6 ـ نظرية العلماء : العقاب 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5413


ــ[447]ــ


(6)

نظريّة العلماء

مسألة العقاب

لا إشكال في صحّة عقاب العبد وحسنه على مخالفة المولى على ضوء نظريّتي الإمامية والمعتزلة، حيث إنّ العقاب على ضوئهما عقاب على أمر اختياري ، ولا يكون عقـاباً على أمر خارج عن الاختيار ليكون قبيحاً ، ومن الطبيعي أنّ العقل يستقل بحسن العقاب على أمر اختياري . وقد تقدّم أنّ العبد مختار في فعله في ضمن البحوث السالفة بشكل موسّع .

وأمّا على نظريّة الأشاعرة فيشكل عقاب العبيد على أفعالهم وكذلك على نظريّة الفلاسفة ، ضرورة أنّ العقاب على ضوء كلتا النظريتين عقاب على الأمر الخارج عن الاختيار ، ومن الطبيعي أنّ العقل قد استقلّ بقبح العقاب على ما هو الخارج عن الاختيار، بل عندئذ لا فائدة لبعث الرسل وإنزال الكتب أصلاً، حيث إنّ الكل بقضاء الله وقدره ، فما تعلّق قضـاء الله بوجوده وجب وما تعلّق قضاء الله بعدمه امتنع، فإذن ما فائدة الأمر والنهي . ومن هنا قد تصدّوا للجواب عن ذلك بوجوه .

الأوّل : ما عن صدر المتألهين وإليك نصّه : أمّا الأمر والنهي فوقوعهما أيضاً من القضاء والقدر ، وأمّا الثواب والعقاب فهما من لوازم الأفعال الواقعة بالقضاء، فانّ الأغذية الرديئة كما أ نّها أسباب للأمراض الجسمانية ، كذلك العقائد الفاسدة والأعمال الباطلة أسباب للأمراض النفسانية ، وكذلك في جانب الثواب (1) .

ـــــــــــــــــــــ
(1) الأسفار 6 : 386 .

ــ[448]ــ

وهذا الجواب غير مفيد ، والسبب في ذلك :

أوّلاً : أنّ الثواب والعقاب ليسا من لوازم أفعال العباد التي لا تنفك عنها ، بل هما فعلان اختياريان للمولى ، وإلاّ فلا معنى للشفاعة والغفران اللذين قد ثبتا بنص من الكتاب والسنّة .

وثانياً : أنّ أفعال العباد إذا كانت واقعة بقضاء الله تعالى فبطبيعة الحال هي خارجة عن اختيارهم، ومن هنا قد صرّح بأنّ ما تعلّق به قضاء الله وجب ولا يعقل تخلّفه عنه . وعلى هذا فما فائدة بعث الرسل وإنزال الكتب والأمر والنهي .

وبكلمة اُخرى : بهذا الجواب وإن كان تدفع مسألة قبح العقاب على أمر خارج عن الاختيار ، حيث إنّ تلك المسألة تقوم على أساس أنّ العقاب فعل اختياري للمولى ، فعندئذ لا محالة يكون قبيحاً . وأمّا لو كان من لوازم الأفعال القبيحة والعقائد الفاسدة فلا يعقل قبحه ، إلاّ أ نّه لا يعالج مشكلة لزوم لغوية بعث الرسل وإنزال الكتب .

الثاني : ما عن أبي الحسن البصري (1) رئيس الأشاعرة والمجبّرة من أنّ الثواب والعقاب ليسا على فعل العبد الصادر منه في الخارج ، ليقال إنّه خارج عن اختياره ولا يستحق العقاب عليه ، بل إنّما هما على اكتساب العبد وكسبه بمقتضى الآية الكريمة (ا لْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ ا لْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )(2) .

وهذا الجواب لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً ، وذلك لأ نّه إن أراد بالكسب والاكتساب كون العبد محلاً للفعل كالجسم الذي يكون محلاً للسواد مثلاً تارةً

ـــــــــــــــــــــ
(1) كشف الفوائد (مجموعة الرسائل للحلي 1) : 61 .
(2) غافر 40 : 17 .

ــ[449]ــ

وللبياض اُخرى ، فيردّه : أ نّه لا يعالج مشكلة العقاب على أمر غير اختياري ، ضرورة أنّ كونه محلاً له ككون الجسم محلاً للسواد أو البياض أمر خارج عن اختياره فلا يعقل عقابه عليه .

هذا ، مضافاً إلى اختلاف الفعل في الخارج فلا يكون على نسبة واحدة ، حيث قد يكون قيامه بالفاعل قيام صدور وإيجاد ، وقد يكون قيامه به قيام الحال بالمحل ، وهذا الجواب لو تمّ فانّما يتم في خصوص ما كان قيام الفعل به قيام الحال بالمحل لا مطلقاً .

وإن أراد بهما الفعل الصادر من العبد باختياره وإعمال قدرته ، فهو يناقض التزامه بالجبر وأنّ العبد لا اختيار له .

وإن أراد بهما شيئاً آخر يغاير الفعل الخارجي ، فهو مضافاً إلى أ نّه خلاف الوجدان ، ضرورة أ نّه ليس هنا شيء آخر يصدر من العبد خارجاً ما عدا فعله ، ننقل الكلام فيه ونقول : إنّه لا يخلو من أن يكون صدوره منه باختياره أو لا يكون باختياره .

وعلى الأوّل فلا موجب للتفرقة بينه وبين الفعل والالتزام بأ نّه اختياري دونه ، وذلك لأنّ مقتضى الأدلة المتقدمة أ نّه لا اختيار للعبد وهو بمنزلة الآلة فكل ما يصدر منه في الخارج يصدر في الحقيقة بارادة الله تعالى ومشيئته ، سواء أسمي فعلاً أم كسباً ، وعليه فكما أنّ الالتزام بكون الفعل اختيارياً يناقض مذهبه ، فكذلك الحال في الكسب فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً .

وعلى الثاني فما هو المصحح للعقاب إذا كان الكسب كالفعل يصدر بغير اختيار للعبد .

ومن ضوء هذا البيان يظهر أ نّه لا وجه للاستشهاد على ذلك بالآية الكريمة ،

ــ[450]ــ

لوضوح أنّ المراد من الكسب فيها هو العمل الخارجي لا شيء آخر في مقابله . ومن هنا قد رتّب سبحانه وتعالى في كثير من الآيات الجزاء والعقاب على العمل.

الثالث : ما عن الباقـلاني (1) من أنّ الثواب والعقاب إنّما هما على عنوان الاطاعة والمعصية ، بدعوى أنّ الفعل الخارجي وإن كان يصدر من العبد بغير اختياره ، إلاّ أنّ جعله معنوناً بعنوان الاطاعة والمعصية بيده واختياره ، فإذن العقاب عليها ليس عقاباً على أمر غير اختياري .

