مناقشة الأمر العاشر من الكفاية - طريق تصحيح صاحب الكفاية المجمع 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4445


قال [ صاحب الكفاية ] في الأمر العاشر ما إليك لفظه: أ نّه لا إشكال في سقوط الأمر وحصول الامتثال باتيان المجمع بداعي الأمر على الجواز مطلقاً ولو في العبادات وإن كان معصية للنهي أيضاً، وكذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الأمر، إلاّ أ نّه لا معصية عليه.
وأمّا عليه وترجيح جانب النهي فيسقط به الأمر مطلقاً في غير العبادات، لحصول الغرض الموجب له، وأمّا فيها فلا، مع الالتفات إلى الحرمة أو بدونه

ــ[426]ــ

تقصيراً، فانّه وإن كان متمكناً مع عدم الالتفات من قصد القربة وقد قصدها، إلاّ أ نّه مع التقصير لا يصلح أن يتقرب به أصلاً فلا يقع مقرّباً، وبدونه لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للأمر به عبادة كما لا يخفى.
وأمّا إذا لم يلتفت إليها قصوراً وقد قصد القربة باتيانه، فالأمر يسقط لقصد التقرب بما يصلح أن يتقرب به، لاشتماله على المصلحة مع صدوره حسناً، لأجل الجهل بحرمته قصوراً، فيحصل به الغرض من الأمر فيسقط به قطعاً وإن لم يكن امتثالاً، بناءً على تبعية الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعاً، لا لما هو المؤثر منها فعلاً للحسن أو القبح، لكونهما تابعين لما علم منهما، كما حقق في محلّه. مع أ نّه يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك، فانّ العقل لا يرى تفاوتاً بينه وبين سائر الأفـراد في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها، وإن لم تعمه بما هي مأمور بها، لكنّه لوجود المانع لا لعدم المقتضي.
ومن هنا انقدح أ نّه يجزئ ولو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحة العبادة، وعدم كفاية الاتيان بمجرد المحبوبية، كما يكون كذلك في ضدّ الواجب حيث لا يكون هناك أمر يقصد أصلاً. وبالجملة مع الجهل قصوراً بالحرمة موضوعاً أو حكماً يكون الاتيان بالمجمع امتثالاً وبداعي الأمر بالطبيعة لا محالة، غاية الأمر أ نّه لا يكون مما يسعه بما هي مأمور بها، لو قيل بتزاحم الجهات في مقام تأثيرها للأحكام الواقعية، وأمّا لو قيل بعدم التزاحم إلاّ في مقام فعلية الأحكام لكان مما يسعه وامتثالاً لأمرها بلا كلام.
وقد انقدح بذلك الفرق بين ما إذا كان دليلا الحرمة والوجوب متعارضين وقدّم دليل الحرمة تخييراً أو ترجيحاً، حيث لا يكون معه مجال للصحة أصلاً، وبين ما إذا كانا من باب الاجتماع، وقيل بالامتناع وتقديم جانب الحرمة، حيث يقع صحيحاً في غير مورد من موارد الجهل والنسيان، لموافقته للغرض

ــ[427]ــ

بل للأمر. ومن هنا علم أنّ الثـواب عليه من قبيل الثواب على الاطاعة لا الانقياد ومجرد اعتقاد الموافقة.
وقد ظهر بما ذكرناه وجه حكم الأصحاب بصحة الصلاة في الدار المغصوبة مع النسيان أو الجهل بالموضوع، بل أو الحكم إذا كان عن قصور، مع أنّ الجل لولا الكل قائلون بالامتناع وتقديم الحرمة، ويحكمون بالبطلان في غير موارد العذر فلتكن من ذلك على ذكر (1).
نلخّص ما أفاده (قدس سره) في هذا الأمر في عدّة نقاط:
الاُولى: أ نّه لا إشكال في تحقق الامتثال وحصول الغرض باتيان المجمع بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة على القول بالجواز مطلقاً في العبادات والتوصليات، أمّا في التوصليات فواضح، لأنّ الغرض منها على الفرض صِرف وجودها وتحـققها في الخارج، ولا يعتبر فيها كيفية زائدة. وأمّا في العبادات فلأجل انطباق الطبيعة المأمور بها على هذا الفرد المأتي به في الخارج ـ وهو المجمع ـ وإن استلزم ذلك معصيةً للنهي أيضاً، وذلك كالصلاة في الأرض المغصوبة فانّها تستلزم التصرف فيها وهو محرّم، إلاّ أ نّها حيث لم تكن متحدةً مع الحرام على الفرض فلا يكون ارتكابه موجباً لفسادها، فيكون كالنظر إلى الأجنبية حال الصلاة، فكما أ نّه لا يوجب بطلانها باعتبار أ نّه غير متحد معها خارجاً، فكذلك الكون في الأرض المغصوبة لا يوجب فساد الصلاة فيها من جهة أ نّه غير متحد معها.
الثانية: أ نّه بناءً على القول بالامتناع فعلى تقدير تقديم جانب الوجوب على جانب الحرمة، فلا إشكال في تحقق الامتثال وحصول الغرض باتيان المجمع
ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول: 156 ـ 158.

