الجهة الرابعة - الجهة الخامسة 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5055


الجهة الرابعة، التي أهمّ الجهات في مسألتنا هذه: قد تقدّم أنّ القول بالامتناع في المسألة يرتكز على سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به، وعلى هذا فلا محالة تقع المعارضة بين دليلي الحكمين كالوجوب

ــ[369]ــ

والحرمة مثلاً، لما عرفت من أنّ مردّ هذا القول إمّا إلى القول باتحاد المجمع حقيقةً، أو القول بسراية حكم أحد المتلازمين إلى الآخر. وعلى كلا التقديرين لا محالة يكون أحد الدليلين كاذباً في مورد الاجتماع، وذلك لاستحالة أن يكون المجمع عندئذ مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً، فإذن الأخذ بمدلول كل منهما في ذلك المورد يستلزم رفع اليد عن مدلول الآخر فيه مع بقاء موضوعه.
ومن هنا ذكرنا في بحث التعادل والترجيح(1) أنّ التعارض هو تنافي مدلولي الدليلين في مقام الاثبات على وجه التناقض أو التضاد بالذات والحقيقة أو بالعرض والمجاز، بمعنى أنّ كل واحد من الدليلين يدل على نفي مدلول الدليل الآخر بالمطابقة أو بالالتزام، فيكون مدلول الدليل الآخر منتفياً مع بقاء موضوعه بحاله لا بانتفائه. وهذا هو الضابط الرئيسي لمسألة التعارض وواقعه الموضوعي، ومن المعلوم أ نّه ينطبق في هذه المسألة على القول بالامتناع، فانّ المجمع على هذا يكون واحداً، كما هو المفروض.
وعليه فلا محالة يدل كل من دليلي الأمر والنهي على نفي مدلول الدليل الآخر مع بقاء موضوعه بحاله. فإذن لا بدّ من الرجوع إلى قواعد باب المعارضة، فإن كان التعارض بينهما بالاطلاق كما هو الغالب يسقطان معاً، فيرجع إلى الأصل في المسألة من أصل لفظي إن كان، وإلاّ فإلى أصل عملي. وإن كان بالعمـوم يرجع إلى أخبار الترجيح إذا كان التعارض بين الخبرين، وإلاّ فإلى قواعد اُخر على تفصيل في محلّه. وإن كان أحدهما مطلقاً والآخر عاماً فيتقدّم العام على المطلق، لأ نّه يصلح أن يكون بياناً له دون العكس، وإن كان أحدهما لبياً والآخر لفظياً، فيتقدّم الدليل اللفظي على الدليل اللبي، كما هو واضح. وإن كان
ـــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الاُصول 3: 417.

ــ[370]ــ

كلاهما لبياً فلا بدّ من الرجوع في المسألة إلى الأصل من أصل لفظي أو عملي.
والقول بالجواز يرتكز على عدم سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به، لما سبق من أنّ مردّ هذا القول إلى تعدد المجمع حقيقة في مورد الاجتماع والتصادق، وعليه فلا محالة تقع المزاحمة بين إطلاقي الدليلين في مقام الامتثال والفعلية، وقد تقدّم (1) في بحث الضد بشكل واضح أنّ نقطة انبثاق التزاحم بين الحكمين تنحصر في عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مرحلة الامتثال، فإن صرف قدرته في امتثال هذا يعجز عن امتثال ذاك، وإن عكس فبالعكس، فيكون انتفاء كل منهما عند إعمال المكلف قدرته في امتثال الآخر بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة ـ لا بانتفائه مع بقاء موضوعه على حاله، وإلاّ لكان بينهما تعارض وتعاند في مقام الجعل، ولذا قلنا إنّه لا تنافي بين الحكمين المتزاحمين بحسب مقام الجعل أصلاً، فكل منهما مجعول لموضوعه على نحو القضية الحقيقية من دون أيّة منافاة ومعاندة بينهما في هذا المقام أبداً، والمنافاة بينهما إنّما طرأت في مقام الامتثال من ناحية عدم قدرة المكلف على امتثال كليهما معاً.
ومن هنا قلنا إنّه لا منافاة بينهما ذاتاً وحقيقة، والمنافاة إنّما هي بالعرض والمجاز، ولأجل ذلك اختصت المزاحمة والمنافاة بينهما بالاضافة إلى العاجز، فلا مزاحمة بينهما بالاضافة إلى القادر أصلاً.
وهذا بخلاف باب التعارض، فانّه تنافي الحكمين بحسب مقام الجعل مع قطع النظر عن وجود أيّ شيء في الخارج وعدمه فيه، ولذا لا يختص التعارض بين الحكمين بالاضافة إلى شخص دون آخر. وقد تقدّم الكلام في تمام هذه النقاط في بحث الضد بصورة مفصّلة فلا نعيد. هذا إذا لم تكن مندوحة للمكلف في
ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع ص 3.