وغير خفيّ أنّ الاطاعة والمعصية لا تخلوان من أن تكونا عنوانين انتزاعيين من مطابقة الفعل المأتي به في الخارج للمأمور به ومخالفته له ، أو تكونا أمرين متأصلين في الخارج .

وعلى الأوّل فلا مناص من الالتزام بعدم كونهما اختياريين ، بداهة أ نّهما تابعان لمنشأ انتزاعهما، وحيث فرض عدم اختياريته فبطبيعة الحال يكونان خارجين عن الاختيار ، فإذن عاد المحذور .

وعلى الثاني فيرد عليه أوّلاً : أ نّه خلاف الوجدان والضرورة ، بداهة أ نّا لا نعقل شيئاً آخر في الخارج في مقابل الفعل الصادر من العبد المنتزع منه تارةً عنوان الاطاعة واُخرى عنوان المعصية . وثانياً : أ نّا ننقل الكلام إليهما ونقول أ نّهما لايخلوان من أن يصدرا عن العبد بالاختيار أو يصدرا قهراً وبغير اختيار ، فعلى الأوّل يلزمهم أن يعترفوا بعدم الجبر واختيارية الأفعال ، ضرورة عدم الفرق بين فعل وآخر في ذلك ، فلو أمكن صدور فعل عنه بالاختيار لأمكن صدور غيره أيضاً كذلك ، فانّ الملاك فيه واحد . وعلى الثاني يعود المحذور .

ـــــــــــــــــــــ
(1) كشف الفوائد (مجموعة الرسائل للحلي 1) : 61 .

ــ[451]ــ

الرابع : أنّ الأشاعرة (1) قد أنكرت التحسين والتقبيح العقليين وقالوا : إنّ القبيح ما قبّحه الشارع ، والحسن ما حسّنه الشارع ، ومع قطع النظر عن حكمه بذلك لا يدرك العقل حسن الأشياء ولا قبحها في نفسه ، وقد أقاموا على هذا الأساس دعويين :

الاُولى : لا يتصور صدور الظلم من الله (سبحانه وتعالى) والسبب في ذلك : أنّ الظلم عبارة عن التصرّف في ملك الغير بدون إذنه ، والمفروض أنّ العالم بعرضه العريض من العلوي والسفلي والدنيوي والاُخروي ملك لله سبحانه وتحت سلطانه وتصرّفه ، ولا سلطان لغيره فيه ولا شريك له في ملكه ، ومن الطبيعي أنّ أيّ تصرّف صدر منه تعالى كان في ملكه فلا يكون مصداقاً للظلم ، وعلى هذا فلا محذور لعقابه تعالى العبيد على أفعاله غير الاختيارية ، بل ولا ظلم لو عاقب الله (سبحانه وتعالى) نبياً من أنبيائه وأدخله النار وأثاب شقياً من الأشقياء وأدخله الجنّة ، حيث إنّ له أن يتصرف في ملكه ما شاء ، ولا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون عمّا يفعلون .

فالنتيجة : أنّ انتفاء الظلم في أفعاله تعالى بانتفاء موضوعه ، وعلى هذا المعنى نحمل الآيات النافية للظلم عن ساحته (تعالى وتقدّس) كقوله (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّم لِلْعَبِيدِ )(2) ونحوه ، يعني أنّ سلب الظلم عنه لأجل عدم موضوعه واستحالة تحققه ، لا لأجل قبحه .

ومن ضوء هذا البيان يظهر وجه عدم اتصاف أفعال العباد بالظلم ، حيث إنّها أفعال لله تعالى حقيقة وتصدر منه واقعاً ، ولا شأن للعباد بالاضافة إليها في

ـــــــــــــــــــــ
(1) كشف الفوائد (ضمن مجموعة الرسائل للحلي 1) : 65 .
(2) فصّلت 41 : 46 .

ــ[452]ــ

مقابل شأنه تعالى ، ولا إرادة لهم في مقابل إرادته .

الثانية: أنّ الله (سبحانه وتعالى) هو الحاكم على الاطلاق، فلا يتصور حاكم فوقه، وعليه فلا يعقل أن يكون محكوماً بحكم عبيده ، ولا معنى لعدم تجويز الظلم عليه بحكم العقل ، فانّ مردّه إلى تعيين الوظيفة له تعالى وهو غير معقول .

ولنأخذ بالنقد على كلتا الدعويين :

أمّا الدعوى الاُولى : فهي ساقطة جداً، والسبب في ذلك : أنّ قضيّتي قبح الظلم وحسن العدل من القضايا الأوّلية التي يدركهما العقل البشري في ذاته ، ولا يتوقف إدراكه لهما على وجود شرع وشريعة ، وتكونان من القضايا التي هي قياساتها معها ، ولن يتمكن أحد ولا يتمكن من إنكارهما ، لا في أفعال الباري (عزّ وجلّ) ولا في أفعال عباده .

وأمّا ما ذكره الأشاعرة في وجه عدم اتصاف أفعاله تعالى بالظلم فهو خاطئ ، وذلك لأنّ حقيقة الظلم هي الاعوجاج في الطريق والخروج منه يمنةً ويسرةً ، وعدم الاستقامة في العمل ، وهو المعبّر عنه بجعل الشيء في غير موضعه ، كما أنّ حقيقة العدل عبارة عن الاستواء والاستقامة في جادة الشرع وعدم الخروج منها يمنةً تارةً ويسرةً اُخرى ، وهو المعـبّر عنه بوضع كل شيء في موضـعه ، وبطبيعة الحال أنّ صدق الظلم بهذا التفسير لا يتوقف على كون التصرف تصرفاً في ملك الغير وسلطانه . ومن هنا لو قصّر أحد في حفظ نفسه يقال إنّه ظلم نفسه ، مع أنّ نفسه غير مملوكة لغيره ، كما أ نّه لو وضع ماله في غير موضعه عدّ ذلك ظلماً منه . وعلى ضوء هذا التفسير لو أثاب المولى عبده العاصي وعاقب عبده المطيع عدّ ذلك منه ظلماً ووضعاً لهما في غير محلّهما ، وإن كان التصرف تصرفاً في ملكه وسلطانه .

وعلى الجملة : كما أنّ العقل يدرك أنّ مؤاخذة المولى عبده على العمل

ــ[453]ــ

الصادر منه قهراً وبغير اختيار ظلم منه ووضع في غير موضعه ، وإن كان الملك ملك نفسه والتصرف تصرفاً في سلطانه ، كذلك يدرك أنّ مؤاخذة المطيع وإثابة العاصي ظلم .