ــ[428]ــ

عندئذ، وذلك لأ نّه على هذا الفرض متمحض في كونه مصداقاً للمأمور به دون المنهي عنه، ولذا لا يكون الاتيان به وقتئذ معصيةً أيضاً. وأمّا على تقدير تقديم جانب الحرمة على الوجـوب فبما أنّ المجمع لا يكون حينئذ مصداقاً للمأمور به، ضرورة أنّ الحرام لا يعقل أن يكون مصداقاً للواجب، فلا يحصل الامتثال باتيانه إذا كان الواجب عبادياً، ضرورة أ نّه مع الالتفات إلى الحرمة لا يمكن قصد التقرب به المعتبر في صحته. وأمّا إذا كان توصلياً فيسقط أمره باتيانه، لفرض أنّ الغرض منه يحصل بمجرد وجوده وتحققه في الخارج ولو كان في ضمن فعل محرّم، هذا إذا كان عالماً بالحرمة.
وأمّا إذا كان جاهلاً بها فمرّة يكون جهله عن تقصير، واُخرى عن قصور.
أمّا على الأوّل، فتكون عبادته فاسدة، والوجه في ذلك: هو أنّ صحة العبادة ترتكز على ركائز: 1 ـ أن يكون الفعل في نفسه قابلاً للتقرب. 2 ـ أن يقصد المكلف التقرب به. 3 ـ أن لا يكون صدوره منه قبيحاً ومبغوضاً.
ثمّ إنّ الركيزة الاُولى والثانية وإن كانتا موجودتين هنا، باعتبار أنّ المكلف بما أ نّه كان جاهلاً بالحرمة فيتمشّى منه قصد القربة، والمفروض أنّ الفعل لاشتماله على الملاك قابل لأن يتقرب به في نفسه، إلاّ أنّ الركيزة الثالثة غير موجودة هنا، وذلك لأنّ الفعل وإن كان في نفسه قابلاً للتقرب من ناحية اشتماله على الملاك، إلاّ أ نّه حيث كان فعلاً مبغوضاً للمولى كما هو المفروض من ناحية، وجهله كان عن تقصير من ناحية اُخرى، فلا يكون صدوره منه حسناً، بل يكون قبيحاً ومبغوضاً، فإذن لايمكن الحكم بصحة العبادة الفاقدة لتلك الركيزة.
وأمّا على الثاني، فتكون صحيحة وذلك لتوفر تلك الركائز فيه.
أمّا الركيزة الاُولى، فلأنّ الفعل من ناحية اشتماله على الملاك قابل للتقرب

