تفصيل الكلام في المنع عن جريان التزاحم في الأوامر الضمنية 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4917


ــ[106]ــ

الاُولى: أنّ هذه الفروعات وما شاكلها أجنبية عن مسألة التزاحم تماماً، ولا يجري فيها شيء من أحكامها وقواعدها.
الثانية: أ نّه على تقدير تسليم جريان قواعد التزاحم في تلك الفروعات فانّ ما أفاده (قدس سره) فيها من الترجيح لا يتم على إطلاقه.
أمّا الناحية الاُولى: فقد أشرنا إليها إجمالاً فيما سبق، ونقدِّم لكم هنا بصورة مفصلة، بيان ذلك: أ نّه قد تقدّم أنّ التزاحم هو تنافي الحكمين في مقام الامتثال والفعلية بعد الفراغ عن جعل كليهما معاً على نحو القضية الحقيقية، ومن هنا قلنا إنّه لا تنافي بينهما أبداً في مقام الجعل والتشريع، ضرورة أ نّه لا تنافي بين جعل وجوب إنقاذ الغريق مثلاً للقادر وجعل حرمة التصرف في مال الغير له وهكذا... بل بينهما كمال الملاءمة في هذا المقام، هذا من جانب.
ومن جانب آخر: أنّ التعارض هو تنافي الحكمين في مقام الجعل والتشريع بحيث لا يمكن جعل كليهما معاً على نحو القضية الحقيقية، فثبوت كل منهما على هذا النحو يكذّب الآخر بالمطابقة أو بالالتزام على بيان قد سبق بشكل واضح.
ومن جانب ثالث: أنّ الأمر المتعلق بالمركب كالصلاة وما شاكلها ـ بصفة أ نّه أمر واحد شخصي ـ لا محالة ينبسط على أجزاء ذلك المركب وتقيداته بقيودات خارجية، فيأخذ كل جزء منه حصة من ذلك الأمر الواحد الشخصي، فيكون مأموراً به بالأمر الضمني النفسي، ومن المعلوم أنّ الأمر الضمني المتعلق بجزء مربوط بالذات بالأمر الضمني المتعلق بجزء آخر وهكذا، ضرورة أنّ الأوامر الضـمنية المتعلقة بالأجزاء هي عين ذلك الأمر النفسي الاستقلالي المتعلق بالمجموع المركب من تلك الأجزاء بالتحليل العقلي.
وعلى هذا فلا يعقل سقوط بعض تلك الأوامر عن بعض تلك الأجزاء وبقاء

ــ[107]ــ

بعضها الآخر، لفرض أنّ هذه الأوامر عين الأمر النفسي، غاية الأمر العقل يحلله إلى أوامر متعددة ضمنية، ويجعله حصة حصة، فتتعلق بكل جزء من أجزاء متعلقه حصة منه، ومن الواضح جداً أ نّه لا يعقل بقاء تلك الحصة بدون بقاء الأمر النفسي ولا سـقوطها بدون سقوطه، وهذا معنى ارتباطية تلك الأجزاء بعضها ببعضها الآخر ثبوتاً وسقوطاً في الواقع ونفس الأمر.
فالنتيجة على ضوء هذه الجوانب الثلاثة: هي أنّ في الفروع المزبورة أو ما شاكلها لا يعقل أن يكون التزاحم بين أمرين نفسيين، ضرورة أ نّه ليس فيها إلاّ أمر نفسي واحد متعلق بالمجموع المركب. وكذا لا يعقل أن يكون التزاحم بين أمرين إرشاديين، لما عرفت من أ نّه لا شأن للأمر الارشادي ما عدا الارشاد إلى الجزئية أو الشرطية، ولذا لا تجب موافقته ولا تحرم مخالفته بحكم العقل. ومن المعلوم أنّ المزاحمة إنّما تعقل بين أمرين يقتضي كل منهما امتثاله والاتيان بمتعلقه خارجاً لتقع المزاحمة بينهما في مقام الامتثال والاطاعة، والمفروض أ نّه لا اقتضاء للأمر الارشادي بالاضافة إلى ذلك أصلاً لتعقل المزاحمة بينهما.
والذي يمكن أن يتوهم في أمثال هذه المقامات هو وقوع المزاحمة بين أمرين ضمنيين، ببيان أنّ كلاً منهما يقتضي الاتيان بمتعلقه، فعندئذ لو كان المكلف قادراً على امتثال كليهما والاتيان بمتعلقيهما خارجاً فلا مزاحمة في البين أصلاً.
وأمّا إذا فرضنا أ نّه لا يقدر إلاّ على امتثال أحدهما دون الآخر، فلا محالة تقع المزاحمة بينهما، كما إذا دار الأمر بين ترك القيام في الصلاة مثلاً وترك الركوع فيها، أو بين ترك القيام في حال التكبيرة وتركه في حال القراءة، أو بين ترك الطهارة الحدثية وترك الطهارة الخبثية وما شابه ذلك، ففي أمثال هذه الموارد التي لا يكون المكلف قادراً على الجمع بينهما في الخارج لا محالة تقع المزاحمة بين الأمر الضـمني المتعلق بالقيام والأمر الضمني المتعلق بالركوع، أو الأمر

