وجوه استحالة الواجب المعلّق 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4859


وكيف كان ، فقد يقال كما قيل باستحالة هذا النوع من الواجب ، واستدلّ على ذلك بعدّة وجوه :


ــ[176]ــ

الأوّل : ما حكاه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) عن بعض معاصريه(1) وملخّصه: أنّ الارادة لايمكن أن تتعلق بأمر متأخر بلا فرق بين الارادة التكوينية والتشريعية، إذ لا فرق بينهما إلاّ في أنّ الاُولى تتعلق بفعل نفس المريد، والثانية تتعلق بفعل غيره، ومن المعلوم أنّ الايجاب والطلب بازاء الارادة المحرّكة للعضلات نحو المراد، فكما أنّ الارادة التكوينية لا تنفك عن المراد زمناً حيث إنّها لا تنفك عن التحريك وهو لا ينفك عن الحركة خارجاً، وإن تأخرت عنه رتبة، فكذلك الارادة التشريعية لا تنفك عن الايجاب زمناً وهو غير منفك عن تحريك العبد في الخارج، ولازم ذلك استحالة تعلق الايجاب بأمر استقبالي ، لاستلزامه انفكاك الايجاب عن التحريك وهو مستحيل، وبما أنّ الالتزام بالواجب المعلّق يستلزم ذلك فلا محالة يكون محالاً .
وأجاب صاحب الكفاية (قدس سره) عن ذلك بما هو لفظه : قلت : فيه أنّ الارادة تتعلق بأمر متأخر استقبالي كما تتعلّق بأمر حالي وهو أوضح من أن يخفى على عاقل فضلاً عن فاضل، ضرورة أنّ تحمل المشاق في تحصيل المقدّمات فيما إذا كان المقصود بعيد المسافة وكثير المؤونة ، ليس إلاّ لأجل تعلق إرادته به وكونه مريداً له قاصداً إيّاه لا يكاد يحمله على التحمل إلاّ ذلك ، ولعل الذي أوقعه في الغلط ما قرع سمعه من تعريف الارادة بالشوق المؤكد المحرّك للعضلات نحو المراد ، وتوهم أنّ تحريكها نحو المتأخر ممّا لا يكاد ، وقد غفل عن أنّ كونه محرّكاً نحوه يختلف حسب اختلافه ، في كونه ممّا لا مؤونة له كحركة نفس العضلات ، أو ممّا له مؤونة ومقدمات قليلة أو كثيرة ، فحركة العضلات تكون أعم من أن تكون بنفسها مقصودة أو مقدمة له ، والجامع أن يكون نحو المقصود ، بل مرادهم من هذا الوصف في تعريف الارادة بيان مرتبة الشوق

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 102 .

ــ[177]ــ

الذي يكون هو الإرادة وإن لم يكن هناك فعلاً تحريك ، لكون المراد وما اشتاق إليه كمال الاشتياق أمراً استقبالياً غير محتاج إلى تهيئة مؤونة أو تمهيد مقدمة ، ضرورة أنّ شوقه إليه ربما يكون أشد من الشوق المحرّك فعلاً نحو أمر حالي أو استقبالي محتاج إلى ذلك . هذا مع أ نّه لا يكاد يتعلق البعث إلاّ بأمر متأخر عن زمان البعث، ضرورة أنّ البعث إنّما يكون لاحداث الداعي للمكلف إلى المكلف به ، بأن يتصوره بما يترتب عليه من المثوبة ، وعلى تركه من العقوبة ، ولا يكاد يكون هذا إلاّ بعد البعث بزمان ، فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخر عنه بالزمان ، ولا يتفاوت طوله وقصره فيما هو ملاك الاستحالة والامكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب (1) .
وملخّص ما أفاده (قدس سره) أمران :
الأوّل : أنّ الارادة مرتبة خاصة من الشوق الحاصل في اُفق النفس ، وهي المرتبة التي يكون من شأنها انبعاث القوة العاملة في العضلات لتحريكها نحو المراد ، غاية الأمر إذا كان أمراً حالياً فهي توجب تحريكها نحوه حالاً ، وإذا كان أمراً استقبالياً ، فإن كانت له مقدمة خارجية فكذلك ، وإن لم تكن له مقدمة خارجية غير مجيء زمانه لم توجب التحريك . مع أ نّه بهذه المرتبة الخاصة موجود في عالم النفس ، فأخذ الوصف المزبور في تعريف الارادة إنّما هو للاشارة إلى أ نّها عبارة عن تلك المرتبة الخاصة وإن لم توجب التحريك فعلاً من جهة عدم الموضوع لا من جهة قصور فيها ، فإذن لا مانع من تعلق الارادة بأمر متأخر كما تتعلق بأمر حالي ، وهذا لعلّه من الواضحات .
الثاني : أ نّه لا شبهة في انفكاك الوجوب عن متعلقه زماناً وتأخره عنه