ــ[429]ــ

به، والجهل بالحرمة بما أ نّه كان عن قصور فهو مانع عن فعلية الحرمة، ومن الواضح أنّ الحرمة غير الفعلية لا تمنع عن صحة العبادة وقابليتها للتقرب.
وأمّا الركيزة الثانية، فالمفروض أنّ المكلف متمكن من قصد القربة في هذا الحال.
وأمّا الركيزة الثالثة، فبما أنّ جهله كان عن قصور فلا محالة لا يكون صدور الفعل منه قبيحاً، فإذن لا مانع من الحكم بصحة العبادة في هذا الفرض، وإن لم يتحقق عنوان الامتثال، فانّ عنوان الامتثال إنّما يصدق فيما إذا كان المأتي به مما تعلق به الأمر لا فيما إذا كان الحكم بصحته من جهة محبوبيتها، كما في المقام. وقد ذكرنا أنّ سقوط الأمر لا يدور مدار حصول الامتثال، بل هو يدور مدار حصول الغرض، ومن هنا ذكرنا في بحث التعبدي والتوصلي أنّ صحة العبادة لا تتوقف على قصد الأمر فحسب، بل يكفي في صحتها إتيانها بقصد محبوبيتها، أو اشتمالها على الملاك أو نحو ذلك.
الثالثة: أ نّه يمكن أن يقال بحصول الامتثال في المقام حتّى بناءً على تبعية الأحكام لجهات المصالح والمفاسد في الواقع، لا للجهات المؤثرة فيها فعلاً، وذلك لأنّ العقل لا يرى تفاوتاً بين هذا الفرد وبقية الأفراد في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها، فكما أ نّه يحصل الامتثال باتيان غيره من أفراد هذه الطبيعة فكذلك يحصل باتيانه، فلا فرق بينهما بنظر العقل من هذه الناحية أصلاً.
الرابعة: أنّ عدم انطباق الطبيعة المأمور بها بما هي على هذا الفرد يرتكز على تزاحم جهات المصالح والمفاسد في مقام تأثيرها في الأحكام الواقعية، فانّه على هذا حيث كانت جهة الحرمة أقوى من جهة الوجوب في الواقع ونفس الأمر، فلا محالة تكون هي المؤثرة فيها دون تلك، وعليه فلا يكون المجمع

ــ[430]ــ

مصداقاً للواجب. وأمّا إذا فرض عدم المزاحمة بين تلك الجهات في الواقع، وأ نّه لا أثر لها، والمزاحمة إنّما هي بين الجهات الواصلة في مقام فعلية الأحكام لكان المجمع بنفسه مصداقاً للطبيعة المأمور بها بما هي، ولكان الاتيان به امتثالاً لأمرها، وذلك لأنّ جهة الوجوب بما أ نّها كانت واصلة إلى المكلف لفرض أ نّها ملتفت إليها، فهي المؤثرة دون جهة الحرمة، لعدم الالتفات إليها.
وعلى الجملة: فلا أثر للملاك الواقعي ولا تأثير له في الحكم الشرعي أبداً، فالمؤثر إنّما هو الملاك الواصل والفعلي ـ وهو ما كان ملـتفتاً إليه ـ هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أنّ المجمع على الفرض مشتمل على مناط كلا الحكمين معاً، غاية الأمر أنّ ملاك الحرمة بحسب الواقع أقوى من ملاك الوجوب، ولكن عرفت أ نّه لا أثر لأقوائية الملاك بحسب وجوده الواقعي. ومن ناحية ثالثة: أنّ الملاك الواصل إلى المكلف هو ملاك الوجوب، فانّه ملتفَت إليه دون ملاك الحرمة.
فالنتيجة على ضوئها هي أنّ المؤثر ملاك الوجوب دون غيره، ولازمه هو أنّ المجمع عندئذ يكون مصداقاً للمأمور به فعلاً، من دون أن يكون محرّماً كذلك.
الخامسة: قد تقدّم أنّ هذه المسألة تبتني على أن يكون لكل من متعلقي الأمر والنهي ملاك حكمه على كل من القولين، وبذلك تمتاز هذه المسألة عن مسألة التعارض باعتبار أنّ مسألة التعارض تبتني على أن يكون لأحدهما مناط دون الآخر. وعلى هذا يترتب أنّ دليلي الوجوب والحرمة إذا كانا متعارضين وقدّمنا دليل الحرمة على دليل الوجوب تخييراً أو ترجيحاً، فلا مجال