ــ[108]ــ

الضمني المتعلق بتقيد الصلاة بالطهارة الحدثية، والأمر الضمني المتعلق بتقيدها بالطهارة الخبثية، وهكذا.
والوجه في ذلك: هو أنّ ملاك التزاحم بين أمرين نفسـيين كالأمر بالصلاة مثلاً في ضيق الوقـت والأمر بالازالة ـ وهو عدم قدرة المكلف على امتثال كليهما معاً، فلو صرف قدرته في امتثال أحدهما عجز عن امتثال الثاني، فينتفي بانتفاء موضوعه وهو القدرة ولو انعكس فبالعكس ـ بعينه موجود بين أمرين ضـمنيين، كالأمر بالقـيام مثلاً والأمر بالركوع أو ما شاكلهما، فانّ المفروض هنا هو أنّ المكلف لا يقدر على امتثال كليهما معاً، فلا يتمكن من الجمع بين القيام والركوع في الصلاة، فلو صرف قدرته في امتثال الأوّل عجز عن امتثال الآخر، فينتفي عندئذ بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة ـ وإن صرف فيه عجز عن الأوّل وهكذا.
وعليه فيرجع إلى قواعد باب التزاحم، فإن كان أحدهما أهم من الآخر قدّم عليه، وكذا إذا كان أحدهما مشروطاً بالقدرة عقلاً والآخر مشروطاً بها شرعاً، فانّ ما كان مشروطاً بالقدرة عقلاً يتقدّم على غيره، أو إذا كان كلاهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ولكن كان أحدهما أسبق من الآخر زماناً تقدّم الأسبق على غيره، وأمّا إذا كانا متساويين من تمام الجهات ولم يكن ترجيح في البين ولا احتماله، فالعقل يحكم بالتخيير بينهما بمعنى تقييد إطلاق الأمر بكل منهما بعدم الاتيان بالآخر كما عرفت في التزاحم بين الواجبين النفسيين إذا كانا متساويين من جميع الجهات.
وعلى الجملة: فجميع ما ذكرناه في التزاحم بين الأمرين النفسيين يجري في المقام من دون تفاوت أصلاً إلاّ في نقطة واحدة، وهي أنّ التزاحم هناك بين أمرين نفسيين، وهنا بين أمرين ضمنيين، ومن المعلوم أنّ الاختلاف في هذه

ــ[109]ــ

النقطة لا يوجب التفاوت بينهما في جريان أحكام التزاحم ومرجحاته وقواعد بابه أصلاً. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه القول بجريان التزاحم في أجزاء وشرائط واجب واحد كما عن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وغيره.
وغير خفي أنّ هذا البيان وإن كان في غاية الصحة والاستقامة بالاضافة إلى حكمين نفسيين: وجوبيين كانا أو تحريميين، أو كان أحدهما وجوبياً والآخر تحريمياً كما تقدّم الكلام في التزاحم بينهما بصورة مفصلة فلا نعيد، إلاّ أ نّه لا يتم بالاضافة إلى حكمين ضمنيين، وذلك لأنّ تماميته بالاضافة إليهما تبتني على نقطة واحدة، وهي أنّ الأمر المتعلق بالمركب لا يسقط بتعذر بعض أجزائه أو شرائطه، فحينئذ لو دار الأمر بين ترك جزء كالقيام في الصلاة مثلاً وترك جزء آخر كالركوع فيها أو نحوهما، فلا محالة تقع المزاحمة بينهما، لفرض أنّ الأمر بالصلاة باق ولم يسقط بتعذر أحد هذين الجزأين، والمفروض أنّ كلاً منهما مقدور في نفسه وفي ظرف عدم الاتيان بالآخر.
فإذن لا مانع ـ بناءً على ما حققناه من صحة الترتب ـ [ من ] الالتزام بثبوت الأمر الضمني النفسي لكل منهما في نفسه وعند عدم الاتيان بالآخر وهذا التقييد نتيجة أمرين:
الأوّل: وقوع المزاحمة بين هذا الأمر الضمني وذاك في مقام الامتثال.
الثاني: الالتزام بالترتب بينهما من الجانبين.
ولكن عرفت أنّ هذه النقطة خاطئة جداً وغير مطابقة للواقع قطعاً، ضرورة أ نّه لا يعقل بقاء الأمر المتعلق بالمركب مع تعذر بعض أجزائه أو شرائطه كما سبق بشكل واضح (1). وعلى هذا الأساس فاذا تعذر أحد أجزائه
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 106.

ــ[110]ــ

أو شرائطه معيّناً كان أو غير معين ـ أعني به ما إذا دار الأمر بين ترك هذا وذاك ـ فلا محالة يسقط الأمر المتعلق به، بداهة استحالة بقائه لاستلزامه التكليف بالمحال، وهو غير معقول.
وبتعبير آخر: أنّ فرض بقاء الأمر الأوّل بحاله يستلزم التكليف بالمحال، وفرض بقاء الأوامر الضمنية المتعلقة بالأجزاء والشرائط الباقيتين، وأنّ الساقط إنّما هو الأمر الضمني المتعلق بخصوص المتعذر منهما خلف، وذلك لفرض أنّ تلك الأوامر أوامر ضمنية كل منها مرتبط مع الآخر ارتباطاً ذاتياً، فلا يعقل بقاء بعض منها وسقوط بعضها الآخر، وإلاّ لكانت أوامر استقلالية لا ضمنية، وهذا خلف كما عرفت.
فاذن مقتضى القاعدة سقوط الأمر عن المركب بتعذر أحد أجزائه أو قيوده، وعليه فلا أمر لا بالمركب ولا بأجزائه، فلا موضوع للتزاحم ولا التعارض، فانتفاؤهما بانتفاء موضوعهما، ولذا لو كنّا نحن والقاعدة الأوّلية لم نقل بوجوب الباقي، فانّ الأمر المتعلق بالمجموع المركب منه قد سقط يقيناً، وإثبات أمر آخر متعلق بالفاقد يحتاج إلى دليل، ففي كل مورد ثبت دليل على وجوبه فنأخذ به، وإلاّ فمقتضى القاعدة عدم وجوبه.
ولكن قد يتوهم في المقام أ نّه وإن لم يمكن الالتزام بالتزاحم بين واجبين ضمنيين كجزأين أو شرطين أو جزء وشرط، فيما إذا تعلق الأمر بالمركب من الأجزاء بعناوينها الأوّلية كما عرفت، إلاّ أ نّه لا مانع من الالتزام به فيما إذا تعلق الأمر بالمركب من الأجزاء بعنوان المقدور، ببيان أ نّه إذا تعذر أحد أجزائه لا يسقط الأمر عن الأجزاء الباقية، لفرض أنّ جزئيته تختص بحال القدرة، وفي حال التعذر لا يكون جزءاً واقعاً، وإذا لم يكن جزءاً كذلك في هذا الحال، فلا محالة لا يكون تعذره موجباً لسقوط الأمر عن الباقي.

