جريان الترتب في موارد اجتماع الأمر والنهي 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5116


بقي هنا شيء، وهو أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) قد أنكر جريان الترتب في موارد اجتماع الأمر والنهي بناءً على القول بالجواز ووقوع المزاحمة بينهما، وبيان ذلك: هو أ نّه لو قلنا بأنّ التركيب بينهما اتحادي كما اختاره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) (2) بدعوى أنّ تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون، فتدخل المسألة في كبرى باب التعارض، فلا بدّ من الرجوع إلى قواعد ذلك الباب.
وأمّا إن قلنا بأنّ التركيب بينهما انضمامي، بأن تكون هناك ماهيتان متعددتان ذاتاً وحقيقة، ولكن بنينا على سراية الحكم من إحداهما إلى الاُخرى، فأيضاً تدخل في ذلك الباب، وتقع المعارضة بين دليليهما، فلا بدّ من الرجوع إلى قواعدها. وأمّا إذا بنينا على عدم السراية كما هو الصحيح، فعندئذ إن كانت هناك مندوحة فلا تزاحم أيضاً، لفرض قدرة المكلف على امتثال كلا الحكمين معاً، وأمّا إذا لم تكن مندوحة في البين فتقع المزاحمة بينهما، فإذن لابدّ من الرجوع إلى مرجحات وقواعد بابها، وهذا لا كلام فيه، وإنّما الكلام في ناحية اُخرى، وهي أ نّه هل يمكن الالتزام بالترتب فيه أم لا ؟
فقد ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) أ نّه لا يمكن الالتزام بالترتب فيه، ببيان أنّ عصـيان النهي في مورد الاجتماع إمّا أن يكون باتيـان فعل مضاد للمأمور به في الخارج وهو الصلاة مثلاً، كأن يشتغل بالأكل أو الشرب أو ما شاكل ذلك، وإمّا أن يكون بنفس الاتيـان بالصلاة، وعلى كلا التقديرين
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 114 ـ 115.
(2) كفاية الاُصول: 158.

ــ[176]ــ

لا يمكن أن يكون الأمر بالصلاة مشروطاً به. أمّا على التقدير الأوّل، فلأ نّه يلزم أن يكون الأمر بأحد الضدّين مشروطاً بوجود الضد الآخر، وهذا غير معقول، لأنّ مردّه إلى طلب الجمع بين الضدّين في الخارج، لفرض أ نّه أمر بايجاد ضد على تقدير وجود ضد آخر، وأمّا على التقدير الثاني، فلأ نّه يلزم أن يكون الأمر بالشيء مشروطاً بوجوده في الخارج، وهو غير معقول، لأ نّه طلب الحاصل، كما لا يخفى.
ولكن للمناقشة فيما أفاده (قدس سره) مجال واسع، وهي أنّ المنهي عنه في المقام إنّما هو الكون في الأرض المغصوبة، لأ نّه تصرف في مال الغير حقيقةً ومصداق للغصب، ومن الواضح جداً أ نّه لا مانع من اشتراط الأمر بالصلاة على عصيان النهي عنه، كأن يقول المولى لا تكن في أرض الغير وإن كنت فيها فتجب عليك الصلاة، فيكون الأمر بالصلاة معلقاً على عصيان النهي عن الكون فيها، ولا يلزم من اشتراط أمرها بعصيانه أحد المحذورين المذكورين، أعني بهما لزوم طلب الجمع بين الضدّين، واشتراط الأمر بالشيء بوجوده وتحققه في الخارج.
والوجه في ذلك: هو أنّ لزوم المحذور الأوّل يبتني على ركيزة واحدة، وهي أن يكون الأمر بالصلاة مشروطاً بتحقق أحد الأفعال الخاصة فيها كالأكل والنوم والشرب وما شاكل ذلك، فانّ اشتراط أمرها به لا محالة يستلزم المحذور المزبور وهو طلب الجمع بين الضدّين، ضرورة أنّ مردّ هذا الاشتراط إلى تعلق الأمر بالصلاة على تقدير تحقق أحد تلك الأفعال الخاصة المضادة لها، إلاّ أنّ تلك الركيزة خاطئة جداً وليس لها واقع موضوعي، وذلك لما عرفت من أنّ الأمر بالصلاة مشروط بالكون في الأرض المغصوبة، لا بأحد تلك الأفعال الخاصة الوجودية، ولذا لو فرض خلوّ المكلف عن جميع تلك الأفعال الخاصة،