ــ[431]ــ

وقتئذ للصحة أصلاً، وإن فرض أنّ جهله بالحرمة كان عن قصور، وذلك لفرض أ نّه لا مقتضي للوجوب عندئذ في مورد الاجتماع أصلاً، ومعه يستحيل أن تنطبق عليه الطبيعة المأمور بها، ضرورة استحالة أن يكون الحرام مصداقاً للواجب. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بالامتناع وتقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب، فانّه على هذا يقع المجمع صحيحاً في موارد الجهل عن قصور وموارد النسيان، وذلك لما عرفت من أنّ المجمع على هذا مشتمل على ملاك الوجوب، فلا مانع من التقرب به إذا كان جاهلاً بالحرمة عن قصور.
ومن هنا حكم الفقهاء بصحة الصلاة في الدار المغصوبة مع النسيان أو الجهل بالحكم أو الموضوع إذا كان عن قصور، مع أنّ المشهور بينهم هو القول بالامتناع وتقديم جانب الحرمة.
ولنأخذ بالمناقشة في هذه النقاط:
أمّا النقطة الاُولى: فما أفاده (قدس سره) من صحة العبادة على القول بالجواز مطلقاً لا يمكن المساعدة عليه باطلاقه، وذلك لما تقدّم من أنّ المسألة على هذا القول تدخل في كبرى باب التزاحم مطلقاً على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وفيما إذا لم تكن مندوحة في البين على وجهة نظرنا، وعليه فلا بدّ من الرجوع إلى قواعد ذلك الباب ومرجحاته، فإن كان الوجوب أهم من الحرمة أو محتمل الأهمّية فيقدّم عليها، وإذن فلا إشكال في صحة العبادة والاتيان بها بداعي أمرها. وكذا إذا كان الوجوب مساوياً لها ولكن أخذنا بجانب الوجوب دون الحرمة. وإن كانت الحرمة أهم من الوجوب أو محتمل الأهمّية فتقدّم عليه.
فإذن تبتني صحة العبادة في محل الكلام على الالتزام بأحد أمرين:

ــ[432]ــ

الأوّل: أن يقول بالترتب.
الثاني: باشتمال المجمع في هذا الحال على الملاك.
أمّا الأوّل: وهو الترتب، فقد أنكره (قدس سره) وأصرّ على استحالته وعدم إمكانه، وعليه فلا يمكن تصحيح العبادة به على وجهة نظره.
وأمّا الثاني: فهو وإن اعترف به، وقد صحح العبادة بذلك في أمثال المورد، إلاّ أ نّا قد ذكرنا غير مرّة أ نّه لا يمكن تصحيح العبادة بالملاك في هذا الحال، وذلك لما عرفت من أ نّه لا طريق لنا إلى ثبوت الملاك ومعرفته في مورد بعد سقوط الحكم عنه، فانّه كما يمكن أن يكون سقوطه من ناحية وجود المانع مع ثبوت المقتضي له، يمكن أن يكون من ناحية عدم المقتضي والملاك له في هذا الحال، ولا ترجيح لأحد الاحتمالين على الآخر، بداهة أنّ الطريق إلى إحرازه منحصر في ثبوت الحكم وبعد سقوطه فلا طريق لنا إلى إحرازه أصلاً.
نعم، لو لم تكن مزاحمة بين الاطلاقين كما إذا كانت في البين مندوحة، فعندئذ تصحّ العبادة باتيان المجمع بداعي الأمر بالطبيعة، لفرض أنّ الطبيعة المأمور بها على هذا لم تكن مزاحمة مع الحرام، والمزاحم له إنّما هو فردها. وعليه فلا مانع من الاتيان بهذا الفرد بداعي أمرها أصلاً. ولعل ما ذكره (قدس سره) بقوله: لا إشكال في سقوط الأمر وحصول الامتثال باتيان المجمع بداعي الأمر على الجواز... إلخ ناظر إلى هذا الفرض، ولكن يردّه أ نّه لا وجه للاقتصار على هذا الفرض أصلاً.
فالنتيجة: أنّ ما أفاده (قدس سره) من صحة العبادة لا يتم فيما إذا لم تكن مندوحة في البين وتقع المزاحمة بين الواجب والحرام، وكان الحرام أهم أو محتمل الأهمّية بناءً على وجهة نظره (قدس سره) من استحالة الترتب، وذلك