ــ[111]ــ

وعلى هذا فإن كان المتعذر أحد أجزاء ذلك المركب معيّناً سقط الأمر عنه خاصة دون الباقي، لفرض اختصاص جزئيته بحال القدرة، وفي هذا الحال لا يكون جزءاً واقعاً، وإن كان المتعذر مردداً بين اثنين منها، ففي مثله لا محالة تقع المزاحمة بين الأمر الضمني المتعلق بهذا والأمر الضمني المتعلق بذاك، بتقريب أنّ ملاك التزاحم ـ وهو تنافي الحكمين في مقام الامتثال والفعلية بعد الفراغ عن ثبوتهما بحسب مقام الجعل بلا منافاة ـ موجود بعينه هنا، لفرض أ نّه لا تنافي بين الأمر الضمني المتعلق بهذا الجزء والأمر الضمني المتعلق بالآخر بحسب مقام الجعل، فهذا مجعول له بعنوان كونه مقدوراً وذاك مجعول له بهذا العنوان، من دون أيّة منافاة في البين، غاية الأمر من جهة عدم قدرة المكلف على امتثال كليهما معاً وقع التنافي والتزاحم بينهما، فلو صرف قدرته في امتثال هذا عجز عن الآخر، فينتفي بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة ـ وإن عكس فبالعكس.
وعلى الجملة: فيجري فيه جميع ما يجري في التزاحم بين الواجبين النفسيين على القول بامكان الترتب واستحالته حرفاً بحرف، من دون فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.
ولكنّه توهم خاطئ ولم يطابق الواقع، والوجه في ذلك هو أ نّه لا شبهة في أنّ الأمر المتعلق بالمجموع المركب من الجزء المتعذر يسقط بتعذره لا محالة، ضرورة أ نّه لايعقل بقاؤه، كما إذا فرضنا أنّ للمركب عشرة أجزاء مثلاً، وتعلق الأمر بها بعنوان كونها مقدورة، فعندئذ إذا فرض سقوط أحد أجزائه وتعذّره، فلا إشكال في سقوط الأمر المتعلق بمجموع العشرة، بداهة استحالة بقائه، لاستلزامه التكليف بالمحال وبغير المقدور، وأمّا الأمر المتعلق بالتسع الباقية فهو أمر آخر لا الأمر الأوّل، لفرض أ نّه متعلق بالمركب من عشرة أجزاء، لا بالمركب من التسعة، وهذا واضح. وأمّا إذا تعذر أحد جزأين منها لا بعينه، بأن تردد

ــ[112]ــ

الأمر بين كون المتعذر هذا أو ذاك فأيضاً لا شبهة في سقوط الأمر المتعلق بالمجموع، لفرض عدم قدرة المكلف عليه، ومعه يستحيل بقاء أمره، لاستلزامه التكليف بغير المقدور.
وعليه فلا محالة نشك في أنّ المجعول الأوّلي في هذا الحال أيّ شيء، هل هو جزئية هذا أو جزئية ذاك، أو أ نّه جزئية الجامع بينهما بلا خصوصية لهذا ولا لذاك، فإذن لامحالة يدخل المقام في باب التعارض، فيرجع إلى أحكامه وقواعده.
وبتعبير واضح: أ نّه لا شبهة في سقوط الأمر المتعلق بالمجموع المركب من عشرة أجزاء مثلاً بتعذر جزئه وسقوطه واستحالة بقائه كما عرفت، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المتعذر معيّناً أو غير معيّن كما هو واضح، ومن المعلوم أنّ بسقوطه ـ الأمر ـ يسقط جميع الأوامر الضمنية المتعلقة بأجزائه، لفرض أنّ تلك الأوامر عين ذلك الأمر المتعلق بالمجموع، فلا يعقل بقاؤها مع سقوطه.
وتخيّل أنّ الساقط في هذا الفرض إنّما هو خصوص الأمر الضمني المتعلق بالجزء المتعذر دون البقية خيال فاسد جداً، ضرورة أنّ الأمر المتعلق بالمجموع لا يخلو من أن يكون باقياً في هذا الحال أو ساقطاً. فعلى الفرض الأوّل لا يعقل سقوطه، لفرض أ نّه حصة منه، فمع بقائه لا محالة هو باق. وعلى الفرض الثاني سقط الأمر الضمني عن الجميع، لا عن خصوص المتعذر، لما عرفت من حديث العينية، وهذا معنى ارتباطية الأوامر الضمنية بعضها مع بعض الآخر ارتباطاً ذاتياً.
ولكن حيث قد عرفت استحالة الفرض الأوّل في هذا الحال، فلا محالة يتعين الالتزام بالفرض الثاني. نعم، ثبت الأمر للباقي بعد سقوطه عن المجموع بمقتضى اختصاص جزئية المتعذر بحال القدرة، فانّ قضية ذلك سقوط جزئيته في حال التعذر واقعاً، ولازمه ثبوت الأمر للباقي، وبما أنّ الباقي في هذا الفرض

ــ[113]ــ

مردد بين المركب من هذا أو ذاك، فلا محالة لا نعلم أنّ المجعول جزئية هذا له أو ذاك أو جزئية الجامع بينهما، بعد عدم إمكان كون المجعول جزئية كليهما معاً، فإذن لا محالة تقع المعارضة بين دليليهما فيرجع إلى قواعد بابها، فإن كان أحدهما عاماً والآخر مطلقاً، فيقدّم العام على المطلق، وإن كان كلاهما عاماً فيرجع إلى مرجحات باب التعارض، وإن كان كلاهما مطلقاً فيسقطان معاً، فيرجع إلى الأصل العملي ومقتضاه عدم اعتبار خصوصية هذا وذاك، فتكون النتيجة جزئية الجامع.
وبهذا البيان قد ظهر أ نّه لا فرق بين المقام وبين ما إذا تعلق الأمر بالمركب من الأجزاء بعناوينها الأوّلية إلاّ في نقطة واحدة، وهي أنّ في مثل المقام لا يحتاج ثبوت الأمر للباقي إلى دليل خارجي يدل عليه كـ «لا تسقط الصلاة بحال»(1) أو نحوه، بل الأمر به ثابت من الابتداء، بمعنى أنّ الشارع قد أوجب كل مرتبة من مراتب هذا المركب عند تعذر مرتبة اُخرى منه.
ويدل على هذا في المقام تقييد جزئية كل من أجزائه بحال القدرة، ولازم ذلك هو عدم جزئيته في حال العجز واقعاً، وثبوت الأمر للباقي، وأمّا في غير المـقام ومحل الفرض يحتاج ثبوت الأمر للباقي إلى دليل من الخارج، وإلاّ فمقتضى القاعدة عدم وجوبه، بعد سقوط الأمر عن المجموع بتعذر جزئه.
ولكن بعد ما دلّ الدليل من الخارج على وجوبه، فلا فرق بينه وبين ما نحن فيه، فكما أنّ فيه إذا دار الأمر بين سقوط جزء وجزء آخر فيدخل في باب التعارض، لفرض أنّ المجعول في هذا الحال ليس إلاّ وجوب أحدهما، ولا يعقل أن يكون وجوب كليهما معاً، لاستلزامه التكليف بالمحال، ومن المعلوم أ نّه لا
ـــــــــــــــــــــ
(1) ورد بهذا المضمون في الوسائل 2: 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5.

