حقيقة السببية وأقسامها 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5941


أمّا المقام الأوّل فالسببية على وجوه :
الأوّل : ما نسب إلى الأشاعرة ـ وإن كانت النسبة غير ثابتة ـ من أنّ الله تعالى لم يجعل حكماً من الأحكام في الشريعة المقدسة قبل تأدية نظر المجتهد إلى شيء ، وإنّما يدور جعله مدار تأدية نظرية المجتهد ورأيه ، فكلّ ما أدى إليه رأيه من الوجوب أو الحرمة أو غير ذلك في مورد بسبب قيام أمارة أو أصل جعل الشارع ذلك الحكم فيه ، وإذا تبدّل رأيه إلى رأي آخر كان من التبدّل في

ــ[83]ــ

الموضوع وانقلاب الحكم بانقلابه ، ولا يعقل فيه كشف الخلاف أصلاً ، كيف حيث لا واقع ما وراء رأيه .
وبكلمة اُخرى : أنّ هذا القول يرتكز على أساس أ نّه لا مقتضي في الواقع من المصالح أو المفاسد قبل قيام الأمارة وتأديتها إلى شيء ليكون منشأ لجعل الحكم فيه ، وإنّما تحدث المصلحة أو المفسدة في فعل بسبب قيام أمارة على وجوبه أو على حرمته ، ولذا جعل الشارع الحكم على طبق ما أدت إليه . فالنتيجة : أنّ مردّ القول بهذه السببية إلى خلوّ صفحة الواقع عن الحكم قبل تأدية الأمارة إليه وقيامها عليه ، فلا يكون في حقّ الجاهل مع قطع النظر عنها حكم أصلاً .
الثاني : ما نسب إلى المعتزلة وهو أن يكون قيام الأمارة سبباً لكون الحكم الواقعي بالفعل هو المؤدى ، وذلك لأنّ قيام الأمارة يوجب إحداث مصلحة أو مفسدة في متعلقه ، وحيث إنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، فبطبيعة الحال ينحصر الحكم الواقعي الفعلي فيه . وبكلمة اُخرى : أنّ المعتزلة قد اعترفت بثبوت الأحكام الواقعية في الشريعة المقدسة المشترك فيها بين العالم والجاهل ، ولكن على الرغم من ذلك يقول بانحصار الأحكام الواقعية الفعلية في مؤديات الحجج والأمارات ولا حكم في غيرها إلاّ شأناً واقتضاءً .
بيان ذلك : هو أنّ الأمارة القائمة على شيء لا تخلو من أن تكون مطابقة للواقع أو تكون مخالفة له ، فعلى الأوّل فهي توجب فعلية الواقع فحسب ، وعلى الثاني فحيث إنّها توجب إحداث مصلحة في المؤدى أقوى من مصلحة الواقع فهي بطبيعة الحال كما توجب اضمحلال مصلحة الواقع وجعلها بلا أثر كذلك توجب جعل الحكم على طبقها . فالنتيجة أ نّها توجب انقلاب الواقع وتغييره وجعل المؤدى على خلافه.

ــ[84]ــ

ثمّ إنّ السببية بهذا المعنى تمتاز عن السببية بالمعنى الأوّل في نقطة وتشترك معها في نقطة اُخرى . أمّا نقطة الامتياز فهي أنّ الاُولى تقوم على أساس اختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها وعدم ثبوت الحكم في حقّ الجاهل ، ولذا لا يتصور على ضوئها الخطأ في آراء المجتهدين حيث لا واقع ما عداها . والثانية تقوم على أساس ثبوت الواقع المشترك بين العالم والجاهل ، ولذا تختص سببيّتها لجعل المؤدى في صورة المخالفة فحسب . وأمّا نقطة الاشتراك فهي أ نّهما تشتركان في اختصاص الأحكام الواقعية الفعلية بمؤديات الأمارات فلا حكم واقعي فعلي في غيرها أصلاً .
الثالث : ما نسب إلى بعض الإمامية (1) وهو أن يكون قيام الأمارة سبباً لاحداث المصلحة في السلوك على طبق الأمارة وتطبيق العمل على مؤداها ، مع بقاء الواقع على ما هو عليه من دون أن يوجب التغيير والانقلاب فيه أصلاً ، فلو قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة مثلاً ، وفرضنا أنّ الواجب في الواقع هو صلاة الظهر ، لم توجب تغيير الواقع وانقلابه وجعل غير الواجب واجباً ، بل الواجب الواقعي باق على ما كان عليه رغم أنّ الأمارة قامت على خلافه ، كما أنّ صلاة الجمعة بقيت على ما كانت عليه من عدم الوجوب في الواقع ، فوجود الأمارة وعدمها بالاضافة إلى الواقع على نسبة واحدة .
نعم ، هذه الأمارة سبب لحدوث مصلحة في السلوك على وفقها، وبها يتدارك ما فات من مصلحة الواقع . وعلى الجملة : فكما لا دخل للأمارة في جعل الأحكام ، فكذلك لا دخل لها في فعليتها ، فالأحكام الواقعية فعلية رغم قيام الأمارات على خلافها فلا تتغير به ، والسر في ذلك هو أنّ قيام الأمارة لو كان

