مناقشاتٌ في الفروع التي ذكرها النائيني 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4839


وأمّا الناحية الثانية ـ وهي ما ذكره (قدس سره) من الترجيح للتقديم في هذه الفروعات ـ فأيضاً لاتتم على إطلاقها على فرض تسليم أنّ تلك الفروعات من صغريات باب التزاحم.
وبيان ذلك يحتاج إلى درس كل واحد من هذه الفروعات على حدة.
أمّا الفرع الأوّل: وهو ما إذا دار الأمر بين ترك الطهور في الصلاة وترك قيد آخر من قيودها، فقد ذكر (قدس سره) أ نّه يسقط قيد آخر ولو كان وقتاً.
وغير خفي أ نّه لا بدّ من فرض هذا الفرع في غير الأركان من الأجزاء أو

ــ[128]ــ

الشرائط، ضرورة أ نّه في فرض دوران الأمر بين سقوط الطهور وسقوط ركن آخر بعرضه العريض، كالركوع أو السجود أو التكبيرة، لا صلاة لتصل النوبة إلى أ نّها واجبة مع هذا أو ذاك، لفرض أ نّها تنتفي بانتفاء ركن منها، فإذن لا موضوع للتزاحم ولا التعارض.
نعم، يمكن دوران الأمر بين سقوطه وسقوط مرتبة منها، فانّ حاله حال دوران الأمر بينه وبين سقوط بقية الأجزاء والشرائط كما هو واضح.
ومن هنا يظهر أ نّه لا يعقل التزاحم بين الطهور والوقت أيضاً، ضرورة انتفاء الصلاة بانتفاء كل منهما، فلا موضوع عندئذ للتزاحم ليرجّح أحدهما على الآخر. فما أفاده (قدس سره) من أ نّه يسقط ذلك القيد وإن كان وقتاً لا يرجع إلى معنىً محصّل، لفرض أنّ الصلاة تسقط بسقوط الوقت فلا صلاة عندئذ لتجب مع الطهور.
وبعد ذلك نقول: إنّه لا إشكال في تقديم الطهور على غيره من الأجزاء والشرائط، وليس وجهه مجرد كونه أهم، بل وجهه ما ذكرناه من أنّ الطهور بما أ نّه مقوّم لحقيقة الصلاة فلا تعقل المزاحمة بينه وبين غيره، ضرورة أنّ مرجع ذلك إلى دوران الأمر بين ترك نفس الصلاة وترك قيدها، ومن الواضح جداً أ نّه لا معنى لهذا الدوران أصلاً، ومن هنا قلنا إنّ التزاحم بين جزأين أو شرطين أو جزء وشرط إنّما يعقل فيما إذا لم يكن أحدهما مقوّماً لحقيقة الصلاة، وإلاّ فلا موضوع له لتصل النوبة إلى ملاحظة المرجح لتقديم أحدهما على الآخر، ولا يشمله ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال من رواية أو إجماع قطعي، ضرورة أنّ هذا العمل ليس بصلاة.
وأمّا الفرع الثاني: وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط الطهارة المائية وسقوط

ــ[129]ــ

قيد آخر، فقد ذكر (قدس سره) أ نّه يسقط الطهارة المائية، وأفاد في وجه ذلك أنّ أجزاء الصلاة وشرائطها وإن كانت مشروطة بالقدرة شرعاً، لما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال، إلاّ أنّ الطهارة المائية خاصة تمتاز عن بقية الأجزاء والشرائط من ناحية جعل الشارع لها بدلاً دون غيرها، فبذلك تتأخر رتبتها عن الجميع.
ولنأخذ بالمناقشة عليه وملخّصها: هو أنّ ثبوت البدل شرعاً لا يختص بخصوص الطهارة المائية، فكما أنّ لها بدلاً وهو الطهارة الترابية، فكذلك لبقية الأجزاء والشرائط.
والوجه في ذلك: هو أنّ الصلاة إنّما هي مأمور بها بعرضها العريض، لا بمرتبتها الخاصة وهي المرتبة العليا المعبّر عنها بصلاة المختار، وعلى هذا فكما أنّ المكلف لو لم يتمكن من الصلاة مع الطهارة المائية تنتقل وظيفته إلى الصلاة مع الطهارة الترابية، فكذلك لو لم يتمكن من الصلاة في الثوب أو البدن الطاهر، أو مع الركوع والسجود، أو في تمام الوقت، أو مع قراءة فاتحة الكتاب، أو غير ذلك، فتنتقل وظيفته إلى الصلاة في بدل هذه الاُمور، وهو في المثال الأوّل الصلاة عارياً على المشهور، وفي الثوب النجس على المختار. وفي الثاني الصلاة مع الايماء والاشارة. وفي الثالث إدراك ركعة واحدة من الصلاة في الوقت، فانّه بدل لادراك تمام الركعات فيه. وفي الرابع الصلاة مع التكبيرة والتسبيح، وهكذا.
وعلى الجملة: فبما أنّ الصلاة واجبة بتمام مراتبها بمقتضى الروايات العامة والخاصة، فلا محالة لو سقطت مرتبة منها تجب مرتبة اُخرى، وهكذا.
ونتيجة هذا لا محالة عدم الفرق بين الطهارة المائية وغيرها من الأجزاء والشرائط، لفرض أ نّه قد ثبت لكل منها بدل بدليل خاص، كما دلّ على

ــ[130]ــ

وجوب الصلاة مع الايماء عند تعذّر الركوع والسجود، أو مع الركوع قاعداً عند تعذّر الركوع قائماً، وما دلّ على وجوبها قاعداً عند تعذّر القيام، وما دلّ على وجوبها مع التكبيرة والتسبيح عند تعذّر القراءة، وما دلّ على وجوبها مع إدراك ركعة منها في الوقت عند تعذّر إدراك تمام ركعاتها فيه وهكذا، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: المفروض أنّ أجزاء الصلاة وشرائطها مشروطة بالقدرة شرعاً، لما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أ نّه لا وجه لتقديم غير الطهارة المائية من الأجزاء والشرائط عليها في مقام المزاحمة، لا من ناحية أنّ لها بدلاً، ولا من ناحية اشتراطها بالقدرة شرعاً، لما عرفت من أنّ البقية جميعاً تشترك معها في هاتين الناحيتين على نسبة واحدة.
وقد تحصّل مما ذكرناه: أنّ ما أفاده (قدس سره) من الكبرى الكلّية وهي تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل، وإن كان تاماً إلاّ أ نّه لا ينطبق على المقام.
ويجب علينا أن ندرس هذا الفرع من جهات:
الاُولى: فيما إذا دار الأمر بين سقوط الطهارة المائية وسقوط خصوص السورة في الصلاة.
الثانية: فيما إذا دار الأمر بين سقوطها وسقوط الأركان.
الثالثة: فيما إذا دار الأمر بين سقوطها وسقوط بقية الأجزاء أو الشرائط.
أمّا الجهة الاُولى: فالظاهر أ نّه لا شبهة في تقديم الطهارة المائية على السورة، وذلك لما دلّ على أ نّها تسقط بالاستعجال والخوف، وهو صحيحة

