سبب اقتضاء النهي ترك جميع الأفراد 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5306


وأمّا الأمر الثاني: وهو البناء، فعلى فرض تسليم الأمر الأوّل ـ وهو المبنى ـ وأنّ متعلق الطلب في طرف الأمر صرف وجود الطبيعة، وفي طرف النهي صرف تركها، فيمكن نقده على النحو التالي، وهو أ نّه لا مقابلة بين الطبيعة التي توجد بوجود فرد منها والطبيعة التي لا تنعدم إلاّ بعدم جميع أفرادها، والوجه في ذلك: هو أ نّه إن اُريد من الطبيعة الطبيعة المهملة التي كان النظر مقصوراً على ذاتها وذاتياتها فحسب، فهي كما توجد بوجود فرد منها كذلك تنعدم بعدم مثلها ـ أعني الطبيعة الموجودة كذلك ـ لأ نّه بديلها ونقيضها، لا عدم الطبيعة بعدم جميع أفرادها، ضرورة أنّ نقيض الواحد واحد، فنقيض الطبيعة الموجودة بوجود واحد لا محالة يكون عدم مثل تلك الطبيعة، كما هو واضح.

ــ[278]ــ

وإن اُريد منها الطبيعة السارية إلى تمام أفرادها ومصاديقها، فهي وإن كان يتوقف عدمها كلّياً في الخارج على عدم جميع أفرادها العرضية والطولية، إلاّ أنّ هذا من ناحية ملاحظة وجود تلك الطبيعة على نحو الانحلال والسريان إلى جميع أفرادها، ومن الواضح جداً أنّ عدم مثل هذه الطبيعة الذي هو بديلها ونقيضها لا يمكن إلاّ بعدم تمام أفرادها في الخارج، ولكن أين هذا من الطبيعة التي توجد في الخارج بوجود فرد منها، فانّ المقابل لهذه الطبيعة ليس إلاّ الطبيعة التي تنعدم بعدم ذلك الفرد، ضرورة أنّ الوجود الواحد لا يعقل أن يكون نقيضاً لعدم الطبيعة بتمام أفرادها، بل له عدم واحد وهو بديله ونقيضه. وأمّا المقابل للطبيعة التي يتوقف عدمها على عدم جميع أفرادها العرضية والطولية، هو الطبيعة الملحوظة على نحو الاطلاق والسريان إلى تمام أفرادها كذلك، لا الطبيعة المهملة التي توجد في ضمن فرد واحد.
وهذا بيان إجمالي لعدم كون الطبيعة الملحوظة على نحو توجد بايجاد فرد واحد مقابلاً للطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع أفرادها، وسيأتي بيانه التفصيلي فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وعلى هدى ذلك البيان الاجمالي قد ظهر أ نّه لا أصل لما هو المشهور من أنّ صرف وجود الطبيعة يتحقق بأوّل الوجود، وصرف تركها لا يمكن إلاّ بترك جميع أفرادها، والوجه في ذلك: هو أنّ صِرف ترك الطبيعة كصِرف وجودها، فكما أنّ صِرف وجودها يتحقق بأوّل وجود، فكذلك صرف تركها يتحقق بأوّل ترك، ضرورة أنّ المكلف إذا ترك الطبيعة في آن مّا لا محالة يتحقق صرف الترك، كما أ نّه لو أوجدها في ضمن فرد مّا يتحقق صرف الوجود، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً، وهذا لعلّه من الواضحات الأوّلية.
نعم، لو كان المطلوب في النواهي هو ترك الطبيعة مطلقاً، لا يمكن تحققه إلاّ

ــ[279]ــ

بترك جميع أفرادها في جميع الآنات والأزمنة، إلاّ أنّ الأمر كذلك في طرف الأوامر أيضاً فيما إذا كان المطلوب منها مطلق وجود الطبيعة، لا صرف وجودها، ضرورة أنّ مطلق وجودها لا يتحقق بايجاد فرد منها، بل يتوقف على إيجاد جميع أفرادها في الخارج، والسر فيه ظاهر، وهو وضوح الفرق بين أن يكون المطلوب في النهي صرف ترك الطبيعة وفي الأمر صرف وجودها، وأن يكون المطلوب في الأوّل مطلق ترك الطبيعة وفي الثاني مطلق وجودها، فانّ صرف الترك وصرف الوجود يتحقق بأوّل ترك وأوّل وجود كما هو واضح.
وهذا بخلاف مطلق الترك ومطلق الوجود، فانّهما لا يتحققان بأوّل ترك وأوّل وجود، بل الأوّل يتوقف على ترك أفراد الطبيعة تماماً، والثاني يتوقف على إيجاد أفرادها كذلك.
وبكلمة اُخرى: أنّ متعلق الترك ومتعلق الوجود إن كان الطبيعة المهملة فطبعاً يكون المطلوب في النهي هو صرف تركها وفي الأمر صرف وجودها، وقد عرفت أنّ الأوّل يتحقق بأوّل ترك والثاني بأوّل وجود، وإن كان المتعلق الطبيعة المطلقة السارية فلا محالة يكون المطلوب في الأوّل هو مطلق تركها وفي الثاني مطلق وجودها، وعليه فلا محالة ينحل المطلوب بحسب الواقع ونفس الأمر إلى مطلوبات متعددة بانحلال أفراد تلك الطبيعة، فيكون ترك كل فرد منها مطلوباً مستقلاً، كما أنّ وجود كل فرد منها كذلك، فإذن لا محالة حصول المطلوب على الأوّل يتوقف على ترك جميع أفرادها العرضية والطولية، وعلى الثاني يتوقف على إيجاد جميعها كذلك.
فالنتيجة قد أصبحت من ذلك: أنّ المقابل لصرف الوجود هو صرف الترك وهو عدمه البديل له ونقيضه، لا مطلق الترك فانّه ليس عدمه البديل له ونقيضه، ضرورة أنّ نقيض الواحد واحد لا اثنان، والمقابل لمطلق الوجود هو

ــ[280]ــ

مطلق الترك، فانّه عدمه البديل له ونقيضه لا صرف الترك، ضرورة أنّ الواحد لا يعقل أن يكون نقيضاً للمتعدد، وهذا ظاهر.
وعلى ضوء هذا البيان نسأل المشهور عن سبب اكتفائهم في طرف الأمر بايجاد فرد واحد من الطبيعة، بدعوى أنّ المطلوب فيه هو صرف الوجود وهو يتحقق بأوّل وجود، وعدم اكتفائهم في طرف النهي بأوّل ترك، مع أ نّهم التزموا بأنّ المطلوب فيه هو صرف الترك، فانّ سبب ذلك ليس هو الوضع لما تقدّم من أنّ مقتضاه في كل من الأمر والنهي على نسبة واحدة، فلا مقتضي لأجل ذلك أن يفرق بينهما، فانّ مفادهما عندهم بحسب الوضع ليس إلاّ الدلالة على الطلب، غاية الأمر أنّ متعلقه في الأمر الوجود وفي النهي الترك، ولذا قالوا باشتراكهما في المعنى الموضوع له من هذه الجهة. وأمّا العقل فقد عرفت أ نّه يحكم بخلاف ذلك، فانّه كما يحكم بأنّ صرف الوجود يتحقق بأوّل وجود كذلك يحكم بأنّ صرف الترك يتحقق بأوّل ترك، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.
نعم، الذي لا يمكن تحققه بأوّل الترك هو مطلق الترك، إلاّ أ نّك عرفت أ نّهم لا يقولون بأنّ المطلوب في النواهي مطلق الترك، بل يقولون بأنّ المطلوب فيها هو صرف الترك، وقد مرّ أنّ العقل يحكم بأ نّه لا مقابلة بين مطلق الترك وصرف الوجود، والمقابلة إنّما هي بينه وبين مطلق الوجود لا صرفه، فانّ المقابل له ـ صرف الوجود ـ صرف الترك، فإذن لا يرجع ما هو المشهور إلى معنىً محصّل أصلاً.
ولعل منشأ تخيّلهم ذلك الغفلة عن تحليل نقطة واحدة، وهي الفرق بين صرف الترك ومطلق الترك، ولكن بعد تحليل تلك النقطة على ضوء ما بيّناه قد ظهر بوضوح خطأ نظريتهم، وأ نّه لا مبرّر لها أبداً.

