ـ الاضطرار إلى الحرام بسوء الاختيار \ الأقوال في حكم الخروج من الغصب 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5961


[ الاضطرار بسوء الاختيار ]

وأمّا الموضع الثاني، وهو ما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار، فيقع الكلام فيه في موردين:
الأوّل: في حكم الخروج في حدّ نفسه.
الثاني: في حكم الصلاة الواقعة حاله، أي حال الخروج.

ــ[69]ــ

أمّا المورد الأوّل: فقد اختلفت كلمات الأصحاب فيه إلى خمسة أقوال:
الأوّل: أنّ الخروج حرام بالفعل.
الثاني: أ نّه واجب وحرام معاً كذلك. أمّا أ نّه واجب فمن ناحية أ نّه إمّا أن يكون مقدمةً للتخلص عن الحرام الذي هو واجب عقلاً وشرعاً ومقدمة الواجب واجبة، وإمّا أن يكون من ناحية أ نّه مصداق له، أي للتخلص الواجب، وأمّا أ نّه حرام فمن ناحية أ نّه مصداق للتصرف في مال الغير وهو محرّم، وذهب إلى هذا القول أبو هاشم المعتزلي(1)، ويظهر اختياره من المحقق القمي (قدس سره) أيضاً(2)، وهذا القول يرتكز على أمرين: الأوّل: دخول المقام في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتـناع بالاختيار للاختيار عقاباً وخطاباً. الثاني: الالتزام بوجوب الخروج، إمّا لأجل أ نّه مقدمة للتخلص الواجب، ومقدمة الواجب واجبة، وإمّا لأجل أ نّه من مصاديقه وأفراده.
الثالث: أ نّه واجب فعلاً وحرام بالنهي السابق الساقط من ناحية الاضطرار، ولكن يجري عليه حكم المعصية، واختار هذا القول المحقق صاحب الفصول (قدس سره)(3).
الرابع: أ نّه واجب فحسب ولا يكون محرّماً، لا بالنهي الفعلي ولا بالنهي السابق الساقط، واختار هذا القول شيخنا العلاّمة الأنصاري (قدس سره) (4)
ـــــــــــــــــــــ
(1) البرهان في اُصول الفقه 1: 208، المنخول: 129.
(2) قوانين الاُصول 1: 152.
(3) الفصول: 138.
(4) مطارح الأنظار: 153.

ــ[70]ــ

ووافقه فيه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1).
الخامس: أ نّه لا يكون فعلاً محكوماً بشيء من الأحكام الشرعية، ولكنّه منهي عنه بالنهي السـابق الساقط بالاضطرار أو نحوه، ويجري عليه حكم المعصية. نعم، هو واجب عقلاً من ناحية أ نّه أقل محذورين وأخف قبيحين، واختار هذا القول المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)(2) فهذه هي الأقوال في المسألة.
ولنأخذ بالنظر إلى كل واحد من هذه الأقوال:
أمّا القول الأوّل: فهو واضح الفساد، وذلك لاستلزام هذا القول التكليف بالمحال، بيان ذلك: هو أنّ المتوسط في الأرض المغصوبة لا يخلو من أن يبقى فيها أو يخرج عنها ولا ثالث لهما، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: المفروض أنّ البقاء فيها محرّم، فلو حرم الخروج أيضاً لزم التكليف بما لا يطاق وهو محال، فإذن لا يعقل أن يكون الخروج محكوماً بالحرمة.
وأمّا القول الثاني: فهو أوضح فساداً من الأوّل، وذلك ضرورة استحالة كون شيء واحد واجباً وحراماً معاً حتّى على مذهب الأشعري الذي يرى جواز التكليف بالمحال، فان نفس هذا التكليف والجعل محال، لا أ نّه من التكليف بالمحال. على أنّ وجوبه إمّا أن يكون مبنياً على القول بوجوب المقدمة بناءً على كون الخروج مقدمةً للتخلص الواجب وردّ المال إلى مالكه، وإمّا أن يكون مبنياً على كونه مصداقاً للتخلص ولردّ المال إلى مالكه.
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 186.
(2) كفاية الاُصول: 168.

ــ[71]ــ

أمّا الأوّل فقد ذكرنا في بحث مقدمة الواجب أ نّه لا دليل على وجوب المقدمة شرعاً. وأمّا الثاني فسيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى أنّ الخروج ليس مصداقاً لقاعدة ردّ المال إلى مالكه، فإذن لا دليل على كون الخروج واجباً. وأمّا حرمته فهي مبنية على قاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وخطاباً»، ولكن سيأتي(1) بيان أنّ هذه القاعدة تنافي الخطاب، ضرورة أ نّه لا يمكن توجيه التكليف نحو العاجز ولو كان عجزه مستنداً إلى سوء اختياره، لكونه لغواً محـضاً، وصدور اللغو من الشارع الحكيم مستحيل، وكيف كان فهذا القول غير معقول، وعلى تقدير كونه معقولاً فلا دليل عليه كما عرفت.
وأمّا القول الثالث: وهو كون الخروج واجباً فعلاً ومحرّماً بالنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه، فهو وإن كان له بحسب الظاهر صورة معقولة، ببيان أنّ الخروج بما أ نّه تصرّف في مال الغير بسوء اختياره فلا مانع من أن يعاقب عليه، لفرض أ نّه مبغوض للمولى وإن كان النهي عنه فعلاً غير معقول لاستلزامه التكليف بالمحال، وبما أ نّه مصداق للتخلية ولردّ المال إلى مالكه فلا مانع من كونه واجباً.
فالنتيجة: هي أنّ الخروج واجب فعلاً ومنهي عنه بالنهي السابق، إلاّ أ نّه بحسب الواقع والدقّة العقلية ملحق بالقولين الأوّلين في الفساد، والوجه في ذلك: هو أنّ تعلق الأمر والنهي بشيء واحد محال، وإن كان زمان تعلق أحدهما غير زمان تعلق الآخر به، فان ملاك اسـتحالة تعلق الأمر والنهي بشيء واحد وإمكانه إنّما هو بوحدة زمان المتعلق وتعدده، ولا عبرة بوحدة زمان الايجاب والتحريم وتعدده أصلاً، بداهة أ نّه لا يعقل أن يكون شيء واحد
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 88، 93، وتقدّم أيضاً في المجلد الثاني ص 185.