ــ[131]ــ

محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «سألته عن الذي لا يقرأ بفاتحة الكتاب في صلاته، قال: لا صلاة إلاّ أن يقرأ بها في جهر أو إخفات. قلت: أ يّما أحبّ إليك إذا كان خائفاً أو مستعجلاً، يقرأ سورةً أو فاتحة الكتاب؟ قال: فاتحة الكـتاب» (1) فانّها تدل على سقوطها بالاسـتعجال والخوف من ناحية فوت جزء أو شرط آخر، فانّ موردها وإن كان خصوص دوران الأمر بينها وبين فاتحة الكتاب، إلاّ أ نّه من الواضح جداً عدم خصوصية لها، فإذن لا يفرق بينها وبين غيرها من الأجزاء والشرائط منها الطهارة المائية، ضرورة أنّ العبرة إنّما هي بتحقق الخوف والاستعجال.
وقد تحصّل من ذلك أنّ هذا التقديم لا يستند إلى إعمال قواعد باب التزاحم أو التعارض، بل هو مستند إلى النص المتقدِّم.
وأمّا الجهة الثانية: فلا شـبهة في تقـديم الأركان على الطهارة المائية، بلا فرق بين وجهة نظرنا ووجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) في أمثال المقام، وذلك لأنّ ملاك التقديم هنا أمر آخر، لا إعمال قواعد باب التزاحم أو التعارض ليختلف باختلاف النظرين.
بيان ذلك على وجه الاجمال: هو أنّ الصلاة ـ كما حققناه في محلّه (2) ـ اسم للأركان خاصة، وأمّا بقية الأجزاء والشرائط فهي خارجـة عن حقيقتها، فلذا لا تنتفي بانتفائها، كما تنتفي بانتفاء الأركان، وعليه فاذا ضممنا هذا إلى قوله تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ...)(3) بضميمة أنّ الصلاة
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 6: 37 / أبواب القراءة في الصلاة ب 1 ح 1.
(2) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص 186 ـ 188.
(3) المائدة 5: 6.

ــ[132]ــ

لا تسقط بحال، فالنتيجة هي أنّ الصلاة المفروغ عنها في الخارج التي هي عبارة عن الأركان قد أمر الشارع في هذه الآية الكريمة باتيانها مع الطهارة المائية في فرض وجدان الماء، ومع الطهارة الترابية في فرض فقدانه.
وعلى الجملة: فالصلاة حيث إنّها كانت اسماً للأركان، والبقية قيود خارجية قد اعتبرت فيها في ظرف متأخر، وإن قلنا إنّها عند وجودها داخلة في المسمى، إلاّ أنّ دخولها فيه ليس بمعنى دخلها فيه بحيث ينتفي بانتفائها، بل بمعنى أنّ المسمى قد اُخذ لا بشرط بالاضافة إلى الزيادة، فلا محالة لا تنتفي بانتفائها.
وعلى ذلك فاذا ضممنا هذا إلى ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال، وإلى أدلة الأجزاء والشرائط منها هذه الآية المباركة، فالنتيجة هي أنّ الاتيان بالأركان واجب على كل تقدير، وأ نّها لا تسقط مطلقاً ـ أي سواء أكان المكلف متمكناً من البقية أم لم يكن متمكناً ـ ضرورة أنّ في صورة العكس أي تقديم الأجزاء أو الشرائط على الأركان فلا يصدق على العمل المأتي به صلاة ليتمسك بما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال، فاذن لا موضوع للتعارض ولا التزاحم هنا، كما هو واضح.
هذا كلّه فيما إذا دار الأمر بين ترك ركن بعرضه العريض وترك الطهارة المائية أو غيرها من القيود.
وأمّا إذا دار الأمر بين سقوط مرتبة من الركن وسقوط الطهارة المائية، فهل الأمر كما تقدّم أم لا ؟ وجهان:
الظاهر هو الوجه الثاني، وذلك لأنّ ما ذكرناه في وجه تقديم الركن عليها

ــ[133]ــ

لا يجري في هذا الفرض، والوجه فيه ما حققناه في بحث الصحيح والأعم (1) من أنّ لفظة الصلاة موضوعة للأركان بعرضها العريض، لا لخصوص المرتبة العليا منها، وعلى هذا يترتب أنّ الصلاة لا تنتفي بانتفاء تلك المرتبة، وإنّما تنتفي بانتفاء جميع مراتبها، فإذن يكون المراد من الصلاة في الآية المباركة وهي قوله تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ...)(2) هو الأركان بعرضها العريض، لا خصوص مرتبة منها، غاية الأمر يجب الاتيان بالمرتبة العليا في فرض التمكن منها عقلاً وشرعاً، والمرتبة الاُخرى دونها في فرض عدم التمكن من الاُولى وهكذا، وكذا الحال في الطهور حيث إنّه يجب على المكلف الطهارة المائية في فرض وجدان الماء، والطهارة الترابية في فرض فقدانه.
وعلى ضوء هذا، فالآية الكريمة تدل على أنّ الصلاة المفروغ عنها في الخارج ـ وهي الجامع بين مراتبها ـ واجبة على المكلف مع الوضوء أو الغسل في فرض كونه واجداً للماء، ومع التيمم في فرض كونه فاقداً له، ولا تدل على وجوب كل مرتبة من مراتبها كذلك، فإذا دار الأمر بين الاتيان بالمرتبة العالية منها مع الطهارة الترابية، والمرتبة الدانية منها مع الطهارة المائية، فالآية لا تدل على وجوب الاتيان بالاُولى دون الثانية أصلاً، بل ولا إشعار في الآية بذلك، لفرض أنّ الصلاة لا تنتفي بانتفاء تلك المرتبة. وقد عرفت أنّ الآية تدل على وجوب الصلاة وهي الجامع بين هذه المراتب بالكيفية المزبورة، فعندئذ الحكم بوجوب تلك المرتبة ومشروعيتها في هذا الحال وسقوط الطهارة المائية يحتاج
ـــــــــــــــــــــ
(1) في المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص 186 ـ 188.
(2) المائدة 5: 6.

