المراد بالحال المأخوذ في عنوان البحث - الأصل العملي في المسألة 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4825


الأمر الرابع : أنّ المراد من (الحال) المأخوذ في عنوان المسألة ليس زمن النطق يقيناً ، ضرورة عدم دلالة الأوصاف المشتقة عليه ، ولا على غيره من الماضي أو المستقبل ، لا بنحو الجزئية ولا بنحو القيدية ، فحالها من هذه الجهة كحال أسماء الأجناس ، فكما أ نّها لا تدل على زمان خاص ، فكذلك تلك . ومن هنا لا تجوّز في قولـنا : زيد كان قائماً بالأمس أو زيد سيكون ضارباً ونحو ذلك ، كما أ نّه لا تجوّز في قولنا : زيد كان انساناً أو سيكون تراباً إلى غير ذلك ،

ــ[275]ــ

فلو كان زمن النطق داخلاً في مفهومها لزم التجوّز في هذه الأمثلة لا محالة ، وكذا لا دلالة فيها على أحد الأزمنة الثلاثة أيضاً ، وذلك لأنّ تلك الأوصاف كما تستند إلى الزمانيات ، كذلك تستند إلى نفس الزمان وإلى ما فوقه من المجردات ، مع أ نّه لايعقل أن يكون للزمان زمان، وكذا للمجرّدات ، والاسناد في الجميع على نسق واحد ، ولو كان خصوص زمان أو أحد الأزمنة داخلاً في مفهومها لكان إسنادها إلى نفس الزمان وما فوقه محتاجاً إلى لحاظ عناية وتجريد .

نعم ، إذا اُسندت إلى الزمانيات تدل على أنّ تلبس الذات بالمبدأ واقع في أحد الأزمنة ، وهذا لا من جهة أنّ الزمان مأخوذ في مفهومها جزءاً أو قيداً ، بل من جهة أنّ قيام الفعل بالفاعل الزماني لا يكون إلاّ في الزمان ، فوقوعه في أحد الأزمنة ممّا لا بدّ منه .

ومن هنا يظهر أنّ المراد من الحال ليس زمن النطق والتكلم ولا أحد الأزمنة الثلاثة ، بل المراد منه فعلية تلبس الذات بالمبدأ ، إذن مرجع النزاع إلى سعة المفاهيم الاشتقاقية وضيقها ، بمعنى أنّ المشتقات هل هي موضوعة للمفاهيم التي مطابقها في الخارج خصوص الذات حال تلبسها بالمبدأ ، أو الأعم من ذلك ومن حال الانقضاء ، فبناءً على القول بالأعم كانت مفاهيمها قابلة للانطباق خارجاً على فردين: هما المتلبس فعلاً والمنقضي عنه المبدأ. وعلى القول بالأخص كانت مفاهيمها غير قابلة للانطباق إلاّ على فرد واحد ، وهو خصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً .

وأمّا ما يقال : من أنّ الظاهر من إطلاق المشتقات وحملها على شيء هو فعلية تلبس الذات بالمبدأ حين النطق والتكلم ، فانّ الظاهر من قولنا : زيد قائم كونه كذلك بالفعل وفي زمان النطق ، فلا معنى للنزاع في كون المشتق موضوعاً

ــ[276]ــ

للأعم أو للأخص ، بعد التسالم على أنّ المرجع في تعيين مداليل الألفاظ ومفاهيمها هو فهم العرف ، والمفروض أنّ المتفاهم عندهم من الإطلاق والحمل هو خصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً حين التكلم، فهو وإن كان صحيحاً بالاضافة إلى الاستظهار من الاطلاق ، إلاّ أ نّه لا يستلزم بطلان النزاع في المقام ، فانّ الظهور من جهة الإطلاق يختص بموارد الحمل وما بحكمه، ولا يعم جميع الموارد ، كما إذا قيل : لا تكرم الفاسق أو لا تهن العالم ونحو ذلك ، فيقع البحث في أنّ موضوع الحكم هو خصوص المتلبس بالمبدأ أو للأعم منه ومن المنقضي .
فتحصّل ممّا ذكرناه : أنّ المراد بالحال هو فعلية التلبّس بالمبدأ لا حال النطق، ولذا صحّ إطلاق المشتق بلحاظ حال التلبّس وإن لم يكن ذلك زمان النطق .