ــ[72]ــ

في زمان واحد متعلقاً للايجاب والتحريم معاً، وإن فرض أنّ زمان الايجاب غير زمان التحريم، والسر في ذلك واضح، وهو أنّ الفعل الواحد في زمان واحد إمّا أن يكون مشتملاً على مصلحة ملزمة، وإمّا أن يكون مشتملاً على مفسدة كذلك، فعلى الأوّل لا مناص من الالتزام بوجوبه، وعلى الثاني لا مناص من الالتزام بحرمته ولا يعقل إيجابه وتحريمه معاً، كما هو واضح.
تلخّص: أنّ العبرة إنّما هي بوحدة زمان المتعلق وتعدده فحسب، فإن كان واحداً يستحيل تعلق الأمر والنهي به، وإن كان زمان تعلق أحدهما به غير زمان تعلق الآخر، وإن كان متعدداً فلا مانع من تعلقهما به وإن كان زمان تعلقهما واحداً كما إذا أمر المولى يوم الخميس باكرام زيد يوم الجمعة ونهاه في ذلك اليوم عن إكرامه يوم السبت، فانّه لا محذور فيه أبداً.
نعم، يمكن للمولى العرفي أن يأمر بشيء وينهى عنه في زمان آخر اشتباهاً أو بتخيل أنّ فيه مصلحة مقتضية للوجوب ثمّ بان أ نّه لا مصلحة بل فيه مفسدة مقتضية للتحريم، إلاّ أ نّه لا أثر في مثل ذلك لأحد الحكمين أصلاً، بل هو صدر اشتباهاً وغفلةً لا حقيقةً وواقعاً.
وبكلمة اُخرى: فقد ذكرنا غير مرّة أنّ الغرض من الأمر بشيء أو النهي عنه إنّما هو إيجاد الداعي للمكلف إلى الفعل في الخارج أو الترك في مقام الامتثال، ومن الواضح جداً أنّ الداعي إنّما يحصل له فيما إذا كان المكلف متمكناً من الامتثال في ظرفه، وأمّا إذا لم يتمكن منه فلا يحصل له هذا الداعي ومع عدم حصوله يكون الأمر أو النهي لغواً محضاً فلا يترتب عليه أيّ أثر، ومن المعلوم أنّ صدور اللغو من الحكيم مستحيل، وعليه فلا يمكن أن يكون فعل واحد مأموراً به ومنهياً عنه معاً ولو كان زمان أحدهما غير زمان الآخر من هذه الناحية أيضاً، أعني ناحية المنتهى والامتثال.

ــ[73]ــ

وقد تحصّل مما ذكرناه: أنّ الخروج في مفروض الكلام إن كان مشتملاً على مفسدة امتنع تعلق الأمر به، وإن كان مشتملاً على مصلحة امتنع تعلق النهي به ولو من الزمان السابق، لفرض أنّ المولى علم باشتماله على المصلحة في ظرفه، ومعه يستحيل أن ينهى عنه في ذلك الظرف، وقد عرفت أنّ العبرة في استحالة تعلق الأمر والنهي بشيء واحد وإمكانه إنّما هي بوحدة زمان المتعلق وتعدده، فإن كان واحداً يستحيل أن يكون متعلقاً للأمر والنهي معاً، وإن كان زمان النهي سابقاً على زمان الأمر أو بالعكس، لعدم العبرة بتعدد زمانهما أصلاً، لفرض أ نّه لا يرفع المحذور المزبور، وإن كان متعدداً فلا مانع من تعلق الأمر والنهي به في زمان واحد فضلاً عن زمانين، لعدم التنافي بينهما عندئذ أصلاً، لفرض أنّ الأمر تعلق به في زمان والنهي تعلق به في زمان آخر، ولا مانع من أن يكون شيء واحد في زمان محكوماً بحكم وفي زمان آخر محكوماً بحكم آخر غيره.
مثال الأوّل: ما إذا فرض أنّ المولى نهى يوم الأربعاء عن صوم يوم الجمعة وأمر به في يوم الجمعة، فانّه لا إشكال في استحالة ذلك، ضرورة أنّ صوم يوم الجمعة لا يمكن أن يكون مأموراً به ومنهياً عنه معاً، فانّه إن كان فيه ملاك الوجوب امتنع تعلق النهي به مطلقاً، وإن كان فيه ملاك الحرمة امتنع تعلق الأمر به كذلك.
ومثال الثاني: ما إذا أمر المولى يوم الخميس بصوم يوم الجمعة ونهى في ذلك اليوم عن صوم يوم السبت، فانّه لا إشكال في جواز ذلك وإمكانه.
فالنتيجة: أنّ ملاك استحالة اجتماع حكمين من الأحكام التكليفية في شيء واحد، وإمكان اجتماعه إنّما هو بوحدة زمان المتعلق وتعدده، ولا اعتبار بوحدة زمان الحكمين وتعدده أصلاً.

ــ[74]ــ

وأمّا الأحكام الوضعية فقد ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره)(1) أنّ حالها من هذه الناحية حال الأحكام التكليفية، فكما أنّ المناط في استحالة اجتماع اثنين منها في شيء واحد وإمكانه هو وحدة زمان المتعلق وتعدده لا وحدة زمان الحكمين وتعدده، فكذلك المناط في استحالة اجتماع اثنين من الأحكام الوضعية في شيء واحد وإمكانه، هو وحدة زمان المعتبر وتعدده لا وحدة زمان الاعتبارين وتعدده.
ومن هنا أشكل (قدس سره) على ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في تعليقته على مكاسب شيخنا الأعظم (قدس سره) وإليك نص ما أفاده: فلا وجه للقول بالكشف بمعنى تحقق المضمون قبل ذلك لأجل تحقق الاجازة فيما بعد، نعم بمعنى الحكم بعد الاجازة بتحقق مضمونه حقيقةً مما لا محيص عنه بحسب القواعد، فلو أجاز المالك مثل الاجارة الفضولية بعد انقضاء بعض مدتها، أو الزوج أو الزوجة عقد التمتع كذلك، فيصح اعتبار الملكية حقيقةً للمستأجر والزوجية لهما في تمام المدة التي قد انقضى بعضها، بل ولو انقضى تمامها لتحقق منشأ انتزاعها.
فإن قلت: كيف يصح هذا وكان قبل الاجازة ملكاً للمؤجر ولم يكن هناك زوجية، إلاّ أن يكون مساوقاً لكون شيء بتمامه ملكاً لاثنين في زمان واحد، واجتماع الزوجية وعدمها كذلك. قلت: لا ضير فيه إذا كان زمان اعتبار الملكية لأحدهما في زمان غير زمان اعتبار الملكية للآخر في ذاك الزمان، لتحقق ما هو منشأ انتزاعها في زمان واحد لكل منهما في زمانين، وكذا الزوجية وعدمها (2).
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 188.
(2) حاشية المكاسب: 61.