ــ[114]ــ

موضوع للتزاحم في مثله كما هو واضح، فكذلك فيما نحن فيه إذا دار الأمر بين سقوط جزء وجزء آخر فيدخل في هذا الباب، وذلك لأ نّا نعلم إجمالاً في هذا الحال بوجوب أحدهما، لفرض تعلق الأمر الآخر بالباقي وسقوط الأمر الأوّل عن المجموع كما عرفت، ومعه لا محالة نشك في أنّ المجعول وجوب خصوص هذا أو ذاك، أو وجوب الجامع بينهما، بعد عدم إمكان وجوب كليهما معاً، فعندئذ لا محالة تقع المعارضة بين دليليهما، ومعه لا موضوع للتزاحم أصلاً.
ولعل منشأ تخيّل أنّ هذا من باب التزاحم الغفلة عن تحليل نقطة واحدة وهي تعلق الأمر بالباقي من الابتداء، من دون حاجة إلى التماس دليل خارجي عليه، فان عدم تحليلها أوجب تخيل أنّ الأوامر الضمنية المتعلقة بأجزاء مثل هذا المركب لم تسقط بسقوط جزء منه، غاية الأمر أنّ تعذره أوجب سقوط خصوص الأمر الضمني المتعلق به لا بغيره، وعليه فإن كان الجزء المتعذر معيّناً سقط الأمر عنه خاصة، وإن كان مردداً بين هذا وذاك سقط أمر أحدهما بسقوط موضوعه ـ وهو القدرة ـ دون الآخر، بعد ثبوت كليهما معاً في مقام الجعل، من دون أيّ تناف بينهما فيه، ومن المعلوم أ نّا لا نعني بالتزاحم إلاّ هذا، غاية الأمر على القول بالترتب الساقط هو إطلاق الخطاب، وعلى القول بعدمه الساقط أصله.
ووجه الغفلة عن ذلك هو ما عرفت من أنّ الأمر وإن تعلق بالباقي من الأوّل إلاّ أ نّه أمر آخر بالتحليل، ضرورة أنّ الأمر الأوّل المتعلق بالمجموع المركب قد سقط يقيناً من جهة تعذر جزء منه، ولا يعقل بقاؤه في هذا الحال ـ كما مرّ ـ ومع سقوطه لا محالة تسقط الأوامر الضمنية المتعلقة بأجزائه، وعليه فلا محالة نشك في هذا الفرض وما شاكله في أنّ الأمر المجعول ثانياً للباقي هل هو مجعول للمركب من هذا أو ذاك، يعني أنّ الشارع في هذا الحال جعل هذا جزءاً أو ذاك، فيكون الشك في أصل المجعول في هذا الحال، ومن المعلوم أ نّه

ــ[115]ــ

لا يعقل فيه التزاحم، ولا موضوع له، ضرورة أ نّه إنّما يعقل فيما إذا كان أصل المجعول لكل منهما معلوماً، وكان التنافي بينهما في مقام الامتثال، لا في مثل المقام، كما لا يخفى.
فقد أصبحت النتيجة بوضوح أ نّه لا فرق في عدم جريان التزاحم بين جزأين أو شرطين أو جزء وشرط من واجب واحد، بين أن يكون الأمر متعلقاً به بعنوان كون أجزائه مقدورة، وأن يكون متعلقاً به على نحو الاطلاق بلا تقييد بحالة خاصة دون اُخرى.
نعم، فرق بينهما في نقطة أجنبية عما هو ملاك التزاحم والتعارض بالكلّية، وهي أنّ ثبوت الأمر بالباقي هنا مقتضى نفس تخصيص جزئية أجزائه بحال القدرة ـ كما عرفت ـ وهناك يحتاج إلى دليل خارجي يدل عليه، وإلاّ فلا وجوب له.
نعم، قد ثبت في خصوص باب الصلاة وجوب الباقي بدليل، وهو ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال(1) بل الضرورة قاضية بعدم جواز ترك الصلاة في حال إلاّ لفاقد الطهورين على ما قوّيناه(2)، ومع قطع النظر عن ذلك تكفينا الروايات الخاصة الدالة على وجوب الاتيان بالصلاة جالساً إذا لم يتمكن من القيام، وعلى وجوب الاتيان بها بغير الاستقبال إلى القبلة إذا لم يتمكن منه وعلى وجوب الاتيان في الثوب النجس أو عارياً على الخلاف في المسألة، وغير ذلك، فهذه الروايات قد دلّت على وجوب الاتيان بالباقي وأ نّه لا يسقط، والساقط إنّما هو الأمر المتعلق بالمجموع المركب من الجزء أو القيد المتعذر، فلو
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 2: 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5.
(2) شرح العروة 10: 215.