فالنتيجة : أنّ الظلم لا ينحصر بالتصرف في ملك غيره . نعم ، عنوان الغصب لا يتحقق في فعله تعالى ، حيث إنّه عبارة عن التصرف في ملك الغير من دون إذنه ورضاه ، وقد عرفت أنّ العالم وما فيه ملك له تعالى .

ونزيد على هذا : أنّ إنكار التحسين والتقبيح العقليين يستلزم سدّ باب إثبات النبوّة وهدم أساس الشرائع والأديان ، والوجه في ذلك : هو أنّ إثبات النبوّة يرتكز على إدراك العقل قبح إعطاء المعجزة بيد الكاذب في دعوى النبوة ، وإذا افترضنا أنّ العقل لا يدرك قبح ذلك وأ نّه لا مانع في نظره من أنّ الله (سبحانه وتعالى) يعطي المعجزة بيد الكاذب ، فإذن ما هو الدليل القاطع على كونه نبياً وما هو الدافع لاحتمال كونه كاذباً في دعوته . ومن الطبيعي أ نّه لا دافع له ولا مبرّر إلاّ إدراك العقل قبح ذلك .

ومن ذلك يظهر أنّ الأشاعرة لا يتمكنون ولن يتمكنوا من إثبات مسألة النبوة على ضوء مذهبهم .

هذا ، مضافاً إلى أنّ عقاب المطيع لو كان جائزاً ولم يكن قبيحاً من الله سبحانه لزم كون إرسال الرسل وإنزال الكتب لغواً ، فانّهما لدعوة الناس إلى الاطاعة والثواب وتبعيدهم عن المعصية والعقاب ، وإذا افترضنا أنّ كلاً من المطيع والعاصي يحتمل العقاب على فعله كما يحتمل الثواب عليه ، فلا داعي له إلى الاطاعة ، لجواز أن يثيب (سبحانه وتعالى) العاصي ويعاقب المطيع .

ودعوى أنّ عادة الله تعالى قد جرت على إظهار المعجزة بيد الصادق دون الكاذب ، خاطئة جداً .

ــ[454]ــ

أمّا أوّلاً : فلأ نّه لا طريق لنا إلى إثبات هذه الدعوى إلاّ من طريق إدراك العقل ، وذلك لأ نّها ليست من الاُمور المحسوسة القابلة للادراك بإحدى القوى الظاهرة ، ولكن إذا عزلنا العقل عن حكمه وأ نّه لا يدرك الحسن والقبح فما هو المبرّر لها والحاكم بها وكيف يمكن تصديقها والعلم بثبوتها له تعالى .

وأمّا ثانياً : فلأنّ إثبات هذه العادة له تعالى تتوقف على تصديق نبوّة الأنبياء السابقين الذين أظهروا المعجزة وجاؤوا بها، وأمّا من أنكر نبوّتهم أو أظهر الشك فيها فكيف يمكن حصول العلم له بثبوت هذه العادة .

وبكلمة اُخرى : العادة إنّما تحصل بالتكرار وتعاقب الوجود ، وعليه فننقل الكلام إلى أوّل نبي يدّعي النبوّة ويظهر المعجزة ، فكيف يمكن تصديقه في دعواها، وما هو الطريق لذلك والدافع لاحتمال كونه كاذباً في دعوته بعد عدم إدراك العقل قبح إظهار المعجزة بيد الكاذب من ناحية ، وعدم ثبوت العادة المفروضة من ناحية اُخرى .

وقد تحصّل من ذلك : أ نّه لا طريق إلى إثبات نبوّة مَن يدّعيها إلاّ إدراك العقل قبح إظهاره تعالى المعجزة بيد الكاذب ، ولولاه لا نسدّ باب إثبات النبوة .

وأمّا ثالثاً : فلأ نّا لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ عادة الله تعالى قد جرت على ذلك ، ولكن ما هو المانع من تغيير هذه العادة وما هو الدافع لهذا الاحتمال ، ومن الطبيعي أ نّه لا دافع له إلاّ إدراك العقل قبح ذلك ، وإذا افترضنا أنّ العقل لا يدرك قبحه ولا مانع عنده من هذا التغيير ، فإذن ما هو الدافع له ؟

ومن ضوء هذا البيان يظهر بطلان دعوى جريان عادته تعالى على مؤاخذة العاصي وإثابة المطيع أيضاً ، بعين ما قدّمناه فلا نعيد .

وتوهم أنّ إثابة المطيع ومؤاخذة العاصي مستندة إلى وعده تعالى ووعيده

ــ[455]ــ

في كتابه الكريم من الحسنات والسيِّئات ، والدخول في الجنّة والنار ، والحور والقصور ، والويل والعذاب وما شاكل ذلك من ألوان الثواب والعقاب خاطئ جداً والسبب في ذلك : أ نّه لا يمكن الوثوق بوعده تعالى ووعيده بعد الالتزام بعدم إدراك العقل قبح الكذب وخلف الوعد عليه سبحانه .

فالنتيجة : أنّ في عزل العقل عن إدراك الحسن والقبح وتجويز ارتكاب الظلم على الله تعالى القضاء الحاسم على أساس كافّة الشرائع والأديان .

وأمّا الدعوى الثانية : فلأ نّها نشأت من الخلط بين حكم العقل العملي وحكم العقل النظري ، وذلك لأنّ الله تعالى لا يعقل أن يكون محكوماً بحكم العقل العملي ، وهو حكم العقلاء باستحقاقه تعالى المدح تارةً والذم اُخرى على الفعل الصادر منه في الخارج ، بداهة أ نّه لايتصور أن يحكم عليه سبحانه عبيده .

وأمّا العقل النظري ، فهو كما يدرك وجوده تعالى ووحدانيته وقدرته وعلمه وحكمته التي هي من لوازم علمه وقدرته ، كذلك يدرك قبح ارتكابه سبحانه الظلم واستحالة صدوره منه ، كيف حيث إنّه مناف لحكمته ، ومن الطبيعي أنّ ما ينافي لها يستحيل صدوره من الحكيم تعالى ، والسبب في ذلك : أنّ صدور الظلم من شخص معلول لأحد اُمور : الجهل ، التشفي ، العجز ، الخوف ، وجميع ذلك مستحيل في حقّه تعالى .

وكيف كان ، فادراك العقل استحالة صدور الظلم منه سبحانه وقبحه من القضايا الأوّلية التي هي قياساتها معها . ومن هنا لولا إدراك العقل قبح الظلم لاختلت كافّة الأنظمة البشرية المادية والمعنوية .

ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ أفعال الله تعالى لا تتصف بالقبح ، وأنّ كل ما يصدر منه سبحانه حسن، إلاّ أ نّه لاينبغي الشك في أنّ العقلاء يعاقبون عبيدهم على مخالفتهم ويثيبون على إطاعتهم ، كما أ نّهم يمدحون الفاعل على فعل

ــ[456]ــ

ويذمونه على فعل آخر، وهكذا، ولو كانت الأفعال الصادرة منهم غير اختيارية كما هو مختار الأشاعرة ومذهب الفلاسفة ، فلا معنى لاستحقاقهم المدح والثواب عليها تارةً، والذم والعقاب اُخرى . ومن هنا لايستحقّون ذلك على الفعل الصادر منهم بغير اختيار ، وأ نّهم يفرّقون بين الأفعال الاختيارية وغيرها ، فلو كانت الأفعال بشتّى أنواعها وأشكالها غير اختيارية، فما هو سبب هذه التفرقة وحكمهم باسـتحقاق المدح أو الذم في بعضها دون بعضها الآخر . ومن الطبيعي أنّ كل ذلك يكشف بصورة قاطعة عن بطلان نظريّة الجبر وصحّة نظريّة الاختيار .

الخامس : ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وإليك نصّه : العقاب إنّما بتبعة الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدّماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللاّزمة لخصوص ذاتهما، فانّ السعيد سعيد في بطن اُمّه ، والشقي شقي في بطن اُمّه ، والناس معادن كمعان الذهب والفضّة كما في الخبر ، والذاتي لا يعلل ، فانقطع السؤال أ نّه لم جعل السعيد سعيداً والشقي شقياً ، فانّ السعيد سعيد بنفسه والشقي شقي كذلك ، وإنّما أوجدهما الله تعالى ، قلم إينجا رسيد سر بشكست (1) .

وملخّص كلامه (قدس سره) هو أنّ العقاب ليس من معاقب خارجي حتّى يلزم المحذور المتقدم ، بل هو من لوازم الأعمال السيِّئة التي لا تنفك عنها ، فان نسبة العقاب إلى العمل كنسبة الثمر إلى البذر ، ومن الطبيعي أنّ البذر إذا كان صحيحاً كان نتـاجه صحيحاً ، وإذا كان فاسداً كان نتـاجه فاسـداً ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أنّ تلك الأعمال تنتهي بالأخرة إلى الشـقاوة التي هي

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 68 .

ــ[457]ــ

ذاتية للانسان والذاتي لا يعلل .

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أ نّه لا إشكال لا من جانب العقاب حيث إنّه من لوازم الأعمال وآثارها ، ولا من جانب تلك الأعمال حيث إنّها تنتهي في نهاية المطاف إلى الذات .

ولنأخذ بالمناقشة على هذه النظريّة :

أوّلاً : أ نّها مخالفة صريحة لنصوص الكتاب والسنّة ، حيث إنّ لازمها عدم إمكان العفو بالشفاعة ونحوها ، مع أ نّهما قد نصتا على ذلك وأنّ العقاب بيده تعالى وله أن يعاقب وله أن يعفو ، فهو فعل اختياري له سبحانه . وعلى الجملة : فلا ينبغي الشك في بطلان هذه النظريّة على ضوء الكتاب والسنّة .

وثانياً : أ نّها لاتحل مشكلة العقاب على أمر غير اختياري فتبقى تلك المشكلة على حالها ، بل هي تؤكّدها كما هو واضح . نعم ، لو كان مراده (قدس سره) من تبعية العقاب للكفر والعصيان التبعية على نحو الاقتضاء ، فلا إشكال فيها من الناحية الاُولى ولاتكون مخالفة للكتاب والسنّة، فيبقى الاشكال فيها من الناحية الثانية وهي أنّ الأعمال إذا كانت غير اختيارية فكيف يعقل العقاب عليها (1) .

ـــــــــــــــــــــ
(1) لا بأس بالتعرّض لما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في المقام ونقده بشكل موسّع ، وإليك نص قوله :
وأمّا الدفع : فهو أنّ استحالة التخلف إنّما تكون في الارادة التكوينية وهو العلم بالنظام على النحو الكامل التام ، دون الارادة التشريعة وهو العلم بالمصلحة في فعل المكلف ، وما لا محيص عنه في التكليف إنّما هو هذه الارادة التشريعية لا التكوينية ، فإذا توافقتا فلا بدّ من الاطاعة والايمان ، وإذا تخالفتا فلا محيص عن أن يختار الكفر والعصيان . =

ــ[458]ــ

....................................................................................

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= إن قلت : إذا كان الكفر والعصيان والاطاعة والايمان بارادته تعالى التي لا تكاد تتخلف عن المراد فلا يصح أن يتعلق بها التكليف ، لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلاً .
قلت : إنّما يخرج بذلك عن الاختيار لو لم يكن تعلّق الارادة بها مسبوقةً بمقدّماتها الاختيارية وإلاّ فلا بدّ من صدورها بالاختيار ، وإلاّ لزم تخلّف إرادته عن مراده ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً .
إن قلت : إنّ الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين بارادتهما إلاّ أ نّهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار ، كيف وقد سبقهما الارادة الأزلية والمشيئة الإلهية ، ومعه كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالأخرة بلا اختيار .
قلت : العقاب إنّما بتبعة الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدّماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللاّزمة لخصوص ذاتهما ، فانّ السعيد سعيد في بطن اُمّه ، والشقي شقي في بطن اُمّه ، والناس معادن كمعادن الذهب والفضّة كما في الخبر ، والذاتي لا يعلل ، فانقطع سؤال إنّه لم جعل السعيد سعيداً ، والشقي شقياً ، فانّ السعيد سعيد بنفسه ، والشقي شقي كذلك ، وإنّما أوجدهما الله تعالى(1) .
نلخّص كلامه (قدس سره) في عدّة نقاط :
الاُولى : أنّ الارادة التكوينية علّة تامّة للفعل ويستحيل تخلفها عنه .
الثانية : أنّ إرادة العبد تنتهي إلى الارادة الأزلية بقانون أنّ كل ما بالغير ينتهي بالأخرة إلى ما بالذات .
الثالثة : أنّ إرادته تعالى من الصفات العليا الذاتية كالعلم والقدرة وما شاكلهما . =

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 67 .

ــ[459]ــ

....................................................................................