ــ[134]ــ

إلى دليل آخر، ولا يمكن إثبات مشروعيتها بالآية المباركة، لاستلزامه الدور، فانّ مشروعيتها في هذا الحال تتوقف على دلالة الآية، وهي تتوقف على مشروعيتها في هذا الحال.
وعلى الجملة: فلو دار الأمر بين سقوط ركن وسقوط مرتبة من ركن آخر، فلا إشكال في سقوط المرتبة، بل لا دوران في الحقيقة بمقتضى الآية الكريمة، لفرض أنّ اعتبار الأركان بعرضها العريض مفروغ عنه دون اعتبار كل مرتبة من مراتبها، ولذا قلنا إنّ الأركان مشروطة بالقدرة عقلاً دون كل مرتبة منها، فانّها مشروطة بالقدرة شرعاً، وهذا واضح.
وأمّا إذا دار الأمر بين سقوط مرتبة من ركن وسقوط مرتبة من ركن آخر ـ كما في مفروض الكلام ـ فلا دلالة للآية على تقديم بعضها على بعضها الآخر أبداً، ضرورة أنّ دلالتها في محل الكلام تبتني على نقطة واحدة، وهي أن يكون الداخل في مسمى الصلاة المرتبة العليا من الأركان مع الطهور الجامع بين المائية والترابية فحسب، وعلى هذا فإذا دار الأمر بين سقوط تلك المرتبة وسقوط الطهارة المائية تسقط الطهارة المائية، لفرض أنّ اعتبارها عندئذ متفرّع على ثبوتها، لا في عرضها، لدلالة الآية الكريمة وقتئذ على وجوب الاتيان بها مع الطهارة المائية في فرض وجدان الماء، ومع الطهارة الترابية في فرض فقدانه، إلاّ أ نّك عرفت أنّ تلك النقطة خاطئة وغير مطابقة للواقع، وأنّ الصلاة موضوعة للجامع بين مراتبها لا غير.
وعليه ففي مسألتنا هذه وما شاكلها على وجهة نظر من يرى أ نّها داخلة في كبرى باب التعارض، فلا بدّ من الرجوع إلى قواعد ذلك الباب على ما تقدّم بصورة مفصّلة، وعلى وجهة نظر من يرى أ نّها داخلة في كبرى باب التزاحم،

ــ[135]ــ

فلابدّ من الرجوع إلى مرجحات وقواعد ذلك الباب، كالسبق الزماني والأهمّية ونحوهما.
أمّا الأوّل، وهو السبق الزماني فإن كان موجوداً، بأن يكون أحدهما سابقاً على الآخر زماناً فلا مانع من الترجيح به، وذلك لما ذكرناه (1) من أنّ السبق الزماني مرجح في الواجبين المتزاحمين اللذين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً، والمفروض أنّ كل مرتبة من مراتب الأركان مشروطة بالقدرة شرعاً، وإن كانت الأركان بتمام مراتبها مشروطة بها عقلاً، فإذن يقدّم ما هو الأسبق زماناً على الاُخرى.
وأمّا الثاني، وهو الأهمّية، فالظاهر أ نّه مفقود في المقام، وذلك لأ نّا لم نحرز أنّ المرتبة العالية من الركوع مثلاً أهم من المرتبة العالية من الطهور وبالعكس، كما هو واضح، نعم احتمال كون المرتبة العالية منه أهم منها موجود، ولا مناص عنه، ولا سيّما بالاضافة إلى المرتبة العالية من الركوع والسجود، وذلك لأ نّا نستكشف من جعل الشارع التراب أحد الطهورين أنّ المصلحة القائمة بالطهارة الترابية ليست أدون بكثير من المصلحة القائمة بالطهارة المائية، وهذا بخلاف المرتبة الدانية من الركوع والسجود، وهي الايماء، فانّ المصلحة الموجودة فيه أدون بكثير من المصلحة الموجودة فيهما، كما لا يخفى. وعليه فلا بدّ من تقديمها على الطهارة المائية، لما تقدّم مفصّلاً (2) من أنّ محتمل الأهمّية من المرجحات، فلا مناص من تقديمه على الآخر في مقام المزاحمة.
وأمّا الثالث، وهو أنّ المشروط بالقدرة عقلاً يتقدّم على المشروط بها شرعاً،
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 45.
(2) في ص 82.

ــ[136]ــ

فهو مفقود في المقام، لما عرفت من أنّ كلتيهما مشروطة بالقدرة شرعاً.
ونتيجة ما ذكرناه عدّة نقاط:
الاُولى: أ نّه لا يعقل دوران الأمر بين سقوط ركن وسقوط ركن آخر، لانتفاء الصلاة عندئذ على كل تقدير.
الثانية: أ نّه إذا دار الأمر بين ترك ركن وترك مرتبة من ركن آخر فلا إشكال في تعيّن ترك المرتبة، بل قد عرفت أ نّه لا دوران في مثله ولا موضوع للتعارض ولا التزاحم، فيقدّم الركن على مرتبة من الركن الآخر بمقتضى لا تسقط الصلاة بحال، وبمقتضى الآية الكريمة كما سبق.
الثالثة: أنّ في فرض دوران الأمر بين سقوط مرتبة من ركن كالركوع أو السجود، وسقوط مرتبة من آخر كالطهور، لا تدل الآية ولا تسقط الصلاة بحال على سقوط الثانية دون الاُولى، بل لا بدّ فيه من الرجوع إلى قواعد باب التعارض أو التزاحم على ما عرفت.
وأمّا الجهة الثالثة: وهي ما إذا دار الأمر بين الطهارة المائية وبقية الأجزاء أو الشرائط، فالصحيح أ نّه لا وجه لتقديم سائر الأجزاء أو الشرائط على الطهارة المائية، وذلك لأنّ ما ذكرناه في وجه تقديم الأركان عليها لا يجري هنا، والوجه فيه ما تقدّم من أنّ الصلاة اسم للأركان خاصة ووجوب تلك الأركان مفروغ عنه في الخارج مطلقاً، أي سواء أكان المكلف متمكناً من بقية الأجزاء أو الشرائط أم لم يتمكن من ذلك، لفرض أنّ اعتبار البقية متفرع على ثبوتها وفي ظرف متأخر عنها لا مطلقاً، كما هو الحال فيها.
ومن هنا قلنا إنّ المراد من الصلاة في الآية الكريمة هو الأركان، فانّها حقيقة

