالة على قصد المتكلم تفهيم معنى ما ، فتلك المصلحة إنّما دعت إلى وضعها للمعاني التي يفهمها أهل العرف والمحاورة ، وأمّا ما كان خارجاً عن دائرة فهمهم فلا مصلحة تدعو إلى وضع اللفـظ بازائه ، بل كان الوضع بازائه لغواً محضاً لا يصدر من الواضع الحكيم .

ولما لم يكن الجامع الذي فرضه بين الأفراد الصحيحة جامعاً عرفياً ، فانّ كثيراً من الناس لا يعلم بتأثير الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر فضلاً عن العلم بكشفه عن جامع ذاتي مقولي ، لم يكن ذلك الجامع موضوعاً له لمثل كلمة الصلاة ونحوها ، بل المتفاهم منها عرفاً في مثل قولنا : فلان صلّى أو يصلّي أو نحو ذلك ، غير ذلك الجامع .

فالنتيجة من جميع ما ذكرناه : أنّ تصوير جامع ذاتي مقـولي بين الأفراد الصحيحة غير معقول .

وأمّا تصوير جامع عنواني بينها فهو وإن كان ممكناً ، كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر أو نحوه ، إلاّ أنّ لفظ الصلاة لم يوضع بازاء هذا العنوان يقيناً ، ضرورة أنّ لفظ الصلاة لو كان موضوعاً لذلك العنوان لكان مرادفاً لكلمة الناهي عن الفحشاء والمنكر، ولازم ذلك أن يكون حمل ذلك العنوان على الصلاة

ــ[170]ــ

من الحمل الأوّلي الذاتي ، لا الشائع الصناعي وهو باطل قطعاً .

لا يقال : إنّ لزوم الترادف يبتني على أن يكون لفظ الصلاة موضوعاً لنفس العنوان المذكور ، وأمّا إذا فرضنا أ نّه موضوع لواقع ذلك العنوان ومعنونه فلا يلزم ذلك .

فانّه يقال : إن اُريد بالمعنون ما يكون جامعاً بين الأفراد الخارجية ، ليكون صدقه عليها صدق الطبيـعة على أفرادها ، فقد عرفت أ نّه لا دليل عليه ، بل البرهان قائم على خلافه . وإن اُريد بالمعنون نفس الأفراد الخارجية ليكون الوضع من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاص ، فهو باطل جزماً ، وذلك لأنّ إطلاق كلمة الصلاة على جميع أقسامها بشتّى أنواعها وأشكالها على نسق واحد ، وليس استعمالها في نوع أو صنف أو فرد مغايراً لاستعمالها في نوع أو صنف أو فرد آخر .

ومن هنا يكون حمل كلمة الصلاة بما لها من المعنى المرتكز في أذهان المتشرعة على جميع أقسامها وأفرادها ، من قبيل حمل الكلي على أفراده ، والطبيعي على مصاديقه ، فوحدة النسق في إطلاق الكلمة ، وكون الحمل شائعاً صناعياً ، يكشفان كشفاً قطعياً عن أنّ المعنى الموضوع له عام لا خاص .

وعلى الجملة : أنّ القول بكون الموضوع له خاصاً يشترك مع القول بالاشتراك اللفظي في البطلان ، بل لا فرق بحسب النتيجة ، حيث إنّ الموضوع له متعدد على كلا القولين ، وإنّما الفرق بينهما في وحدة الوضع وتعدده .

فقد أصبحت النتيجة من جميع ما ذكرناه : أنّ تصوير جامع ذاتي مقولي على القول بالصحيح غير معقول ، وتصوير جامع عنواني وإن كان شيئاً معقولاً إلاّ أنّ اللفظ لم يوضع بازائه ولا بازاء معنونه كما عرفت ، هذا .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net