ــ[75]ــ

وحاصل هذا الاشكال هو ما أفاده (قدس سره) من أنّ اختلاف زمان اعتبار الملكية للاثنين لا يدفع إشكال اجتماع المالكين في ملك واحد في زمان واحد، فان اختلاف زمان الاعتبار بمنزلة اختلاف زماني الاخبار بوقوع المتناقضين في زمان واحد، وبمنزلة اختلاف زماني الحكم بحكمين متضادين، فانّ حكم الحاكم في يوم الجمعة لكون عين شخصية لزيد في هذا اليوم مع حكمه في يوم السبت بكون شخص هذه العين في يوم الجمعة لبكر متناقض، كما هو واضح.
وغير خفي أن ما افاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في تعليقته على المكاسب هو الصحيح، ولا يرد عليه ما أورده شيخنا الاُستاذ (قدس سره)، والوجه في ذلك: هو أنّ الأحكام الوضعية لا تشترك مع الأحكام التكليفية في ملاك الاستحالة والامكان، وذلك لأنّ الأحكام التكليفية بما أ نّها تابعة لجهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها أو لجهات اُخرى، فلا يمكن أن يكون فعل في زمان واحد محكوماً بحكمين مختلفين كالوجوب والحرمة مثلاً، ولو كان تعلق أحدهما به في زمان وتعلق الآخر به في زمان آخر، ضرورة أنّ هذا الفعل في هذا الزمان لا يخلو من أن يكون مبغوضاً للمولى أو أن يكون محبوباً له ولا ثالث لهما.
فعلى الأوّل يستحيل تعلق الأمر به، وعلى الثاني يستحيل تعلق النهي به كما هو واضح، وهذا بخلاف الأحكام الوضعية، فانّها تابعة لجهات المصالح والمفاسد النوعية في نفس جعلها واعتبارها، وعليه فلا يمكن أن تقتضي مصلحة في زمان اعتبار شيء ملكاً لشخص، ومصلحة اُخرى في ذلك الزمان بعينه اعتباره ملكاً لآخر. نعم، لا مانع من أن تقتضي المصلحة اعتبار ملكيته له في زمان، والمصلحة الاُخرى في زمان آخـر اعتبار ملكيته لآخر في ذلك الزمان بعينه،

ــ[76]ــ

بأن يكون زمان الاعتبارين مختلفاً وزمان المعتبرين واحداً كما حققنا ذلك بصورة مفصلة في مسألة الفضولي عند البحث عن كون الاجازة ناقلة أو كاشفة (1).
ونتيجته: هي أنّ القول بكون الاجازة ناقلة باطل ولا دليل عليه أصلاً، كما أنّ الكشف الحقيقي بالمعنى المشهور باطل، بل هو غير معقول، وهو أن تكون الملكية حاصلة من حين العقد وقبل زمان الاجازة، فالاجازة كاشفة عنها فحسب ولا أثر لها ما عدا الكشف عن ثبوت الملكية من الأوّل، ومن المعلوم أنّ هذا بلا موجب ودليل، بل الدليل قام على خلافه، ضرورة أنّ هذا العقد لم يكن عقداً للمجيز إلاّ بعد إجازته ورضاه به، ليكون مشمولاً لأدلة الامضاء، ومع هذا كيف يحكم الشـارع بملكية المال له وانتقـاله إليه قبل أن يرضى به ويجيزه، ولأجل ذلك قد التزمنا بالكشف بالمعنى الآخر ـ ولا بأس بتسـميته بالكشف الانقلابي ـ وهو الالتزام بكون المال في العقد الفضولي باقياً على ملك مالكه الأصلي قبل الاجازة وإلى زمانها، وأمّا إذا أجاز المالك ذلك العقد ورضي به فهو ينتقل من ملكه إلى ملك الآخر وهو الأصيل من حين العقد وزمانه.
والوجه في ذلك: هو أنّ مفهوم الاجازة مفهوم تعلّقي، فكما أ نّه يتعلق بالأمر الحالي فكذلك يتعلق بالأمر الماضي، وفي المقام بما أنّ إجازة المالك متعلقة بالعقد السابق، إذ المفروض أ نّه أجاز ذلك العقد الواقع فضولة لا عقداً آخر، ومن المعلوم أنّ العقد بمجرد إجازته ينتسب إليه حقيقةً، ولا مانع من انتساب الأمر السابق وهو العقد بواسطة الأمر اللاّحق وهو الاجازة، بداهة أنّ الانتساب والاضافة خفيف المؤونة فيحصل بأدنى شيء وأقل مناسبة، ولذلك
ـــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الفقاهة 4: 144.

ــ[77]ــ

أمثلة كثيرة في العرف والشرع ولا حاجة إلى بيانها، فاذا صار هذا العقد عقداً له من حين صدوره، فلا محالة ينتقل ماله إلى الآخر من ذلك الحين، ومن هنا قلنا إنّ الكشف بذاك المعنى مطابق للقاعدة فلا يحتاج وقوعه في الخارج إلى دليل.
ولكن قد يتخيل أنّ الكشف بهذا المعنى غير ممكن، وذلك لاستلزامه كون المال الواحد في زمان ملكاً لشخصين، لفرض أنّ هذا المال باق في ملك مالكه الأصلي إلى زمان الاجازة حقيقة، ومعه كيف يعقل أن يصير هذا المال ملكاً للطرف الآخر في هذا الزمان بعينه بعد الاجازة فيلزم اجتماع الملكيتين على مال واحد في زمان فارد وهو غير معقول، لأ نّه من اجتماع الضدّين على شيء واحد.
وغير خفي أنّ هذا خيال خاطئ جداً وغير مطابق للواقع يقيناً، والوجه فيه ما ذكرناه غير مرّة من أنّ الأحكام الشرعية جميعاً اُمور اعتبارية ولا واقع موضوعي لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار، ولذا قلنا إنّه لا مضادة بينها في أنفسها، والمضادة بينها إنّما هي من ناحية المبدأ أو المنتهى.
وعلى هذا الضوء فبما أنّ في المقام زمان الاعتبار مختلف، فان زمان اعتبار بقاء هذا المال في ملك مالكه قبل الاجازة، وزمان اعتبار كونه ملكاً للآخر بعدها، وإن كان زمان المعتبر فيهما واحداً، فلا يلزم محذور التضاد، فان محذور التضاد إنّما يلزم فيما إذا كان زمان الاعتبار فيهما أيضاً واحداً، وأمّا إذا كان متعدداً كما في المقام فلا يلزم ذلك، ضرورة أ نّه لا مانع من أن تقتضي المصلحة الملزمة بعد الاجازة لاعتبار كون هذا المال ملكاً له من حين العقد، فانّ الاعتبار خفيف المؤونة، فهو قابل لأن يتعلق بالأمر السابق، كأن يعتبر المولى ملكية مال لشخص من زمان سابق ولا مانع فيه أبداً، كما أ نّه قابل للتعلق