 
 

ــ[281]ــ

إلى هنا قد تبيّن بطلان المبنى والبناء معاً، وأ نّه لا يمكن الالتزام بشيء منهما، هذا.
الذي ينبغي أن يقال في هذا المقام هو: أنّ سبب اقتضاء النهي حرمة جميع أفراد الطبيعة المنهي عنها الدفعية والتدريجية وعدم صحة الاكتفاء في امتثاله بترك فرد مّا منها، وسبب اقتضاء الأمر إيجاد فرد مّا من الطبيعة المأمور بها دون الزائد، إحدى نقطتين:
الاُولى: اختلاف الأمر والنهي من ناحية المبدأ.
الثانية: اختلافهما من ناحية المنتهى.
أمّا النقطة الاُولى: فلأنّ النهي بما أ نّه ينشأ عن مفسدة لزومية في متعلقه وهي داعية إلى إنشائه واعتباره، فهي غالباً تترتب على كل فرد من أفرادها في الخارج، ويكون كل منها مشتملاً على مفسدة مغايرة لمفسدة اُخرى، ومن الواضح جداً أنّ لازم هذا هو انحلال النهي بانحلال أفراد الطبيعة المنهي عنها، وذلك على وفق ما هو المرتكز في أذهان العرف والعقلاء والفهم العرفي من النواهي، وهذا بخلاف ما إذا فرض أنّ المفسدة قائمة بصرف وجودها أو بمجموع وجوداتها، أو بعنوان بسيط متحصّل من هذه الوجودات في الخارج، فإن فهم ذلك يحتاج إلى بيان من المولى ونصب قرينة تدل عليه، وأمّا إذا لم تكن قرينة على قيامها بأحد هذه الوجوه، فالاطلاق في مقام الاثبات كما عرفت قرينة عامة على قيامها بكل فرد من أفراد تلك الطبيعة.
وعلى هدى ذلك فإذا نهى المولى عن طبيعة ولم ينصب قرينةً على أنّ المفسدة قائمة بصرف وجودها حتّى لا تكون مفسدة في وجودها الثاني والثالث وهكذا، أو قائمة بمجموع وجوداتها وأفرادها على نحو العموم المجموعي، أو

ــ[282]ــ

بعنوان بسيط متحصّل منها، كان الارتكاز العرفي ولو من ناحية الغلبة المزبورة قرينة على أنّ النهي تعلق بكل فرد من أفرادها، وأنّ المفسدة قائمة بتلك الطبيعة على نحو السريان والانحلال، فيكون كل واحد منها مشتملاً عليها.
وبكلمة واضحة: أنّ قيام مفسدة بطبيعة يتصوّر في مقام الثبوت على أقسام:
الأوّل: أن تكون قائمة بصرف وجود الطبيعة، ولازم ذلك هو أنّ المنهي عنه صرف الوجود فحسب، فلو عصى المكلف وأوجد الطبيعة في ضمن فرد مّا، فلا يكون وجودها الثاني والثالث وهكذا منهياً عنه أصلاً.
الثاني: أن تكون قائمة بمجموع أفرادها على نحو العموم المجموعي، فيكون المجموع محرّماً بحرمة واحدة شخصية، ولازم ذلك هو أنّ المبغوض ارتكاب المجموع، فلا أثر لارتكاب البعض.
الثالث: أن تكون قائمة بعنوان بسيط مسبب من تلك الأفراد في الخارج.
الرابع: أن تكون قائمة بكل واحد من أفرادها العرضية والطولية، هذا كلّه بحسب مقام الثبوت.
وأمّا بحسب مقام الاثبات، فلا شبهة في أنّ إرادة كل واحد من الأقسام الثلاثة الاُولى تحتاج إلى نصب قرينة تدل عليها وعناية زائدة، وأمّا إذا لم تكن قرينة في البين على أنّ المراد من النهي المتعلق بطبيعة النهي عن مجموع أفرادها بنحو العموم المجموعي أو عن صرف وجودها في الخارج أو عن عنوان بسيط متولد عنها، كان المرتكز منه في أذهان العرف والعقلاء هو النهي عن جميع أفرادها بنحو العموم الاستغراقي، وعليه فيكون كل فرد منها منهياً عنه باستقلاله مع قطع النظر عن الآخر.
وعلى الجملة: فلا إشكال في أنّ إرادة كل من الأقسام المزبورة تحتاج إلى

ــ[283]ــ

عناية زائدة فلا يتكفلها الاطلاق في مقام البيان، وهذا بخلاف القسم الأخير، فانّ إرادته لا تحتاج إلى عناية زائدة، فيكفي الاطلاق المزبور في إرادته.
ومن هنا لا شبهة في ظهور النواهي الواردة في الشريعة المقدّسـة بمقتضى الفهم العرفي في الانحلال، كالنهي عن شرب الخمر والزنا والغيبة والكذب والغصب وسبّ المؤمن وما شاكل ذلك، ولأجل هذا قلنا إنّ التكاليف التحريمية غالباً بل دائماً تكاليف انحلالية، فتنحل بانحلال موضوعها مرّةً كما في النهي عن شرب الخمر مثلاً أو نحوه، فانّه ينحل بانحلال موضوعه في الخارج وهو الخمر ويتعدد بتعدده، وبانحلال متعلقها مرّةً اُخرى كما في النهي عن الكذب مثلاً أو الغيبة أو ما شاكل ذلك مما لا موضوع له، فانّه ينحل بانحلال متعلقه في الخارج، وبانحلال كليهما معاً كما في مثل النهي عن سبّ المؤمن أو نحوه، فانّه كما ينحل بانحلال موضوعه وهو المؤمن كذلك ينحل بانحلال متعلقه وهو السب ولو مع وحدة موضوعه.
فالنتيجة: هي أنّ النهي حيث إنّه ينشأ عن قيام مفسدة ملزمة في متعلقه، فالظاهر منه بمقتضى الفهم العرفي هو ترتب تلك المفسدة على كل فرد من أفراده، وبذلك ينحل النهي إلى نواه متعددة بانحلال موضوعه أو متعلقه.
هذا تمام الكـلام في النهي وفي منشأ انحلاله. وأمّا الأمر فهو على عكس النهي، والوجه فيه: هو أنّ الأمر بما أ نّه ينشأ عن قيام مصلحة ملزمة في متعلقه ـ وهي داعية إلى انشائه واعتباره ـ فلا محالة مقتضى الاطلاق فيه في مقام الاثبات وعدم التقييد بخصوصية من الخصوصيات هو أنّ المصلحة قائمة بصرف وجوده لا بمطلق وجوده أينما سرى.
وبتعبير أوضح: أنّ قيام مصلحة بطبيعة في مقام الثبوت والواقع يتصور على صور:

