القول بابتناء الجواز على القول بتعلق الأمر بالطبيعة وابتناء الامتناع على القول بتعلقه بالأفراد 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4892


وعلى ذلك يترتب أنّ تلك الأعراض واللوازم خارجة عن متعلق الأمر وغير داخلة فيه، فإذن لا فرق بين القول بتعلق الأوامر بالطـبائع وتعلقها بالأفراد من هذه الناحية أبداً. وقد تبيّن لحدّ الآن: أ نّه لا وقع لهذا التفصيل أصلاً، ولا يرجع إلى معنىً محصّل.
وقد يتخيّل في المقام: أنّ القول بالامتناع يرتكز على القول بتعلق الأوامر والنواهي بالأفراد، والقول بالجواز يرتكز على القول بتعلقها بالطبائع، بدعوى أنّ متعلق الأمر والنهي إذا كان هو الطبيعة فكل من متعلقي الأمر والنهي يغاير الآخر في مرحلة تعلق الحكم به، فلم يجتمع الأمر والنهي في واحد، وإنّما الاجتماع في مرحلة اُخرى غير مرحلة تعلق الأمر والنهي بشيء. وأمّا على القول الآخر ـ وهو القول بتعلق الأوامر والنواهي بالأفراد ـ فبما أنّ متعلقهما هو الفرد فلا يمكن اجتماعهما على فرد واحد وتعلقهما به. فالنتيجة هي أ نّه لا بدّ من الالتزام بهذا التفصيل.
ولكن هذا الخيال فاسد جداً وغير مطابق للواقع قطعاً، والوجه في ذلك: هو أنّ هذا التفصيل بظاهره لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً، إذ لا فرق بين تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع وتعلقهما بالأفراد من هذه الناحية أبداً، ضرورة أنّ تعلقهما بالطبائع لا يقتضي تعدد المجمع في مورد الاجتماع كذلك، كما أنّ تعلقهما بالأفراد لا يقتضي وحدة المجمع فيه، فانّ وحدة المجمع في مورد الاجتماع ترتكز على كون التركيب بين متعلقي الأمر والنهي تركيباً حقيقياً، وأمّا إذا لم يكن التركيب بينهما حقيقياً، كما إذا تعلق الأمر بمقولة والنهي بمقولة اُخرى، فلا مناص من الالتزام بتعدده فيه، ومن الواضح جداً أ نّه لا يفرق في ذلك بين تعلق الأمر بطبيعي هذه المقولة أو بأفرادها. وكذا الحال في النهي، ضرورة أ نّه

ــ[393]ــ

كما لا يمكن التركيب بين هذه المقولة وتلك واندراجهما تحت مقولة ثالثة، كذلك لا يمكن التركيب بين فرد من هذه المقولة وفرد من تلك وكونهما موجودين بوجود واحد، فإذن لا فرق بين تعلق الأحكام بالطبيعة وتعلقها بالأفراد من هذه الناحية أصلاً.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أنّ ملاك وحدة المجمع في مورد الاجتماع أو تعدده فيه أمر آخر، ولا صلة له بتعلق الأمر والنهي بالطبيعة أو بالفرد.
على أ نّك عرفت سابقاً أنّ النواهي جميعاً متعلقة بالأفراد بحسب الواقع والحقيقة دون الطبائع بما هي، لما ذكرناه من أنّ النهي المتعلق بطبيعة ينحل بانحلال أفراد تلك، فيثبت لكل فرد منه نهي مستقل مغاير للنهي الثابت لفرد آخر وهكذا...
ولو تنزّلنا عن ذلك وسـلّمنا أنّ ملاك تعدد المجمع هو انطباق عنوانين متغايرين عليه، بتخيل أنّ تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون، ولكن من الواضح جداً أ نّه لا فرق في ذلك بين أن يكون العنوانان كلّيين أو جزئيين، ضرورة أنّ انطباق طبيعتين كلّيتين إذا اقتضى تعدد المجمع في الخارج كذلك اقتضى تعدده فيه انطباق حصتين جزئيتين، لما ذكرناه من أنّ الفرد حصة من الطبيعة، وتلك الحصة بالنظر العقلي تنحل إلى ماهية وتقيّد بقيد خاص، وهذا التقيد يوجب صيرورتها حصة في مقابل سائر الحصص. مثلاً الحصة المتقررة في ذات زيد تمتاز عن الحصة المتقررة في ذات عمرو، والموجود بكل من الوجودين غير الموجود بالوجود الآخر ضرورةً، وإلاّ لم يكن بينهما امتياز، وهو باطل بالبداهة، وعلى ذلك فانطباق الطبيعتين المتغايرتين على شيء لو كان مقتضياً لتعدده في الخارج لكان انطباق الحصتين المتغايرتين عليه واجتماعهما فيه أيضاً مقتضياً له لا محالة، فما توهّم من أنّ الأوّل مقتض له دون