ــ[433]ــ

لفرض أ نّه لا أمر به في هذا الحال ليمكن الاتيان به بداعي أمره، ولا طريق لنا إلى اشتماله على الملاك ليمكن التقرب به من هذه الجهة، مع أنّ هذا الفرض خارج عن مورد كلامه، لأنّ المفروض في كلامه هو صحة العبادة بالأمر على الجواز لا بالملاك. وكيف كان فما أفاده (قدس سره) لا يتم على إطلاقه، فلا بدّ من التفصيل.
ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده (قدس سره) بقوله: إنّه معصية للنهي أيضاً، لا يتمّ مطلقاً، فانّه إنّما يتم فيما إذا لم تكن مزاحمة بين الحكمين، أو كانت مزاحمة ولكن كان الحرام أهم من الواجب أو محتمل الأهمّية. وأمّا إذا كان الواجب أهم منه أو محتمل الأهمّية، فلا معصية أصلاً.
وأمّا النقطة الثانية: فقد تقدّم أنّ أساس القول بالامتناع في هذه المسألة هو اتحاد متعلقي الأمر والنهي في مورد الاجتماع، وعلى هذا فلا محالة تقع المعارضة بين دليليهما، لاستحالة أن يكون شيء واحد مأموراً به ومنهياً عنه معاً، فإذن لا بدّ من الرجوع إلى قواعد ومرجحات باب المعارضة، وعليه فان قدّمنا دليل الأمر على دليل النهي ترجيحاً أو تخييراً على القول به، فلا إشكال في صحة العبادة باتيان المجمع، فانّه على هذا مصداق للمأمور به فحسب، ولا يكون بمنهي عنه في شيء.
وإن قدّمنا دليل النهي على دليل الأمر فلا يصحّ الاتيان بالمجمع عندئذ، لفرض أ نّه منهي عنه فعلاً، ويستحيل أن يكون مصداقاً للمأمور به، ضرورة أنّ الحرام لا يعقل أن يكون مصداقاً للواجب فيقيد إطلاق دليل الواجب بغير ذلك الفرد.
من دون فرق في ذلك بين أن يكون الواجب توصلياً أو تعبدياً، ضرورة

ــ[434]ــ

استحالة أن يكون المحرّم مصداقاً له مطلقاً، فانّ الفرق بينهما في نقطة واحدة وهي اعتبار قصد القربة في الواجب العبادي دون التوصلي، فإذن لا يصحّ الاتيان بالمجمع في مورد الاجتماع في التوصليات فضلاً عن العباديات، لفرض تقييد المأمور به بغير هذا الفرد فلا يكون هذا الفرد مصداقاً له ليكون الاتيان به مجزئاً، فانّ إجزاء غير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى دليل، وإلاّ فمقتضى القاعدة عدم الإجزاء. ولا فرق من هذه الناحية بين التوصلي والتعبدي أصلاً.
نعم، قد يعلم من الخارج أنّ الغرض من الواجب التوصلي يحصل بمطلق وجوده في الخارج ولو في ضمن فرد محرّم، وذلك كازالة النجاسة عن البدن أو الثوب فانّ الغرض من وجوبها حصولها في الخارج وتحققها فيه ولو كان بماء مغصوب.
وأمّا فيما إذا لم يعلم ذلك من الخارج فلا يحكم بصحة الواجب وسقوط الأمر عنه وحصول الغرض، وذلك كتكفين الميت مثلاً فانّه واجب توصلي فمع ذلك لا يحصل الغرض منه بتكفينه بالكفن المغصوب ولا يحكم بسقوط الأمر عنه، بل هو من موارد اجتماع الأمر والنهي، ومن هنا ذكرنا في بحث الواجب التوصلي والتعبدي(1) أنّ الواجب التوصلي على أقسام، منها: ما لا يترتب الغرض على مطلق وجوده في الخارج، بل يترتب على وجوده الخاص، وهو ما إذا لم يكن في ضمن فرد محرّم أو لم يصدر من المجنون أو الصبي وإلاّ فلا يحصل الغرض منه، وذلك كتحنيط الميت مثلاً فانّه واجب توصلي ومع ذلك لو أتى به الصبي أو المجنون لم يكن مجزئاً. فما أفاده (قدس سره) من أنّ الواجب إذا
ـــــــــــــــــــــ
(1) في المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص 491.

