وجوب التعلّم 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4807


ــ[196]ــ
 

[ وجوب التعلّم ]
 

وأمّا المقام الثاني : وهو التعلم ، فقد ذكر جماعة منهم شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) أنّ وجوب التعلم ليس بملاك وجوب بقية المقدمات المعدّة التي يستلزم تركها ترك الواجب بملاكه الملزم ، وتفويتها تفويته كذلك ، بل وجوبه بملاك آخر وهو لزوم دفع الضرر المحتمل .
وغير خفي أنّ ما أفاده (قدس سره) لا يتم على إطلاقه ، والسبب في ذلك هو أنّ ترك التعلم قبل وقت الواجب أو شرطه يقع على أنحاء :
الأوّل : أ نّه لا أثر لترك التعلم قبل الوقت ، وذلك لتمكّن المكلف من تعلّم الواجب بجميع أجزائه وشرائطه بعد دخول وقته أو حصول شرطه كالحج مثلاً، فان باستطاعة العبد أن يتعلم أحكامه تدريجاً اجتهاداً أو تقليداً من اليوم الذي يجب عليه الإحرام إلى اليوم الذي تنتهي نسكه، ومن الطبيعي أنّ في مثله لايجب عليه التعلم قبل دخول الوقت ، لعدم فوت شيء منه بعده . نعم ، إذا جاء وقته لم يجز له تركه ، حيث إنّ فيه احتمال مخالفة التكليف الفعلي المنجّز وهو مساوق لاحتمال العقاب ، إذ لا مؤمّن منه ، فانّ البراءة لا تجري قبل الفحص ، ومعه لا محالة يستقلّ العقل بوجوبه وعدم جواز تركه .
الثاني : أنّ ترك التعلم قبل الوقت مؤثر في فقد تمييز الواجب عن غيره ، يعني أنّ المكلف لا يتمكن معه من الامتثال العلمي التفصيلي بعد الوقت ، ولكنّه

ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 229 .

ــ[197]ــ

متمكن من الامتثال العلمي الاجمالي ، وذلك كما إذا تردد أمر الواجب بين المتباينين كالقصر والاتمام أو الظهر والجمعة أو ما شاكل ذلك ، فلو ترك المكلف التعلم قبل الوقت لم يتمكن من تمييز الواجب عن غيره بعده ، إمّا من ناحية عدم سعة الوقت لذلك ، أو من ناحية فقدان الوسيلة ، ولكنّه متمكن من إحراز امتثاله اجمالاً بطريق الاحتياط ، وفي هذا القسم هل يجب التعلم ؟ الظاهر عدم وجوبه، وذلك لما حققناه في محلّه(1) من أنّ الامتثال الاجمالي في عرض الامتثال التفصيلي وإن استلزم التكرار .
الثالث : أنّ المكلف إذا ترك التعلم قبل الوقت فكما لا يكون متمكناً من الامتثال العلمي التفصيلي بعد دخوله ، كذلك لا يكون متمكناً من الامتثال العلمي الاجمالي . نعم ، هو متمكن من الاتيان بذات الواجب يعني الامتثال الاحتمالي ، وذلك كما إذا افترضنا أنّ الوقت ضيّق فلا يتمكن المكلف إلاّ من الاتيان بفعل واحد، إمّا القصر أو التمام، أو الظهر أو الجمعة ، وفي هذا القسم هل يجب التعلم قبل دخول الوقت ؟
الظاهر وجوبه، وذلك لابملاك قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار، إذ المفروض عدم امتناع الواجب بترك التعلم ، بل بملاك قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل حيث إنّ في الاكتفاء بما يحتمل انطباق المأمور به عليه احتمال المخالفة للتكليف الفعلي من دون مؤمّن في البين ، فلا محالة يحتمل العقاب ، ومعه يستقلّ العقل بوجوب دفعه ، وهو لا يمكن إلاّ بالتعلم قبل الوقت . ومنه يظهر أنّ ملاك حكم العقل هنا ليس احتمال تفويت الملاك الملزم في ظرفه .
هذا كلّه فيما إذا ترك المكلف التعلم قبل الوقت اختياراً ومتعمداً ، أي مع

ـــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الاُصول 2 : 84 وما بعدها .