ــ[371]ــ

مقام الامتثال، وأمّا إذا كانت مندوحة له بأن يتمكن من امتثال كلا التكليفين معاً، غاية الأمر أحدهما بنفسه والآخر ببدله، فهل يدخل ذلك في كبرى مسألة التزاحم أم لا؟ وجهان.
فقد اختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) الوجه الأوّل، بدعوى أ نّه لا فرق في تحقق المزاحمة بين حكمين بين أن تكون هناك مندوحة للمكلف أم لم تكن، ومن هنا قال (قدس سره) إنّ أوّل مرجـحات باب التزاحم هو ما إذا كان لأحد الحكمين المتزاحمين بدل دون الحكم الآخر، فيتقدّم ما ليس له بدل على ما له بدل في مقام المزاحمة، وهذا إنّما يتحقق في أحد موردين:
الأوّل: ما إذا زاحم بعض أفراد الواجب التخييري الواجب التعييني، كما إذا وقعت المزاحمة بين صرف المال الموجود عنده في نفقة عياله وصرفه في إطعام ستّين مسكيناً مثلاً بعد فرض أ نّه لا يكفي إلاّ لأحدهما فحسب، وحيث إنّ للثاني بدلاً في عرضه ـ وهو صوم شهرين متتابعين ـ فيتقدّم الأوّل عليه في صورة المزاحمة مطلقاً ولو كان ما له البدل أهم منه.
الثاني: ما إذا وقعت المزاحمة بين الأمر بالوضوء أو الغسل، والأمر بغسل الثوب أو البدن للصلاة، وبما أنّ للوضوء أو الغسل بدلاً في طوله ـ وهو التيمم ـ فيتقدّم الأوّل عليه، فتنتقل الوظيفة إلى التيمم.
أقول: أمّا المورد الأوّل: فقد تقدّم الكلام فيه (2) بشكل واضح في بحث الضد عند التكلم عن مرجحات باب التزاحم، وقلنا هناك إنّه خارج عن كبرى هذا الباب، وذلك لما ذكرناه في بحث الواجب التخييري من أنّ الواجب هو
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 34.
(2) في ص 25.