ــ[78]ــ

بأمر لاحق، كما في باب الوصية أو نحوها.
ومن هنا قلنا إنّ التعليق في باب العقود أمر معقول في نفسه، بل هو واقع كما في باب الوصية، فانّ الموصي حكم بملكية ماله لشخص بعد موته ومعلقاً عليه، والشارع أمضاه كذلك، وكذا في بيع الصرف، فان إمضاء الشارع وحكمه بالملكية فيه معلّق على التقابض بين المتبايعين وإن كان حكمهما ـ أي المتبايعين ـ بالملكية غير معلّق على شيء.
فالنتيجة: أنّ التعليق في العقود أمر معقول، ولذا كلّما دلّ الدليل على وقوعه نأخذ به، وإنّما لا نأخذ به من ناحية الاجماع القائم على بطلانه.
وكيف كان، فلا مانع من تعلق الاعتبار بالملكية السابقة، كما أ نّه لا مانع من تعلقه بالملكية اللاّحقة، بداهة أ نّه لا واقع للملكية ولا وجود لها في الخارج على الفرض غير اعتبار من بيده الاعتبار، فإذا كان هذا أمراً ممكناً في نفسه فهو واقع في المقام لا محالة، لأنّ مقتضى تعلق الاجازة بالعقد السابق هو اعتبار كون هذا المال ملكاً له في الواقع من ذلك الزمان.
وبكلمة اُخرى: أنّ اعتبار الملكية بما أ نّه تابع للملاك القائم به فهو مرّة يقتضي اعتبار ملكية شيء في زمن سابق كما فيما نحن فيه، فانّ الاعتبار فعلي والمعتبر أمر سابق، واُخرى يقتضي اعتبار ملكية شيء في زمن متأخر كما في باب الوصية، فانّ الاعتبار فيه فعلي والمعتبر أمر متأخر، وثالثة يقتضي اعتبار ملكية شيء في زمن فعلي، فيكون الاعتبار والمعتبر كلاهما فعلياً، وهذا هو الغالب، ومن المعلوم أنّ جميع هذه الصور ممكن، غاية الأمر أنّ وقوع الصورة الاُولى والثانية في الخارج يحتاج إلى دليل إذا لم يكن في مورد مطابقاً للقاعدة كما في المقام، لأنّ اعتبار ملكية المال الواقع عليه العقد الفضولي لمن انتقل إليه تابع لاجازة المالك، وبما أنّ الاجازة متعلقة بالعقد السابق كما هو مقتضى

ــ[79]ــ

مفهومها، فلا محالة يكون الاعتبار متعلقاً بالملكية من ذلك الزمان لا من حين الاجازة، إذ من الواضح جداً أنّ الاجازة متعلقة بالعقد السابق وموجبة لاستناد ذلك العقد إلى المالك، فلابدّ من أن يكون الاعتبار متعلقاً بالملكية من حين العقد، فان أدلة الامضاء كقوله تعالى: (أَوفُوا بِالعُقُود)(1)، (وَأَحَلَّ اللهُ البَيع)(2) ونحوهما ناظرة إلى إمضاء ما تعلقت به الاجازة، والمفروض أنّ ما تعلقت به الاجازة هو العقد السابق الصادر من الفضولي، فإذن تدل الأدلة على صحة هذا العقد وانتسابه إلى المالك من ذاك الزمان، فيكون زمان الاعتبار فعلياً وهو زمان الاجازة وزمان المعتبر سابقاً وهو زمان صدور العقد، وهذا معنى ما ذكرناه من أنّ الكشف بهذا المعنى مطابق للقاعدة ولا مناص من الالتزام به.
وقد تحصّل من ذلك عدّة اُمور:
الأوّل: أنّ القول بالكشف بهذا المعنى لا يستلزم انقلاب الواقع، ضرورة أ نّه لا واقع للملكية ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار ليلزم الانقلاب، فان انقلاب الواقع فرع أن يكون لها واقع، ليقال إنّ الالتزام به يستلزم انقلابها عما وقعت عليه وهو محال، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أنّ الاعتبار خفيف المؤونة، فكما يمكن تعلقه بأمر استقبالي أو حالي يمكن تعلقه بأمر سابق من دون لزوم محذور أصلاً. فما توهم من أنّ المحذور اللازم على القول بالكشف الحقيقي بالمعنى المشهور لازم على هذا القول أيضاً، فاسد جداً ولا أصل له أبداً، كما يظهر وجهه من ضوء بياننا المتقدم فلاحظ.
الثاني: أنّ الكشف بهذا المعنى أمر معقول في نفسه من ناحية، ومطابق
ـــــــــــــــــــــ
(1) المائدة 5: 1.
(2) البقرة 2: 275.

ــ[80]ــ

للقاعدة من ناحية اُخرى، ولذا لا يحتاج وقوعه في الخارج إلى دليل، فامكانه يكفي لوقوعه كما عرفت.
الثالث: أنّ ملاك استحالة اجتماع الحكمين من الأحكام الوضعية في شيء واحد غير ملاك استحالة اجتماع الحكمين من الأحكام التكليفية فيه، ولأجل ذلك يكون تعدد زمان الاعتبار في الأحكام الوضعية مجدياً في رفع محذور استحالة اجتماع اثنين منها في شيء في زمان واحد. وأمّا في الأحكام التكليفية فلا أثر له أصلاً كما تقدّم. ومن هنا يظهر أنّ الصحيح هو ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في تعليقته على مكاسب شيخنا الأعظم لا ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره).
وأمّا القول الرابع: وهو ما اختاره شيخنا الاُستاذ(1) تبعاً لشيخنا العلاّمة الأنصاري (قدس سره) فملخصه على ما أفاده: هو أنّ المقام داخل في كبرى قاعدة وجوب ردّ المال إلى مالكه، ولا صلة له بقاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار، ولأجل ذلك يكون الخروج واجباً شرعاً ولا يجري عليه حكم المعصية. نعم، بناءً على دخوله في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار، فالصحيح هو ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ الخروج لا يكون محكوماً بحكم شرعي فعلاً، ولكن يجري عليه حكم النهي السابق الساقط بالاضطرار وهو المعصية، فله (قدس سره) دعاو ثلاث:
الاُولى: أنّ الخروج لا يكون محكوماً بحكم من الأحكام الشرعية فعلاً، ولكن يجري عليه حكم المعصية للنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه، بناءً على كون المـقام من صـغريات قاعـدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار.
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 186 وما بعدها.

 
 

ــ[81]ــ

الثانية: أنّ المقام غير داخل في كبرى تلك القاعدة وليس من صغرياتها.
الثالثة: أ نّه داخل في كبرى قاعدة وجوب ردّ المال إلى مالكه ولزوم التخلية بينه وبين صاحبه.
أمّا الدعوى الاُولى: فقد أفاد (قدس سره) أ نّه يكفي لاثباتها بطلان القولين السابقين، أعني القول بكون الخروج واجباً وحراماً فعلاً، والقول بكونه واجباً فعلاً وحراماً بالنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه. وقد تقدم بطلان كلا القولين.
أمّا القول الأوّل: فلاستحالة كون شيء واحد واجباً وحراماً معاً. ودعوى أنّ الخطاب التحريمي في المقام خطاب تسجيلي، والغرض منه تصحيح عقاب العبد وليس خطاباً حقيقياً، كما هو الحال في الخطابات المتوجهة إلى العصاة مع علم الآمر بعدم تحقق الاطاعة منهم خاطئة جداً، وذلك لأ نّه لا معنى للخطاب التسجيلي، فانّ العبد إن كان مستحقاً للعقاب بواسطة مخالفة أمر المولى أو نهيه مع قطع النظر عن هذا الخطاب فيكون هذا الخطاب لغواً ولا فائدة له أصلاً، ومن المعلوم أنّ صدور اللغو من الحكيم محال، وإن لم يكن مستحقاً له في نفسه مع قطع النظر عنه، فكيف يمكن خطابه بهذا الداعي ـ أي بداعي العقاب مع عدم قدرته على امتثاله ـ ضرورة أنّ هذا تعدّ من المولى على عبده وظلم منه. فإذن لا يمكن الالتزام بالخطاب التسجيلي، وأمّا خطاب العصاة مع العلم بعدم تحقق الاطاعة منهم فهو خطاب حقيقي، بداهة أ نّه لا يعتبر في صحة الخطاب الحقيقي إلاّ إمكان انبعاث المكلف أو انزجاره في الخارج، وهذا المعنى متحقق في موارد تكليف العصاة على الفرض، فانّ العصيان إنّما هو باختيارهم، فإذن قياس المقام بخطاب العصاة قياس مع الفارق، وكيف كان فلا شبهة في بطلان هذا القول.