ــ[284]ــ

الاُولى: أن تكون المصلحة قائمة بصرف الوجود.
الثانية: أن تكون قائمة بمطلق الوجود على نحو العموم الاستغراقي.
الثالثة: أن تكون قائمة بمجموع الوجودات على نحو العموم المجموعي.
الرابعة: أن تكون قائمة بعنوان بسيط متولد من هذه الوجودات الخارجية، هذا كلّه بحسب مقام الثبوت.
وأمّا بحسب مقام الاثبات، فلا شبهة في أنّ إرادة كل من الصور الثلاث الأخيرة من الأمر المتعلق بطبيعة تحتاج إلى عناية زائدة ونصب قرينة تدل على إرادته، وأمّا إذا لم تكن قرينة على إرادة إحدى هذه الصور فاطلاقه في مقام الاثبات بمقتضى الفهم العرفي وارتكازهم كان قرينةً عامةً على أنّ المراد منه هو الصورة الاُولى، وأنّ المصلحة قائمة بصرف الوجود.
والسر في ذلك: هو أنّ متعلق الأمر بما أ نّه كان الطبيعة المهملة، فلا محالة لايدل إلاّ على إيجادها في الخارج، ومن المعلوم أنّ إيجادها يتحقق بأوّل وجودها، إلاّ أن تقوم قرينة على إرادة المتعدد منها أو خصوصية اُخرى. وأمّا متعلق النهي فهو وإن كان تلك الطبيعة المهملة، إلاّ أ نّه لما كان يدل على مبغوضية وجودها في الخارج بلا قرينة على التقييد بالوجود الأوّل، أو بمجموع الوجودات، فلا محالة مقتضى الاطلاق هو مبغوضية كل وجود منها، فهذا هو السر في افتراق كل من الأمر والنهي عن الآخر.
فالنتيجة هي أنّ الأمر لا يدل إلاّ على اعتبار صرف وجود الطبيعة في ذمّة المكلف، من دون الدلالة على خصوصية زائدة عليه.
ومن هنا قلنا في بحث المرّة والتكرار (1) أ نّهما خارجان عن مفاد الأمر مادةً
ـــــــــــــــــــــ
(1) في المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 15.

ــ[285]ــ

وهيئةً، فهو كما لايدل عليهما في الأفراد الطولية كذلك لايدل على الوحدة والتعدد في الأفراد العرضية. وأمّا سبب الاكتفاء بالمرّة في مقام الامتثال فهو من جهة انطباق الطبيعة المأمور بها عليها لا من جهة دلالة الأمر على المرّة وهذا واضح.
وخلاصة هذا الفرق بين الأمر والنهي، هي أنّ المصلحة في طرف الأمر قائمة بصرف وجود الطبيعة ما لم تقم قرينة على الخلاف، ولأجل ذلك لا ينحل الأمر بانحلال أفراد الطبيعة في الواقع. وأمّا المصلحة ففي طرف النهي قائمة بمطلق وجودها، إلاّ إذا قامت قرينة على أ نّها قائمة بصرف وجودها مثلاً أو بمجموع وجوداتها وهكذا، ولذلك ينحل في الواقع بانحلالها فيثبت لكل فرد منها حكم مستقل.
ولنا أن نأخذ بالنقد على هذا الفرق من ناحيتين:
الاُولى: أنّ هذا الفرق أخص من المدّعى، فانّه لا يثبت التفرقة بين الأمر والنهي مطلقاً وعلى وجهة نظر جميع المذاهب، حيث إنّه يرتكز على وجهة نظر مذهب من يرى تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، ولا يجري على وجهة نظر مذهب من لا يرى التبعية كالأشاعرة، فإذن لا يجدي مثل هذا الفرق أصلاً.
الثانية: أنّ هذا الفرق وإن كان صحيحاً في نفسه، إلاّ أ نّه لا طريق لنا إلى إحرازه مع قطع النظر عما هو مقتضى إطلاق الأمر والنهي بحسب المتفاهم العرفي ومرتكزاتهم، وذلك لما ذكرناه غير مرّة من أ نّه لا طريق لنا إلى ملاكات الأحكام مع قطع النظر عن ثبوتها، وعلى هذا الضوء فلا يمكننا إحراز أنّ المفسدة في المنهي عنه قائمة بمطلق وجوده، والمصلحة في المأمور به قائمة بصرف وجوده، مع قطع النظر عن تعلق النهي بمطلق وجوده وتعلق الأمر بصرف وجوده، فإذن لا أثر لهذا الفرق مع قطع النظر عن الفرق الآتي، وهو أنّ قضية الاطلاق

ــ[286]ــ

في النواهي هي الانحلال وتعلق الحكم بمطلق الوجود، وفي الأوامر هي عدم الانحلال وتعلق الحكم بصرف الوجود. هذا تمام كلامنا في النقطة الاُولى.
وأمّا النقطة الثانية: وهي الفرق بينهما من ناحية المنتهى فيقع الكلام فيها في مقامين:
الأوّل: في مقام الثبوت.
والثاني: في مقام الاثبات.
أمّا المقام الأوّل: فالصحيح هو أ نّه لا فرق فيه بين الأمر والنهي، ولتوضيحه ينبغي لنا أن نقدّم مقدّمة: وهي أنّ أسماء الأجناس كما ذكرناها في بحث الوضع (1) وضعت للدلالة على الماهية المهملة، وهي الماهية من حيث هي هي التي لم يلحظ فيها أي اعتبار زائد على ذاتها وذاتياتها، فيكون النظر مقصوراً على ذاتها من دون نظر إلى أمر خارج عنها، ولأجل ذلك تكون الماهية المهملة فوق الماهية اللاّ بشرط المقسمي في الابهام والاهمال، فانّها مندمجة فيهما غاية الاندماج دون تلك الماهية ـ أعني الماهية اللاّ بشرط المقسمي ـ ضرورة أنّ النظر فيها ليس مقصوراً على ذاتها وذاتياتها، بل تلحظ فيها حيثية زائدة على ذاتها، وهي حيثية ورود الاعتبارات الثلاثة عليها ـ أعني اللاّ بشرط القسمي وبشرط لا وبشرط شيء ـ باعتبار أ نّها مجمع لتلك الاعتبارات ومقسم لها، فهذه الحيثية ملحوظة فيها ولم تلحظ في الماهية المهملة.
ثمّ إنّ لتلك الطبيعة المهملة أفراداً ومصاديق في الخارج، وهي كل ما يمكن أن تنطبق عليه هذه الطبيعة، هذا من ناحية.
ـــــــــــــــــــــ
(1) [ بل ذكره في المجلد الرابع من هذا الكتاب ص 512 ].