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= الرابعة : أنّ الشقاوة والسعادة صفتان ذاتيتان للانسان .
الخامسة : أنّ منشأ العقاب والثواب إنّما هو الشقاوة والسعادة الذاتيتان اللازمتان للذات .
أمّا النقطة الاُولى والثانية والثالثة : فقد تقدّم الكلام فيها في ضمن البحوث السالفة بشكل موسع من دون حاجة إلى الاعادة .
وأمّا النقطة الرابعة : فان أراد بالذاتي الذاتي في باب الكلّيات أعني الجنس والفصل فهو واضح الفساد، بداهة أنّ السعادة والشقاوة ليستا جنسين للانسان ولا فصلين له ، وإلاّ لكانت حقيقة الانسان السعيد مباينة لحقيقة الانسان الشقي وهو كما ترى ، فعندئذ لا محالة يكون مراده منه الذاتي في باب البرهان ، وعليه فنقول :
إن أراد به الذاتي بمعنى العلّة التامّة ، يعني أنّ شقاوة الشقي علّة تامّة لاختياره الكفر والعصيان ، وسعادة السعيد علّة تامّة لاختياره الايمان والاطاعة ، فيردّه : البرهان والوجدان من ناحية ، والكتاب والسنّة من ناحية اُخرى .
أمّا الأوّل : فمضافاً إلى ما تقدّم في ضمن البحوث السالفة بصورة مفصّلة من نقد نظريّة الجبر وإثبات الاختيار ، أنّ الشقاوة والسعادة لو كانتا كذلك لزم هدم أساس كافّة الشرائع والأديان وأصبح كون بعث الرسل وإنزال الكتب لغواً محضاً ، فلا تترتّب عليه أيّة فائدة ، هذا من ناحية . ومن ناحـية اُخرى : لزم من ذلك هدم أساس التحسين والتقبيح العقليين اللذين قد التزم بهما العقلاء لحفظ نظم حياتهم المادية والمعنوية وإبقاء نوعهم . فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أ نّه لا يمكن الالتزام بذلك .
وأمّا الثاني : فلأنّ الوجدان حاكم بالاختيار ، وأ نّه ليس في كمون ذات الانسان ما =

ــ[460]ــ

....................................................................................

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= يجبره على اختيار الكفر والعصيان مرّةً ، واختيار الايمان والاطاعة مرّةً اُخرى . وأضف إلى ذلك : أنّ في المشاهد والمحسوس الخارجي القضاء الحاسم على تلك الدعوى ، حيث إنّنا نرى شخصاً واحداً كان شقياً في أوّل عمره وصار سعيداً في آخره أو بالعكس ، فلو كانت الشقاوة والسعادة ذاتيتين فكيف يعقل تغييرهما ، لاستحالة تغيير الذاتي وانقلابه .
وأمّا الكتاب : فمضافاً إلى أ نّه بنفسه شاهد صدق على بطلان هذه الفرضية ، فقد دلّت عدّة من الآيات الكريمة على نظريّة الاختيار والأمر بين الأمرين ، وبطلان نظريّة الجبر ، وأنّ الأعمال الصادرة عن الانسان تصدر بالاخـتيار ، لا بالقهر والجبر ، كما تقدّم التكلم في جملة منها في ضمن البحوث السابقة ، ولو كانت الشقاوة والسعادة ذاتيتين له بالمعنى المتقدم لكان مقهوراً في أعماله ومجبوراً فيها .
وأمّا السنّة : فقد نصّت الروايات المتواترة على خطأ نظريّتي الجبر والتفويض ، وإثبات نظريّة الاختيار والأمر بين الأمرين ، ومن الطبيعي أنّ فيها القضاء المبرم على هذه الفرضية . وأضف إلى ذلك : أنّ هاتين الصفتين لو كانتا ذاتيتين بالمعنى المزبور لكان الأمر بالدعاء وطلب التوفيق من الله تعالى ، وحسن العاقبة ، وأن يجعل تعالى الشقي سعيداً ، لغواً محضاً وكان مجرّد لقلقة اللسان ، بداهة استحالة انقلاب الذاتي وتغييره عمّا يقتضيه . إذن في نفس هذه الأدعية شاهد صدق على بطلانها .
فالنتيجة : أنّ الذاتي بهذا المعنى غير معقول .
وإن أراد بالذاتي الذاتي بمعنى الاقتضاء ، فهو وإن كان أمراً ممكناً في نفسه ، وليس فيه القضاء الحاسم على أساس كافّة النظم الانسانية : المادية والمعنوية ، السماوية وغيرها ، وكما ليس على خلافه حكم العقل والوجدان ، إلاّ أنّ المستفاد من بعض الأدعية أ نّهما ليستا بذاتيتين بهذا المعنى أيضاً ، وذلك لما ورد فيها من أنّ الشقي يطلب =

 
 

ــ[461]ــ

....................................................................................

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= من الله تعالى أن يجعله سعيداً ، فلو كانت الشقاوة صفة ذاتية له ولازمة لذاته فكيف يعقل تغييرها وانقلابها إلى صفة اُخرى وهي السعادة . ودعوى أنّ قوله (صلّى الله عليه وآله) في صحيحة الكناني : «الشقي من شقي في بطن اُمّه ، والسعيد من سعد في بطن اُمّه» (1) وقوله : «الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة» (2) يدلاّن على أنّ السعادة والشقاوة صفتان ذاتيتان للانسان ، خاطئة جداً .
وذلك أمّا صحيحة الكناني فلو كنّا نحن وهذه الصحيحة ولم تكن قرينة خارجية على الخلاف لأمكن أن يقال بدلالتها على أ نّهما صـفتان ذاتيتان له ، ولكن حيث لايمكن كونهما ذاتيتين على نحو العلّة التامّة فبطبيعة الحال تكونان على نحو الاقتضاء ، ولكن القرينة الخارجية قد منعتنا عن الأخذ بظاهرها ، وهي صحيحة ابن أبي عمير الواردة في بيان المراد منها قال : «سألت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن معنى قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : الشقي من شقي في بطن اُمّه السعيد من سعد في بطن اُمّه ، فقال : الشقي من علم الله (علمه الله) وهو في بطن اُمّه أ نّه سيعمل أعمال الأشقياء ، والسعيد من علم الله (علمه الله) وهو في بطن اُمّه أ نّه سيعمل أعمال السعداء» (3) فانّها واضحة الدلالة على بيان المراد من تلك الصحيحة وإطار مدلولها ، وقد تقدّم في ضمن البحوث السابقة بشكل موسّع أنّ العلم الأزلي لا يكون سبباً للجبر ومنشأً له ، هذا من ناحية .
ومن ناحية اُخرى : أنّ نفس هذه الصحيحة تدل على أنّ الشقاوة والسعادة صفتان =

ـــــــــــــــــــــ
(1) أمالي الصدوق : 395 المجلس 74 (مع اختلاف) .
(2) الكافي 8 : 177 ح 197 .
(3) البحار 5 : 157 ح 10 .

ــ[462]ــ

....................................................................................