ــ[82]ــ

وأمّا القول الثاني: فقد عرفت امتناع تعلق الحكمين بفعل واحد في زمان واحد ولو كان زمان تعلق الايجاب مغايراً لزمان تعلق التحريم، لما ذكرناه من أنّ ملاك الاستحالة والامكان إنّما هو بوحدة زمان المتعلق وتعدده لا بوحدة زمان الايجاب والتحريم وتعدده كما تقدّم ذلك بشكل واضح.
وأمّا الدعوى الثانية: وهي عدم كون المقام داخلاً في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار، فقد استدلّ عليها بوجوه:
الأوّل: أنّ ما يكون داخلاً في كبرى هذه القاعدة لا بدّ أن يكون مما قد عرضه الامتناع باختيار المكلف وإرادته كالحج يوم عرفة لمن ترك مقدمته باختياره وقدرته، وكحفظ النفس المحترمة لمن ألقى نفسه من شاهق، ونحوهما من الأفعال الاختيارية التي تعرض عليها الامتناع بالاختيار. ومن الواضح جداً أنّ الخروج من الدار المغصوبة ليس كذلك، فانّه باق على ما هو عليه من كونه مقدوراً للمكلف فعلاً وتركاً بعد دخوله فيها، ولم يعرض عليه الامتناع كما هو واضح.
نعم، مطلق الكون في الأرض المغصوبة الجامع بين الخروج والبقاء بأقل مقدار يمكن فيه الخروج، وإن كان مما لا بدّ منه ولا يتمكن المكلف من تركه بعد دخوله فيها، إلاّ أنّ ذلك أجنبي عن الاضطرار إلى خصوص الغصب بالخروج كما هو محل الكلام، ضرورة أنّ الاضطرار إلى جامع لا يستلزم الاضطرار إلى كل واحد من أفراده، مثلاً لو اضطرّ المكلف إلى التصرف في ماء جامع بين ماء مباح وماء مغصوب فهو لا يوجب جواز التصرف في المغصوب، لفرض أ نّه لا يكون مضطراً إلى التصرف فيه خاصة ليكون رافعاً لحرمته، بل هو باق عليها لعدم الموجب لسقوطها، فانّ الموجب له إنّما هو تعلق الاضطرار به، والمفروض أ نّه غير متعلق به وإنّما تعلق بالجامع بينه وبين وغيره، فإذن

ــ[83]ــ

لا يجوز التصرف فيه. نعم، يتعين عليه عندئذ التصرف في خصوص الماء المباح ورفع الاضطرار به، وما نحن فيه من هذا القبيل، فانّ الاضطرار إلى مطلق الكون في الأرض المغصوبة الجامع بين الخروج والبقاء لا يوجب الاضطرار إلى خصوص الخروج، بل الخروج باق على ما هو عليه من كونه مقدوراً من دون أن يعرض عليه ما يوجب امتناعه. فالنتيجة أنّ الخروج ليس من مصاديق قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار.
الثاني: أنّ محل الكلام في هذه القاعدة إنّما هو فيما إذا كان ملاك الوجوب تاماً في ظرفه ومطلقاً ـ أي من دون فرق في ذلك بين أن تكون مقدمته الاعدادية موجودة في الخارج أو غير موجودة ـ وأن يكون وجوبه مشروطاً بمجيء زمان متعلقه أو لا، وذلك كوجوب الحج، فانّه وإن كان مشروطاً بمجيء يوم عرفة بناءً على استحالة الواجب المعلّق، إلاّ أنّ ملاكه يتم بتحقق الاستطاعة كما هو مقتضى قوله تعالى: (وَللهِِ عَلَى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(1).
فانّه ظاهر في أنّ ملاك وجوبه في ظرفه صار تاماً بعد تحقق الاستطاعة، ولا يتوقف على مجيء زمان متعلقه وهو يوم عرفة، وعليه فمن ترك المسير إلى الحج بعد وجود الاستطاعة يستحق العقاب على تركه وإن امتنع عليه الفعل عندئذ في وقته، لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار. وكذا من ألقى نفسه من شاهق فانّه يستحق العقاب عليه. هذا هو الملاك في جريان هذه القاعدة، ومن المعلوم أنّ هذا الملاك غير موجود في المقام بل هو في طرف النقيض مع مورد القاعدة، وذلك لأنّ الخروج قبل الدخول في الدار المغصوبة لم يكن
ـــــــــــــــــــــ
(1) آل عمران 3: 97.

ــ[84]ــ

مشتملاً على الملاك، فالدخول فيها من المقدمات التي لها دخل في تحقق القدرة على الخروج وتحقق ملاك الحكم فيه، ضرورة أنّ الداخل فيها هو الذي يمكن توجيه الخطاب إليه بفعل الخروج أو بتركه دون غيره. فإذن لا يمكن أن يكون الخروج داخلاً في موضوع القاعدة.
وعلى الجملة: فمورد القاعدة كما عرفت ما إذا كان ملاك الحكم تاماً مطلقاً ـ أي سواء أوجد المكلف مقدمته الوجودية أم لم يوجد ـ كوجوب الحج مثلاً فان ملاكه تام بعد تحقق الاستطاعة، وإن لم يوجد المكلف مقدمته في الخارج، غاية الأمر أ نّه إذا تركها امتنع عليه الحج فيدخل عندئذ في موضوع القاعدة، وهذا بخلاف الخروج، فانّه لا ملاك له قبل إيجاد مقدمته وهي الدخول في الأرض المغصوبة، فيكون الدخول مما له دخل في تحقق الملاك فيه.
وعلى هذا الضوء يمتنع دخول الخروج في كبرى تلك القاعدة كما هو ظاهر.
الثالث: أنّ مناط دخول شيء في موضوع القاعدة هو أن يكون الاتيان بمقدمته موجباً للقدرة عليه، ليكون الآتي بها قابلاً لتوجيه التكليف إليه فعلاً، وهذا كالاتيان بمقدمة الحج، فانّه يوجب تحقق قدرة المكلف على الاتيان به وصيرورته قابلاً لتوجيه التكليف به فعلاً. وأمّا إذا ترك المسير إليه ولم يأت بهذه المقدمة، لامتنع الحج عليه ولسقط وجوبه، ولكن بما أنّ امتناعه منته إلى الاختيار فلا يسقط العقاب عنه، وهذا معنى كونه من صغريات تلك القاعدة. وأمّا المقام فليس الأمر فيه كذلك، لأنّ الدخول وإن كان مقدمةً إعدادية للخروج وموجباً للقدرة عليه، إلاّ أ نّه يوجب سقوط الخطاب عنه، لا أ نّه يوجب فعلية الخطاب به، والوجه فيه ما ذكروه من أنّ المكلف في هذا الحال يدور أمره بين البقاء في الدار المغصوبة والخروج عنها، ومن المعلوم أنّ العقل