الأمر الخامس : ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) (1) أ نّه لا أصل في المقام ليعوّل عليه عند الشك في تعيين الموضوع له وأ نّه المعنى الوسيع أو المعنى الضيّق ، بعد عدم تمامية الأدلة على تعيين الوضع لأحدهما ، بتقريب أنّ أصالة عدم ملاحظة الواضع الخصوصية في الموضوع له عند وضعه ، معارضة بأصالة عدم ملاحظته العموم والإطلاق فيه ، لأنّ المفاهيم في حد مفهوميتها متباينات ، فإذا دار الأمر بين الوضع لمفهوم عام أو لمفهوم خاص ، فكما يحتمل لحاظ الأوّل عند الوضـع ، فكذلك يحتمل لحاظ الثاني ، وحيث إنّ كل واحد من اللحاظين حادث مسبوق بالعدم ، فجريان الأصل في أحدهما معارض بجريانه في الآخر . هذا مضافاً إلى عدم جريانه في نفسه ، لأنّ أصالة عدم لحاظ الخصوصية لا تثبت الوضع للأعم إلاّ على القول باعتبار الأصل المثبت ، وكذا العكس .

وعليه فتنتهي النوبة إلى الاُصول الحكمية .

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 45 .

ــ[277]ــ

وذكر في الكفاية (1) أنّ هذه الاُصول تختلف باختلاف الموارد ، فالموارد التي يشك فيها في حدوث الحكم بعد زوال العنوان الذي اُخذ في الموضوع يرجع فيها إلى أصالة البراءة ، كما إذا فرضنا أنّ زيداً كان عالماً ثمّ زال عنه العلم ، وبعد ذلك ورد في الدليل : أكرم كل عالم ، فشككنا في وجوب إكرام زيد لاحتمال كون المشتق موضوعاً للأعم . وأمّا الموارد التي يشك فيها في بقاء الحكم بعد حدوثه وثبوته، فالمرجع فيها هو الاستصحاب ، وذلك كما لو كان زيد عالماً وأمر المولى بوجوب إكرام كل عالم ثمّ بعد ذلك زال عنه العلم وأصبح جاهلاً ، فلا محالة نشك في بقاء الحكم لاحتمال كون المشتق موضوعاً للأعم ، إذن نستصحب بقاءه .

لا يخفى أنّ ما أفاده (قدس سره) أوّلاً من أ نّه لا أصل هنا ليعوّل عليه عند الشك في الوضع للمفهوم الوسيع أو الضيّق فهو صحيح ، لما عرفت .

وأمّا ما أفاده (قدس سره) ثانياً من أ نّه لا مانع من الرجوع إلى الأصل الحكمي في المقام وهو أصالة البراءة في موارد الشك في الحدوث ، والاستصحاب في موارد الشك في البقاء ، فلا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأ نّه لا فرق بين موارد الشك في الحدوث وموارد الشك في البقاء ، ففي كلا الموردين كان المرجع هو أصالة البراءة دون الاستصحاب .

أمّا في موارد الشك في حدوث التكليف فالأمر واضح .

وأمّا في موارد الشك في البقاء فبناءً على ما سلكناه في باب الاستصحاب (2) من عدم جريانه في الشبهات الحكمية خلافاً للمشهور فالأمر أيضاً واضح ،

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 45 .
(2) مصباح الاُصول 3 : 42 .

ــ[278]ــ

فانّ الاستصحاب فيها دائماً معارض باستصحاب عدم سعة المجعول، وبالتعارض يتساقط الاستصحابان لا محالة .

وأمّا على المسلك المشهور من جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، فالاستصحاب لا يجري في المقام أيضاً ، وذلك لاختصاص جريانه بما إذا كان المفهوم فيه متعيناً ومعلوماً من حيث السعة والضيق ، وكان الشك متمحضاً في سعة الحكم المجعول وضيقه ، كما لو شككنا في بقاء حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال ، فالمرجع فيه هو استصحاب بقاء الحرمة إلى أن تغتسل ، أو لو شككنا في بقاء نجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره ، أو في بقاء نجاسة الماء المتمم كراً بناءً على نجاسة الماء القليل بالملاقاة ، فالمرجع في جميع ذلك هو استصحاب بقاء الحكم ، وبه يثبت سعته .