ــ[435]ــ

كان توصلياً يحصل الغرض منه باتيان المجمع لا يمكن تصديقه بوجه.
وبكلمة اُخرى: قد سبق منّا غير مرّة أنّ القول بالامتناع يرتكز على وحدة المجمع وجوداً وماهية، وعليه فحيث تقع المعارضة بين إطلاق دليلي الأمر والنهي فلا بدّ من الرجوع إلى مرجحاتها، وبعد ملاحظة المرجحات إذا قدّمنا إطلاق دليل النهي على إطلاق دليل الأمر، فمعناه أنّ المجمع مبغوض للمولى ومحرّم في الواقع فحسب، وليس مصداقاً للواجب واقعاً وفي نفس الأمر. هذا فيما إذا علمت الحرمة واضح، وكذلك مع الجهل عن تقصير أو قصور فانّ الأحكام الواقعية ثابتة لمتعلقاتها في الواقع، ولا دخل لعلم المكلفين وجهلهم بها أبداً، ضرورة أ نّها لا تتغير بواسطة جهل المكلف بها، فلو كان شيء حراماً في الواقع وكان المكلف جاهلاً بحرمته فلا تتغير حرمته بواسطة جهله بها وهذا واضح. ومن ناحية اُخرى، أنّ الحرام لا يعقل يكون مصداقاً للواجب وإن فرض كون المكلف جاهلاً بحرمته بل معتقداً بوجوبه، ضرورة أنّ الواقع لا ينقلب عما هو عليه.
فالنتيجة على ضوء ذلك: هي أ نّه لا إشكال في أ نّه لا ينطبق الواجب على المجمع بناءً على تقديم جانب الحرمة، فلا يسقط الأمر به باتيان المجمع، حتّى إذا كان توصلياً مع العلم بحرمته أو مع الجهل بها، إلاّ إذا علم من الخارج وفاؤه بالغرض، وعلى ذلك يترتب فساد الاتيان بالمجمع كالصلاة في الدار المغصوبة مع العلم بمبغوضيته وحرمته، بل مع الجهل بها ولو كان عن قصور، ضرورة استحالة أن يكون الحرام مصداقاً للواجب، والمفروض أنّ الجهل بالحرمة لا يوجب تغيير الواقع وإن كان عن قصور، والعلم بوجوبه لا يوجب الأمر به في الواقع وارتفاع حرمته، فإذن كيف يمكن الحكم بالصحة في فرض الجهل بها عن قصور.

ــ[436]ــ

وإن شئت فقل: إنّ صحة العبادة ترتكز على ركيزتين:
الاُولى: تحقق قصد القربة.
الثانية: كون الفعل في نفسه محبوباً وقابلاً للتقرب به.
ومع انتفاء إحدى هاتين الركيزتين لا تقع العبادة صحيحة، ضرورة أنّ الفعل إذا لم يكن محبوباً في نفسه، فلا يمكن التقرب به فضلاً عن كونه مبغوضاً في الواقع، أو لو كان محبوباً كذلك ولكن المكلف لم يقصد القربة، فحينئذ تقع العبادة فاسدة، وفيما نحن فيه وإن أمكن تحقق قصد القربة من المكلف باعتبار أ نّه جاهل بالحرمة، إلاّ أنّ المجمع لمتعلقي الأمر والنهي في مورد الاجتماع كالصلاة في الأرض المغصوبة على القول بالامتناع ووحدة المجمع وتقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب لا يكون محبوباً في نفسه وصالحاً للتقرب به، لتمحّضه في الحرمة والمبغوضية في الواقع.
ومن المعلوم أنّ الحرام لا يمكن أن يقع مصداقاً للواجب، كما هو الحال في بقية موارد التعارض بالعموم من وجه، مثل ما إذا فرض قيام الدليل على وجـوب إكرام العالم، وفرض قيامه أيضاً على حرمة إكرام الفاسق، فتقع المعارضة بينهما في مورد الاجتماع وهو العالم الفاسق، حيث إنّ مقتضى إطلاق الدليل الأوّل وجوب إكرامه، ومقتضى إطلاق الدليل الثاني حرمة إكرامه، فعندئذ لو قدّمنا دليل الحرمة على دليل الوجوب في مورد الاجتماع لخرج مورد الاجتماع ـ وهو إكرام العالم الفاسق ـ عن كونه مصداقاً للواجب واقعاً، سواء أكان المكلف عالماً بالحرمة أو بموضوعها أم كان جاهلاً بها كذلك عن قصور أو تقصير، ضرورة أنّ الواقع لايتغير بواسطة جهل المكلف به والاعتقاد بخلافه، لما ذكرناه غير مرّة من أنّ فعلية الأحكام في الواقع تابعة لفعلية موضوعاتها، ولا دخل لعلم المكلف بها وجهله، وهذا واضح.