ــ[116]ــ

لم يتمكن المصلي من القيام مثلاً وجبت عليه الصلاة جالساً بمقتضى النص الخاص، وكذا لو لم يتمكن من الجلوس وجبت عليه الصلاة مضطجعاً، وهكذا.
وعلى الجملة: فمع قطع النظر عما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال، تكفينا في المقام هذه الروايات الخاصة الدالة على وجوب الباقي وعدم سقوطه بتعذر جزء أو شرط، ولكن عرفت أنّ هذه القاعدة ـ أي قاعدة عدم سقوط الباقي بالتعذر ـ تختص بخصوص باب الصلاة، فلا تعم غيرها، ولذا لو لم يتمكن المكلف من الصوم في تمام آنات اليوم لم يجب عليه الامساك في الآنات الباقية من هذا اليوم، كما لو اضطرّ الصائم إلى الإفطار في بعض اليوم فلا يجب عليه الامساك في الباقي.
وعلى ضوء هذا الأصل فاذا تعذّر أحد أجزاء الصلاة أو شرائطه وكان المتعذر متعيناً، كما إذا لم يتمكن المصلي من القيام مثلاً أو القراءة أو ما شاكل ذلك، فلا إشكال في وجوب الاتيان بالباقي. وأمّا إذا كان المتعذر مردداً بين جزأين أو شرطين أو جزء وشرط، فلا محالة يقع التعارض بين دليليهما، للعلم الاجمالي بجعل أحدهما في الواقع دون الآخر، لفرض انتفاء القدرة إلاّ على أحدهما، فإذن لا بدّ من النظر إلى أدلتهما وإعمال قواعد التعارض بينهما.
فنقول: إنّ الدليلين الدالين عليهما لا يخلوان من أن يكون أحدهما لبياً والآخر لفظياً، وأن يكون كلاهما لبياً، أو كلاهما لفظياً، وعلى الثالث فأيضاً لا يخلوان من أن تكون دلالة أحدهما بالاطلاق والآخر بالعموم، وأن تكون دلالة كليهما بالعموم أو بالاطلاق.
أمّا القسم الأوّل، وهو ما إذا كان الدليل على أحدهما لبياً وعلى الآخر لفظياً، فلا إشكال في مقام المعارضة بينهما في تقديم الدليل اللفظي على اللبي،

ــ[117]ــ

والوجه في ذلك واضح، وهو أنّ الدليل اللبي كالاجماع أو نحوه حيث إنّه لا عموم ولا إطلاق له، فلا بدّ فيه من الاقتصار على القدر المتيقن، وهو غير مورد المعارضة مع الدليل اللفظي، فلا نعلم بتحققه في هذا المورد، وذلك كما إذا دار الأمر بين القيام مثلاً في الصلاة والاستقرار فيها، فانّ الدليل على اعتبار الاستقرار لبي وهو الاجماع، فيجب الاقتصار فيه على المقدار المتيقن.
ونتيجته هي أ نّه لا إجماع على اعتبار الاستقرار في الصلاة في هذا الحال، والدليل على اعتبار القيام بما أ نّه لفظي، وهو قوله (عليه السلام) في صحيحة أبي حمـزة: «الصحيح يصلي قائماً وقعوداً، والمريض يصلي جالساً... » إلخ(1) وقوله (عليه السلام): في صحيحة زرارة في حديث «وقم منتصباً فانّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: مَن لم يقم صلبه فلا صلاة له»(2) ونحوهما من الروايات الدالة على ذلك، فيجب الأخذ باطلاقه. ونتيجته هي وجوب الاتيان بالصلاة قائماً في هذا الحال بدون الاستقرار والطمأنينة، لما عرفت من عدم الدليل على اعتباره في هذه الحالة.
وعلى الجملة: فإذا دار الأمر بين أن يصلي قائماً بدون الطمأنينة والاستقرار، وأن يصلي جالساً معها، فبما أنّ الدليل الدال على اعتبار الطمأنينة لبي، فلا إشكال في تقديم القيام عليها، فيحكم بوجوب الصلاة قائماً بدون الطمأنينة، ومن هنا حكم السيِّد (قدس سره) في العروة (3) بتقديم القيام عليها إذا دار الأمر بينهما، ولعل نظره (قدس سره) إلى ما ذكرناه.
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 5: 481 / أبواب القيام ب 1 ح 1.
(2) الوسائل 5: 488 / أبواب القيام ب 2 ح 1.
(3) العروة الوثقى 1: 464 المسألة 14 [ 1474 ].

ــ[118]ــ

وأمّا القسم الثاني، وهو ما إذا كان كلا الدليلين لبياً، فلا يشمل مورد المعارضة، وذلك لما مرّ من أنّ الدليل إذا كان لبياً فلا بدّ من الاقتصار في مورده على المقدار المتيقن منه، ومن المعلوم أنّ المقدار المتيقن منه غير هذا المورد، ضرورة أ نّا لم نحرز تحققه فيه لو لم نحرز عدمه. وعليه فمورد المعارضة لا يكون مشمولاً لهذا ولا لذاك، فوقتئذ لو كنّا نحن وهذا الحال ولم يكن دليل من الخارج على عدم سقوط كليهما معاً فنرجع إلى البراءة عن وجوب كل منهما، فلا يكون هذا واجباً ولا ذاك.
وأمّا إذا كان دليل من الخارج على ذلك، كما هو كذلك، حيث إنّا نعلم بوجوب أحدهما في الواقع، فعندئذ مرّة يدور الأمر بين الأقل والأكثر، بمعنى أنّ الجزء هو الجامع بينهما أو مع خصوصية هذا أو ذاك، ومرّة اُخرى يدور الأمر بين المتـباينين، بمعنى أ نّا نعلم أنّ الجزء أحدهما بالخصوص في الواقع ونفس الأمر لا الجامع، ولكن دار الأمر بين كون الجزء هذا وذاك.
فعلى الأوّل، ندفع اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك بالبراءة، فنحكم بأنّ الجزء هو الجامع بينهما، فتكون النتيجـة هي التخيير شرعاً، يعني أنّ الشارع في هذا الحال جعل أحدهما جزءاً مع إلغاء خصوصية كل منهما.
وعلى الثاني، فمقتضى القاعدة هو الاحتياط، للعلم الاجمالي بجزئية أحدهما بخصوصه في الواقع، وأصالة عدم جزئية هذا معارضة بأصالة عدم جزئية ذاك، فيتساقطان، فإذن يكون العلم الاجمالي موجباً للاحتياط على تقدير إمكانه، وإلاّ فالوظيفة هي التخيير بين إتيان هذا أو ذاك.
وأمّا القسم الثالث، وهو ما إذا كانت دلالة أحدهما على ذلك بالاطلاق والآخر بالعموم، فيقدّم ما كانت دلالته بالعموم على ما كانت دلالته بالاطلاق.