ــ[287]ــ

ومن ناحية اُخرى: أنّ لكل وجود عدماً مضافاً إليه وهو بديله ونقيضه، وقد برهن في محلّه أنّ نقيض الواحد واحد، فلا يعقل أن يكون الاثنان بما هما اثنان نقيضاً للواحد، ضرورة أنّ نقيض كل شيء رفع ذلك الشيء لا رفعه ورفع شيء آخر وهكذا، مثلاً نقيض الانسان رفع الانسان لا رفعه ورفع شيء آخر، فانّ رفع ذلك الشيء نقيض له لا للانسان.
نعم، قد ثبت في المنطق أنّ نقيض الموجبة الكلّية السالبة الجزئية وبالعكس، ونقيض السالبة الكلّية الموجبة الجزئية كذلك، ولكن من المعلوم أنّ هذا التناقض ملحوظ بين القضيتين والكلامين بحسب مقام الاثبات والصدق، بمعنى أنّ صدق كل منهما يستلزم كذب الآخر، مثلاً صدق الموجبة الكلّية يستلزم كذب السالبة الجزئية وبالعكس، وكذا صدق السالبة الكلية يستلزم كذب الموجبة الجزئية وبالعكس، فهما متناقضان بحسب الصدق، فلا يمكن فرض صدق كليهما معاً، كما أ نّه لا يمكن فرض كذب كليهما كذلك. وهذا هو المراد بالتناقض بينهما، ويسمّى هذا التناقض بالتناقض الكلامي.
ومن الواضح جداً أنّ هذا أجنبي عن التناقض فيما نحن فيه ـ وهو التناقض بين الوجود والعدم بحسب مقام الثبوت والواقع الموضوعي ـ ضرورة أ نّه لا يمكن أن يكون نقيض الوجود الواحد أعداماً متعددة، ونقيض العدم الواحد وجودات متعددة، وإلاّ لزم ارتفاع النقيضين، وهذا من الواضحات الأوّلية.
ومن ناحية ثالثة: أنّ وجود الطبيعي عين وجود فرده في الخارج، لوضوح أ نّه ليس للطبيعي وجود آخر في قبال وجود فرده، وقد ذكرنا في بحث تعلق الأوامر بالطبائع(1) أنّ معنى وجود الطبيعي في الخارج هو أنّ هذا الوجود الواحد الخارجي كما أ نّه مضاف إلى الفرد ووجود له حقيقةً وواقعاً، كذلك مضاف إلى
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 194.

ــ[288]ــ

الطبيعي ووجود له كذلك، وقد قلنا هناك إنّ كل وجود متشخص بنفس ذاته وهويته لا بوجود آخر، بداهة أنّ الوجود عين التشخص لا شيء وراءه.
وأمّا الأعراض الملازمة له في الوجود فهي وجودات مستقلّة في قباله، فليست من مشخصاته، وفي إطلاق المشخص عليها مسامحة واضحة، كما تقدّم ذلك بشكل واضح، فهذا الوجود كما أ نّه وجود للفرد حقيقةً وجود للطبيعي كذلك، فلا فرق بينهما إلاّ في الاعتبار وجهة الاضافة، ومن هنا صحّ القول بانّ نسبة الطبيعي إلى أفراده نسبة الآباء إلى الأولاد، لا نسبة أب واحد إلى الأولاد.
ومن ناحية رابعة: أ نّه إذا كان وجود الطبيعي في الخارج عين وجود فرده، فلا محالة يكون عدمه فيه عين عدم فرده، وهذا واضح.
ومن ناحية خامسة: كما أنّ للطبيعي وجودات متعددة بعدد وجودات أفراده، كذلك له أعدام متعددة بعدد أعدامها، لما عرفت من أنّ عدم الطبيعي عين عدم فرده وبالعكس.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي: هي أ نّه لا مقابلة بين الطبيعة الملحوظة على نحو توجد بوجود فرد منها، والطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع أفرادها، ضرورة أنّ نقيض الوجود الواحد واحد وهو عدمه البديل له، لا عدمه وعدم الفرد الثاني والثالث... وهكذا، فأوّل وجود هذه الطبيعة أوّل ناقض لعدمها، ونقيضه البديل له عدم هذا الوجود الأوّل، وهو وإن كان يستلزم بقاء أعدام بقية الأفراد على حالها، إلاّ أ نّه ليس عينها لتثبت المقابلة بين الطبيعتين المذكورتين وهذا ظاهر. وقد عرفت أنّ وجود كل فرد وجود للطبيعة وعدمه عدم لها، غاية الأمر أنّ عدمه عدم لها بنحو القضية الجزئية، فانّ عدمها بنحو القضية الكلّية بفرض عدم جميع أفرادها، وهو مقابل وجودها بهذا النحو، لا مقابل وجودها بوجود فرد منها كما لا يخفى.

ــ[289]ــ

وبكلمة واضحة: الوجود قد يضاف إلى الطبيعة المهملة وهي التي كان النظر مقصوراً على ذاتها وذاتياتها، ولم يلحظ معها حيثية زائدة على ذاتها أصلاً، وقد يضاف إلى الطبيعة المطلقة السارية إلى أفرادها ومصاديقها في الخارج. وقد يضاف إلى الطبيعة بنحو السعة والاحاطة والوحدة في الكثرة.
أمّا الصورة الاُولى: فقد تقدّم أنّ الطبيعة المهملة كما تتحقق بتحقق فرد مّا، كذلك تنتفي بانتفاء ذلك، ضرورة أنّ المقابل لهذه الطبيعة هو عدم مضاف إلى مثلها، ومن الواضح جداً أنّ عدم مثلها يتحقق بانتفاء ذلك، لوضوح أنّ كل وجود يطرد عدمه البديل له، لا عدمه وعدم غيره، فأوّل وجود لهذه الطبيعة أوّل طارد لعدمها، ومن المعلوم أنّ نقيضه وهو العدم البديل له عدم هذا الوجود الأوّل، لا عدمه وعدم سائر وجوداتها، وإن استلزم عدمه ـ أي عدم هذا الوجود الأوّل ـ بقاء أعدام سائر وجوداتها على حالها، إلاّ أ نّه ليس عينها، لاستحالة أن يكون نقيض الوجود الواحد أعدام متعددة، كما هو ظاهر.
ومن هذا البيان يظهر: فساد ما قيل من أنّ الوجود الناقض للعدم الكلّي وطارد العدم الأزلي ينطبق على أوّل الوجودات، ضرورة أ نّه أوّل ناقض للعدم الأزلي ونقيضه ـ وهو العدم البديل له ـ عدم ناقض العدم الكلّي، وهو عين بقاء العدم الكلّي على حاله، ولازم هذا هو وجود الطبيعة بوجود فرد منها، وانتفاؤها بانتفاء جميع أفرادها.
وجه الظهور: هو أنّ الطارد للعدم الأزلي المعبّر عنه بالعدم الكلّي هو الوجود الأوّل على الفرض، ومن المعلوم أنّ عدم هذا الطارد ـ أي الطارد للعدم الكلّي ـ هو عدم ذلك الوجود الأوّل، لا عدمه وعدم الوجود الثاني والثالث والرابع... وهكذا، ضرورة أنّ نقيض الواحد واحد، فلا يعقل أن يكون نقيض الواحد متعدداً، نعم عدم الوجود الأوّل يستلزم بقاء أعدام سائر الوجودات على حالها

ــ[290]ــ

لا أ نّه عينها.
ولعل منشأ هذا التوهم الغفلة عن تحليل هذه النقطة، وهي أنّ عدم الوجود الأوّل ـ الذي هو أوّل ناقض للعدم الأزلي ـ يستلزم بقاء أعدام سائر الوجودات على حالها، لا أنّ عدمه عين أعدام تلك الوجودات ليكون لازمه التقابل بين الطبيعة الموجودة بوجود واحد والطبيعة المنتفية بانتفاء جميع وجوداتها، وقد مرّ استحالة ذلك، فانّ لازم ذلك هو أن يكون نقيض الواحد متعدداً وهو محال.
فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه قد أصبحت: أ نّه لا أصل لما اشتهر في الألسنة من جعل الطبيعة الملحوظة على نحو توجد بوجود فرد منها مقابلاً للطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع أفرادها، لما عرفت من استحالة المقابلة بينهما، فانّ وجود الواحد طارد لعدم الطبيعة الموجودة في ضمنه، لا له ولعدم الطبيعة الموجودة في ضمن غيره، بداهة أنّ الوجود الواحد لا يعقل أن يكون طارداً لعدم الطبيعة المطلقة السارية إلى تمام أفرادها، كما هو واضح.
قد يقال: إنّ صرف الوجود الذي يتحقق بوجود واحد، وصرف الترك الذي لا يمكن إلاّ بانعدام الطبيعة بجميع أفرادها، إنّما هو من جهة أنّ بين الأفراد وحدة سنخية، وتلك الوحدة السنخية هي الجامع بين الوجودات والكثرات، ولا شك في حصول ذلك الجامع بحصول كل واحد من الأفراد والوجودات.
أو فقل: إنّ الوجود السعي بين الوجودات كالطبيعة اللاّ بشرط بين المفاهيم، فكما أنّ تلك الطبيعة تصدق وتنطبق على كل فرد من أفرادها، فكذلك ذلك الوجود السعي فانّه ينطبق على كل وجود من الوجودات. وهذا بخلاف ما في طرف العدم فانّ العدم الجامع عبارة عن مجموع الأعدام باضافة العدم إلى الطبيعة، لأنّ على مجموعها يصدق أ نّه عدم الطبيعة، لا على كل واحد واحد،