ـــــــــــــــــــــ
(1) نسبه إلى جماعة من العدلية في أجود التقريرات 3: 117، وراجع فرائد الاُصول 1: 91.

ــ[85]ــ

موجباً لحدوث المصلحة في المؤدى فبطبيعة الحال أوجب انقلاب الواقع .
وأمّا إذا لم يوجب حدوث مصلحة فيه كما هو المفروض في المقام ، فاستحال أن يكون موجباً لانقلاب الواقع . وأمّا إيجابه حدوث مصلحة في السلوك فهو غير مناف لمصلحة الواقع أصلاً ، وهذه المصلحة تختلف باختلاف السلوك كما أوضحناه في مبحث الظن (1) .
وعلى ضوء هذا البيان يظهر نقطة الامتياز بين السببية بهذا المعنى والسببية بالمعنيين الأوّلين كما لا يخفى .
وبعد ذلك نقول : أمّا على ضوء السببية بالمعنى الأوّل ، فلا مناص من القول بالإجزاء ، حيث لا واقع على الفرض ما عدا مؤدى الأمارة لنبحث عن أنّ الاتيان به مجز عنه أو لا ، فلو تبدل رأي المجتهد إلى رأي آخر على خلاف الأوّل كان من تبدل الموضوع لا من انكشاف الخلاف ، فالاتيان بما أدى إليه رأيه إتـيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي لا أ نّه إتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري ليقع البحث عن إجزائه عن الأوّل ، إلاّ أنّ السببية بذلك المعنى غير معقولة في نفسها، بداهة أنّ تصوّرها في نفسه كاف للتصديق ببطلانها بلا حاجة إلى إقامة برهان عليه من لزوم دور أو نحوه ، كيف حيث إنّ هذا المعنى من السببية خلاف الضرورة من الشرع ويكذّبه الكتاب والسنّة ، إذ لازمه بطلان بعث الرسل وإنزال الكتب .
على أ نّه لو لم يكن حكم مجعول في الواقع قبل قيام الأمارة عليه ، فالأمارة تحكي عن أيّ شيء ، وأ نّها تؤدي إلى أيّ حكم ، وهل يعقل الكشف من دون مكشوف والحكاية من دون محكي ، فلو توقف ثبوته على قيام الأمارة عليه

ـــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الاُصول 1 : 110 .