ــ[394]ــ

الثاني باطل جزماً.
وعلى الجملة: فلو كان صدق الطبيعتين الكلّيتين كالصلاة والغصب مثلاً على شيء مجدياً في رفع محذور استحالة اجتماع الوجوب والحرمة وموجباً لتعدده، لكان صدق الطبيعتين الجزئيتين عليه مجدياً في ذلك وموجباً لتعدده، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً، ضرورة أنّ الصلاة في الدار المغصوبة إذا كانت متحدة مع الغصب خارجاً فلا مناص من القول بالامتناع، من دون فرق بين تعلّق الأمر بالطبيعة وتعلقه بالفرد، غاية الأمر على الأوّل يكون الفرد مصداقاً للمأمور به، وعلى الثاني يكون بنفسه مأموراً به، وهذا لا تعلّق له بما نحن بصدد إثباته، وإذا فرض أ نّها غير متحدة معه في الخارج بأن يكون التركيب بينهما انضمامياً لا اتحادياً فلا مناص من القول بالجواز، من دون فرق في ذلك بين القول بتعلق الأوامر بالطبائع وتعلقها بالأفراد.
فالنتيجة: أنّ هذا التفصيل بالتحليل العلمي لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً، إلاّ أن يوجّه ذلك إلى معنىً معقول، وهو ما أشرنا إليه سابقاً من أنّ وجود كل فرد يمتاز في الخارج عن وجود فرد آخر ويباينه، ولهذا الوجود فيه لوازم ولتلك اللوازم وجودات بأنفسها في قبال وجود ذلك الفرد، ويعبّر عنها مسامحة بالمشخّصات، وهي عبارة عن الأعراض الطارئة على هذا الوجود الجوهري، ككمّه وكيفه وأينه وما شاكل ذلك.
وعلى هذا، فإن قلنا بتعلق الأحكام بالطبائع فتلك الأعراض الملازمة لوجود الفرد خارجة عن حيّز الأمر، فإذن لا مانع من تعلق النهي بها، لفرض أنّ الأمر تعلق بشيء والنهي تعلق بشيء آخر، غاية الأمر أ نّه ملازم لوجود المأمور به في الخارج، فلا يلزم محذور اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد. وعليه فلا مناص من القول بالجواز.

ــ[395]ــ

وإن قلنا بتعلقها بالأفراد فتكون تلك الأعراض الملازمة لها في الخارج داخلة في متعلق الأمر، بمعنى أنّ الأمر لم يتعلق بها فحسب، بل تعلق بها مع لوازمها وأعراضها، وعليه فإذا فرض تعلق النهي بتلك الأعراض، فيلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد، مثلاً الصلاة في الدار المغصوبة ملازمة للغصب فيها والتصرف في مال الغير، فعندئذ إن قلنا بكون متعلق الأمر هو طبيعي الصلاة فلا يسري الأمر منه إلى الغصب الملازم لوجود ذلك الطبيعي في الخارج، لفرض أنّ الأمر متعلق بالطبيعة فحسب، وعليه فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد. وإن قلنا بكون متعلقه هو الفرد دون الطبيعي فحيث إنّه لم يتعلق به فحسب على الفرض، بل تعلق به وبلوازمه، فلا محالة يلزم اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد، وهو محال.
ولكن قد عرفت فساد ذلك وملخّصه: هو أ نّه لا فرق في ذلك بين تعلق الأوامر بالطبائع وتعلقها بالأفراد أصلاً، فكما أ نّه على تقدير تعلقها بالطبائع تلك الأعراض واللوازم خارجة عن متعلقها، فكذلك على تقدير تعلقها بالأفراد، لما عرفت من أنّ تلك الوجودات ليست من مشخّصاتها، ضرورة أنّ تشخص كل وجود بنفسه، بل هي من عوارضها التي تعرّض عليها في الخارج وملازمة لوجوداتها فيه، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أنّ الأوامر متعلقة بنفس الأفراد على القول به، لا بها وبلوازمها الخارجية، ضرورة أنّ القائلين بتعلقها بالأفراد لا يقولون بذلك كما هو المفروض، وعليه فلا مجال لدعوى أ نّه على القول بتعلق الأمر بالأفراد هو أ نّه متعلق بها وبأعراضها معاً فيلزم عندئذ اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وهو محال، فإذن يبقى دعوى أنّ النهي المتعلق بهذا الفرد من الغصب يسري إلى لازمه ـ وهو الصلاة في مفروض الكلام ـ باعتبار أ نّها لازمة لوجود الغصب

ــ[396]ــ

في الخارج.
ولكن هذه الدعوى فاسدة، وذلك لعدم الدليل على سراية الحكم المتعلق بالملزوم إلى لازمه، كما أ نّه لا دليل على سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر، ضرورة أنّ المستفاد من الدليل هو ثبوت الحكم للملزوم فحسب، وأمّا ثبوته للازمه فهو يحتاج إلى دليل آخر، ومجرد كون شيء لازماً لشيء آخر لا يكون دليلاً على وجوب اتحادهما في الحكم، لوضوح أنّ غاية ما يقتضي ذلك هو عدم إمكان اختلافهما فيه.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net