ــ[119]ــ

وذلك لأنّ دلالة العام تنجيزية، فلا تتوقف على أيّة مقدّمة خارجية، ودلالة المطلق تعليقية، فتتوقف على تمامية مقدّمات الحكمة، منها عدم البيان له. ومن الواضح جداً أنّ العام يصلح أن يكون بياناً للمطلق، ومعه لا تتم مقدّمات الحكمة ليؤخذ باطلاقه.
وعلى الجملة: فقد ذكرنا (1) أنّ مسألة دوران الأمر بين العام والمطلق خارجة عن كبرى مسألة التعارض، لعدم التنـافي بين مدلوليهما في مقام الاثبات على الفرض، ضرورة أنّ العرف لا يرى التنافي بينهما أصلاً، ويرى العام صالحاً للقرينية على تقييد المطلق، ولا يفرق في ذلك بين كون العام متصلاً بالكلام أو منفصلاً عنه، غاية الأمر أ نّه على الأوّل مانع عن ظهور المطلق في الاطلاق، وعلى الثاني مانع عن حجية ظهوره.
وأمّا القسم الرابع، وهو ما إذا كانت دلالة كل منهما بالعموم، فلا بدّ فيه من الرجوع إلى المرجحات السندية من موافقة الكتاب ومخالفة العامة على ما ذكرنا من انحصار الترجيح بهما، لوقوع المـعارضة بينهما، فلا يمكن الجمع الدلالي بتقديم أحدهما على الآخر، وهذا واضح.
وأمّا القسم الخامس، وهو ما إذا كانت دلالة كل منهما بالاطلاق، كما هو الغالب في أدلة الأجزاء والشرائط، فيسقط كلا الاطلاقين معاً، إلاّ إذا كان أحدهما من الكتاب والآخر من غيره، فيقدّم إطلاق الكتاب عليه فيما إذا كانت النسبة بينهما عموم من وجه كما لا يخفى. وأمّا إذا لم يكن أحدهما من الكتاب أو كان كلاهما منه فيسقطان، وذلك لما ذكرناه من أنّ التعارض بين الدليلين إذا كان بالاطلاق، فمقتضى القاعدة سقوط إطلاق كليهما والرجوع إلى الأصل العملي
ـــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الاُصول 3: 453.

ــ[120]ــ

إذا لم يكن هناك أصل لفظي من عموم أو إطلاق، وليس المرجع في مثله المرجحات السندية، وذلك لعدم تمامية جريان مقدّمات الحكمة في كل منهما في هذا الحال، فلا موجب لترجيح أحدهما على الآخر إذا كان واجداً للترجيح، ومقتضى الأصل العملي في المقام هو التخيير، حيث إنّا نعلم إجمالاً بوجوب أحدهما من الخارج، فيكون المرجع أصالة عدم اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك. ونتيجة ذلك هي جزئية الجامع بينهما من دون اعتبار أيّة خصوصية.
وقد تحصّل مما ذكرناه: أنّ الرجوع إلى مرجحات باب التعارض منحصر في خصوص القسم الرابع فحسب، أمّا في الأقسام الباقية فلا يرجع في شيء منها إلى تلك المرجحات أبداً. هذا كلّه إذا كان الأمر دائراً بين جزأين أو شرطين مختلفين في النوع.
وأمّا إذا كان الأمر دائراً بين فردين من نوع واحد، كما إذا دار الأمر بين ترك القيام في الركعة الاُولى وتركه في الركعة الثانية، أو دار الأمر بين ترك القراءة في الركعة الاُولى وتركها في الثانية وهكذا، ففي أمثال هذه الموارد الدليل على وجوب ذلك وإن كان واحداً في مقام الاثبات والابراز، إلاّ أ نّه في الواقع ينحل بانحلال أفراد هذا النوع، فيثبت لكل منها وجوب، وعليه فلا محالة تقع المعارضة بين وجوب هذا الفرد ووجوب ذاك الفرد ـ بمعنى استحالة جعل وجوب كليهما معاً في هذا الحال ـ ففي هذين المثالين تقع المعارضة بين وجوب القيام في الركعة الاُولى ووجوبه في الثانية، وبين وجوب القراءة في الاُولى ووجوبها في الثانية وهكذا، للعلم الاجمالي بجعل أحدهما في الواقع، واستحالة جعل كليهما معاً، ومن الواضح أ نّا لا نعني بالتعارض إلاّ التنافي بين الحكمين بحسب مقام الجعل، وهو موجود في أمثال تلك الموارد.

 
 

ــ[121]ــ

وعلى هذا، فمقتضى القاعدة هنا التخيير، بمعنى جعل الشارع أحدهما جزءاً، إذ احتمال اعتبار خصوصية كل منهما مدفوع بأصالة البراءة، فانّ اعتبارها يحتاج إلى مؤونة زائدة، ومقتضى الأصل عدمها، فإذن النتيجة هي جزئية الجامع بينهما، لا خصوص هذا ولا ذاك، هذا كلّه حسب ما تقتضيه القاعدة في دوران الأمر بين فردين طوليين من نوع واحد.
وأمّا بحسب الأدلة الخاصة، فقد ظهر من بعض أدلة وجوب القيام تعيّنه في الركعة الاُولى وهو قوله (عليه السلام) في صحيحة جميل بن دراج «إذا قوي فليقم» (1) فانّه ظاهر في وجوب القيام مع القدرة عليه فعلاً، وأنّ المسقط له ليس إلاّ العجز الفعلي، والمفروض أنّ المكلف قادر عليه فعلاً في الركعة الاُولى، فإذا كان قادراً عليه كذلك يتعين بمقتضى قوله (عليه السلام): «إذا قوي فليقم» ومن المعلوم أ نّه إذا قام في الاُولى عجز عنه في الثانية فيسقط بسقوط موضوعه، وهو القدرة.
وأمّا غير القيام كالقراءة والركوع والسجود ونحوها فلا يظهر من أدلتها وجوب الاتيان بها في الركعة الاُولى في مثل هذه الموارد ـ أعني موارد دوران الأمر بين ترك هذه الأجزاء في الاُولى وتركها في الثانية ـ لعدم ظهورها في وجوب تلك الاُمور مع القدرة عليها فعلاً، بل هي ظاهرة في وجوبها مع القدرة عليها في تمام الصلاة. وعليه فلا فرق بين القدرة عليها في الركعة الاُولى والقدرة عليها في الركعة الثانية أصلاً، ولا تجب صرف القدرة فيها في الاُولى بل له التحفظ بها عليها في الثانية، فإذن المرجع فيها هو ما ذكرناه من التخيير باعتبار أنّ الدليل كما عرفت لا يمكن أن يشمل كليهما معاً، لفرض عدم القدرة عليهما،
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 5: 495 / أبواب القيام ب 6 ح 3.