ــ[291]ــ

ضرورة أ نّه ليس هنا شيء واقعي يكون جامعاً بين تلك الأعدام ومنطبقاً على كل واحد منها.
وغير خفي أنّ هذا التوجيه لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً، وذلك لأ نّه إن اُريد بالوحدة السـنخية بين الوجودات الوحدة الحقيقية والذاتية فهي غير معقولة، وذلك لأنّ كل وجود مباين لوجود آخر وكل فعلية تابى عن فعلية اُخرى، ومع ذلك كيف تعقل وحدة وجودية حقيقية بينهما، وكيف يعقل اشتراك الفعليتين بالذات في فعلية ثالثة.
وإن اُريد بها الوجود السِعي الذي هو عبارة عن الوجود المضاف إلى الطبيعة مع قطع النظر عن جميع الخصوصيات والتشخصات الخارجية، فهو أمر معقول، إلاّ أنّ مثل هذا الجامع موجود بين الأعدام أيضاً وهو العدم السِعي، فانّه عدم مضاف إلى الطبيعة مع إلغاء كل خصوصية من الخصوصيات، وينطبق على كل واحد من الأعدام كانطباق الوجود السِعي على كل واحد من الوجودات، وليست وحدة الوجود السِعي وحدة حقيقية ليقال إنّه ليس بين الأعدام جامع حقيقي، لما عرفت من أنّ الجامع الحقيقي الوجودي بين الوجودات غير معقول، فلا محالة تكون وحدته وحدة بالعنوان، ولا تتعدى عن اُفق النفس إلى الخارج. إذن تصوير هذا النحو من الجامع بين الأعدام بمكان من الوضوح كما عرفت.
وعلى هذا الضوء لا فرق بين أن يكون المطلوب الوجود السِعي، وبين أن يكون المطلوب العدم السِعي، فانّ الأوّل كما ينطبق على كل فرد من الأفراد كذلك الثاني ينطبق على كل عدم من الأعدام، ولا يتوقف صدق الثاني على مجموع الأعدام كما توهّم، كيف فانّه كما يصدق على وجود كل فرد أ نّه وجود الطبيعة، كذلك يصدق على عدم كل منه أ نّه عدم الطبيعة، بداهة أنّ الوجود إذا كان وجود الطبيعة، فكيف لا يكون عدمه البديل له عدماً لها، إذن كيف يتوقف صدق عدم الطبيعة على عدم مجموع الأفراد.

ــ[292]ــ

أو فقل: إنّ عدم الطبيعة بما هو ليس عدماً آخر في مقابل الأعدام الخاصة ليقال إنّ صدق هذا العدم يتوقف على تحقق مجموع تلك الأعدام، بداهة أنّ عدم الطبيعة عين تلك الأعدام ولا مطابق له غيرها، كما أنّ وجودها ليس وجوداً آخر في مقابل الوجودات الخاصة، بل هو عين تلك الوجودات. وعلى هذا فإذا كان للطبيعة وجود واحد كان لها عدم واحد، وإذا كان لها وجودات متعددة كان لها أعدام كذلك، فالتفرقة بين وجود الطبيعة وعدمها مما لا أصل له أصلاً، وهي وإن كانت مشهورة إلاّ أ نّها مبنية على ضرب من المسامحة.
وأمّا الصورة الثانية: وهي ما إذا لوحظ الوجود مضافاً إلى الطبيعة المطلقة، فقد ظهر مما تقدّم أنّ لها أعداماً متعددة بعدد وجودات أفرادها، وكل عدم منها طارد لوجوده، لا له ولوجود غيره، وكل وجود منها طارد لعدمه، لا له ولعدم غيره، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أنّ وجود الفرد كما أ نّه عين وجود الطبيعي في الخارج، كذلك عدمه عين عدمه فيه.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أنّ الطبيعة كما توجد بوجود فرد منها كذلك تنتفي بانتفائه، لفرض أنّ انتفاء الفرد عين انتفاء الطبيعة، ولا يتوقف انتفاؤها على انتفاء جميع أفرادها. نعم، إنّ انتفاء الطبيعة المطلقة يتوقف على انتفاء جميع أفرادها، لفرض أنّ المقابل لها هو عدم مثلها، لا عدم فرد واحد منها، كما هو ظاهر.
وأمّا الصورة الثالثة: وهي الوجود المضاف إلى الطبيعة بنحو السعة والاحاطة والوحدة في الكثرة، فقد تبيّن مما تقدّم أنّ المقابل للوجود المضاف إلى الطبيعة بنحو السعة لا بنحو الكثرة والانحلال عدم مثله ـ أي العدم المضاف إلى الطبيعة كذلك ـ والمراد من الوجود السعي كما عرفت هو عدم ملاحظة خصوصية وجود فرد دون آخر فيه، بل هو مضاف إلى الطبيعة مع إلغاء كل خصوصية من

ــ[293]ــ

الخصوصيات، ولذا لا يغيب ولا يشذ عنه أيّ وجود من وجودات هذه الطبيعة وينطبق على كل وجود من وجوداتها بلا خصوصية في البين، ومن هنا يعبّر عنه بالوحدة في الكثرة، باعتبار أ نّه يلاحظ فيه جهة السعة والوحدة في هذه الكثرات.
ومقابل هذا الوجود السعي العدم السعي، وهو العدم المضاف إلى الطبيعة مع إلغاء كل خصوصية من الخصوصيات فيه، ولأجل ذلك هذا عدم لا يغيب ولا يشذ عنه أيّ عدم من أعدام هذه الطبيعة، وينطبق على كل عدم منها من دون جهة خصوصية في البين، ومن الواضح أ نّه لا يكون في مقابل هذا العدم وجود فرد منها، كما أ نّه لا يكون في مقابل هذا الوجود عدم فرد منها.
ونتيجة ما ذكرناه لحدّ الآن عدّة نقاط:
الاُولى: أ نّه لا مقابلة بين الطبيعة الملحوظة على نحو توجد بوجود فرد منها والطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع أفرادها على ضوء جميع الصور المتقدمة.
الثانية: أنّ الطبيعة الملحوظة على نحو الاطلاق والسريان في نقطة مقابلة للطبيعة الملحوظة على نحو تنعدم بانعدام جميع أفرادها، كما هو ظاهر.
الثالثة: أنّ الوجود السعي المضاف إلى الطبيعة مع إلغاء الخصوصيات في نقطة مقابلة للعدم السعي المضاف إليها كذلك.
وبعد ذلك نقول: إنّ الطبيعـة التي يتعـلق بها الحكم لا تخلو أن تكون ملحوظةً على نحو الاطلاق والسريان، أو أن تكون ملحوظةً على نحو الاطلاق والعموم البدلي، أو أن تكون ملحوظةً على نحو العموم المجموعي.
فعلى الأوّل، لا محالة ينحل الحكم بانحلال أفرادها في الواقع، فيثبت لكل