ــ[437]ــ

وكذا الحال فيما نحن فيه، فانّه بناءً على تقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب في مورد الاجتماع كالصلاة في الدار المغصوبة مثلاً فالمجمع متمحض عندئذ في الحرمة والمبغوضية بحسب الواقع، ولا يعقل حينئذ أن يكون مصداقاً للمأمور به والواجب، وإن فرض أنّ المكلف جاهل بحرمته جهلاً عن قصور، غاية الأمر أنّ جهله بها كذلك يوجب كونه معذوراً وغير مستحق للعقاب على ارتكاب الحرام في الواقع، هذا بناءً على وجهة نظرنا من أنّ هذه المسألة على القول بالامتناع تدخل في كبرى باب التعارض، فتجري عليه أحكامه.
ولكن يمكن لنا المناقشة فيه على وجهة نظره (قدس سره) أيضاً، ببيان أنّ قصد الملاك إنّما يكون مقرّباً فيما إذا لم يكن مزاحماً بشيء، ولا سيما إذا كان أقوى منه، كما هو المفروض في المقام، وأمّا الملاك المزاحم فلا يترتب عليه أيّ أثر، ولا يكون قصده مقرّباً، بناءً على ما هو الصحيح من تبعية الأحكام للجهات الواقعية لا للجهات الواصلة، وبما أنّ في مفروض الكلام ملاك الوجوب مزاحم بملاك الحرمة في مورد الاجتماع فلا يكون صالحاً للتقرب به.
وعلى هذا فلا يمكن الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع على هذا القول ـ أي القول بالامتناع ـ لا من ناحية الأمر وانطباق المأمور به بما هو على المأتي به في الخارج، ولا من ناحية الملاك لفرض أ نّه مزاحم بما هو أقوى منه.
وأمّا النقطة الثالثة: فيردّها أنّ العقل يرى التفاوت بين هذا الفرد وبقية الأفراد من ناحية أنّ هذا الفرد بما أ نّه ليس مصداقاً للطبيعة المأمور بها بما هي ولا تنطبق تلك الطبيعة عليه، فلا يمكن إحراز أ نّه واف بغرض الطبيعة المأمور بها، ضرورة أنّ طريق إحراز وفائه بغرضها منحصر بانطباقها عليه، ومع عدم الانطباق لا طريق لنا إلى ذلك أصلاً، لوضوح أنّ عدم الانطباق كما يمكن أن يكون من ناحية وجود المانع مع ثبوت المقتضي له، يمكن أن يكون من ناحية