ــ[372]ــ

الجامع بين الفعلين أو الأفعال، لا كل واحد منهما، مثلاً الواجب في خصال الكفارة هو الواحد لا بعينه، لا كل واحد منها خاصة، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: قد ذكرنا أنّ منشأ التزاحم بين الحكمين إنّما هو عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما في مرحلة الامتثال.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أ نّه لا تزاحم في أمثال هذا المورد، لفرض أنّ المكلف قادر على امتثال كلا الواجبين معاً، ومعه لا مزاحمة بينهما أبداً، ضرورة أ نّه كما يكون قادراً على امتثال الأمر بالنفقة والاتيان بمتعلقه في الخارج، كذلك يكون قادراً على امتثال الأمر بالجامع بين الخصال والاتيان بمتعلقه فيه، فما هو واجب ـ وهو الجامع بينها ـ لا يكون مزاحماً للأمر بصرف هذا المال في النفقة ومانعاً عنه، وما هو مزاحم له ومانع عنه ـ وهو إطعام ستّين مسكيناً ـ ليس بواجب، فإذن لا يعقل التزاحم في هذه الموارد.
نعم، التزاحم إنّما يكون في تطبيق هذا الجامع على خصوص هذا الفرد ـ وهو الاطعام ـ ولكن التطبيق بما أ نّه باختيار المكلف وإرادته، ولا يكون ملزماً في تطبيقه على هذا الفرد، لا من قبل الشرع، ولا من قبل العقل، فله الخيار في التطبيق على هذا أو ذاك، ولكن حيث إنّ تطبيقه على خصوص هذا الفرد في المقام مزاحم لامتثال الواجب الآخر ومستلزم لتركه فلا يجوز بحكم العقل، بل هو ملزم بتطبيقه على غيره لئلاّ يزاحم الواجب، كما هو واضح. وتمام الكلام في ذلك قد تقدّم في بحث الضد فلاحظ.
وأمّا المورد الثاني: فقد تقدّم الكلام فيه (1) أيضاً بصورة واضحة في بحث الضد، وقلنا هناك إنّ أمثال هذا المورد داخلة في كبرى باب التعارض دون
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 106.

ــ[373]ــ

باب التزاحم، فراجع ولا حاجة إلى الاعادة.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أنّ مسألة الاجـتماع على القول بالامتناع وسراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به تدخل في كبرى باب التعارض وتكون من إحدى صغرياتها، فلا بدّ عندئذ من الرجوع إلى قواعد ذلك الباب. وعلى القول بالجواز وعدم السراية تدخل في كبرى باب التزاحم، إذا لم تكن للمكلف مندوحة في البين بأن لا يتمكن من الاتيان بالصلاة في خارج الأرض المغصوبة، وأمّا إذا كانت له مندوحة بأن كان متمكناً من الاتيان بها في الخارج فلا تزاحم أبداً.
الخامسة: هل إنّ مسألتنا هذه من المسائل الاُصولية، أو من المسائل الفقهية، أو من المسائل الكلامية، أو من المبادئ التصديقية؟ وجوه وأقوال.
قيل: إنّها من المسائل الفقهية، بدعوى أنّ البحث في هذه المسألة في الحقيقة عن عوارض فعل المكلف وهي صحة العبادة في المكان المغصوب وفسادها فيه، وهذا هو الضابط لكون المسألة فقهية لا غيرها.
ويردّه: ما تقدّم من أنّ البحث فيها ليس عن صحة العبادة وفسادها ابتداءً، بل البحث فيها متمحض في سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعدم سرايته، ومن الواضح جداً أنّ البحث من هذه الناحية لايرتبط بعوارض فعل المكلف أبداً، ولا يكون بحثاً عنها أصلاً، بل الصحة التي هي من عوارض فعله تترتب على القول بعدم السراية، ونتيجة لهذا القول، وهذا ملاك كون هذه المسألة مسألة اُصولية لا غيرها، وذلك لما تقدّم من أنّ الميزان في كون المسألة اُصولية ترتب نتيجة فقهية عليها، ولو باعتبار أحد طرفيها من دون ضم كبرى مسألة اُصولية اُخرى، وكيف كان فعدم كون هذه المسألة من المسائل الفقهية من الواضحات الأوّلية.