ــ[294]ــ

فرد منها حكم مستقل، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون هذا الحكم إيجابياً أو تحريمياً، كما هو واضح.
وعلى الثاني، فالحكم متعلق بفرد ما من الطبيعة المعبّر عنه بصرف الوجود ومن المعلوم أ نّه لا يفرق فيه بين أن يكون ذلك الحكم وجوبياً أو تحريمياً، ضرورة أنّ الملاك إذا كان قائماً بصرف الوجود ـ كما هو المفروض ـ فلا محالة يكون الحكم المجعول على طبقه متعلقاً به، من دون فرق بين أن يكون ذلك الملاك مصلحة أو مفسدة، غاية الأمر إن كان الحكم المزبور تحريمياً فلا يكون ارتكاب الفرد الثاني والثالث... وهكذا بعد ارتكاب الفرد الأوّل محرّماً، وهذا ظاهر.
وعلى الثالث، فالحكم متعلق بمجموع الأفراد على نحو العموم المجموعي، ولايفرق فيه أيضاً بين أن يكون ذلك حكماً وجوبياً أو تحريمياً، كما هو واضح.
وعلى الجملة: فالألفاظ وإن كانت موضوعةً للطبيعة المهملة من تمام الجهات ما عدا النظر إلى ذاتها وذاتياتها، إلاّ أنّ الشارع في مقام جعل الحكم عليها لا بدّ أن يلاحظها على أحد الأنحاء المذكور، لاستحالة الاهمال في الواقع، فلا محالة إمّا أن يلاحظها على نحو الاطلاق والسريان، أو على نحو العموم البدلي، أو المجموعي، فلا رابع لها. وعلى جميع هذه التقادير والفروض لا فرق بين الحكم التحريمي والوجوبي أصلاً.
ومن هنا يظهر أنّ الحال كذلك على وجهة نظر المشهور من أنّ المطلوب من النهي هو ترك الطبيعة، فانّه في مقام جعل الحكم عليه إمّا أن يلاحظ على نحو الاطلاق والسريان، أو على نحو العموم المجموعي، أو على نحو العموم البدلي، فلا رابع. وكذا الحال على وجهة نظر من يرى أنّ المطلوب من النهي الزجر عن الفعل.

ــ[295]ــ

فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه قد أصبحت: أ نّه لا فرق بين الأمر والنهي بحسب مقام الثبوت والواقع من هذه الناحية مطلقاً، بلا فرق بين وجهة نظرنا ووجهة نظر المشهور، هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.
وأمّا المقام الثاني: وهو مقام الاثبات والدلالة، فهو نقطة أساسية للفرق بين الأمر والنهي، والسبب النهائي لجواز الاكتفاء في الأوّل بصِرف إيجاد الطبيعة في الخارج، وعدم الاكتفاء في الثاني بصرف تركها.
بيان ذلك: هو أ نّه لا شبهة في أنّ الأمر إذا تعلق بطبيعة كالصلاة مثلاً أو نحوها، فلا يعقل أن يراد من المكلف إيجاد تلك الطبيعة بكل ما يمكن أن تنطبق عليه هذه الطبيعة في الخارج، بداهة استحالة ذلك على المكلف وأ نّه لا يقدر على إيجادها كذلك، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أنّ الأمر المتعلق بها مطلق وغير مقيد بحصة خاصة من مرّة أو تكرار أو غيرهما.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أنّ مقتضى الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة هو جواز الاكتفاء في مقام الامتثال بايجاد فرد من أفرادها أراد المكلف إيجاده في الخارج، وذلك لأ نّه بعد استحالة أن يكون المطلوب منه هو إيجاد جميع أفرادها في الخارج من العرضية والطولية، ضرورة عدم تمكن المكلف من ذلك، وتقييده بحصة خاصة منها دون اُخرى يحتاج إلى دليل يدل عليه، وحيث لا دليل في البين فلا مناص من الالتزام بأنّ قضية الاطلاق هي أنّ المطلوب صرف وجودها في الخارج.
أو فقل: إنّ المطلوب لا يمكن أن يكون جميع وجودات الطبيعة، وبعضها دون بعضها الآخر يحتاج إلى دليل، وعند فرض عدمه لا محالة كان المطلوب هو إيجادها في ضمن فرد مّا المنطبق في الخارج على أوّل وجوداتها، غاية الأمر

ــ[296]ــ

يتخير المكلف في مقام الامتثال في تطبيقها على هذا أو ذاك.
وهذا بخلاف النهي فانّه إذا ورد على طبيعة ليس المراد منه حرمان المكلف عن فرد ما منها، ضرورة أنّ الحرمان منه حاصل قهراً، فالنهي عنه تحصيل للحاصل وهو محال، هذا من جانب. ومن جانب آخر: أ نّه لم يقيد النهي عنه بحصة خاصة منها بحسب الأفراد العرضية أو الطولية.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أنّ مقتضى الاطلاق الثابت فيه بمقدّمات الحكمة هو منع المكلف وحرمانه عن جميع أفرادها الدفعية والتدريجية.
وعلى أساس هذا البيان قد تبيّن أنّ هذا الاختلاف ـ أعني الاختلاف في نتيجة مقدّمات الحكمة بين الأمر والنهي ـ ليس من ناحية اختلافهما في المتعلق، لما عرفت من أنّ متعلقهما واحد وهو نفس طبيعي الفعل، فانّه كما يكون متعلقاً للأمر كذلك يكون متعلقاً للنهي، بل إنّ ذلك إنّما كان من جهة خصوصية في تعلق الأمر والنهي به، وهذه الخصوصية هي أنّ المطلوب من الأمر بما أ نّه إيجاد الطبيعة في الخارج فلا يمكن أن يريد المولى منه إيجادها بكل ما يمكن أن تنطبق عليه هذه الطبيعة، لفرض عدم تمكن المكلف منه كذلك، فهذه الخصوصية أوجبت أن تكون نتيجة مقدّمات الحكمة فيه هي كون المطلوب إيجادها في ضمن فرد مّا المعبّر عنه بصرف الوجود. والمطلوب من النهي بما أ نّه حرمان المكلف فلا يمكن أن يراد منه حرمانه عن بعض أفرادها، لفرض أ نّه حاصل قهراً، والنهي عنه تحصيل للحاصل، فهذه الخصوصية أوجبت أن تكون نتيجة مقدّمات الحكمة فيه هي كون المطلوب حرمان المكلف عن جميع أفرادها.
وبكلمة واضحة: أنّ السبب الموضوعي لاختلاف نتيجة مقدمات الحكمة إنّما هو اختلاف خصوصيات الموارد، ففي مورد لخصوصية فيه تنتج مقدّمات