ــ[137]ــ

الصلاة ومسمّاها، كانت معها بقية الأجزاء أو الشرائط أم لم تكن، وكذا المراد من الصلاة في قوله (عليه السلام): «لا تسقط الصلاة بحال» (1)، ولذلك ذكرنا أنّ الآية تدل على وجوب الاتيان بها مطلقاً، سواء أكانت معها البقية أم لم تكن.
وعلى هذا الأصل فلا تدل الآية على تقديم سائر الأجزاء أو الشرائط على الطهارة المائية أصلاً، لفرض أ نّها غير دخيلة في المسمى من ناحية، وعدم تفرع اعتبار الطهارة المائية على اعتبارها من ناحية اُخرى، بل هو في عرض اعتبار تلك.
ودعوى أنّ المراد من الصلاة في الآية المباركة بضميمة ما استفدنا من أدلة اعتبار الأجزاء والشرائط هو الواجدة للجميع لا خصوص الأركان، هذا من جانب، ومن جانب آخر: أ نّا قد ذكرنا في بحث الصحيح والأعم (2) أنّ البقية عند وجودها داخلة في المسمى، وعدمها لايضر به على تفصيل هناك، فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين هي أنّ الآية تدل على وجوب الاتيان بالصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط مع الطهارة المائية في فرض وجدان الماء، ومع الطهارة الترابية في فرض فقدانه، وهذا معنى دلالتها على تقديم البقية عليها.
مدفوعة بأنّ اعتبارها في هذا الحال ودخولها في المسمى أوّل الكلام، ضرورة أنّ اعتبارها يتوقف على دخولها فيه، والمفروض أنّ دخولها فيه يتوقف على اعتبارها في هذا الحال.
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 2: 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5 (نقل بالمضمون).
(2) في المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص 178 وما بعدها.

ــ[138]ــ

فإذن لا دلالة للآية بضميمة قوله (عليه السلام): «لا تسقط الصلاة بحال» على تقديم بقية الأجزاء أو الشرائط على الطهارة المائية، وعليه فلا بدّ من الرجوع إلى قواعد باب التعارض في المقام بناءً على دخوله في هذا الباب، وإلى قواعد باب التزاحم بناءً على دخوله فيه، والثاني هو مختاره (قدس سره) هنا.
أمّا الأوّل، فقد تقدّم ضابطه فلا نعيد.
وأمّا الثاني، وهو بناءً على دخوله في باب التزاحم فتقديم سائر الأجزاء أو الشرائط عليها يبتني على أحد اُمور:
الأوّل: دعوى أنّ للطهارة المائية بدلاً دون غيرها، فيقدّم ما ليس له بدل على ما له بدل. ولكن قد عرفت فساد تلك الدعوى بشكل واضح.
الثاني: دعوى أنّ الطهارة المائية مشروطة بالقدرة شرعاً بمقتضى الآية الكريمة دون البقية، وقد تقدّم أنّ ما هو مشروط بالقدرة عقلاً يتقدّم على ما هو مشروط بها شرعاً. ويردّها: ما ذكرناه من أنّ أجزاء الصلاة وشرائطها جميعاً مشروطة بالقدرة شرعاً، لما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال، فلا فرق من هذه الناحية بين الطهارة المائية وغيرها أصلاً.
الثالث: دعوى أنّ بقية الأجزاء والشرائط أهم من الطهارة المائية. وفيه: أ نّه لا طريق لنا إلى إحراز كونها أهم منها أصلاً.
وقد تحصّل من ذلك: أ نّه لا وجه لتقديم بقية الأجـزاء أو الشرائط على الطهارة المائية أبداً في موارد عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما، بل يمكن القول بتقديم الطهارة المائية على غيرها من الأجزاء، باعتبار أ نّها سابقة عليها زماناً، كما إذا فرض دوران الأمر بين ترك الوضوء أو الغسل فعلاً وسقوط جزء في ظرفه، بأن لايتمكن المكلف من الجمع بينهما، فلامانع من الحكم بتقديم الوضوء

ــ[139]ــ

أو الغسل عليه، لفرض أنّ التكليف بالاضافة إليه فعلي ولا مانع منه أصلاً. وقد تقدّم (1) أنّ الأسبق زماناً يتقدّم على غيره فيما إذا كان كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً، وما نحن فيه كذلك. فما أفاده (قدس سره) من أ نّه يقدّم على الطهارة المائية كل قيد من قيود الصلاة، لا يمكن المساعدة عليه.
وأمّا الفرع الثالث: وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط إدراك ركعة من الوقت وسقوط قيد آخر غير الطهور، فقد ذكر (قدس سره) أ نّه يسقط ذلك القيد.
أقول: أمّا استثناء الطهور من ذلك وإن كان صحيحاً ولا مناص عنه، إلاّ أ نّه لا معنى للاقتصار عليه، بل لا بدّ من استثناء جميع الأركان من ذلك، لما تقدّم من أ نّه في فرض دوران الأمر بين سقوط ركن رأساً وسقوط ركن آخر كذلك تسقط الصلاة يقيناً، لفرض أ نّها تنتفي بانتفاء كل منهما. فإذن لا موضوع للتمسك بـ «لا تسقط الصلاة بحال» والاجماع القطعي على ذلك، ضرورة أ نّه لا صلاة في هذا الحال ليقال إنّها لا تسقط، وعليه فإذا دار الأمر بين سقوط إدراك ركعة من الوقت وسقوط الطهور رأساً، تسقط الصلاة عندئذ لا محالة، لفرض أ نّها كما تسقط بسقوط الطهور، كذلك تسقط بعدم إدراك ركعة في الوقت، هذا إذا كان غرضه من الاستثناء ذلك.
وأمّا إذا كان غرضه منه هو أنّ الطهور يقدّم على الوقت في هذا الحال ـ أعني ما إذا دار الأمر بين سقوط إدراك ركعة في الوقت وسقوط الطهور رأساً ـ فقد عرفت فساده الآن، وهو ما مرّ من أ نّه لا صلاة في هذا الحال ليقال بتقديمه عليه، لفرض أ نّها تنتفي بانتفاء كل منهما، وأمّا وجوبها في خارج الوقت فهو بدليل آخر أجنبي عن الأمر في الوقت.
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 45.