ــ[374]ــ

الثاني: أ نّها من المسائل الكلامية، بتقريب أنّ البحث فيها عن استحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وإمكانه عقلاً. ومن الظاهر أنّ البحث عن هذه الجهة ـ أعني الاستحالة والامكان ـ يناسب المسائل الكلامية دون المسائل الاُصولية، ضرورة أنّ الاُصولي لا بدّ أن يبحث عما يترتب عليه أثر شرعي، وليس المناسب له البحث عن إمكان الأشياء واستحالتها.
وغير خفي أنّ البحث في هذه المسألة وإن كان عقلياً ولا صلة له بعالم اللفظ أبداً، إلاّ أ نّه مع ذلك ليس من المسائل الكلامية، والوجه فيه هو أنّ الضابط في كون المسألة كلامية هو أن يكون البحث فيها عن أحوال المبدأ والمعاد، ومسألتنا هذه وإن كانت مسألة عقلية، إلاّ أنّ البحث فيها ليس بحثاً عن أحوال المبدأ والمعاد في شيء، بل البحث فيها ـ كما عرفت ـ إنّما هو عن سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعدم السراية، ومن المعلوم أ نّه لا مساس لها على كلا القولين بالعقائد الدينية والمباحث الكلامية.
وبكلمة اُخرى: أنّ المسائل الكلامية وإن كانت مسائل عقلية، إلاّ أ نّه ليس كل مسألة عقلية مسألة كلامية، بل هي طائفة خاصة منها، وهي ما يترتب على البحث عنها معرفة المبدأ والمعاد، وبذلك نميّز المسائل الكلامية عن غيرها، فكل مسألة يترتب على البحث عنها هذا الغرض فهي من المسائل الكلامية، وإلاّ فلا، وحيث إنّ هذا الغرض لا يترتب على البحث عن مسألتنا هذه فلا تكون منها.
نعم، يمكن إرجاع البحث في هذه المسألة إلى البحث عن أحوال المبدأ والمعاد، بتقريب أن يجعل البحث فيها عن قبح صدور الأمر والنهي منه تعالى بالاضافة إلى شيء واحد وعدم قبح ذلك منه تعالى، وبهذه العناية وإن كانت من المسائل الكلامية، إلاّ أنّ البحث فيها ليس عن هذه الجهة في شيء، بل قد عرفت أنّ

ــ[375]ــ

البحث فيها عن السراية وعدمها بعد ما تعلق الأمر بطبيعة والنهي بطبيعة اُخرى واتّفق انطباقهما على شيء، فعندئذ يقع الكلام في سراية النهي من متعلقه إلى ما تعلق به الأمر وعدم سرايته، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: قد ذكرنا أنّ الضابط لكون المسألة اُصولية أو كلامية أو غيرهما إنّما هو جهة البحث في تلك المسألة، فإن كانت الجهة مما يترتب عليه الغرض الاُصولي تكون المسألة اُصولية، وإن كانت مما يترتب عليه الغرض الكلامي تكون كلامية... وهكذا، كما هو واضح. وحيث إنّه يترتب على البحث عن هذه المسألة غرض اُصولي، فهي من المسائل الاُصولية، لا غيرها.
الثالث: أ نّها من المبادئ الأحكامية، والمراد بها ما يكون البحث فيه عن حال الحكم، كالبحث عن أنّ وجوب شيء هل يستلزم وجوب مقدّمته، أو حرمة ضدّه أم لا، والبحث في هذه المسألة في الحقيقة بحث عن حال الأحكام من حيث إمكان اجتماع اثنين منها في شيء واحد وعدم إمكانه. وعليه فتكون المسألة من المبادئ الأحكامية، كما هو الحال في بقية مباحث الاستلزامات العقلية.
ويردّه: أنّ المبادئ لاتخلو من أن تكون مبادئ تصورية أو مبادئ تصديقية فلا ثالث لهما، والمبادئ التصورية عبارة عن تصور نفس الموضوع والمحمول بذاتهما وذاتياتهما، والمبادئ التصديقية هي التي تكون مبدأ للتصديق بالنتيجة، فانّها عبارة عن الصغرى والكبرى المؤلف منهما القياس المنتج للعلم بالنتيجة. ومن تلك المبادئ المسائل الاُصولية بالاضافة إلى المسائل الفقهية باعتبار أ نّها تكون مبدأً للتصديق بثبوت تلك المسائل، وتقع في كبرى القياس الواقع في طريق استنباطها، وبهذا الاعتبار تكون المسائل الاُصولية مبادئ تصديقية لعلم الفقه، لوقوعها في كبرى قياساتها التي تستنتج منها المسائل الفقهية.