ــ[86]ــ

لزم الدور أو الخلف . وأضف إلى ذلك : أنّ اختصاص الأحكام الشرعية بمن قامت عنده الأمارة خلاف الضرورة والمتسالم عليه بين الأصحاب ، وتكذّبه الاطلاقات الأوّلية، حيث إنّ مقتضاها ثبوت الأحكام الشرعية في الواقع مطلقاً من دون فرق بين العالم والجاهل .
وأمّا على ضوء السببية بالمعنى الثاني ، فالأمر أيضاً كذلك ، يعني أ نّه لا مناص من القول بالإجزاء ، حيث إنّه لا واقع على ضوئها أيضاً في مقابل مؤدى الأمارة ليقع البحث عن أنّ الاتيان به هل هو مجز عنه أم لا ، بل الواقع هو مؤدى الأمارة ، فالاتيان به إتيان بالواقع ، هذا من ناحية .
ومن ناحية اُخرى : أنّ السببية بهذا المعنى وإن كان أمراً معقولاً بحسب مقام الثبوت ولا مانع في نفسه من الالتزام بانقلاب الواقع وتغييره بقيام الأمارة على خلافه ، بأن يكون ثبوت الواقع مقيداً بعدم ذلك ، نظير تقيد ثبوت الأحكام الواقعية بغير موارد الاضطرار والضرر والحرج وما شاكلها ، إلاّ أنّ الأدلة لا تساعد على ذلك . أمّا الاطلاقات الأوّلية ، فلأنّ مقتضاها ثبوت الأحكام الواقعية للعالم والجاهل ، ولا دليل على تقييدها بعدم قيام الأمارة على الخلاف كما قام الدليل على تقييدها بغير موارد الضرر والحرج وما شاكلهما . فالنتيجة أنّ التقييد يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه .
وأمّا أدلة الاعتبار فلا تخلو من أن تكون هي السيرة العقلائية أو تكون غيرها من الآيات أو الروايات، فعلى كلا التقديرين لاتدل على سببية الأمارات .
أمّا على الأوّل : فواضح ، حيث إنّ سيرتهم قد جرت على العمل بها بملاك كونها طريقاً إلى الواقع وكاشفاً عنه ، وأ نّهم يعاملون معها معاملة العلم والقطع من جهة كونها منجّزة للواقع على تقدير الاصابة ، ومعذّرة على تقدير الخطأ ، وهذا هو مردّ الطريقية والكاشفية ، بداهة أ نّه ليس عند العقلاء طريق اعتبروه

ــ[87]ــ

من باب السببية ، هذا من ناحية . ومن ناحية اُخرى : أنّ الشارع قد أمضى تلك السيرة على ما هي عليه ، فالنتيجة على ضوئهما هي أنّ اعتبار الحجج والأمارات من باب الكاشفية والطريقية لا من باب السببية والموضوعية .
وأمّا على الثاني : فأيضاً كذلك ، فانّ الظاهر من الآيات والروايات هو إمضاء ما هو حجة عند العقلاء ، فلا تدلاّن على حجية شيء تأسيساً ، ومن هنا لم نجد في الشريعة المقدسة أن يحكم الشارع باعتبار أمارة تأسيساً . نعم ، قد زاد الشارع في بعض الموارد قيداً في اعتبارها ولم يكن ذلك القيد معتبراً عند العقلاء . وقد تحصّل من ذلك : أنّ الحجية التأسيسية لم توجد في الشريعة المقدّسة ، ليتوهم أ نّها كانت من باب السببية . على أ نّه لا ملازمة بينها وبين السببية أصلاً .
فالنتيجة لحدّ الآن قد أصبحت : أنّ السببية بهذا المعنى وإن كانت معقولة في ذاتها ولايترتب عليها المحاذير المترتبة على السببية بالمعنى الأوّل، إلاّ أ نّها خلاف الضرورة وإطلاقات الأدلة التي تقتضي عدم اختصاص مداليلها بالعالمين بها .
وما عن شيخنا العلاّمة الأنصاري (قدس سره) من أ نّه قد تواترت الأخبار والآثار على اشتراك الأحكام الواقعية بين العالم والجاهل (1) لعله أراد منها الروايات الدالّة على ثبوت الأحكام مطلقاً ، أو أراد أخبار الاحتياط والبراءة أو ما شاكلها مما يدل بالالتزام على الاشتراك ، وإلاّ فلم ترد رواية واحدة تدل على أنّ الأحكام الواقعية مشتركة بين العالمين بها والجاهلين .
وأمّا السببية بالمعنى الثالث : فالكلام يقع فيها من جهات ثلاث :

ـــــــــــــــــــــ
(1) فرائد الاُصول 1 : 91 .