وأمّا فيما لا يتعين مفهوم اللفظ ومعناه ، وهو المعبّر عنه بالشبهة المفهومية ، فلا يجري الاستصحاب فيه ، لا حكماً ولا موضوعاً .

أمّا الأوّل : فلما ذكرناه في بحث الإستصحاب(1) من اعتبار وحدة القضيّة المتيقنة مع المشكوك فيها موضوعاً ومحمولاً في جريان الاستصحاب ، ضرورة انّه لا يصدق نقض اليقين بالشك مع اختلاف القضيتين موضوعاً أو محمولا ، وحيث إن في موارد الشبهات المفهومية لم يحرز الاتحاد بين القضيتين لا يمكن التمسك بالاستصحاب الحكمي ، فإذا شكّ في بقاء وجوب صلاة العصر أو الصوم بعد استتار القرص وقبل ذهاب الحمرة المشرقية عن قمة الرأس من جهة الشك في مفهوم المغرب وأنّ المراد به هو الاستتار أو ذهاب الحمرة ، فعلى الأوّل كان الموضوع وهو جزء النهار منتفياً ، وعلى الثاني كان باقياً ، وبما انّا لم نحرز

ـــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الاُصول 3 : 271 .

ــ[279]ــ

بقاء الموضوع فلم نحرز الاتحاد بين القضيتين، وبدونه لايمكن جريان الاستصحاب .

وأمّا الثاني : وهو استصحاب بقاء الموضوع فلعدم الشك في انقلاب حادث زماني ليحكم ببقاء المتيقن ، إذ مع قطع النظر عن وضع اللفظ وتردد مفهومه بين السعة والضيق ليس لنا شك في أمر خارجي ، فان استتار القرص عن الاُفق حسّي معلوم لنا بالعيان ، وذهاب الحمرة غير متحقق كذلك ، فماذا يكون هو المستصحب .

وبعبارة واضحة : أنّ المعتبر في الاستصحاب أمران : اليقين السابق والشك اللاّحق مع اتحاد المتعلق فيهما ، وهذا غير متحقق في الشبهات المفهومية ، فان كلاً من الاستتار وعدم ذهاب الحمرة متيقن فلا شك ، وإنّما الشك في بقاء الحكم ، وفي وضع اللفظ لمعنى وسيع أو ضيّق ، وقد عرفت أنّ الاستصحاب بالنسبة إلى الحكم غير جار ، لعدم إحراز بقاء الموضوع ، وأمّا بالاضافة إلى وضع اللفظ فقد تقدّم أ نّه لا أصل يكون مرجعاً في تعيين السعة أو الضيق . وما نحن فيه من هذا القبيل بعينه ، فانّ الشبهة فيه مفهومية ، والموضوع له مردد بين خصوص المتلبس أو الأعم منه ومن المنقضي ، فالاستصحاب لا يجري في الحكم لعدم إحراز اتحاد القضيّة المتيقنة مع المشكوكة ، وقد مرّ أنّ الاتحاد ممّا لا بدّ منه في جريان الاستصحاب ، مثلاً العالم بما له من المعنى موضوع للحكم ، وحيث إنّه مردد بين أمرين : المتلبس بالمبدأ والأعم ، فالتمسك باستصحاب بقاء الحكم غير ممكن للشك في بقاء موضوعه ، وكذلك لا يجري الاستصحاب بالنسبة إلى الموضوع ، لعدم الشك في شيء خارجاً مع قطع النظر عن وضع المشتق وتردد مفهومه بين الأعم والأخص ، وقد عرفت أنّ المعتبر في جريان الاستصحاب أمران : اليقين السابق والشك اللاّحق مع وحدة متعلقهما في الخارج، والشك في مقامنا غير موجود ، فانّ تلبس زيد مثلاً بالمبدأ سابقاً وانقضاء المبدأ

ــ[280]ــ

عنه فعلاً كلاهما متيقن فلا شك في شيء ، وإنّما الشك في وضع المشتق وبقاء الحكم ، أمّا بالنسبة إلى وضع المشتق فقد عرفت أ نّه لا أصل يرجع إليه في تعيين مفهوم اللفظ ووضعه سعة أو ضيقاً .

وتوهم جريان الأصل في بقاء الموضوع بوصف موضوعيته فانّه مشكوك فيه ، مدفوع بأ نّه عبارة اُخرى عن جريان الأصل في بقاء الحكم ، وقد عرفت عدم جريانه فيه .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net