ــ[297]ــ

الحكمة الاطلاق الشمولي، وفي مورد آخر لخصوصية فيه تنتج الاطلاق البدلي، مع أنّ الموردين يكونان متحدين بحسب الموضوع والمتعلق، مثلاً في مثل قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً)(1) تنتج المقدّمات الاطلاق الشمولي، ببيان أنّ جعل الطهور لفرد مّا من الماء في العالم لغو محض فلا يصدر من الحكيم، فإذن لا محالة يدور الأمر بين جعله لكل ما يمكن أن ينطبق عليه هذا الطبيعي في الخارج، وجعله لخصوص حصة منه كالماء الكر مثلاً أو الجاري أو نحو ذلك، وحيث إنّه لا قرينة على تقييده بخصوص حصة خاصة فلا محالة قضية الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة هي إرادة الجميع، فانّ الاطلاق في مقام الاثبات كاشف عن الاطلاق في مقام الثبوت بقانون تبعية المقام الأوّل للثاني.
وأمّا في مثل قولنا: جئني بماء فتنتج المقدّمات الاطلاق البدلي، مع أنّ كلمة الماء في كلا الموردين قد استعملت في معنى واحد، وهو الطبيعي الجامع، ولكن خصوصية تعلق الحكم بهذا الطبيعي على الأوّل تقتضي كون نتيجة الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة شمولياً، وخصوصية تعلقه به على الثاني تقتضي كون نتيجته بدلياً.
وكذا نتيجة مقدّمات الحكمة في مثل قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللهُ ا لْبَيْعَ)(2)، (تِجَارَةً عَن تَرَاض)(3)، (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(4) وما شابه ذلك شمولياً، باعتبار
ـــــــــــــــــــــ
(1) الفرقان 25: 48.
(2) البقرة 2: 275.
(3) النساء 4: 29.
(4) المائدة 5: 1.

ــ[298]ــ

أنّ جعل الحكم لفرد مّا من البيع أو التجارة أو العقد في الخارج لغو محض، فلا يترتب عليه أيّ أثر. ومن المعلوم أ نّه يستحيل صدور مثله عن الحكيم، فإذن لا محالة إمّا أن يكون الحكم مجعولاً لجميع أفراد تلك الطبائع في الخارج من دون ملاحظة خصوصية في البين، وإمّا أن يكون مجعولاً لحصة خاصة منها دون اُخرى، وبما أنّ إرادة الثاني تحتاج إلى نصب قرينة تدل عليها، والمفروض أ نّه لا قرينة في البين، فإذن مقتضى الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة هو إرادة جميع أفراد ومصاديق هذه الطبائع.
وهذا بخلاف نتيجة تلك المقدّمات في مثل قولنا: بع دارك مثلاً أو ثوبك، أو ما شاكل ذلك، فانّها في مثل هذا المثال بدلي لا شمولي، مع أنّ كلمة البيع في هذا المثال والآية الكريمة قد استعملت في معنى واحد، وهو الطبيعي الجامع، ولا تدل في كلا الموردين إلاّ على إرادة تفهيم هذا الجامع، ولكن لخصوصية في هذا المثال كان مقتضى الاطلاق فيه بدلياً، وهذه الخصوصية هي عدم إمكان أن يراد من بيع الدار بيعها من كل أحد وبكلّ شيء، ضرورة أنّ العين الواحدة الشخصية غير قابلة لأن يبيعها من كل شخص وبكل صيغة في زمان واحد، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أنّ المفروض عدم تقييد بيعها من شخص خاص وفي زمان مخصوص.
فالنتيجة على ضوئهما: هي جواز بيعها من أيّ شخص أراد بيعها منه، وهذا معنى الاطلاق البدلي وكون المطلوب هو صرف الوجود.
ومن ذلك يظهر حال الأوامر المتعلقة بالطبائع، كالأمر المتعلق بالصلاة والصوم والحج وما شاكل ذلك، فانّ قضية الاطلاق الثابت فيها بمقدّمات الحكمة الاطلاق البدلي وصرف الوجود، وذلك لما عرفت من أ نّه لا يمكن أن يراد من

ــ[299]ــ

المكلف كل ما يمكن أن تنطبق عليه هذه الطبائع في الخارج، لاستحالة إرادة ذلك لأ نّه تكليف بالمحال، وإرادة بعض أفرادها دون بعضها الآخر تحتاج إلى دليل، فإذا لم يكن دليل في البين فمقتضى الاطلاق هو أنّ المطلوب واحد منها وصرف وجودها المتحقق بأوّل الوجودات. وأمّا تكرار الصلاة في كل يوم والصوم في كل سنة فهو من جهة الأدلة الخاصة، لا من ناحية دلالة الأمر عليه.
وهذا بخلاف ما إذا فرض تعلق النهي بتلك الطبائع، فانّ مقتضى الاطلاق الثابت فيها بمقدّمات الحكمة هو الاطلاق الشمولي لخصوصية في تعلق النهي بها، وهي أ نّه لا يمكن أن يريد المولى حرمان المكلف عن بعض أفرادها لأ نّه حاصل ولا معنى للنهي عنه، وإرادة حصة خاصة منها بحسب الأفراد العرضية أو الطولية تحتاج إلى دليل، وحيث إنّه لا دليل عليها فقضية الاطلاق لا محالة هي العموم الشمولي.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ مقتضى الاطلاق في الأوامر سواء أكان الاطلاق من تمام الجهات ـ أعني بالاضافة إلى الأفراد العرضية والطولية ـ أو من بعض الجهات، كما إذا كان لها إطلاق بالاضافة إلى الأفراد العرضية دون الطولية أو بالعكس، هو الاطلاق البدلي وصرف الوجود، وفي النواهي كذلك الاطلاق الشمولي.
كما أنّ الأمر كذلك في الأحكام الوضعية المتعلقة بالطبائع الكلّية كالطهارة والنجاسة ولزوم العقد وحلية البيع وما شاكل ذلك، فانّ مقتضى جريان مقدّمات الحكمة فيها هو الاطلاق الشمولي وانحلال تلك الأحكام بانحلال متعلقاتها وموضوعاتها في الخارج.

ــ[300]ــ

عدّة نقاط فيما ذكرناه:
الاُولى: أ نّه لا فرق بين الأمر والنهي بحسب مقام الثبوت والواقع كما مرّ.
الثانية: أ نّه لا فرق بينهما بحسب المتعلق، فما تعلق به النهي بعينه هو متعلق الأمر كما عرفت.
الثالثة: أنّ الأساس الرئيسي لامتياز النهي عن الأمر إنّما هو في مقام الاثبات والدلالة، حيث إنّ نتيجة مقدّمات الحكمة في طرف الأمر الاطلاق البدلي وصرف الوجود، وفي طرف النهي الاطلاق الشمولي.
الرابعة: أنّ مبدأ انبثاق هذا الامتياز إنّما هو خصوصية في نفس الأمر المتعلق بشيء والنهي المتعلق به كما سبق.
ثمّ إنّ ما ذكرناه من الاختلاف في نتيجة مقدّمات الحكمة باختلاف الخصوصيات جار في الجمل الخبرية أيضاً، فانّ نتيجة مقدّمات الحكمة فيها أيضاً تختلف باختلاف خصوصيات المورد، مثلاً في مثل قولنا: جاء رجل نتيجة تلك المقدّمات الاطلاق البدلي، وفي مثل قولنا: لا رجل في الدار نتيجتها الاطلاق الشمولي، مع أنّ كلمة الرجل في كلا المثالين قد استعملت في معنى واحد وهو الطبيعي الجامع، ولكن في كل منهما خصوصية تقتضي كون الاطلاق في أحدهما بدلياً وفي الآخر شمولياً، وبتلك الخصوصية يمتاز أحدهما عن الآخر.
وبيان ذلك: أمّا كون النتيجة في المثال الأوّل بدلياً، فلأجل أ نّه لا يمكن أن يريد المتكلم الإخبار عن مجيء كل من ينطبق عليه عنوان الرجل، لأ نّه خلاف الواقع، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أ نّه لم ينصب قرينةً على الإخبار عن مجيء شخص خاص.