ــ[85]ــ

يلزمه بالخروج مقدمة للتخلص عن الحرام، ولا يجوز له البقاء لأ نّه تصرف زائد.
وعلى هذا فلا محالة يضطر المكلف إلى الخروج عنها ولا يقدر على تركه تشريعاً وإن كان قادراً عليه تكويناً، ومعه لا يمكن للشارع أن ينهى عنه، ومن الطبيعي أنّ مثل هذا غير داخل في مورد القاعدة.
وإن شئت فقل: إنّ ما نحن فيه ومورد القاعدة متعاكسان، فانّ إيجاد المقدمة فيما نحن فيه ـ أعني بها الدخول في الأرض المغصوبة ـ يوجب سقوط الخطاب بترك الخروج، وفي مورد القاعدة يوجب فعلية الخطاب كما عرفت، فإذن كيف يمكن دخول المقام تحت القاعدة.
الرابع: أنّ الخروج فيما نحن فيه واجب في الجملة ولو كان ذلك بحكم العقل، وهذا يكشف عن كونه مقدوراً وقابلاً لتعلق التكليف به، ومن المعلوم أنّ كلّما كان كذلك ـ أعني كونه واجباً ولو بحكم العقل ـ لا يدخل في كبرى تلك القاعدة قطعاً، ضرورة أنّ مورد القاعدة هو ما إذا كان الفعل غير قابل لتعلق التكليف به لامتناعه، وأمّا إذا فرض كونه قابلاً لذلك ولو عقلاً، فلا موجب لسقوط الخطاب المتعلق به شرعاً أصلاً. فإذن فرض تعلق الخطاب الوجوبي به مع فرض كونه داخلاً في موضوع القاعدة فرضان متنافيان فلا يمكن الجمع بينهما، وعليه فكيف يمكن كون المقام من صغريات القاعدة.
نتيجة جميع ما ذكره (قدس سره) هي أنّ الخروج عن الدار المغصوبة غير داخل في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار.
ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قدس سره) من الوجوه: إنّ هذه الوجوه جميعاً تبتني على الاشتباه في نقطتين:

ــ[86]ــ

الاُولى: توهم اختصاص القاعدة بموارد التكاليف الوجوبية، والغفلة عن أ نّه لا فرق في جريانها بين موارد التكاليف الوجوبية وموارد التكاليف التحريمية، فهما من هذه الناحية على صعيد واحد، والفارق هو أنّ ترك المقدمة في التكاليف الوجوبية غالباً بل دائماً يفضي إلى ترك الواجب وامتناع فعله في الخارج، كمن ترك المسير إلى الحج فانّه يوجب امتناع فعله، وهذا بخلاف التكاليف التحريمية فان في مواردها إيجاد المقدمة يوجب امتناع ترك الحرام والانزجار عنه لا تركها، مثلاً الدخول في الأرض المغصوبة يوجب امتناع ترك الحرام والانزجار عنه، لا تركه فانّه لا يوجب امتناع فعله، فتكون موارد التكاليف التحريمية من هذه الناحية على عكس موارد التكاليف الوجوبية.
الثانية: توهم اختصاص جريان القاعدة بموارد الامتناع التكويني كامتناع فعل الحج يوم عرفة لمن ترك المسير إليه، وعدم جريانها في موارد الامتناع التشريعي، فتخيل أنّ الامتناع العارض على الفعل المنتهي إلى اختيار المكلف وإرادته إن كان امتناعاً تكوينياً فيدخل في موضوع القاعدة، وإن كان تشريعياً فلا يدخل فيه.
ولكن كلتا النقطتين خاطئة:
أمّا النقطة الاُولى: فلضرورة أنّ الملاك في جريان هذه القاعدة في مورد هو أن يكون امتناع امتثال التكليف فيه منتهياً إلى اختيار المكلف وإرادته، فلا فرق بين أن يكون ذلك التكليف تكليفاً وجوبياً أو تحريمياً، وبلا فرق بين أن يكون امتناع امتثاله من ناحية ترك ما يفضي إلى ذلك كترك المسير إلى الحج، أو من ناحية فعل ما يفضي إليه كالدخول في الأرض المغصوبة، فكما أ نّه على الأوّل يقال إنّ امتناع فعل الحج يوم عرفة بما أ نّه منته إلى الاختيار فلا يسقط العقاب عنه، فانّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، فكذلك على الثاني يقال إنّ

ــ[87]ــ

امتناع ترك الغصب بما أ نّه منته إلى الاختيار فلا يسقط العقاب، لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، فلا فرق بينهما في الدخول في موضوع القاعدة أصلاً.
وبكلمة اُخرى: أ نّه لا واقع موضوعي لهذه القاعدة ما عدا كون امتناع امتثال التكليف منتهياً إلى اختيار المكلف وإرادته، فيقال إنّ هذا الامتناع بما أ نّه مستند إلى اختياره فلا ينافي العقاب، لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، هذا هو واقع تلك القاعدة، ومن الطبيعي أ نّه لا فرق في ذلك بين التكليف الوجوبي والتحريمي أبداً. نعم، تمتاز التكاليف التحريمية عن التكاليف الوجوبية في نقطة اُخرى: وهي أنّ في موارد التكاليف الوجوبية يستند امتناع فعل الواجب في الخارج كما عرفت إلى ترك المقدمة اختياراً، وفي موارد التكاليف التحريمية يستند امتناع ترك الحرام كالمثال المتقدم وما شاكله إلى فعل المقدمة، ولكن من المعلوم أ نّه لا أثر لهذا الفرق بالاضافة إلى الدخول في موضوع القاعدة كما مرّ.
وأمّا النقطة الثانية: فلأ نّه لا فرق في الدخول في كبرى تلك القاعدة بين أن يكون الامتناع الناشئ من الاضطرار بسوء الاختيار تكوينياً كامتناع فعل الحج يوم عرفة لمن ترك المسير إليه وما شابه ذلك، أو تشريعياً ناشئاً من إلزام الشارع بفعل شيء أو بتركه، فانّ الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي، ضرورة أنّ الميزان في جريان هذه القاعدة كما عرفت هو ما كان امتناع الامتثال مستنداً إلى اختيار المكلف، ومن الطبيعي أنّ الامتثال قد يمتنع عقلاً وتكويناً وقد يمتنع شرعاً، ومن المعلوم أ نّه لا فرق بينهما من ناحية الدخول في موضوع القاعدة أصلاً إذا كان منتهياً إلى الاختيار، وهذا واضح.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر فساد جميع هذه الوجوه:

ــ[88]ــ

أمّا الوجه الأوّل: فلأ نّه مبني على اختصاص القاعدة بموارد الامتناع التكويني، ليختص جريانها بما إذا عرضه الامتناع في الخارج تكويناً وكان ذلك بسوء اختيار المكلف كالاتيان بالحج يوم عرفة لمن ترك المسير إليه، وكحفظ النفس المحترمة لمن ألقى نفسه من شاهق مثلاً وما شابه ذلك، وعليه فلا محالة لا تشمل مثل الخروج عن الدار المغصوبة، لفرض أ نّه غير ممتنع تكويناً ومقدور للمكلف عقلاً فعلاً وتركاً، وإن كان غير مقدور له تشريعاً، ولكن قد عرفت أ نّه لا وجه لهذا التخصيص أصلاً، ولا فرق في جريان هذه القاعدة بين أن يكون امتناع الفعل تكوينياً أو تشريعياً، فكما أ نّها تجري على الأوّل، فكذلك تجري على الثاني.
وعلى هدى ذلك قد تبيّن أنّ الخروج عن الأرض المغصوبة في مفروض الكلام وما شاكله داخل في كبرى تلك القاعدة، وذلك لأنّ الخروج وإن كان مقدوراً للمكلف تكويناً فعلاً وتركاً، إلاّ أ نّه لا مناص له من اختياره خارجاً، والوجه فيه: هو أنّ أمره في هذا الحال يدور بين البقاء في الأرض المغصوبة والخروج عنها ولا ثالث لهما، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أنّ التصرف فيها بغير الخروج بما ا نّه محرّم فعلاً من جهة أ نّه أهمّ المحذورين وأقوى القبيحين، فلا محالة يحكم العقل بتعين اختيار الخروج والفرار عن غيره، ومع هذا يمتنع النهي عنه بالفعل، لأنّ حكم الشارع بحرمة البقاء فيها فعلاً الموجب لامتناع ترك الخروج تشريعاً لا يجتمع مع النهي عن الخروج أيضاً، فالنتيجة: أ نّه لا يمكن النهي عنه في هذا الحال لامتناع تركه من ناحية إلزام الشارع بترك البقاء والتصرف بغيره كما هو واضح، ولكن بما أ نّه مستند إلى اختيار المكلف فلا ينافي العقاب فانّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

ــ[89]ــ

وعلى الجملة: فمن دخل الأرض المغصوبة باختياره وإرادته وإن كان قادراً على الخروج منها عقلاً كما أ نّه قادر على البقاء فيها كذلك، فانّ ما هو خارج عن قدرته واختياره هو مطلق الكون فيها الجامع بين البقاء والخروج لا كل واحد منهما في نفسه، إلاّ أنّ حرمة التصرف فعلاً بغير الخروج تستلزم لا محالة لزوم اختيار الخروج بحكم العقل فراراً عن المحذور الأهم، وعلى هذا فالنهي عن الخروج ممتنع لامتناع تركه من ناحية حكم العقل بلزوم اختياره، ولكن هذا من ناحية حكم العقل بلزوم اختياره، ولكن هذا الامتناع بما أ نّه منته إلى اختياره فلا ينافي العقاب، وهذا معنى كونه داخلاً في موضوع القاعدة. فما أفاده (قدس سره) في هذا الوجه لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً.
وأمّا الوجه الثاني: فلأ نّه مبتن على اختصاص القاعدة بموارد التكاليف الوجوبية، ببيان أنّ المعتبر في دخول شيء في تلك القاعدة هو أن يكون ملاك الواجب تاماً في ظرفه، سواء أكان المكلف أوجد مقدمته الوجودية أم لا، وذلك كالحج في الموسم فانّ ملاكه تام بعد حصول الاستطاعة وإن لم توجد مقدمته في الخارج، ففي مثل ذلك إذا ترك المكلف مقدمته كالمسير إليه فلا محالة امتنع الواجب عليه في ظرفه ويفوت منه الملاك الملزم، وبما أنّ تفويته باختياره فلأجل ذلك يستحق العقاب. وأمّا الخروج في مفروض الكلام بما أ نّه لا ملاك لوجوبه قبل حصول مقدمته وهي الدخول لفرض أنّ له دخلاً في ملاكه وتحقق القدرة عليه، فلا يكون مشمولاً لتلك القاعدة.
وغير خفي ما في ذلك، فانّ فيه خلطاً بين جريان القاعدة في موارد التكاليف الوجوبية وجريانها في موارد التكاليف التحريمية، وتخيل أنّ جريانها في كلا الموردين على صعيد واحد، مع أنّ الأمر ليس كذلك، لوضوح أنّ الكلام في دخول الخروج في موضوع القاعدة وعدم دخوله ليس من ناحية حكمه

ــ[90]ــ

الوجوبي ليقال إنّه قبل الدخول لا ملاك له ليفوت بتركه فيستحق العقاب عليه إذا كان بسوء اختياره، بل من ناحية حكمه التحريمي، وهذا لعلّه من الواضحات، ومن المعلوم أ نّه من هذه الناحية داخل في كبرى القاعدة، لما عرفت من أنّ حرمة التصرف فعلاً بغير الخروج أوجبت بحكم العقل لزوم اختياره فراراً عن المحذور الأهم، وامتناع تركه تشريعاً وإن لم يكن ممتنعاً تكويناً، ولكن بما أ نّه منته إلى الاختيار فيستحق العقاب عليه، لأنّ الامتناع بالاختـيار لا ينافي الاختيار.
وعلى الجملة: فقد ذكرنا أنّ التكاليف الوجوبية تمتاز عن التكاليف التحريمية في نقطة، وهي أنّ في موارد التكاليف الوجوبية ترك المقدمة غالباً أو دائماً يفضي إلى امتناع موافقتها وامتثالها في الخارج تكويناً أو تشريعاً، وفي موارد التكاليف التحريمية فعل المقدمة غالباً يفضي إلى امتناع موافقتها وامتثالها في الخارج كذلك، فهما من هذه الناحية على طرفي النقيض.
وعلى أسـاس تلك النقطة قد ظهر حال الخروج فيما نحن فيه، فانّ له ناحيتين، أعني ناحية حرمته وناحية وجوبه، فمرةً ننظر إليه من ناحية حرمته واُخرى من ناحية وجوبه.
أمّا من ناحية حرمته، فقد عرفت أ نّه لا إشكال في دخوله في موضوع القاعدة.
ولكنّ العجب من شيخنا الاُستاذ (قدس سره) كيف غفل عن هذه الناحية ولم يتعرض لها في كلامـه أبداً لا نفياً ولا إثباتاً، وأصرّ على عدم انطباق القاعدة عليه، مع أ نّه من الواضح جداً أ نّه لو التفت إلى هذه الناحية لالتزم بانطباق القاعدة عليه، بداهة أ نّه (قدس سره) لا يفرّق في جريان هذه القاعدة