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 102 .

ــ[178]ــ

كذلك ، بداهة أنّ الغرض من البعث إنّما هو إحداث الداعي للمكلف نحو الفعل ، ومن الواضح أنّ الداعي إلى إيجـاده إنّما يحصل بعد تصور الأمر وما يترتب عليه ، وهذا بطبيعة الحال يحتاج إلى زمان ما ولو كان في غاية القصر ، فإذا جاز الانفكاك بينهما في ذلك جاز في زمن طويل أيضاً ، لعدم الفرق بينهما فيما هو ملاك الاستحالة والامكان .
وينبغي لنا أن نتعرض لنقده على الشكل التالي :
إن اُريد بالارادة الشوق النفساني إلى شيء الحاصل في اُفق النفس من ملائمتها له أو ملائمة إحدى قواها ، وهي التي توجب هيجانها وميلها إليه إلى أن بلغ حدّ العزم والجزم ، فقد تقدّم في ضمن البحوث السالفة أنّ الشوق النفساني كما يتعلق بأمر حالي كذلك يتعلق بأمر استقبالي ، وهذا لا يحتاج إلى إقامة برهان ، بل هو أمر وجداني ضروري يعلمه كل ذي وجدان بمراجعة وجدانه ، بل ولا مانع من تعلقه بالأمر الممتنع كالجمع بين الضدين أو النقيضين أو ما شاكل ذلك فضلاً عن الأمر الممكن المتأخر ، كاشتياق الانسان إلى دخول الجنّة والتلبس بالملاذ الاُخروية ، هذا من ناحية . ومن ناحية اُخرى : قد ذكرنا سابقاً بشكل موسّع أنّ الارادة بهذا المعنى مهما بلغت ذروتها من القوة والشدة لا تكون علة تامة لتحريك العضلات نحو الفعل .
وإن اُريد بها الاختيار وإعمال القدرة ، فقد سبق الكلام في ذلك بصورة موسّعة وأ نّها لا تتعلق بفعل الغير ، بلا فرق بين اختياره (عزّ وجلّ) وإعمال قدرته واختيار غيره . نعم ، له تعالى إيجاد الفعل عن الغير بايجاد أسبابه ، ولكنه أجنبي عن تعلق مشـيئته تعالى واختـياره به مباشرة ، بل قد عرفت أ نّها لا تتعلق بفعل الانسان نفسه إذا كان في زمن متأخر فضلاً عن فعل غيره ، ومن هنا لا يمكن تعلقها بالمركب من أجزاء طولية زمناً وتدريجية وجوداً دفعة