 
 

ــ[301]ــ

فالنتيجة على ضوئهما: هي أنّ مقتضى الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة هو كونه أراد الاخبار عن مجيء فرد مّا من الرجل وصرف وجوده، فهذه الخصوصية أوجبت كون نتيجة المقدّمات فيه بدلياً.
وأمّا في المثال الثاني، فباعتبار أ نّه لا يمكن أن يريد منه الإخبار عن عدم وجود رجل واحد في الدار ووجود البقية فيها، بداهة أنّ هذا المعنى في نفسه غير معقول، كيف ولا يعقل وجود جميع رجال العالم في دار واحدة، هذا من جانب، ومن جانب آخر أ نّه لم يقيده بحصة خاصة دون اُخرى، فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين هي أنّ المتكلم أراد الإخبار بنفي وجود كل فرد من أفراد الرجل عن الدار، ضرورة أ نّه لو كان واحد من أفراده فيها لا يصدق قوله: لا رجل في الدار، ولصدق نقيضه.
ومن هذا القبيل أيضاً قولنا: لا أملك شيئاً، فانّ كلمة «شيء» وإن استعملت في معناها الموضوع له وهو الطبيعي الجامع بين جميع الأشياء، إلاّ أنّ مقتضى الاطلاق وعدم تقييده بحصة خاصة هو نفي ملكية كل ما يمكن أن ينطبق عليه عنوان الشيء، لا نفي فرد مّا منه ووجود البقية عنده، فانّ هذا المعنى باطل في نفسه، فلا يمكن إرادته منه.
ومن هذا القبيل أيضاً قوله (عليه السلام): «لا ضرر ولا ضرار في الاسلام»(1) وما شاكل ذلك، فانّه لا يمكن أن يراد منه نفي ضرر مّا في الشريعة المقدّسة لأ نّه لغو محض، فلا يصدر من الحكيم. فإذن لا محالة إمّا أن يراد نفي جميع أفراده أو نفي بعضها الخاصة، وحيث إنّ الثاني يحتاج إلى قرينة تدل عليه، فمقتضى الاطلاق هو الأوّل وهو إرادة نفي الجميع.
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 25: 427 / أبواب إحياء الموات ب 12.

ــ[302]ــ

وكذا قـوله تعالى: (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ)(1) وقوله (عليه السلام): «لا صلاة إلاّ بطهور» (2) وقوله (عليه السلام): «لا سهو للإمام إذا حفظ عليه مَن خلفه، ولا سهو للمأموم إذا حفظ عليهم الإمام» (3) وغير ذلك من الجملات، سواء أكانت في مقام الإخبار أو الإنشاء ـ أي سواء أكانت كلمة لا النافية بمعناها أو بمعنى النهي ـ فانّه على كلا التقديرين مقتضى الاطلاق فيها هو العموم الشمولي دون البدلي، وذلك ضرورة أ نّه لا يمكن أن يريد المولى من النفي أو النهي نفي فرد مّا أو النهي عنه، لأ نّه لغو محض فلا يصدر من الحكيم. فإذن لا محالة يدور الأمر بين أن يراد منه نفي جميع أفراد الطبيعة، أو النهي عن جميعها، أو نفي بعضها المعيّن، أو النهي عنه كذلك، وحيث إنّ إرادة الثاني تحتاج إلى قرينة، فإذا لم تكن قرينة في البين يتعيّن إرادة الأوّل لا محالة. وهذا معنى كون نتيجة مقدّمات الحكمة فيها شمولياً، وأ نّها تكشف عن الاطلاق في مقام الثبوت.
عدّة خطوط فيما ذكرناه.
الأوّل: أنّ النهي موضوع للدلالة على إبراز اعتبار المولى حرمان المكلف عن الفعل في الخارج، كما أنّ الأمر موضوع للدلالة على إبراز اعتبار المولى الفعل على ذمّة المكلف، ومن هنا يصح تفسير النهي بالحرمة والأمر بالوجوب، باعتبار دلالة الأوّل على حرمان المكلف عن الفعل، والثاني على ثبوته في ذمّته.
الثاني: أنّ حقيقة النهي هو ذلك الأمر الاعتباري، كما أنّ حقيقة الأمر
ـــــــــــــــــــــ
(1) البقرة 2: 197.
(2) الوسائل 1: 365 / أبواب الوضوء ب 1 ح 1.
(3) الوسائل 8: 239 / أبواب الخلل في الصلاة ب 24.

ــ[303]ــ

كذلك وأ نّهما اسمان للمؤلف من ذلك الأمر الاعتباري وإبرازه في الخارج بمبرز.
الثالث: أنّ متعلق النهي بعينه هو ما تعلق به الأمر، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً. وأمّا ما هو المعروف من أنّ متعلق النهي الترك ونفس أن لا تفعل فلا أصل له كما سبق.
الرابع: أنّ النقطة الأساسية للفرق بين الأمر والنهي هي أنّ نتيجة مقدّمات الحكمة في طرف الأمر الاطلاق البدلي وصرف الوجود، وفي طرف النهي الاطلاق الشمولي وتمام الوجود.
الخامس: أ نّه لا فرق بين الأمر والنهي بحسب مقام الثبوت والواقع على وجهتي كلا النظرين ـ أعني وجهة نظرنا ووجهة نظر المشهور ـ وذلك لأ نّهما لا يخلوان بحسب الواقع من أن يكونا مجعولين للطبيعة على نحو العموم البدلي أو الاستغراقي أو المجموعي فلا رابع في البين، ومن المعلوم أ نّه لا فرق بينهما من هذه النواحي أصلاً كما تقدّم.
السادس: أنّ النهي يختلف مع الأمر في المعنى الموضوع له، ويتّحد معه بحسب المتعلق على وجهة نظرنا، وأمّا على وجهة نظر المشهور فمتعلق الطلب في النهي الترك وفي الأمر الوجود. نعم، متعلق نفس الأمر والنهي معاً الفعل والوجود.
السابع: أ نّه لا فرق بين عدم الطبيعة ووجودها، فكما أنّ عدمها على نحو القضية الكلّية يتوقف على عدم جميع ما يمكن أن تنطبق عليه هذه الطبيعة في الخارج، فكذلك وجودها على هذا النحو يتوقف على وجود جميع ما يمكن انطباق تلك الطبيعة عليه، فلا فرق بينهما من هذه الجهة أصلاً. وأمّا وجودها على نحو القضية الجزئية فهو وإن تحقق بوجود فرد ما منها، إلاّ أنّ عدمها

ــ[304]ــ

كذلك أيضاً يتحقق بعدم فرد مّا منها، فلا خصوصية من هذه الجهة للوجود، بل هما من هذه الناحية على نسبة واحدة، ومن هنا قلنا إنّ مقابل كل وجود من وجودات الطبيعة عدم من أعدامها وهو بديله ونقيضه، ولذا ذكرنا أ نّه لا مقابلة بين الطبيعة التي توجد بوجود فرد منها والطبيعة التي تنتفي بانتفاء جميع أفرادها.
الثامن: أنّ نتيجة جريان مقدّمات الحكمة تختلف باختلاف خصوصيات الموارد، فانّ نتيجتها في الأوامر المتعلقة بالطبائع الاطلاق البدلي وصرف الوجود، وفي النواهي المتعلقة بها الاطلاق الشمولي وتمام الوجود. وفي الأحكام الوضعية المتعلقة بالطبائع الكلّية أيضاً ذلك، أعني الاطلاق الشمولي والانحلال.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net