ــ[198]ــ

التفاته إلى أ نّه يؤدّي إلى عدم إحراز امتثال الواجب في ظرفه .
وأمّا إذا كان معذوراً في تركه قبله ثمّ بعد دخوله تردد أمره بين شيئين كالقصر والاتمام مثلاً ، لم يتنجز الواقع عليه على كل تقدير ، إذ المفروض أ نّه لا يتمكن من الجمع بينهما ، بل يتنجز على تقدير دون آخر، وسمّينا ذلك في بحث الاضطرار إلى أحد أطراف العلم الاجمالي بالتوسط في التنجيز(1)، ومردّه إلى وجوب الاتيان بأحدهما لتمكن المكلف منه ، سواء أكان موافقاً للواقع أم كان مخالفاً له ، غاية الأمر أنّ المكلف في صورة المخالفة معذور ، وذلك كالصبي في أوّل بلوغه إذا دار أمره بين شيئين كالظهر والجمعة مثلاً ولا يتمكن من الجمع بينهما ولا من التعلم ، فعندئذ بطبيعة الحال الواجب عليه هو الاتيان بإحداهما ولا يكون معذوراً في تركها .
الرابع : أنّ ترك التعلم قبل الوقت موجب لترك الواجب في ظرفه ، إمّا للغفلة عن التكليف أصلاً ، أو لعدم التمكن من امتثاله ، والأوّل كثيراً ما يتفق في المعاملات ، حيث إنّ المتعاملين من جهة ترك تعلم أحكام المعاملات لا يميّزان الصحيحة منها عن الفاسدة ، فإذا أوقعا معاملة فاسدة في الخارج وتحقق النقل والانتقال بنظرهما فبطبيعة الحال يتصرف كل منهما فيما انتقل إليه غافلاً عن أ نّه حرام ، والثاني كثيراً ما يتفق في العبادات كالصلاة ونحوها ، فانّها حيث كانت مركبة من عدّة اُمور : التكبيرة والقراءة والركوع والسجود والتشهد والتسليمة ونحو ذلك ، ومشروطة بعدة شرائط كطهارة البدن واللباس واستقبال القبلة وما شاكلها ، ومن الطبيعي أنّ تعلم الصلاة بتمام أجزائها وشرائطها يحتاج إلى مدّة من الزمن ولا سيّما لمن لم يحسن اللغة العربية ، وفي هذا القسم يجب التعلم قبل

ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع مصباح الاُصول 2 : 453 وما بعدها .

ــ[199]ــ

الوقت ، وذلك لاستقلال العقل بذلك وأ نّه لو لم يتعلم لفاته الغرض الملزم في ظرفه ، ومعه يستحقّ العقاب ، لما عرفت من قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار . هذا كلّه فيما لم يكن الواجب مشروطاً بقدرة خاصة شرعاً من ناحية التعلم والمعرفة .
وأمّا إذا كان مشروطاً بها كذلك لم يجب التعلم قبل دخول الوقت ، لأ نّه لا وجوب حتّى يجب التعلم مقدمة لاتيان الواجب في ظرفه ، ولا له ملاك ملزم كذلك كي يستلزم ترك التعلم تفويته ، لفرض أنّ ملاكه إنّما يتم بالقدرة عليه في وقته من قبل التعلم ، ولا أثر لها فيه قبل دخوله أصلاً ، وعليه فلا وجوب لا قبل دخول الوقت أو حصول الشرط ، ولا بعده .
أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلعدم تمكنه منه ، إمّا من ناحية الغفلة أو من ناحية عدم القدرة على التعلم لضيق الوقت أو نحوه ، وعلى هذا الضوء فلا يمكن الالتزام بوجوب التعلم في هذه الصورة إلاّ بناءً على الالتزام بمقالة المحقق الأردبيلي (قدس سره) وهو الوجوب النفسي للتهيؤ إلى الغير (1) .
ثمّ إنّ هذا الوجوب بطبيعة الحال يختص بمن كان التكليف متوجهاً إليه لولا عجزه من ناحية عدم التعلّم، وأمّا بالاضافة إلى غيره فلا معنى للوجوب النفسي ، وذلك كالرجال بالاضافة إلى تعلم أحكام النِّساء، فانّه لايجب عليهم ذلك نفساً، لعدم ملاكه وهو التهيؤ لامتثال التكليف الواقعي . نعم ، يجب كفاية تحصيل هذه الأحكام اجتهاداً ، ومن المعلوم أنّ هذا خارج عن محل الكلام ، هذا بحسب الكبرى .
وغير خفي أنّ هذه الكبرى وإن كانت ثابتة ، إلاّ أنّ المقام ليس من

ـــــــــــــــــــــ
(1) مجمع الفائدة والبرهان 2 : 110 .

ــ[200]ــ

صغرياتها، وذلك لأنّ مقتضى إطلاق الآيات والروايات الدالة على وجوب التعلم والسؤال هو عدم أخذ القدرة الخاصة من قبله في الواجب ، وأ نّه ليس للتعلم أيّ دخل في صيرورة الواجب ذا ملاك ملزم ، فان إطلاق قوله (عليه السلام) «يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له هلاّ عملت ، فيقول : ما علمت ، فيقال له : هلاّ تعلّمت» (1) يدل على ثبوت الملاك للواجب في ظرفه حتّى بالاضافة إلى العاجز عنه من ناحية تركه التعلم .
فالنتيجة على ضوء ذلك : هي وجوب تعلم الأحكام على المكلف مطلقاً ، من دون فرق بين الأحكام المطلقة والمشروطة بالوقت أو بغيره ، فلو تركه قبل الوقت أو قبل حصول الشرط وأدّى تركه إلى ترك الواجب في ظرفه استحقّ العقاب عليه ، بقاعدة أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فالقدرة من قبله قدرة مطلقة ، وأمّا القدرة من قبل سائر المقدمات فهي في العموم والخصوص تابعة لأدلتها كما تقدّم . هذا فيما إذا علم المكلف أو اطمأنّ بالابتلاء بها كأحكام الصلاة والصيام والحج ونحوها .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net