ــ[177]ــ

فمع ذلك كونه فيها تصرّف في مال الغير ومصداق للغصب.
وعلى ضوء هذا الأصل فلا مانع من تعلق الأمر بالصلاة على تقدير تحقق عصيان النهي عن الكون فيها، فاذا تحقق، تحقق الأمر بها لا محالة.
وبعبارة اُخرى: المفروض أنّ المكلف قادر على الصلاة عند كونه في الأرض المغصوبة وإن فرض كونه في ضمن أحد الأفعال المزبورة، لفرض أ نّه قادر على تركه والاشتغال بالصلاة، ومع القدرة عليها لا مانع من الأمر بها.
ومن ذلك يظهر الفرق بين اشتراط الأمر بالصلاة بالكون في الأرض المغصوبة واشتراطه بأحد الأفعال الخاصة الوجودية فيها كالأكل والشرب وما شاكلهما، وهو أنّ الأمر بالصلاة لو كان مشروطاً بأحد تلك الأفعال الخاصة المضادة لها فلا محالة يلزم محذور طلب الجمع بين الضدّين، وذلك لفرض أنّ الأمر بالصلاة عندئذ تابع لتحقق ذلك الفعل المضاد لها في الخارج حدوثاً وبقاءً، بمعنى أنّ حدوثه موجب لحدوث الأمر بها وبقاؤه موجب لبقاء الأمر بها، وعليه فلا محالة يلزم طلب الجمع بين الضدّين، وهذا بخلاف ما إذا كان مشروطاً بالكون فيها، لفرض أ نّه ليس مضاداً لها، فانّه كما يتحقق في ضمنها كذلك يتحقق في ضمن غيرها من الأفعال الوجودية، فإذن لا يلزم من اشتراط الأمر بالصلاة به المحذور المتقدم.
وسرّه ما أشرنا إليه من أ نّه إذا تحقق الكون في الأرض المغصوبة تحقق الأمر بها، ومع تحقق الأمر بها لا محالة يجب إتيانها وترك غيرها من الأفعال الخاصة، وذلك لفرض أنّ فعلية أمرها تدور مدار تحقق الكون فيها حدوثاً وبقاءً.
ولكن العجب من شيخنا الاُستاذ (قدس سره) فانّه كيف غفل عن هذه النقطة وقال: إنّ اشتراط الأمر بالصلاة بعصيان النهي عن الكون في الأرض

ــ[178]ــ

المغصوبة المتحقق في ضمن أحد الأفعال الخاصة يرجع إلى طلب الجمع بين الضدّين، مع أ نّه فرق واضح بين اشتراط الأمر بها بعصيان النهي عن الكون فيها، واشتراط الأمر بها بعصيان النهي عن أحد تلك الأفعال الوجودية، فانّ الأوّل لا يستلزم طلب الجمع دون الثاني، كما هو واضح.
وأمّا لزوم المحـذور الثاني، فهو يبتني على أن يكون الكون في الأرض المغصوبة عين الصلاة خارجاً ومتحداً معها، وهذا خلاف مفروض الكلام، فانّه فيما إذا كان لكل منهما وجود مستقل، غاية الأمر أنّ وجود أحدهما وهو الصلاة في الخارج ملازم لوجود الآخر فيه وهو الغصب، ولأجل ذلك تقع المزاحمة بينهما، وقد تقدّم أنّ مورد الاجتماع على القول بالاتحاد داخل في كبرى باب التعارض دون التزاحم. وأمّا على القول بالجواز وتعدد المجمع فحيث إنّ الكون والصلاة في مورد الاجتماع من المتلازمين اللذين لهما ثالث، فلا مانع من أن يكون الأمر بالصلاة مشروطاً بعصيان النهي عن الكون فيها، ضرورة أنّ المكلف عند الكون فيها قادر على إتيان الصلاة، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: المفروض أنّ الصلاة سائغة في نفسها وليست مبغوضة ومصداقاً للمحرّم.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي أ نّه لا مانع من تعلق الأمر بالصلاة مترتباً على عصـيان النهي عن الكون فيها بناءً على ما حـققناه من إمكان الترتب وأ نّه لا مناص من الالتزام به. وأمّا محذور اشتراط الأمر بالشيء بتحققه ووجوده في الخارج، إنّما يلزم في المقام بناءً على أن يكون الأمر بالصلاة فيها مشروطاً بالصلاة فيها، وهو من الفساد بمكان من الوضوح. نعم، لو فرض أنّ الكون في الأرض المغصوبة ملازم للصلاة خارجاً، بحيث لا يمكن تحققه فيها بدونها أصلاً، لكان مرد اشتراط الأمر بالصلاة بعصيان النهي عنه إلى ذلك لا