ــ[88]ــ

الاُولى : أ نّنا قد حققنا في محلّه (1) أ نّه لا ملزم للالتزام بهذه المصلحة التي تسمّى بالمصلحة السلوكية لتصحيح اعتبار الأمارات وحجيتها ، والسبب في ذلك : هو أنّ اعتبار الأمارات من دون أن ترتب عليه مصلحة وإن كان لغواً ، فلا يمكن صدوره من الشارع الحكيم ، إلاّ أ نّه يكفي في ذلك ترتب المصلحة التسهيلية عليه ، حيث إنّ تحصيل العلم الوجداني بكل حكم شرعي لكل واحد من المكلفين غير ممكن في زمان الحضور فضلاً عن زماننا هذا ، ولو أمكن هذا فبطبيعة الحال كان حرجياً لعامة المكلفين في عصر الحضور فما ظنك في هذا العصر . ومن الواضح أنّ هذا مناف لكون الشريعة الاسلامية شريعة سهلة وسمحة . وعلى هذا الضوء فلا بدّ للشارع من نصب الطرق المؤدية غالباً إلى الأحكام الواقعية وإن كان فيها ما يؤدي على خلاف الواقع أيضاً .
وبكلمة اُخرى : أنّ المصلحة التسهيلية بالاضافة إلى عامة المكلفين تقتضي ذلك . نعم ، من كان مباشراً للإمام (عليه السلام) كعائلته ومتعلقيه يمكن له تحصيل العلم في كل مسألة بالسؤال منه (عليه السلام) وكيف كان ، فمع وجود هذه المصلحة لا مقتضي للالتزام بالمصلحة السلوكية أصلاً .
الثانية : أ نّنا قد أثبتنا في الجهة الاُولى أ نّه لا موجب ولا مقتضي للالتزام بها أصلاً ، ولكنا نتكلم في هذه الجهة من ناحية اُخرى وهي : أنّ في الالتزام بها محذوراً أو لا ؟ فيه وجهان .
فذهب شيخنا العلاّمة الأنصاري (قدس سره) (2) وتبعه فيه شيخنا الاُستاذ

ـــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الاُصول 1 : 110 ـ 113 .
(2) فرائد الاُصول 1 : 91 .

ــ[89]ــ

(قدس سره)(1) إلى أ نّه لا محذور في الالتزام بها أصلاً، ولكن الصحيح هو أ نّه
لايمكن الالتزام بها ، وذلك لاستلزام القول بها التصويب وتبدل الحكم الواقعي ، والسبب فيه هو أ نّنا إذا افترضنا قيام مصلحة في سلوك الأمارة التي توجب تدارك مصلحة الواقع ، فالايجاب الواقعي عندئذ تعييناً غير معقـول ، كما إذا افترضنا أنّ القائم بمصلحة إيقاع صلاة الظهر مثلاً في وقتها أمران : أحدهما : الاتيان بها في الوقت . الثاني : سلوك الأمارة الدالة على وجوب صلاة الجمعة في تمام الوقت من دون كشف الخلاف فيه ، فعندئذ امتنع للشارع الحكيم تخصيص الوجوب الواقعي بخصوص صلاة الظهر ، لقبح الترجيح من دون مرجّح من ناحية ، وعدم الموجب له من ناحية اُخرى ، بعد ما كان كل من الأمرين وافياً بغرض المولى ، فعندئذ لا مناص من الالتزام بكون الواجب الواقعي في حق من قامت عنده أمارة معتبرة على وجوب صلاة الجمعة مثلاً هو الجامع بينهما على نحو التخيير : إمّا الاتيان بصلاة الظهر في وقتها ، أو سلوك الأمارة المذكورة ، ومعه كيف يعقل أن يكون الحكم الواقعي مشتركاً بين العالم والجاهل ، فانّه بطبيعة الحال يكون تعيينياً في حقّ العالم، وتخييرياً في حقّ الجاهل. وهذا خلاف الضرورة والاجماع وإطلاقات الأدلة التي مقتضاها عدم الفرق بينهما بالاضافة إلى الأحكام الواقعية .
فالنتيجة : أنّ مردّ هذه السببية إلى السببية بالمعنى الثاني في انقلاب الواقع وتبدله فلا فرق بينهما من هذه الناحية .
الثالثة : أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (2) قد ذكر أنّ حال هذه السببية حال الطريقية في عدم اقتضائها الإجزاء ، فكما أنّ الإجزاء على ضوء القول

ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 3 : 117 .
(2) أجود التقريرات 1 : 293 .