ــ[376]ــ

ولا نعقل المبادئ الأحكامية في مقابل المبادئ التصورية والتصديقية، بداهة أ نّه إن اُريد من المبادئ الأحكامية تصور نفس الأحكام كالوجوب والحرمة ونحوهما، فهو من المبادئ التصورية، إذ لا نعني بها إلاّ تصور الموضوع والمحمول كما مرّ. وإن اُريد منها ما يوجب التصديق بثبوت حكم أو نفيه ـ ومنه الحكم بسراية النهي إلى متعلق الأمر في محل الكلام ـ فهي من المبادئ التصديقية لعلم الفقه، كما هو الحال في سائر المسائل الاُصولية.
الرابع: أ نّها من المبادئ التصديقية لعلم الاُصول، وليست من مسائله. وقد اختار هذا القول شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) وأفاد في وجه ذلك ما حاصله: هو أنّ هذه المسألة على كلا القولين لا تقع في طريق استنباط الحكم الكلّي الشرعي بلا واسطة ضم كبرى اُصولية، وقد تقدّم أنّ الضابط لكون المسألة اُصولية هو وقوعها في طريق الاستنباط بلا واسطة، والمفروض أنّ هذه المسألة ليست كذلك، فانّ فساد العبادة لا يترتب على القول بالامتناع فحسب، بل لا بدّ من ضم كبرى اُصولية إليه وهي قواعد كبرى مسألة التعارض، فانّ هذه المسألة على هذا القول تدخل في كبرى تلك المسألة، وتكون من إحدى صغرياتها. وعليه ففساد العبادة إنّما يترتب بعد إعمال قواعد التعارض وتطبيقها في المسألة لا مطلقاً، وهذا شأن كون المسألة من المبادئ التصديقية دون المسائل الاُصولية، كما أ نّها على القول بالجواز تدخل في كبرى مسألة التزاحم.
ويرد عليه: ما ذكرناه غير مرّة من أ نّه يكفي في كون المسألة اُصولية وقوعها في طريق الاستنباط، وتعيين الوظيفة بأحد طرفيها وإن كانت لا تقع بطرفها الآخر، ضرورة أ نّه لو لم يكن ذلك كافياً في اتّصاف المسألة بكونها
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 128.

ــ[377]ــ

اُصولية، بل يعتبر فيه وقوعها في طريق الاستنباط بطرفها الآخر أيضاً، للزم خروج عدّة من المسائل الاُصولية عن كونها اُصولية، منها: مسألة حجية خبر الواحد فانّها لا تقع في طريق الاستنباط على القول بعدم حجيته ولا يترتب عليها أيّ أثر شرعي على هذا القول. ومنها: حجية ظواهر الكتاب، فانّه على القول بعدمها لا يترتب عليها أيّ أثر شرعي، وغيرهما من المسائل، مع أ نّه لا شبهة في كونها من المسائل الاُصولية، بل هي من أهمّها.
نتيجة ذلك: هي أنّ الملاك في كون المسألة اُصولية وقوعها في طريق الاستنباط بنفسها ولو باعتبار أحد طرفيها، في مقابل ما ليس له هذا الشأن وهذه الخاصة، كمسائل بقية العلوم، والمفروض أنّ مسألتنا هذه كذلك، فانّه يترتب عليها أثر شرعي، وهو صحة العبادة على القول بالجواز وتعدد المجمع وإن لم يترتب أثر شرعي عليها على القول بالامتناع، وهذا يكفي في كونها مسألة اُصولية.
وقد تبيّن لحدّ الآن: أنّ هذه المسألة كما أ نّها ليست مسألة فقهية، كذلك ليست مسألة كلامية، ولا من المبادئ الأحكامية، ولا من المبادئ التصديقية.
الخامس: أ نّها من المسائل الاُصولية العقلية، وهذا هو الصحيح.
فلنا دعويان:
الاُولى: أ نّها مسألة عقلية ولا صلة لها بعالم اللفظ أبداً.
الثانية: أ نّها مسألة اُصولية تترتب عليها نتيجة فقهية بلا واسطة.
أمّا الدعوى الاُولى: فهي واضحة، ضرورة أنّ الحاكم باستحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وإمكانه إنّما هو العقل، فانّه يدرك استحالة الاجتماع فيما إذا كان المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحداً، وجوازه فيما إذا كان