ــ[140]ــ

وأمّا تقديم إدراك ركعة من الوقت على غيره من الأجزاء أو الشرائط فواضح، لما عرفت من أ نّه إذا دار الأمر بين سقوط ركن وسقوط قيد آخر يسقط ذلك القيد، وحيث إنّ الوقت من الأركان فإذا دار الأمر بين سقوطه وسقوط غيره يسقط غيره لا محالة.
وبتعبير أوضح: هو أ نّا إذا ضممنا ما يستفاد من قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)(1) بضميمة الروايات الواردة في تفسيرها(2) وما يستفاد من الروايات الدالة على أنّ الصلاة لا تسقط بحال (3)، إلى قوله تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا...) إلخ (4) فالنتيجة هي وجوب الاتيان بالأركان ـ التي هي حقيقة الصلاة ـ في الوقت مطلقاً، أي سواء أكان المكلف متمكناً من الاتيان بالبقية فيه أم لم يتمكن من ذلك، فلا يمكن أن تزاحم بقية الأجزاء والشرائط الأركان في الوقت، لا في تمامه ولا في جزئه، ضرورة أنّ في صورة العكس أعني تقديم البقية على الوقت لا صلاة لنتمسك بدليل لا تسقط الصلاة بحال أو نحوه. ومن هنا قلنا إنّه لا موضوع للتعارض أو التزاحم في مثل هذا الفرض، وأنّ التقديم فيه لا يكون مبتنياً على كون هذه الموارد من مـوارد التزاحم أو التعارض، بل هو بملاك آخر لا بملاك إعمال قواعـد باب التزاحم أو التعارض، ولذا لا بدّ من الالتزام بهذا التقديم على كل من القولين.
وبذلك يظهر أنّ ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) في المقام من جعل
ـــــــــــــــــــــ
(1) الإسراء 17: 78.
(2) الوسائل 4: 156 / أبواب المواقيت ب 10.
(3) الوسائل 2: 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5.
(4) المائدة 5: 6.

 
 

ــ[141]ــ

التقديم فيه مبتنياً على إعمال قواعد التزاحم غير صحيح.
وأمّا الفرع الرابع: وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط إدراك تمام الركعات في الوقت وسقوط قيد آخر، فقد ذكر (قدس سره) أ نّه يسقط إدراك تمام الركعات في الوقت، إلاّ السورة فانّها تسقط بالاستعجال والخوف.
أقول: الأمر بالاضافة إلى السورة كذلك، لما عرفت من أنّ دليلها من الأوّل مقيّد بغير صورة الاستعجال والخوف، فلا تكون واجبة في هذه الصورة. هذا لو قلنا بوجوبها، وإلاّ فهي خارجة عن محل الكلام رأساً. وأمّا بالاضافة إلى غيرها من الأجزاء أو الشرائط فلا يمكن المساعدة عليه، والوجه في ذلك ما أشرنا إليه من أنّ الركن هو الوقت الذي يسع لفعل الأركان خاصة، وأ نّه مقوّم لحقيقة الصلاة فتنتفي الصلاة بانتفائه، وأمّا الزائد عليه الذي يسع لبقية الأجزاء والشرائط فليس بركن، وقد استفدنا ذلك من ضم هذه الآية أعني قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاَةَ...) إلخ، إلى قوله تعالى (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ...) إلخ بضميمة ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال.
وعلى ذلك فإذا دار الأمر بين سقوط تمام الوقت الذي يسع للأركان، وسقوط جزء أو شرط آخر، فالحال فيه كما تقدّم، يعني أ نّه يسقط ذلك الجزء أو الشرط لا محالة، سواء أقلنا بالتعارض في أمثال المورد أم بالتزاحم.
وأمّا إذا دار الأمر بين سقوط بعض ذلك الوقت وسقوط قيد آخر، فأيضاً يسقط ذلك القيد، والوجه في ذلك: هو أ نّا إذا ضممنا ما يستفاد من قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) إلى قوله تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا...) إلخ، وإلى أدلة بقية الأجزاء والشرائط مع أدلة بدليتها،

ــ[142]ــ

بضميمة ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال، فالنتيجة هي وجوب الاتيان بالصلاة في الوقت المحدد لها، وأ نّها لا تسقط، سواء أكان المكلف متمكناً من الاتيان ببقية الأجزاء والشرائط فيه أم لم يتمكن من ذلك، غاية الأمر مع التمكن منها يجب الاتيان بها فيه أيضاً، وإلاّ فتسقط. مثلاً مع التمكن من الطهارة المائية يجب الاتيان بالصلاة في الوقت المزبور معها، ومع عدم التمكن منها ولو من جهة ضيق الوقت يجب الاتيان بها فيه مع الطهارة الترابية، وكذا مع التمكن من طهارة الثوب أو البدن يجب الاتيان بالصلاة في وقتها معها، ومع عدم التمكن منها ولو من ناحية ضيق الوقت يجب الاتيان بها فيه عارياً أو في الثوب المتنجس على الخلاف في المسألة.
وعلى الجملة: فقد استفدنا من ضم بعض تلك الأدلة إلى بعضها الآخر على الشكل المتقدِّم أنّ وجوب الاتيان بالصلاة التي هي عبارة عن الأركان في الوقت المعـيّن لها أمر مفروغ عنه وأ نّه لا يسقط، كان المكلف متمكناً من الاتيان بالبقية فيه أم لم يتمكن، فلا يمكن أن تزاحم البقية وقت الأركان، لاتمامه كما عرفت ولا بعضه.
وأمّا ما ورد في موثقة عمار من أنّ من صلّى ركعة في الوقت فليتم وقد جازت صلاته (1) فلا يدل إلاّ على بدلية إدراك ركعة في الوقت عن إدراك تمام الركعات فيه، فيما إذا لم يتمكن المكلف من إدراك التمام فيه أصلاً، بمعنى أ نّه لا يتمكن منه، لا مع الطهارة المائية ولا مع الطهارة الترابية ولا مع طهارة البدن أو الثوب ولا مع نجاسته أو عارياً. وأمّا من تمكن من إدراك التمام فيه في الثوب
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 4: 217 / أبواب المواقيت ب 30 ح 1 (مع اختلاف).