ــ[122]ــ

كذلك، هذا من جانب.
ومن جانب آخر: أ نّا نعلم إجمالاً بوجوب أحدهما، ونرفع اعتبار خصوصية كل منهما بالبراءة.
فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين هي التخيير لا محالة ووجوب الجامع بينهما، لا خصوص هذا ولا ذاك.
وعلى ما ذكرناه من الضابط في باب الأجزاء والشرائط، يظهر حال جميع الفروع المتقدمة (1) التي ذكرها شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وكذا حال عدّة من الفروع التي تعرّضها السيِّد (قدس سره) في العروة (2).
وعلى أساس ذلك تمتاز نظريتنا عن نظرية شيخنا الاُستاذ (قدس سره) في هذه الفروعات.
والنقطة الرئيسـية للامتياز بين النظريتين، هي أ نّا لو قلنا بانطباق كبرى باب التزاحم على تلك الفروعات، فلابدّ عندئذ من الالتزام بمرجحاتها ومراعاة قوانينها، كتقديم الأهم أو محتمل الأهمّية على غيره، وتقديم ماهو أسبق زماناً على المتأخر، وما هو مشروط بالقدرة عقلاً على ما كان مشروطاً بها شرعاً، وهكذا. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بانطباق كبرى باب التعارض عليها، فانّه على هذا لا أثر لشيء من تلك المرجحات أصلاً، ضرورة أنّ الأهمّية أو الأسبقية لا تكون من المرجحات في باب التعارض، ووجهه واضح، وهو أنّ الأهمّية أو الأسبقية إنّما تكون مرجحة على تقدير ثبوتها، وفي فرض تحقق موضوعها، ومن المعلوم أنّ في باب التعارض أصل الثبوت غير محرز، فانّ أهمّية أحد
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 103.
(2) العروة الوثقى 1: 464 المسألة 14 [ 1474 ].

ــ[123]ــ

المتعارضين على فرض ثبوته في الواقع، وكونه مجعولاً فيه، ومن الواضح جداً أ نّها لا تقتضي ثبوته.
ومن هنا قد ذكرنا أنّ كبرى مسألة التعارض كما تمتاز عن كبرى مسألة التزاحم بذاتها، كذلك تمتاز عنها بمرجحاتها، فلا تشتركان في شيء أصلاً. وعليه فالمرجـع في باب الأجزاء والشرائط هو ما ذكرناه، ولا أثر للسبق الزماني والأهمّية فيها أبداً.
وعلى هدى تلك النقطة تظهر الثمرة بين القول بالتزاحم والقول بالتعارض في عدّة موارد وفروع:
منها: ما إذا دار الأمر بين ترك الركوع في الركعة الاُولى وتركه في الثانية، فعلى القول الأوّل يتعين تقديم الركوع في الركعة الاُولى على الركوع في الثانية، من جهة انطباق كبرى تقديم ما هو أسبق زماناً على غيره هنا، فلو ترك الركوع في الاُولى وأتى به في الثانية بطلت صلاته، وعلى القول الثاني فالأمر فيه التخـيير كما عرفت. وعليه فيجوز للمكلف أن يأتي بالركوع في الاُولى ويترك في الثانية وبالعكس، فتكون صلاته على كلا التقديرين صحيحة. وكذا الحال فيما إذا دار الأمر بين ترك القراءة في الركعة الاُولى وتركها في الثانية، وهكذا.
ومنها: ما إذا دار الأمر في الصلاة بين ترك القيام وترك الركوع، فعلى الأوّل يمكن الحكم بتقديم القيام نظراً إلى سبقه زماناً، ويمكن الحكم بالعكس نظراً إلى كون الركوع أهم منه، وقد فعل شيخنا الاُستاذ (قدس سره) ذلك في هذا الفرع كما تقدّم، وعلى الثاني فالأمر فيه التخيير، باعتبار أنّ التعارض بين دليليهما بالاطلاق، فيسقط كلا الاطلاقين، فيرجع إلى أصالة عدم اعتبار خصوص هذا وذاك، فتكون نتيجة ذلك التخيير، أعني وجوب أحدهما لا بعينه.

ــ[124]ــ

ومنها: ما إذا دار الأمر بين ترك الطمأنينة في الركن كالركوع والسجود وما شاكلهما، وتركها في غيره كالأذكار والقراءة ونحوهما، فعلى الأوّل يتعين سقوط قيد غير الركن، لكون قيده أهم منه، فيتقدّم الأهم في باب المزاحمة. وعلى الثاني فلا وجه للتقديم أصلاً، لما عرفت من أنّ الدليل على اعتبار الطمأنينة هو الاجماع، ومن المعلوم أ نّه لا إجماع في هذا الحال، وعليه فنرجع إلى أصالة البراءة عن اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك، فتكون النتيجة هي التخيير.
ومنها: ما إذا دار الأمر بين القيام المتصل بالركوع والقيام في حال القراءة، فبناءً على الأوّل لابدّ من تقديم القيام المتصل بالركوع على القيام في حال القراءة، لكونه أهم منه، إمّا من جهة أ نّه بنفسه ركن أو هو مقوّم للركن كالركوع، ولذا حكم شيخنا الاُستاذ (قدس سره) بتقديمه عليه في الفروعات المتقدمة. وبناءً على الثاني فلا وجه للتقديم أصلاً، بل الأمر في مثله العكس، وذلك لما أشرنا إليه من أنّ المستفاد من صحيحة جميل بن دراج المتقدمة (1) وجوب القيام عند تمكن المكلف منه فعلاً، والمفروض أنّ المكلف في مثل المـقام قادر فعلاً على القيام في حال القراءة، فإذا كان الأمر كذلك يتعين عليه ولا يجوز له تركه باختياره وإرادته.
فما ذكره (قدس سره) من الكـبريات التي بنى فيها على إعمـال قواعـد باب التزاحم ومرجحاته لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً، وقد عرفت أنّ تلك الكبريات جميعاً داخلة في باب التعارض، فالمرجع فيها هو قواعد ذلك الباب، ولأجل ذلك تختلف نظريتنا فيها عن نظرية شيخنا الاُستاذ (قدس سره) تماماً، وإن كانت النتيجة في بعضها واحدة على كلتا النظريتين، وذلك كما إذا دار الأمر
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 121.