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= عارضتان على الانسان بمزاولة الأعمال الخارجية كسائر الملكات النفسانية الطيّبة والخبيثة التي تحصل لنفس الانسان من مزاولة الأعمال الحسنة والسيِّئة ، وليستا من الصفات الذاتية اللازمة لذاته منذ وجوده في هذا الكون أو انعقاده في الرحم .
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أ نّهما صفتان عارضتان ، المنتزعتان من الأعمال الخارجية .
وأضف إلى ذلك : أ نّنا إذا حلّلنا الانسان تحليلاً موضوعياً فلا نجد فيه غير الصفات المعروفة ، والملكات النفسانية ، والقوى الشهوانية ، والقوى العقلية صفةً اُخرى ذاتية له تسمى بصفة الشقاوة أو السعادة .
وبكلمة اُخرى : أنّ الانسان لحظة تكوّنه في بطن اُمّه أو لحظة وجوده على وجه الأرض لا توجد لديه أيّة صفة من الصفات والملكات النفسانية ، والقوى العقلية والشهوانية ، ما عدا حياته الحيوانية ، وتحصل هذه الصفات والملكات والقوى له بمرور الأيّام وطول الزمن ، وبطبيعة الحال أنّ صفتي الشقاوة والسعادة لو كانتا ذاتيتين له لكان الانسان واجداً لهما من تلك اللحظة وهو كما ترى .
ومن هنا لا يصح إطلاق الشقي عليه منذ تلك اللحظة وكذلك السعيد .
وعلى هذا الضوء فلا مناص من الالتزام بأ نّهما كسائر الملكات النفسانية تحصل لنفس الانسان من مزاولة الأعمال الخارجية ، مثلاً تحصل صفة الشقاوة لها من مزاولة الأعمال السيِّئة، وصفة السعادة من مزاولة الأعمال الحسنة ، وليس لهما واقع موضوعي غير هذا .
وقد تحصّل من ذلك : أنّ هذا البيان التحليلي قرينة على حمل الصحيحة على ما ذكر آنفاً مع قطع النظر عمّا ورد في تفسيرها وبيان المراد منها . =

ــ[463]ــ

السادس : أنّ شيخنا المحقق (قدس سره) قد أجاب عن هذه المسألة بجوابين :

الأوّل : أنّ العقوبة والمثوبة ليستا من معاقب ومثيب خارجي ، بل هما من تبعات الأفعال ولوازم الأعمال ، ونتائج الملكات الرذيلة ، وآثار الملكات الفاضلة ، ومثل تلك العقوبة على النفس لخطيئتها كالمرض العارض على البدن لنهمه ، والمرض الروحاني كالمرض الجسماني ، والأدوية العقلائية كالأدوية الجسمانية ، ولا استحالة في استلزام الملكات النفسانية الرذيلة للآلام الجسمانية والروحانية في تلك النشأة ـ أي النشأة الاُخروية ـ كما أ نّها تستلزم في هذه النشأة الدنيوية ، ضرورة أنّ تصور المنافرات كما يوجب الآلام النفسانية كذلك يوجب الآلام الجسمانية .

فإذن لا مانع من حدوث منافرات روحانية وجسمانية بواسطة الملكات الخبيثة النفسانية ، فالنتيجة أنّ العقاب ليس من معاقب خارجي حتّى يقال :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= وأمّا الرواية الثانية : فهي لا تدل بوجه على أ نّهما صفتان ذاتيتان للانسان ، بداهة أ نّها لا تتعرّض لهما لا تصريحاً ولا تلـويحاً ، فكيف تكون ناظرةً إليهما ودالّة على كونهما ذاتيتين ، بل هي ناظرة إلى اختلاف أفراد الانسان بحسب الملكات والكمالات النفسانية ، ومراتبها الدانية والعالية ، كاختلاف الذهب والفضّة .
فالنتيجة من مجمـوع ما ذكرناه : قد تبيّن أنّ القول بكون صفتي السعادة والشقاوة ذاتيتين للانسان لا يخرج عن مجرد الفرض والخيال .
وأمّا النقطة الخامسة : فقد ظهر خطؤها من ناحيتين : الاُولى : أنّ الشقاوة ليست صفةً ذاتيةً للانسان ليكون في انتهاء العقاب إليها القضاء الحاسم على قاعدة قبح العقاب على أمر خارج عن الاختيار . الثانية : أنّ العقاب لا يعقل أن يكون من لوازم تلك الصفة على نحو العلّة التامّة ، بل هو من معاقب خارجي كما تقدّم بشكل مفصّل .

ــ[464]ــ

كيف يمكن صدور العقاب من الحكيم المختار على ما لايكون بالأخرة بالاختيار . وفي الآيات والروايات تصريحات وتلويحات إلى ذلك ، فقد تكرر في القرآن الكريم (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) وقال (عليه السلام) : «إنّما هي أعمالكم ترد إليكم» .

الثاني : أنّ المثوبة والعقوبة من مثيب ومعاقب خارجي كما دلّ على ذلك ظاهر الكتاب والسنّة، وتصحيحهما بعد صحّة التكليف بذلك المقدار من الاختيار في غاية السهولة ، إذ كما أنّ المولى العرفي يؤاخذ عبده على مخالفة أمره ، كذلك المولى الحقيقي ، لوضوح أنّ الفعل لو كان بمجرد استناده إلى الواجب تعالى غير اختياري وغير مصحح للمؤاخذة ، لم تصح مؤاخذة المولى العرفي أيضاً ، وإذا كان في حدّ ذاته قابلاً للمؤاخذة عليه ، فكون المؤاخذة ممّن انتهت إليه سلسلة الارادة والاختيار لا يوجب انقلاب الفعل عمّا هو عليه من القابلية للمؤاخذة ممّن خولف أمره ونهيه .
وقد أجاب عن ذلك بجواب آخر : وهو أنّ الحكم باستحقاق العقاب ليس من أجل حكم العقلاء به حتّى يرد علينا إشكال إنتهاء الفعل إلى ما لا بالاختيار ، بل نقول بأنّ الفعل الناشئ عن هذا المقدار من الاختيار مادة لصورة اُخروية ، والتعبير بالاستحقاق بملاحظة أنّ المادة حيث كانت مستعدة فهي مستحقة لافاضة الصورة من واهب الصور .
ومنه تعرف أنّ نسـبة التعذيب والادخال في النار إليه تعالى بملاحظة أنّ إفاضة تلك الصورة المؤلمة المحرقة التي تطّلع على الأفئدة منه تعالى بتوسط ملائكة العذاب ، فلاينافي القول باللزوم، مع ظهور الآيات والروايات في العقوبة من معاقب خارجي (1) .

ـــــــــــــــــــــ
(1) نهاية الدراية 1 : 297 .

ــ[465]ــ

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره) من الأجوبة .