ــ[143]ــ

النجس أو عارياً، أو مع الطهارة الترابية، فلا يكون مشمولاً للحديث.
ومن هنا قلنا إنّ الحديث يختص بالمضطر وبمن لم يتمكن من إدراك تمامها في الوقت أصلاً، فالشارع جعل له إدراك ركعة واحدة في الوقت بمنزلة إدراك تمام الركعات فيه إرفاقاً وتوسعةً له، فلا يشمل المختار والمتمكن من إدراك تمام الركعات فيه كما فيما نحن فيه. نعم، لو أخّر الصلاة باختياره إلى أن ضاق الوقت بحيث لم يبق منه إلاّ بمقدار إتيان ركعة واحدة فيه فيشمله الحديث باطلاقه، وإن كان عاصياً من جهة تأخير مقدار من الصلاة عن الوقت، ضرورة أ نّه لم يكن في مقام بيان التوسعة والترخيص للمكلفين في تأخير صلواتهم اختياراً إلى أن لا يبقى من الوقت إلاّ بمقدار إدراك ركعة واحدة فيه، وجعل إدراك تلك الركعة الواحدة بمنزلة إدراك تمام الركعات، وقد ذكرنا أنّ الحديث ظاهر في هذا المعنى بمقتضى الفهم العرفي.
فالنتيجة من ذلك: هي أنّ الموثقة لا تدل على بدلية إدراك ركعة واحدة في الوقت عن إدراك تمام الركعات فيه على الاطلاق، بل تدل على بدلية ذلك عنه لخصوص المضطر وغير المتمكن مطلقاً، وبما أنّ في المقام يتمكن المكلف من إدراك التمام فيه، فلا يكون مشمولاً لها، فإذن يتعين ما ذكرناه وهو تقديم إدراك تمام الركعات في الوقت على بقية الأجزاء أو الشرائط في موارد عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما، ولا يفرق في ذلك بين القول بالتعارض في هذه الموارد والقول بالتزاحم فيها، لفرض أنّ هذا التقديم غير مستند إلى إعمال قواعد هذا الباب أو ذاك، بل هو بملاك آخر كما عرفت، ولا يفرق فيه بين القولين أصلاً. فما أفاده (قدس سره) من أ نّه يسقط إدراك تمام الركعات في الوقت دون القيد الآخر، لا يمكن المساعدة عليه.
ثمّ إنّه لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ الأدلة المتقدمة لا تدل على ما ذكرناه،

ــ[144]ــ

وأ نّه لا يستفاد من مجموعها ذلك، فإذن على القول بالتعارض في تلك الموارد تقع المعارضة بين الدليل الدال على وجوب إدراك تمام الركعات في الوقت، والدليل الدال على وجوب ذلك القيد المزاحم له، فيرجع إلى قواعد بابها.
ولكن قد ذكرنا في محلّه (1) أنّ التعارض إذا كان بين إطلاق الكتاب وإطلاق غيره، فيقدّم إطلاق الكتاب عليه، وذلك لما استظهرناه من شمول الروايات الدالة على طرح الأخبار المخالفة للكتاب أو السنّة ما إذا كانت المخالفة بين إطلاقه وإطلاق غيره على نحو العموم والخصوص من وجه، فلا تختص الروايات بالمخالفة بينهما على وجه التباين، أو المخالفة بين العامين منهما على نحو العموم والخصوص من وجه، بل تعمّ المخالفة بينهما على نحو الاطلاق، بأن يكون إطلاق أحدهما مخالفاً لاطلاق الآخر، وبما أنّ فيما نحن فيه تقع المعارضة بين إطلاق الكتاب وهو قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)(2) وإطلاق غيره، وهو أدلة سائر الأجزاء أو الشرائط، فيقدّم إطلاق الكتاب عليه.
فالنتيجة: هي تقديم إدراك تمام الركعات في الوقت على إدراك جزء أو شرط آخر.
وعلى القول بالتزاحم فيها تقع المزاحمة بينهما، أي بين وجوب هذا ووجوب ذاك، فيرجع إلى مرجحاته من الأهمّية والأسبقية ونحوهما.
أمّا الأهمّـية، فالظاهر أ نّه لا طريق لنا إلى إحراز أنّ وجوب إدراك تمام الركعات في الوقت أهم من إدراك هذا القيد، لما عرفت من أ نّه إذا دار الأمر بين
ـــــــــــــــــــــ
(1) [ لاحظ مصباح الاُصول 3: 517 حيث يظهر خلافه ].
(2) الإسراء 17: 78.

ــ[145]ــ

سقوط جزء أو شرط وسقوط المرتبة الاختيارية من الركن، فلا يمكن الحكم بتقديم تلك المرتبة عليه، بدعوى كونها أهم منه، ضرورة أ نّه لا طريق لنا إلى إحراز ذلك، ولا دليل على كونها أهم منه، والأهم إنّما هو طبيعي الركن الجامع بين جميع المراتب، لا كل مرتبة منه، وفي المقام الركن هو طبيعي الوقت الجامع بين البعض والتمام، وأمّا تمامه فهو مرتبته الاختيارية، فلا دليل على كون تلك المرتبة أهم من الجزء أو الشرط الآخر، والأهم إنّما هو الجامع بينها وبين غيرها من المراتب.
وأمّا الأسبقية، فلا مانع من الترجيح بها في أمثال المقام، وذلك لما تقدّم(1) من أنّ الأسبق زماناً يتقدّم على غيره، فيما إذا كان التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً، والمفروض أنّ ما نحن فيه كذلك، فإذن لو دار الأمر بين إدراك جزء سابق كفاتحة الكتاب مثلاً، وإدراك الركعة الأخيرة في الوقت، بأن لا يتمكن المكلف من الجمع بينهما، فلو أتى بفاتحة الكتاب فلا يتمكن من إدراك تلك الركعة في الوقت، ففي مثله لا مانع من تقديم فاتحة الكتاب عليه من جهة سبقها زماناً، وقد عرفت أنّ الأسبق زماناً يتقدّم على غيره في مقام المزاحمة في أمثال المقام أيضاً، وكذا إذا دار الأمر بين تطهير البدن أو الثوب مثلاً وإدراك الركعة الأخيرة في الوقت، أو بين الطهارة المائية وإدراك تلك الركعة فيه، بحيث لو غسل ثوبه أو بدنه، أو لو توضأ أو اغتسل فلا يتمكن من إدراكها في الوقت، فيقدّم الصلاة في البدن أو الثوب الطاهر عليه، لما عرفت من أنّ الأسبق زماناً يتقدّم على غيره، وكذا الصلاة مع الطهارة المائية.
نعم، إذا لم يكن القيد المزاحم له سابقاً عليه زماناً، كما لو دار الأمر بين
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 45.