ــ[378]ــ

المجمع فيه متعدداً.
وبتعبير آخر: أنّ القضايا العقلية على ضربين:
أحدهما: القضايا المستقلة العقلية، بمعنى أنّ في ترتب النتيجة على تلك القضايا لا نحتاج إلى ضم مقدّمة خارجية، بل هي تتكفل لاثبات النتيجة بأنفسها، وهذا معنى استقلالها، وهي مباحث التحسين والتقبيح العقليين التي يبحث فيها عن حكم العقل بحسن شيء أو قبحه، في مقابل الأشاعرة حيث إنّهم ينكرون تلك القضايا ويدّعون أنّ العقل لا يدرك حسن الأشياء وقبحها أصلاً.
وثانيهما: القضايا العقلية غير المستقلة، بمعنى أنّ في ترتب النتيجة عليها نحتاج إلى ضم مقدّمة خارجية، وإلاّ فلا تترتب عليها بأنفسها أيّة نتيجة فقهية، وهي كمباحث الاستلزامات العقلية، كمبحث مقدّمة الواجب ومبحث الضد ونحوهما، فانّ الحاكم في هذه المسائل هو العقل لا غيره، ضرورة أ نّه يدرك وجود الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته وبين وجوبه وحرمة ضدّه... وهكذا. وليس المراد من عدم استقلال تلك القضايا أنّ العقل في إدراكه غير مستقل، فانّه لا معنى لعدم استقلاله في إدراكه، بداهة أ نّه لا يتوقف في إدراكه الملازمة بينهما أو الاستحالة والامكان ـ كما في مسألتنا هذه ـ على أيّة مقدّمة خارجية، بل المراد من عدم استقلالها ما عرفت من أ نّها تحتاج في ترتب نتيجة فعلية عليها إلى ضم مقدّمة شرعية، كما هو واضح.
وأمّا الدعوى الثانية: فلما ذكرناه غير مرّة من أنّ المسألة الاُصولية ترتكز على ركيزتين:
الاُولى: أن تقع في طريق استنباط الأحكام الكلّية الإلهية، وتكون الاستفادة من باب الاستنباط والتوسيط، لا من باب الانطباق، وبهذه الركيزة تمتاز

ــ[379]ــ

المسائل الاُصولية عن القواعد الفقهية، فانّ استفادة الأحكام منها من باب التطبيق لا التوسيط. هذا مضافاً إلى أنّ الأحكام المستفادة منها أحكام شخصية لا كلّية.
الثانية: أن يكون وقوعها في طريق الاستفادة بنفسها من دون حاجة إلى ضم كبرى اُصولية اُخرى، وبهذه الركيزة تمتاز عن مسائل بقية العلوم، فانّها وإن كانت دخيلةً في استنباط الأحكام وواقعةً في طريق استفادتها، إلاّ أ نّها لا بنفسها، بل بضميمة مسألة اُصولية.
وبعد ذلك نقول: إنّ في مسألتنا هذه تتوفر كلتا هاتين الركيزتين، فانّها تقع في طريق الاستنباط بنفسها من دون حاجة إلى ضم كبرى اُصولية اُخرى، لما عرفت من أ نّه تترتب عليها صحة العبادة في مورد الاجتماع على القول بالجواز وتعدد المجمع بلا ضميمة مسألة اُخرى، وإن لم يترتب عليها أثر شرعي على القول بالامتناع، ولكنّك عرفت أنّ ترتب الأثر الشرعي على أحد طرفيها يكفي في كونها مسألة اُصولية.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net