أمّا الأوّل : فيرد عليه ما أوردناه على الجواب الأوّل حرفاً بحرف فلا نعيد . وأمّا الاستشهاد على ذلك بالآيات والروايات فغريب جداً ، لما سبق من أنّ الآيات والروايات قد نصّتا على خلاف ذلك ، وأمّا قوله تعالى : (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )(1) فلا يكون مشعراً بذلك فضلاً عن الدلالة ، ضرورة أنّ مدلوله جزاء الناس بسبب الأعمال الصادرة منهم في الخارج ، وأمّا كونه من آثارها ولوازمها التي لا تتخلف عنها فلا يدل عليه بوجه أصلاً .

وأمّا قوله (عليه السلام) : «إنّما هي أعمالكم ترد إليكم» (2) فظاهر في تجسم الأعمال ، ولا يدل على أنّ العقاب ليس من معاقب خارجي ، بداهة أ نّه لا تنافي بين الالتزام بتجسم الأعمال في الآخرة وكونه بيد الله تعالى وتحت اختياره .

وأمّا الثاني ، فيرد عليه ما تقدّم في ضمن البحوث السابقة (3) من أنّ مجرد كون الفعل مسبوقاً بالارادة لا يصحح مناط اختياريته رغم أنّ الارادة بكافة مبادئها غير اختيارية من ناحية ، وكونها علّة تامّةً من ناحية اُخرى ومنتهية [ إلى ] الارادة الأزلية من ناحية ثالثة ، بداهة أنّ الفعل والحال هذه كيف يعقل كونه اختيارياً . وعلى هذا الضوء فلا يمكن القول باستحقاق العقاب عليه ، لاستقلال العقل بقبح العقاب على الفعل الخارج عن الاختيار. فإذن هذا الجواب لا يجدي في دفع المحذور المزبور .

وأمّا الثالث ، فهو مبتن على تجسم الأعمال ، وهو وإن كان غير بعيد نظراً إلى

ـــــــــــــــــــــ
(1) الطور 52 : 16 .
(2) بحار الأنوار 3 : 90 .
(3) في ص 395 وما بعدها .

ــ[466]ــ

ما يظهر من بعض الآيات(1) والروايات(2) إلاّ أنّ مردّه ليس إلى أنّ تلك الأعمال مادّة لصورة اُخروية المفاضة من واهب الصور على شكل اللزوم بحيث يستحيل تخلّفها عنها ، بداهة أنّ التجسم بهذا المعنى مخالف صريح للكتاب والسنّة ، حيث إنّهما قد نصّا على أنّ العقاب بيده تعالى ، وله أن يعاقب وله أن يعفو .

وعلى الجملة : فالمجيب بهذا الجواب وإن كان يدفع مسألة قبح العقاب على الأمر الخارج عن الاختيار ، حيث إنّ العقاب على أساس ذلك صورة اُخروية للأعمال الخارجية اللازمة لها الخارجة عن اختيار المعاقب الخارجي فلا يتصف بالقبح ، إلاّ أ نّه لا يعالج مشكلة لزوم لغوية بعث الرسل وإنزال الكتب .

وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه في نهاية المطاف : أنّ الالتزام باسـتحقاق العقاب من معاقب خارجي وحسـنه لا يمكن إلاّ على ضوء نظريتي الإمامية والمعـتزلة . وأمّا على ضوء نظريّتي الأشـاعرة والفلاسـفة فلا يمكن حلّ هذه المشكلة إلاّ بوجه غير ملائم لأساس الأديان والشرائع.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بعدّة نتائج :

الاُولى : أنّ إرادته تعالى عبارة عن المشيئة وإعمال القدرة والسلطنة وهي فعله سبحانه وتعالى ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أنّ الشوق المؤكد لا يعقل أن يكون إرادةً له تعالى . ومن ناحية ثالثة : أنّ إرادته سبحانه ليست من الصفات العليا الذاتية. ومن ناحية رابعة : أنّ الكتاب والسنّة تنصّان على أنّ إرادته تعالى فعله .

ـــــــــــــــــــــ
(1) منها : آل عمران 3 : 30 ، الزلزلة 99 : 6 ، 7 ، 8 .
(2) الكافي 2 : 190 / 8 ، 191 / 10 و 12 .

ــ[467]ــ

ومن ناحية خامسة : أنّه لا وجه لحمل الكتاب والسنّة على بيان الارادة الفعلية دون الذاتية كما عن الفلاسفة وجماعة من الاُصوليين ، وذلك أوّلاً : لعدم الدليل على كون إرادته تعالى ذاتية ، بل قد تقدّم عدم تعقل معنىً صحيح لذلك . وثانياً : أنّ في نفس الروايات ما يدل على نفي الارادة الذاتية .

الثانية : أنّ تفسير الارادة بالعلم بالنظام الكامل التام من ناحـية كما عن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) ، وبالرضا والابتهاج من ناحية اُخرى كما عن شيخنا المحقق (قدس سره) تفسير خاطئ لا واقع موضوعي له .

الثالثة : أنّ تقسيم المشيئة إلى مشيئة ذاتية وهي عين ذاته تعالى ، وإلى مشيئة فعلية وهي الوجود الاطلاقي المنبسط كما عن الفلاسفة وشيخنا المحقق (قدس سره) قد تقدّم نقده بشكل موسّع ، وقلنا هناك إنّ هذا التقسيم يقوم على أساس أن تكون نسبة الأشياء إلى ذاته الأزلية نسبة المعلول إلى العلّة التامّة من كافّة الجهات والنواحي ، لا نسبة الفعل إلى الفاعل المختار . وقد سبق نقد هذا الأساس بصورة موضوعية ، وأقمنا البرهان على أ نّه لا واقع له في أفعاله تعالى .

الرابعة : أنّ الأشاعرة قد استدلّوا على الجبر بعدّة وجوه، وقد تقدّمت المناقشة في تمام تلك الوجوه وبينّا عدم دلالة شيء منها على ذلك .

الخامسة : أنّ ما نسب إلى أبي الحسن الأشعري ـ من أنّ عادة الله تعالى قد جرت على أن يوجد في العبد فعله مقارناً لايجاد القدرة والاختيار فيه ، فيكون فعل العبد مخلوقاً له تعالى إبداعاً وإحداثاً ـ قد تقدّم نقده بشكل موسّع ، وقلنا هناك إنّه لا يرجع إلى معنىً صحيح ، لا في المعاليل الطبيعية ، ولا في الأفعال الاختيارية .