ــ[90]ــ

بالطريقية يحتاج إلى دليل وإلاّ فمقتضى القاعدة عدمه ، فكذلك على ضوء القول بهذه السببية ، توضيح ما أفاده (قدس سره) هو أنّ المصلحة القائمة بسلوك الأمارة تختلف باختلاف السلوك ـ وهو الزمان الذي لم ينكشف الخلاف فيه ـ فان كان السلوك بمقدار فضيلة الوقت فكانت مصلحته بطبيعة الحال بمقدار يتدارك بها مصلحتها فحسب ، لأنّ فوتها مستند إليه دون الزائد ، وأمّا مصلحة أصل الوقت فهي باقية فلا بدّ من استيفائها بالاعادة ، وإن كان بمقدار تمام الوقت وكان انكشاف الخلاف في خارجه فطبعاً كانت مصلحته بمقدار يتدارك بها مصلحة تمام الوقت الفائتة ، وأمّا مصلحة أصل العمل فهي باقية فلا بدّ من استيفائها بالقضاء في خارج الوقت .
ولنأخذ لتوضيح ذلك مثالاً : وهو ما إذا افترضنا أنّ الواجب في الواقع هو صلاة الظهر ، ولكن الأمارة المعتبرة قامت على وجوب صلاة الجمعة في يومها ، والمكلف قد قام بالعمل على طبق هذه الأمارة وأتى بصلاة الجمعة ثمّ انكشف الخلاف ، فعندئذ إن كان كشف الخلاف في ابتداء الوقت فالمتدارك هو خصوص مصلحة وقت الفضيلة دون مصلحة نفس العمل في تمام الوقت ، لفرض أنّ سلوكها كان بهذا المقدار، فإذن لا محالة تجب الاعادة، وإن كان في خارج الوقت، فالمتدارك هو مصلحة الوقت خاصة دون المصلحة القائمة بذات العمل في الواقع ، ومن الطبيعي أ نّها تقتضي الاتيان به في خارج الوقت ، وإن لم ينكشف الخلاف إلى ما دام العمر ، فالمتدارك هو تمام مصلحة الواقع . وقد تحصّل من ضوء هذا البيان : أنّ الالتزام بالسببية بهذا الاطار لايستلزم التصويب في شيء ، بل هي في طرف النقيض معه ، حيث إنّ حالها حال الطريقية في النتيجة ـ وهي عدم اقتضائها للإجزاء ـ فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً .
ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره) بيان ذلك : هو أ نّا قد حققنا في

ــ[91]ــ

مورده(1) أنّ القول بأنّ القضاء تابع للأداء لا يمكن إتمامه بدليل ، والسبب فيه هو أنّ هذا القـول يقوم على أساس أن تكون للصلاة مصلحتان ملزمتان : إحداهما تقوم بذات الصلاة . والاُخرى تقوم بحصة خاصة منها ـ وهي الصلاة في الوقت ـ وعلى هذا فبطبيعة الحال يتعلق بها أمران : أحدهما بطبيعي الصلاة على نحو الاطلاق . والآخر بحصة خاصة منها ، ومن المعلوم أنّ سقوط الأمر الثاني بسقوط موضوعه كخروج الوقت لا يستلزم سقوط الأمر الأوّل ، لعدم الموجب له ، فعندئذ إن ترك المكلف الصلاة في الوقت عصياناً أو نسياناً وجب عليه الاتيان بها في خارج الوقت ، فانّ سقوط الأمر المتعلق بالصلاة المقيدة في الوقت لا يستلزم سقوط الأمر المتعلق بها على نحو الاطلاق ، وهذا معنى القول بكون القضاء تابعاً للأداء .
فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) إنّما يتم على ضوء هذا القول ، ولكنه خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً ، والسبب في ذلك : ما ذكرناه في الدورات السابقة ، وسنذكره إن شاء الله تعالى في هذه الدورة أيضاً ، من أنّ حال تقييد المأمور به كالصلاة مثلاً بالوقت كحال تقييده بغيره من القيود ، فكما أنّ المتفاهم العرفي من تقييده بأمر زماني هو وحدة المطلوب لا تعدده ، وأنّ المأمور به هو الطبيعي المقيد بهذا القيد ، فكذلك المتفاهم العرفي من تقييده بوقت خاص ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً .
هذا في التقييد بالمتصل واضح ، كقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ )(2) حيث لايستفاد منه عرفاً إلاّ أمر واحد متعلق بحصة

ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص 247 وما بعدها .
(2) الإسراء 17 : 78 .