ــ[146]ــ

التسبيحات الأربع والأذكار الواجبة في الركعة الأخيرة، وبين إدراك تلك الركعة في الوقت، بحيث لو أتى بالاُولى فقد فات عنه وقتها، ولا يتمكن من إدراكها فيه، ففي مثله لا وجه لتقديمها عليه، كما هو واضح. فإذن ما أفاده (قدس سره) من سقوط إدراك تمام الركعات في الوقت دون القيد المزاحم له لا يتم على إطلاقه كما عرفت.
وأمّا الفرع الخامس: وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط الأجزاء وسقوط الشرائط، فقد ذكر (قدس سره) أ نّه تسقط الشرائط لتأخر رتبتها عن الأجزاء.
أقول: إنّ الشرط بمعنى ما تقيد الواجب به وإن كان متأخراً عنه رتبةً، ضرورة أنّ تقيد شيء بشيء فرع ثبوته، إلاّ أ نّا قد ذكرنا غير مرّة أ نّه لا أثر للتقدّم أو التأخر الرتبي في باب الأحكام الشرعية أصلاً، فانّها تتعلق بالموجودات الزمانية لا بالرتب العقلية، بل لو تعلقت بها فأيضاً لا يكون الأسبق رتبة كالأسبق زماناً مقدّماً على غيره في مقام المزاحمة، لأنّ ملاك تقديم الأسبق على غيره ـ وهو كون التكليف المتعلق به فعلياً دون التكليف المتعلق بغيره ـ غير موجود هنا، لفرض أنّ التكليف المتعلق بالمتقدم والمتأخر الرتبيين كليهما فعلي في زمان واحد، فلا موجب عندئذ لتقديم أحدهما على الآخر، كما هو واضح. وأمّا اعتبار شيء شرطاً فلا يكون متأخراً عن اعتبار شيء جزءاً ومتفرعاً على ثبوته.
نعم، اعتبار الجميع متأخر عن اعتبار الأركان ومتفرع على ثبوته كما سبق. وأمّا اعتبار الشرطية بالاضافة إلى اعتبار الجزئية فلا تقدّم ولا تأخّر بينهما، بل هما في عرض واحد، والسر فيه ما تقدّم من أنّ الصلاة اسم للأركان، والبقية من الأجزاء والشرائط قد اعتبرت فيها بأدلتها الخاصة في ظرف متأخر عنها،

ــ[147]ــ

ولذا لا تسقط الأركان بسقوطها، وليست حال الشرائط بالاضافة إلى الأجزاء كحالها بالاضافة إلى الأركان، ومن هنا تسقط الشرائط بسقوط الأركان، ولا تسقط بسقوط سائر الأجزاء.
فما ذكره (قدس سره) من كون الشرائط متأخرة عن الأجزاء يبتني على نقطة واحدة، وهي كون الصلاة اسماً لجميع الأجزاء فقط، والشرائط جميعاً خارجة عنها وقد اعتبرت فيها، فعندئذ لا محالة يكون اعتبارها في ظرف متأخر عن اعتبار تلك ومتفرّعاً عليه، إلاّ أ نّك عرفت أنّ تلك النقطة خاطئة وغير مطابقة للواقع، وأنّ الصلاة موضوعة للأركان فقط، والبقية جميعاً خارجة عن حقيقتها ومعتبرة فيها بدليل خارجي، من دون فرق في ذلك بين الأجزاء والشرائط أصلاً، فلا يكون اعتبارها متفرّعاً على اعتبار الأجزاء، بل هو في عرض اعتبارها، غاية الأمر اعتبار الأجزاء في الأركان بنحو الجزئية واعتبارها فيها بنحو القيدية.
فإذن لا وجه لما أفاده (قدس سره) من تقديم الأجزاء على الشرائط أصلاً، بل لا بدّ على هذا القول ـ أي القول بالتزاحم ـ من الرجوع إلى مرجحاته من الأهمّية والأسبقية، فما كان أهم يتقدّم على غيره، فلا فرق بين كونه جزءاً أو شرطاً، وكذا ما كان سابقاً زماناً يتقدّم على غيره ولو كان شرطاً، مثلاً الطهارة المائية من جهة السبق الزماني تتقدّم على فاتحة الكتاب مثلاً أو على الركوع الاختياري أو نحو ذلك في موارد عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما، وكذا طهارة البدن أو الثوب تتقدّم عليها بعين ذلك المرجّح والملاك.
وأمّا على القـول بالتعارض فيها، فإن كان التعارض بين دليلي الجزء والشرط بالعموم، فيرجع إلى مرجّحات الباب من موافقة الكتاب أو السنّة ومخالفة العامة، إلاّ إذا كان أحدهما من الكتاب أو السنّة فيقدّم على الآخر،

ــ[148]ــ

وأمّا إذا كان التعارض بينهما بالاطلاق كما هو الغالب، فإن كان أحدهما من الكتاب أو السنّة والآخر من غيره، فيقدّم الأوّل على الثاني على بيان تقدّم، وإلاّ فيسقط كلا الاطلاقين معاً فيرجع إلى الأصل العملي ومقتضاه عدم اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك، فالنتيجة هي اعتبار أحدهما، وقد سبق الكلام من هذه الناحية بشكل واضح فلاحظ (1).
وأمّا الفرع السادس: وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط أصل الشرط وسقوط قيده، كما إذا دار الأمر بين سقوط أصل الساتر في الصلاة وسقوط قيده وهو الطهارة، فقد ذكر (قدس سره) أ نّه يسقط قيده، لتأخر رتبته.
أقول: ينبغي لنا أن نستعرض هذا المورد وما شاكله على نحو ضابط كلّي، بيان ذلك: هو أنّ القيد ـ سواء أكان قيداً للشرط أو للجزء أو للمرتبة الاختيارية من الركن أو له بتمام مراتبه ـ لا يخلو من أن يكون مقوّماً للمقيد بحيث ينتفي بانتفائه، وأن يكون غير مقوّم له، مثال الأوّل القيام المتصل بالركوع، فانّه مقوّم للمرتبة الاختيارية منه، مثال الثاني اعتبار الطهارة في الستر، والطمأنينة في الركوع والسجود والأذكار والقراءة وما شاكل ذلك، فانّ شيئاً منها لا ينتفي بانتفاء هذا القيد، فلا ينتفي الستر بانتفاء الطهارة، ولا الركوع والسجود بانتفاء الطمأنينة وهكذا، وبعد ذلك نقول:
أمّا القسم الأوّل، فلا شبهة في أنّ انتفاءه يوجب انتفاء المقيد، فلا وجه لدعوى كون الساقط هو خصوص القيد، ضرورة أ نّه مقوّم له، فكيف يعقل بقاؤه مع انتفائه، كما هو واضح. وعليه فإذا كان المتعذر هو خصوص هذا القيد، كالقيام المتصل بالركوع مثلاً، فلا محالة يسقط المقيد به. وأمّا إذا كان
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ص 106 وما بعدها.