ــ[179]ــ

واحدة إلاّ على نحو تدريجية أجزائه ، وذلك كالصلاة مثلاً ، فانّه لا يمكن إعمال القدرة على القراءة قبل التكبيرة وهكذا ، هذا من جانب .
ومن جانب آخر: قد سبق منّا أيضاً أ نّه لا أصل للارادة التشريعية في مقابل الارادة التكوينية ، سواء أكانت الارادة بمعنى الشوق النفساني أو بمعنى الاختيار وإعمال القدرة .
أمّا على الأوّل : فلأنّ الارادة عبارة عن ذلك الشوق الحاصل في اُفق النفس، ومن الطبيعي أ نّه لا يختلف باختلاف متعلقه ، فقد يكون متعلقه أمراً تكوينياً وقد يكون أمراً تشريعياً وقد يكون فعل الانسان نفسه ، وقد يكون فعل غيره ، وتسـمية الأوّل بالارادة التكوينيـة ، والثاني بالتشريعية لا تتعدّى عن مجرّد الاصطلاح بلا واقع موضوعي لها أصلاً .
وأمّا على الثاني : فواضح ، ضرورة أنّ إعمال القدرة لا تختلف باختلاف متعلقها ، فان متعلقها سواء أكان من التشريعيات أو التكوينيات فهو واحد حقيقة وذاتاً. فتحصّل: أ نّا لا نعقل للارادة التشريعية معنىً محصلاً في مقابل الارادة التكوينية .
نعم ، قد يقال كما قيل : إنّ المراد منها الطلب والبعث ، باعتبار أ نّه يدعو المكلف إلى إيجاد الفعل في الخارج .
وفيه : أنّ تسمية ذلك بالارادة التشريعية وإن كان لا بأس بها ، إلاّ أ نّه لا يمكن ترتب أحكام الارادة التكوينية عليه ، بداهة أ نّه أمر اعتباري فلا واقع موضوعي له ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار، فلا يُقاس هذا بالارادة والاختيار أصلاً ، ولا جامع بينهما حتّى يوجب تسرية حكم أحدهما إلى الآخر ، فعدم تعلق الارادة بالأمر المتأخر زمناً لا يستلزم عدم تعلقه به أيضاً ، وقد تقدّم أنّ ما اعتبره المولى قد يكون متعلقه حالياً ، وقد يكون استقبالياً ، وقد يكون

ــ[180]ــ

كلاهما استقبالياً ، وذلك كما إذا اعتبر شخص ملكية منفعة داره مثلاً لآخر بعد شهر ، فانّ المعتبر ـ وهو الملكية ـ ومتعلقه ـ وهو المنفعة ـ كليهما استقبالي ، والحالي إنّما هو الاعتبار فحسب ، وهذا ربّما يتفق وقوعه في باب الاجارة وفي باب الوصية كالوصية بالملك بعد الموت ، ومن الواضح أ نّه لا فرق في ذلك بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية . وقد تحصل من ذلك: أنّ في تسرية أحكام الارادة على الطلب والبعث مغالطة ظاهرة ولا منشأ لها إلاّ الاشتراك في الاسم .
فقد انتهينا في نهاية الشوط إلى هذه النتيجة وهي أ نّه لا مانع من الالتزام بالواجب المعلّق بالمعنى الذي ذكرناه وهو كون وجوبه مشروطاً بشرط متأخر .
الثاني : ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) من أنّ القيود الراجعة إلى الحكم المأخوذة في موضوعه بشتى ألوانها تؤخذ مفروضة الوجود في مقام الاعتبار والجعل فلا يجب على المكلف تحصيل شيء منها وإن كان مقدوراً كالاستطاعة ، ومن الواضح أنّ فعلية الحكم في مثل ذلك إنّما هي بفعلية تلك القيود ، فلا تعقل فعليته قبل فعليتها وتحققها في الخارج ، وعلى هذا الأساس بنى على استحالة الشرط المتأخر . ولكن قد تقدّم الكلام في مسألة الشرط المتأخر بصورة مفصلة في بيان ذلك الأساس وما فيه من النقد والاشكال فلا نعيد .
الثالث : ما قيل كما في الكفاية (2) من أنّ التكليف مشروط بالقدرة ، وعليه فلا بدّ أن يكون المكلف حين توجيه التكليف إليه قادراً ، فلو التزمنا بالواجب المعلّق لزم عدم ذلك . وجوابه واضح ، وهو أنّ القدرة المعتبرة في صحة التكاليف إنّما هي قدرة المكلف في ظرف العمل وإن لم يكن قادراً في ظرف التكليف .

ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 196 وما بعدها .
(2) كفاية الاُصول : 103 .

 
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net