ــ[92]ــ

خاصة من الصلاة ـ وهي الصلاة في هذا الوقت الخاص ـ لفرض عدم انعقاد ظهور للمطلق في الاطلاق .
وأمّا إذا كان التقييد بدليل منفصل فقد يتوهم تعدد المطلوب ببيان أ نّه لا يوجب انقلاب ظهور المطلق في الاطلاق إلى التقييد ، غاية الأمر أ نّه يدل على أ نّه مطلوب في الوقت أيضاً . فالنتيجة هي تعدد المطلوب ، بمعنى أنّ الفعل مطلوب في الوقت لأجل دلالة هذه القرينة المنفصـلة ، ومطلوب في خارجه لأجل إطلاق الدليل الأوّل .
ولكن هذا التوهم خاطئ جداً ، وذلك لعدم الفرق في ذلك بين القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة ، فكما أنّ القرينة المتصلة تدل على التقييد وعلى كون مراد المولى هو المقيد بهذا الزمان الخاص ، فكذلك القرينة المنفصلة ، فانّها تدل على تقييد إطلاق دليل المأمور به وكون المراد الجدي من الأوّل هو المقيد . نعم ، فرق بينهما من ناحية اُخرى ، وهي أنّ القرينة المتصلة مانعة عن ظهور الدليل في الاطلاق ، ومعها لا ينعقد له ظهور ، والقرينة المنفصلة مانعة عن حجية ظهوره في الاطلاق دون أصله .
ولكن من الواضح أنّ مجرد هذا لا يوجب التفاوت بينهما في محل الكلام ، ضرورة أ نّهما تشتركان في سقوط الاطلاق عن الحجية والكاشفية عن المراد الجدي وعدم إمكان التمسك به ، غاية الأمر على الأوّل سقوطه عنها بسقوط موضوعها ، وعلى الثاني سقوطه عنها فحسب من دون سقوط موضوعها .
وقد تحصّل من ذلك : أنّ دليل التقييد بمقتضى الفهم العرفي كاشف عن أنّ مراد المولى من الأوّل كان هو المقيد ولم يكن المطلق مراداً له أصلاً ، ولا فرق في ذلك بين كون القيد زماناً أو زمانياً ، ولولا ذلك ـ أي كشف دليل التقييد بمقتضى الظهور العرفي عما عرفت ـ لانسدّ باب حمل المطلق على المقيد .

ــ[93]ــ

فالنتيجة على ضوء هذا البيان أمران :
الأوّل : أنّ القضاء يحتاج إلى أمر جديد ، فلا أصل للقول بأ نّه تابع للأداء ، فلو ترك المكلف الصلاة في الوقت عصياناً أو نسـياناً فالأمر بها في خارج الوقت يحتاج إلى دليل .
الثاني : أنّ سلوك الأمارة في مجموع الوقت إذا كان وافياً بمصلحة الصلاة في الوقت كما هو مقتضى القول بالسببية بهذا المعنى ، لا مناص من القول بالإجزاء، وبذلك يفترق القول بهذه السببية عن القول بالطريقية ، حيث إنّ مقتضى القاعدة على القول بالطريقية هو عدم الإجزاء ، ومقتضى القاعدة على القول بها هو الإجزاء . فالصحيح أنّ السببية بهذا المعنى تشترك مع السببية بالمعنى الأوّل والثاني في هذه النتيجة ، لا مع الطريقية . فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ حالها حال الطريقية من هذه الناحية خاطئ جداً ، ولا يمكن المساعدة عليه بوجه .
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ الأمارات على القول بالسببية بتمام أشكالها تفيد الإجزاء، وعدم الإجزاء يحتاج إلى دليل ، وعلى القول بالطريقية لا تفيد الإجزاء ، فالإجزاء يحتاج إلى دليل ، من دون فرق في ذلك بين الأمارات والاُصول العملية ، ومن دون فرق فيه بين كون كشف الخلاف بالعلم الوجداني والعلم التعبدي . وقد تقدّم جميع ذلك في ضمن البحوث السالفة بشكل موسع . هذا كلّه فيما إذا علم حال الأمارة من ناحية السببية أو الطريقية .
وأمّا إذا شكّ في ذلك ولم يعلم أنّ اعتبارها على نحو السببية حتّى تفيد الإجزء ، أو على نحو الطريقية حتّى لا تفيده ، فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) التفصيل بين الاعادة والقضاء وإليك نص كلامه :




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net