ــ[125]ــ

بين ترك الطهور في الصلاة وترك جزء أو قيد آخر، فلا إشكال في تقديم الطهور على غيره على كلا المسلكين.
أمّا على مسلك من بنى ذلك على باب التزاحم فواضح، لكون الطهور أهم من غيره، ومن هنا قلنا بسقوط الصلاة لفاقده، وهذا واضح.
وأمّا على مسلك من بنى ذلك على باب التعارض فأيضاً كذلك، والوجه فيه ما ذكرناه غير مرّة من أنّ الطهور مقوّم للصلاة فلا تصدق الصلاة بدونه، ولذا ورد في الرواية أنّ «الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلث منها الركوع، وثلث منها السجود، وثلث منها الطهور» (1)، وقد ذكرنا في محلّه (2) أنّ الركوع والسجود بعرضهما العريض ركنا الصلاة وثلثاها، لا بخصوص مرتبتهما العالية، كما أ نّا ذكرنا أنّ المراد من الطهور الذي هو ركن للصلاة الجامع بين الطهارة المائية والترابية، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أنّ الصلاة لا تسقط بحال، فلو سقطت مرتبة منها لم تسقط مرتبة اُخرى منها وهكذا، للنصوص الدالة على ذلك كما عرفت.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أ نّه لا بدّ في مقام دوران الأمر بين الطهور وغيره من تقديم الطهور، ضرورة أ نّه في فرض العكس ـ أي تقديم غيره عليه ـ لا صلاة لتجب مع ذلك القيد، بل إذن لا تعارض ولا دوران في البين أصلاً، ضرورة أنّ التعارض بين دليلي الجزأين أو الشرطين أو الشرط والجزء إنّما يتصور مع فرض وجود الموضوع وهو حقيقة الصلاة، ليكون وجوبها ثانياً بدليل خاص موجباً للتعارض بينهما، وأمّا إذا فرض دوران الأمر بين ما هو مقوّم لحقيقة الصلاة وغيره، فيتعين تقديم الأوّل وصرف
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 6: 310 / أبواب الركوع ب 9 ح 1 (مع اختلاف يسير).
(2) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص 186 ـ 188.

ــ[126]ــ

القدرة فيه ولا يمكن العكس، بداهة أ نّه يلزم من وجوب هذا القيد عدمه، إذ معنى تقديمه هو أ نّه واجب في ضمن الصلاة، والمفروض أنّ تقديمه عليه مستلزم لانتفاء الصلاة، ومن المعلوم أنّ كل ما يلزم من وجوده عدمه فهو محال، وهذا لا من ناحية أهمّية الطهور، ليقال إنّه لا عبرة بها في باب التعارض أصلاً، بل هو من ناحية أنّ تقديم غيره عليه يوجب انتفاء حقيقة الصلاة، فلا صلاة عندئذ لتجب.
وبتعبير آخر: أنّ دوران الأمر بين جزأين أو شرطين أو جزء وشرط على كلا القولين ـ أي القول بالتعارض والقول بالتزاحم ـ إنّما هو في فرض تحقق حقيقة الصلاة وصدقها، بأن لا يكون انتفاء شيء منهما موجباً لانتفاء الصلاة، فعندئذ يقع الكلام في تقديم أحدهما على الآخر، فبناءً على القول بالتزاحم يرجع إلى قواعده وأحكامه، وبناءً على القول بالتعارض يرجع إلى مرجحاته وقواعده. وأمّا إذا فرضنا دوران الأمر بين ما هو مقوّم لحقيقة الصلاة وغيره، فلا إشكال في تقديم الأوّل على الثاني وعدم الاعتناء به، ضرورة أنّ مرجع هذا إلى دوران الأمر بين سقوط أصل الصلاة وسقوط جزئها أو قيدها، ومن المعلوم أ نّه لا معنى لهذا الدوران أصلاً، حيث إنّه لا يعقل سقوط أصل الصلاة وبقاء القيد على وجوبه، لفرض أنّ وجوبه ضمني لا استقلالي.
وقد تحصّل من ذلك كبرى كلّية، وهي أ نّه لا معنى لوقوع التزاحم أو التعارض بين ما هو مقوّم لحقيقة الصلاة وبين غيره من الأجزاء أو الشرائط، هذا بناءً على ما قوّيناه (1) من سقوط الصلاة عن فاقد الطهورين وغيرهما من الأركان. وأمّا بناءً على عدم سقوطها عنه فوقتئذ تفترق نظرية التزاحم في
ـــــــــــــــــــــ
(1) في شرح العروة 10: 215.

ــ[127]ــ

أمثال هذه الموارد عن نظرية التعارض، إذ على الأوّل لا بدّ من تقديم الطهور على غيره في مقام وقوع المزاحمة بينهما لأهمّيته. وأمّا على الثاني ـ وهو نظرية التعارض ـ فلا وجه لتقديمه على غيره من هذه الناحية أصلاً، لما عرفت من أ نّه لا عبرة بالأهمّية في باب التعارض أبداً، فإذن لا بدّ من الرجوع إلى أدلتهما، فإن كان الدليل الدال على أحدهما عاماً والآخر مطلقاً، فيقدّم العام على المطلق كما عرفت، وإن كان كلاهما عاماً، فيقع التعارض بينهما فيرجع إلى مرجحاته، وإن كان كلاهما مطلقاً فيسقط كلا الاطلاقين، ويرجع إلى الأصل العملي وهو أصالة عدم اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك ونتيجته التخيير كما سبق.
وكذا الحال فيما إذا دار الأمر بين ترك القيام في الركعة الاُولى وتركه في الثانية، فانّ النتيجة في هذا الفرع أيضاً واحدة على كلا القولين، وهي تقديم القيام في الركعة الاُولى على القيام في الثانية، ولكن على القول بالتزاحم بملاك أ نّه أسبق زماناً من الآخر، وقد عرفت أنّ ما هو أسبق زماناً يتقدّم على غيره فيما إذا كان كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً كما هو كذلك في المقام، وعلى القول بالتعارض فمن ناحية النص المتقدم، هذا تمام كلامنا في الناحية الاُولى.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net