ــ[438]ــ

عدم المقتضي له، ومن الطبيعي أنّ العقل على هذا لايحكم بحصول الامتثال باتيان المجمع وسقوط الأمر.
وأمّا النقطة الرابعة: فيرد عليها أنّ الأحكام الشرعية بناءً على وجهة نظر العدلية تابعة لجهات المصالح والمفاسد الواقعية، وهي مقتضية لجعلها على نحو القضايا الحقيقية، وأمّا فعلية تلك الأحكام فهي تابعة لفعلية موضوعاتها في الخارج، ولا دخل لعلم المكلفين وجهلهم بها لا في مرحلة الجعل ولا في مرحلة الفعلية أصلاً.
وعلى هذا، فلا معنى لما أفاده (قدس سره) من التزاحم بين الجهات في مقام فعلية الأحكام، بأن يكون المؤثر في الحكم فعلاً هو الجهة الواصلة دون غيرها، ضرورة أنّ لازم ذلك هو دخل علم المكلف في فعلية الأحكام، وهذا غير معقول، لاستلزامه التصويب وانقلاب الواقع، فانّ لازمه هو أنّ المكلف إذا كان عالماً بحرمة المجمع في مورد الاجتماع وأ نّه مشتمل على مفسدة، فالحرمة فعلية، ولا أثر للوجوب عندئذ أصلاً، وإذا كان جاهلاً بحرمته عن قصور وعالماً بوجوبه وأ نّه مشتمل على مصلحة، فالوجوب فعلي، ولا أثر للحرمة، وهذا معنى دخل علم المكلف في فعلية الأحكام. وعليه فلا محالة يلزم التصويب وانقلاب الواقع، ومن الواضح جداً أنّ ذلك مما لم يلتزم به أحد حتّى هو (قدس سره) كيف فانّ لازم ذلك هو خروج المقام عن محل النزاع، ضرورة أ نّه في هذا الحال لا حرمة واقعاً ليقع الكلام في أ نّها تجتمع مع الوجوب في مورد الاجتماع أم لا.
وبكلمة اُخرى: أنّ الأمر في الأحكام العقلية العملية كالحسن والقبح وإن كان كما ذكر من أ نّها تابعة للجهات الواصلة، فلا يتصف الشيء بالحسن أو القبح العقلي في الواقع، وإنّما يتصف به فيما إذا علم المكلف بجهة محسّنة أو مقبّحة

ــ[439]ــ

له، والسر في ذلك هو أ نّه لا واقع لحكم العقل بالحسن والقبح ما عدا إدراكه استحقاق الفاعل الذم على فعل والمدح على آخر، ومن المعلوم أنّ استحقاق الفاعل المدح أو الذم على صدور فعل منه إنّما يكون في فرض التفاته إلى الجهة المحسّنة أو المقبّحة له، وإلاّ فلا يعقل اتصافه بذلك.
ولكن الأمر في الأحكام الشرعية ليس كذلك، ضرورة أ نّها تابعة للجهات الواقعية في مقام الجعل بلا دخل لعلم المكلف وجهله في ذلك المقام أصلاً، وفي مقام الفعلية تابعة لفعلية موضوعها وتحققه في الخارج، ولا دخل لعلم المكلف بالحكم في فعليته أصلاً، كما أ نّه لا يضرّ بها جهله، فلو كانت الأحكام الواقعية تابعة للجهات الواصلة للزم التصويب وانقلاب الواقع لا محالة، فعندئذ يخرج المقام عن محل النزاع، فانّه على هذا ليس في مورد الاجتماع حكمان ليتكلم في جواز اجتماعهما فيه وعدم جوازه، بل حكم واحد فحسب، فانّ المكلف إذا كان جاهلاً بالحرمة جهلاً عن قصور فلا حرمة في مورد الاجتماع واقعاً، بل هو متمحض في الوجوب، وإن كان العكس فبالعكس، كما هو واضح.
ولكنّك عرفت فساد هذا المبنى وأنّ المؤثر في الأحكام إنّما هو الجهات الواقعية لا غيرها، وعليه فمناط الحرمة في مورد الاجتماع بما أ نّه كان أقوى كما هو المفروض، فلا محالة يكون هو المؤثر، ولا أثر لمناط الوجوب عندئذ أصلاً، سواء أكان المكلف عالماً بالحرمة أم كان جاهلاً بها عن تقصير أو قصور، فعلى جميع التقادير لا يكون المجمع واجباً.
أمّا على التقدير الأوّل والثاني فواضح، كما اعترف هو (قدس سره) بذلك. وأمّا على التقدير الثالث فلأنّ الجهل لا يوجب انقلاب الواقع، فالواقع باق على ما كان عليه، وأنّ ملاك الوجوب بما أ نّه مزاحم بما هو أقوى منه فلا أثر له.

ــ[440]ــ

وقد تحصّل من ذلك: أنّ ما أفاده (قدس سره) في هذه النقطة لا يرجع إلى معنىً محصّل على وجهة نظره (قدس سره) في باب الاجتماع فضلاً عن وجهة نظرنا فيه.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net