ــ[179]ــ

محالة، إلاّ أ نّه فرض خاطئ جداً وغير مطابق للواقع قطعاً.
ثمّ إنّه لو تنزّلنا عن ذلك وفرضنا عدم إمكان الترتب من هذا الطرف ـ أعني ترتب الأمر بالصلاة على عصيان النهي عن الكون في الأرض المغصوبة ـ إلاّ أ نّه لا مانع من الالتزام به من الطرف الآخر، وهو ترتب حرمة الكون فيها على عصيان الأمر بالصلاة وعدم الاتيان بمتعلقه في الخارج، فيما إذا كان أهم منها أو مساوياً لها، ضرورة أ نّه لا يلزم من الالتزام بالترتب في هذا الطرف أيّ محذور توهّم لزومه من الالتزام به في ذاك الطرف، وهذا واضح.
فالنتيجة قد أصبحت مما ذكرناه: أ نّه لا مانع من الالتزام بالترتب في موارد الاجتماع على القول بالجواز، بناءً على وقوع التزاحم بين الحكمين، ولكن قد ذكرنا (1) أنّ هذا ليس قسماً آخر للتزاحم، بل هو داخل في التزاحم بين الفعلين المتلازمين اتفاقاً.
نلخّص نتيجة ما ذكرناه في عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ تقسيم التزاحم إلى سبعة أقسام كما عن شيخنا الاُستاذ غير صحيح.
الثانية: أنّ الصحيح تقسيمه إلى ثلاثة أقسام كما تقدّم منّا.
الثالثة: لا فرق في جريان الترتب في الواجبين اللذين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً، بين أن يكونا عرضيين أو طوليين، وعلى التقدير الثاني لا يفرق بين أن يكون الواجب المتأخر أهم من المتقدم أو يكون مساوياً له، خلافاً لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) حيث قد منع عن جريان الترتب فيهما
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 11 وما بعدها.

ــ[180]ــ

مطلقاً، وقد استدلّ على ذلك بوجوه وقد تقدّمت المناقشة في جميع تلك الوجوه، فلاحظ.
الرابعة: أنّ الترتب لا يجري في المتلازمين اللذين يكون أحدهما محكوماً بالحرمة والآخر محكوماً بالوجوب، وكانا مما لا ثالث لهما كاستقبال القبلة واستدبار الجدي لمن سكن العراق وما سامته من البلاد.
الخامسة: أنّ الترتب يجري في المتلازمين اللذين يكون بينهما ثالث، كما في موارد اجتماع الأمر والنهي على القول بالجواز مع فرض عدم وجود مندوحة في البين، خلافاً لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) حيث قد أنكر جريان الترتب فيهما كما سبق، هذا آخر ما أوردناه في بحث الضد.
إلى هنا قد تمّ بعون الله تعالى وتوفيقه الجزء الثالث (1) من كتاب محاضرات في اُصول الفقه وستتلوه الأجزاء التالية إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــ
(1) [ حسب التجزئة القديمة ].

 
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net