ــ[149]ــ

الأمر دائراً بين سقوطه وسقوط جزء أو شرط آخر أو قيد مقوّم له، فتجري فيه الأقسام المتقدمة بعينها، لفرض أنّ الأمر في هذه الصور في الحقيقة دائر بين سقوط جزء وجزء آخر أو شرط كذلك وهكذا، فلا حاجة إلى الاعادة.
وأمّا القسم الثاني، وهو ما إذا كان القيد غير مقوّم، فلا وجه لسقوط المقيد أصلاً، والوجه في ذلك واضح، وهو أنّ معنى «لا تسقط الصلاة بحال» هو أنّ الأجزاء والشرائط المقدورة للمكلف لاتسقط عنه بسقوط ما هو المتعذر، فيجب عليه الاتيان بهما، والمفروض أنّ المقيد في محل الكلام مقدور له، فلا يسقط بمقتضى ما ذكرناه، والساقط إنّما هو قيده، لتعذره.
وعلى الجملة: فمقتضى القاعدة وإن كان السقوط، إلاّ أ نّه بعد ما دلّ الدليل على أنّ الصلاة لا تسقط بحال، فلا وجه لسقوطه أصلاً، ضرورة أنّ المستفاد منه هو أنّ الأجزاء والشرائط الباقية المقدورة لا تسقط بتعذّر قيد من قيودهما. وعليه ففي الفرع المزبور لا وجه لسقوط أصل الساتر أصلاً، والساقط إنّما هو قيده، وهو كونه طاهراً. وهذا هو وجه عدم سقوط أصل الساتر، لا ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) من التعليل بكون قيده متأخراً عنه رتبة، وذلك لما عرفت من أ نّه لا أثر للتأخر الرتبي ولا لتقدّمه أصلاً، ولا سيّما في المقام كما سبق بشكل واضح فلا نعيد، وكيف كان، فلا إشكال في عدم السقوط، ومن هنا قوّينا في هذا الفرع (2) وجوب الصلاة في الثوب المتنجس لا عارياً، على خلاف المشهور. هذا مضافاً إلى أ نّه مقتضى النصوص الواردة في المقام، وتمام الكلام في محلّه.
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 50.
(2) شرح العروة 3: 358 وما بعدها.

ــ[150]ــ

وأمّا الفرع السابع: وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط قيد اعتبر في الركن، وسقوط قيد اعتبر في غيره، كما إذا دار الأمر بين سقوط الطمأنينة في المرتبة الاختيارية من الركن وسقوطها في الأذكار أو القراءة، أو دار الأمر بين سقوط القيام حال التكبيرة وسقوطه حال القراءة وهكذا، فقد ذكر (قدس سره) أ نّه يسقط قيد غير الركن.
أقول: قد ظهر فساده مما تقدّم، وبيان وجه الظهور: هو أ نّه على القول بالتعارض في أمثال هذه الموارد يرجع إلى قواعده، وبما أ نّه لا ترجيح في البين فالمتعيّن هو التخيير في المقام وقيدية الجامع، لدفع اعتبار خصوصية كل منهما بأصالة البراءة.
وعلى القول بالتزاحم فيها المرجع هو مرجحاته من الأهمّية والأسبقية. والأهمّية مفقودة في المقام، ضرورة أنّ وجوب الطمأنينة في المرتبة الاختيارية من الركن ليس أهم من وجـوبها في الأذكار أو القراءة وما شاكل ذلك، لما عرفت من أنّ نفس تلك المرتبة ليست أهم من تلك الأجزاء، فضلاً عن قيدها غير المقوّم لها، فانّ الأهم إنّما هو الركن بعرضه العريض لا بكل مرتبته. مع أ نّه لو سلّمنا أنّ تلك المرتبة أهم منها، إلاّ أنّ ذلك لا يلازم أن يكون قيدها المزبور أهم من قيد تلك الأجزاء، كما هو واضح.
وأمّا الأسبقية، فإن كانت موجودة فلا بأس بالترجيح بها في هذه الموارد وعليه فتتقدّم الطمأنينة في حال القراءة على الطمأنينة في حال الركوع من جهة سبقها عليها زماناً، وكذا يتقدّم القيام حال التكبيرة على القيام حال القراءة، بل قد ذكرنا أنّ تقديم القيام في الجزء السابق على القيام في الجزء اللاّحق مقتضى النص الخاص كما سبق(1)، فلا يحتاج إلى إعمال قواعد باب التزاحم ومرجحاته.
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 121.

ــ[151]ــ

وأمّا الفرع الثامن: وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط القيام المتصل بالركوع وسقوط القيام حال القراءة، فقد ذكر (قدس سره) أ نّه يسقط القيام حال القراءة، وعلّل ذلك بكون القيام قبل الركوع بنفسه ركناً ومقوّماً للركوع، فيتقدّم على القيام فيها لا محالة، ولذا ذكر أ نّه يقدّم القيام قبل الركوع على القيام في حال التكبيرة، فانّه فيها شرط وفي الركوع مقوّم.
أقول: ما أفاده (قدس سره) بناءً على وجهة نظره من أنّ القيام المتصل بالركوع ركن بنفسه متين جداً، بمعنى أ نّه لا بدّ من تقديمه على غيره، لفرض أ نّه ليس له مرتبة اُخرى لينتقل الأمر من مرتبته الاختيارية إلى تلك المرتبة، بل هو بعنوانه ركن، وقد ذكرنا (1) أ نّه إذا دار الأمر بين سقوط ركن رأساً وسقوط قيد آخر مهما كان لونه يسقط ذلك القيد لا محالة، ضرورة أنّ في صورة العكس لا صلاة ليدل على عدم سقوطها رواية أو اجماع.
ولكن هذا المبنى فاسد جداً، وقد حققنا في محلّه (2) أنّ القيام المتصل بالركوع ليس بركن، وأنّ الأركان منحصرة بالركوع والسجود والطهور والتكبيرة والوقت، وعليه فمجرد كونه مقوّماً للمرتبة الاختيارية من الركن لا يكون موجباً لتقديمه على غيره أصلاً. أمّا على القول بالتعارض بين دليله ودليل غيره فواضح، ضرورة أ نّه على هذا لا بدّ من الرجوع إلى قواعد باب التعارض وأحكامه على الشكل الذي تقدّم. وأمّا على القول بالتزاحم فلا نحرز أنّ القيام المتصل بالركوع أهم من القيام حال القراءة أو القيام حال التكبيرة ليحكم بتقديمه عليه، بل الأمر على هذا القول بالعكس، لما ذكرناه من أنّ الأسبق
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 128.
(2) لاحظ شرح العروة 14: 168 فصل في القيام.

ــ[152]ــ

زماناً في أمثال هذه الموارد مرجح، وبما أنّ القيام حال التكبيرة أو القيام حال القراءة أسبق زماناً من القيام المتصل بالركوع، فيتقدّم عليه لا محالة، بل قد عرفت أنّ ذلك مقتضى النص الخاص، فلا يحتاج إلى إعمال مرجح أصلاً.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net