السادسة : المعروف بين الفلاسفة قديماً وحديثاً أنّ الأفعال الاختيارية بشتّى أنواعها مسبوقة بالارادة ، هذا من ناحية . ومن ناحية اُخرى : أ نّها إذا بلغت

ــ[468]ــ

حدّها التام تكون علّةً تامّةً لها ، وتبعهم على ذلك جماعة من الاُصوليين . وقد تقدّمت المناقشة في ذلك بصورة مفصّلة، وأقمنا البرهان مضافاً إلى الوجدان على أنّ الارادة لاتعقل أن تكون علّةً تامّةً للفعل، هذا من جانب . ومن جانب آخر : قد أثبتنا أنّ الأفعال الاختيارية بكافّة أنواعها مسبوقة باعمال القدرة والسلطنة .

السابعة : أنّ قاعدة أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد تختص بالمعاليل الطبيعية فلا تعم الأفعال الاختيارية ، وذلك لما بينّاه هناك من أنّ تلك القاعدة تقوم على أساس مسألة التناسب التي هي الحجر الأساسي لمبدأ تأثير العلّة الطبيعية في معـلولها ، ولا مجال لها في إطار سلسلة الأفعال الاختيارية ، وقد ذكرنا الفرق الأساسي بين زاوية الأفعال الاختيارية وزاوية المعاليل الطبيعية في ضمن البحوث السالفة .

الثامنة : أنّ الأفعال الاختيارية تصدر عن الانسان بالاختيار وإعمال القدرة ، وأمّا الاختيار فهو غير مسبوق باختيار آخر ، بل يصدر عن النفس بالذات ، أي بلا واسطة .

التاسعة : أنّ شيخنا المحقق (قدس سره) قد ناقش في الاختيار بعدّة مناقشات، وقد تعرّضنا لتلك المناقشات واحدةً بعد اُخرى ، مع نقدها بصورة موسّعة .

العاشرة : أنّ أفعال العباد لا يمكن أن تقع تحت إرادة الله تعالى ومشيئته مباشرةً لوجهين قد تقدّما منّا ، وإنّما الواقع تحت إرادته سبحانه مبادئ تلك الأفعال .

الحادية عشرة : أنّ علمه تعالى بوقوع أفعال العباد في الخارج لا يوجب الجبر والاضطرار ، بداهة أنّ حقيقة العلم انكشاف الأشياء على ما هي عليه ولا يكون من مبادئ وقوعها . ومن هنا ذكرنا أنّ ما أفاده صدر المتألهين من أنّ علمه سبحانه سبب لوجوب وقوعها في الخارج وإلاّ لكان علمه جهلاً وهو

ــ[469]ــ

محال ، خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً .

الثانية عشرة : أنّ ما ذهب إليه الفلاسـفة من أنّ الذات الأزلية علّة تامّة للأشياء وأ نّها بكافّة أنواعها تصدر منها على ضوء مبدأ التناسب خاطئ جداً ولا واقع له ، ومن هنا قد ناقشنا فيه بعدّة مناقشات .

الثالثة عشرة : أنّ المعتزلة قد استدلّوا على إثبات نظريّتهم ـ التفويض ـ باستغناء البقاء ـ أي بقاء الممكن عن الحاجة ـ إلى المؤثر بدعوى أنّ سرّ حاجة الممكن وفقره إلى العلّة إنّما هو حدوثه ، وبعده فلا يحتاج إليها ، وقد تقدّم نقد هذه النقطة بشكل موسّع في الأفعال الاختيارية ، والمعاليل الطبيعية معاً ، وقد أثبتنا أنّ سرّ حاجة الممكن وفقره الذاتي إلى العلّة إنّما هو إمكانه لا حدوثه .

الرابعة عشرة : أنّ الصحيح المطابق للوجدان والواقع الموضوعي هو نظريّة الأمر بين الأمرين في أفعال العباد التي قد اختارت الطائفة الإمامية تلك النظريّة بعد رفضها نظريّتي الأشاعرة والمعتزلة فيها . وقد دلّت على صحّة تلك النظريّة الروايات الكثيرة التي تبلغ حدّ التواتر من ناحية، وعلى بطلان نظريّتي الأشاعرة والمعتزلة من ناحية اُخرى . هذا مضافاً إلى البراهين العقلية التي تقدّمت .

الخامسة عشرة : أنّ لأفعال العباد نسبتين حقيقيتين : إحداهما إلى فاعلها بالمباشرة . وثانيتهما إلى الله تعالى باعتبار أ نّه سبحانه معطي مقدّماتها ومبادئها آناً بعد آن بحيث لو انقطع الاعطاء في آن انتفت المقدّمات .

السادسة عشرة : يمتاز ارتباط المعلول بالعلّة الطبيعية عن ارتباط الفعل بالفاعل المختار في نقطة ، ويشترك معه في نقطة اُخرى . أمّا نقطة الامتياز فهي أنّ المعلول في العلل الطبيعية يرتبط بذات العلّة ، والمعلول في الفواعل الارادية يرتبط بمشيئة الفاعل وإعمال قدرته ، وأمّا نقطة الاشتراك فهي أنّ المعلول كما لا واقع موضوعي له ما وراء ارتباطه بذات العلّة ويستحيل تخلّفه عنها ، كذلك

ــ[470]ــ

الفعل لا واقع له ما وراء ارتباطه بمشيئة الفاعل واختياره ويستحيل تخلّفه عنها.

السابعة عشرة : أنّ الآيات الكريمة كقوله تعالى (وَمَا تَشاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ ) وما شاكله تدلّنا على نظريّة الأمر بين الأمرين وتصدّق تلك النظريّة ، ولا تدل على نظريّة الجبر ، ولا على التفويض .

الثامنة عشرة : أنّ ما أورده الفخر الرازي من الشبهة على خلقه تعالى العالم بالترتيب الموجود والشكل الحالي وعدم خلقه بترتيب آخر وشكل ثان قد تقدّم نقده بشكل موسّع على ضوء كلتا النظريتين ، يعني نظريّة الفلاسفة ونظريّة الاختيار .

التاسعة عشرة : لا إشكال في صحّة استحقاق العبيد للعقاب على مخالفة المولى واستقلال العقل بذلك على ضوء كل من نظريتي : الإمامية والمعتزلة ، وإنّما الاشكال في صحّة استحقاقهم له على ضوء نظريّة الأشاعرة [ والفلاسفة ]وقد تقدّم الاشكال في ذلك على ضوء استقلال العقل بقبح العقاب على الأمر الخارج عن الاختيار .

العشرون : قد اُجيب عن ذلك الاشكال بعدّة أجوبة . وقد ناقشنا في جميع تلك الأجوبة ، وقلنا إنّ شيئاً منها لا يعالج المشكلة ، فلا يمكن حلّ هذه المشكلة بصورة صحيحة وبشكل واقعي موضوعي إلاّ على ضوء نظريّة الإمامية .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net