ــ[91]ــ

بين التكاليف الوجوبية والتكاليف التحريمية، لعدم الموجب له أبداً وهذا واضح.
وأمّا من ناحية وجوبه، فعلى ما يراه (قدس سره) من أ نّه واجب شرعاً من جهة دخوله في موضـوع قاعدة وجوب ردّ المال إلى مالكه فالأمر كما أفاده، لوضوح أ نّه من هذه الناحية غير داخل في القاعدة، لعدم الملاك له قبل إيجاد مقدمته وهي الدخول ليفوت منه ذلك بترك هذه المقدمة، ليستحق العقاب على تفويته إذا كان باختياره، هذا من جانب.
ومن جانب آخر: أ نّه بعد إيجاد مقدمته بالاختيار لا يفوت منه الواجب على الفرض ليستحق العقاب على تفويته، فإذن لا يمكن أن يكون الخروج من هذه الناحية داخلاً في كبرى القاعدة. ولكن سنبين عن قريب إن شاء الله تعالى(1) أنّ هذه الناحية ممنوعة وأنّ الخروج ليس بواجب شرعاً وإنّما هو واجب بحكم العقل، بمعنى أنّ العقل يدرك أنّ المكلف لا بدّ له من اختياره ولا مناص عنه من ناحية حكم الشارع بحرمة البقاء فيها فعلاً، وعليه فلا وجه لخروجه عن موضوع القاعدة.
أضف إلى ذلك: أ نّه على فرض تسليم وجوبه وإن كان خارجاً عنه، إلاّ أ نّه لا شبهة في دخوله فيه من ناحية تحريمه كما عرفت، فإذن لا وجه لاصراره (قدس سره) لخروجه عنه إلاّ غفلته عن هذه الناحية كما أشرنا إليه آنفاً.
وأمّا الوجه الثالث فيرد عليه: أ نّه مبني على الخلط بين مقدمة الواجب ومقدمة الحرام والغفلة عن نقطة ميزهما، بيان ذلك: هو أنّ إيجاد المقدمة في موارد التكاليف الوجوبية يوجب قدرة المكلف على إتيان الواجب وامتثاله
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 92.

ــ[92]ــ

وصيرورته قابلاً لأن يتوجه إليه التكليف فعلاً. وأمّا في موارد التكاليف التحريمية فترك المقدمة يوجب قدرة المكلف على ترك الحرام، وعلى هذا ففي موارد التكاليف الوجوبية ترك المقدمة المزبورة يوجب امتناع فعل الواجب في الخارج فيدخل في مورد القاعدة كما عرفت، وفي موارد التكاليف التحريمية فعل المقدمة يوجب امتناع ترك الحرام. ففيما نحن فيه الدخول في الأرض المغصوبة يوجب امتناع الخروج تشريعاً من ناحية حكم الشارع بحرمة التصرف بغيره فعلاً ويوجب سقوط النهي عنه، كما أنّ ترك الدخول فيها يوجب فعلية النهي عنه.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ ما أفاده (قدس سره) مبني على خلط مقدمة الحرام بمقدمة الواجب.
وأمّا الوجه الرابع: فقد ظهر بطلانه مما تقدم، وملخصه: هو أنّ حكم العقل بلزوم اختياره الخروج دفعاً للمحذور الأهم وإن كان يستلزم كونه مقدوراً للمكلف تكويناً، إلاّ أ نّه لا يستلزم كونه محكوماً بحكم شرعاً، لعدم الملازمة بين حكم العقل بلزوم اختياره في هذا الحال وإمكان تعلق الحكم الشرعي به، والوجه في ذلك: هو أنّ حكم العقل وإدراكه بأ نّه لا بدّ من اختياره وإن كان كاشفاً عن كونه مقدوراً تكويناً، إلاّ أ نّه مع ذلك لا يمكن للشارع أن ينهى عنه فعلاً، وذلك لأنّ منشأ هذا الحكم العقلي إنّما هو منع الشارع عن التصرف بغيره فعلاً الموجب لعجز المكلف عنه بقاعدة أنّ الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي، ومع ذلك لو منع الشارع عنه أيضاً منعاً فعلياً لزم التكليف بما لا يطاق وهو محال، فإذن لا يمكن أن يمنع عنه فعلاً كما هو واضح، وهذا معنى سقوط النهي عنه وعدم إمكانه، ولكن بما أنّ ذلك كان بسوء اختياره وإرادته فلا ينافي العقاب، لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
فما أفاده (قدس سره) من دعوى الملازمة بين وجوب الخروج بحكم العقل

ــ[93]ــ

وكونه قابلاً لتعلق التكليف به خاطئة جداً ولا واقع لها أصلاً. نعم، هذه الدعوى تامة على تقدير القول بكون الخروج محكوماً بالوجوب كما هو مختاره (قدس سره).
إلى هنا قد تبيّن أنّ ما أفاده (قدس سره) من الوجوه لاثبات أنّ الخروج غير داخل في كبرى تلك القاعدة لا يتم شيء منها.
وأمّا الكلام في الدعوى الثالثة: وهي كون المقام داخلاً في كبرى قاعدة وجوب ردّ مال الغير إلى مالكـه، فقد ذكر (قدس سره) (1) أ نّه بعد بطلان دخول المقام في كبرى قاعدة أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار بالوجوه المتقدمة من ناحية، وبطلان بقية الأقوال من ناحية اُخرى، لا مناص من الالتزام بكونه دخلاً في موضوع قاعدة وجوب ردّ المال إلى مالكه، ببيان أ نّه كما يجب ردّ المغصوب إلى صاحبه في غير هذا المقام، يجب ردّه إلى مالكه هنا أيضاً وهو يتحقق هنا بالخروج، فإذن يكون الخروج مصداقاً للتخلية بين المال ومالكه في غير المنقولات، فيكون واجباً لا محالة عقلاً وشرعاً، كما أنّ البقاء فيها على أنحائه محرّم.
والوجه في ذلك: هو أنّ الاضطرار متعلق بمطلق الكون في الدار المغصوبة الجامع بين البقاء والخروج، لا بخصوص البقاء لتسقط حرمته، ولا بخصوص الخروج ليسقط وجوبه، ضرورة أنّ ما هو خارج عن قدرة المكلف إنّما هو ترك مطلق الكون فيها بمقدار أقل زمان يمكن فيه الخروج، لا كل منهما، ولأجل ذلك لا يمكن النهي عن مطلق الكون فيها، ولكن يمكن النهي عن البقاء فيها بشتى أنحائه، لأنّ المفروض أ نّه مقدور للمكلف فعلاً وتركاً، ومعه لا مانع
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 193.

ــ[94]ــ

من تعلق النهي به بالفعل أصلاً.
ومن هنا قلنا إنّ البقاء وهو التصرف فيها بغير الحركة الخروجية محرّم، ولا تسقط حرمته من ناحية الاضطرار لفرض عدم تعلقه به، والخروج بما أ نّه مصداق للتخلية بين المال وصاحبه فلا محالة يكون واجباً شرعاً، وعليه فيكون المقام من الاضطرار إلى مطلق التصرف في مال الغير الذي يكون بعض أفراده واجباً وبعضها الآخر محرّماً، نظير ما إذا اضطرّ المكلف لرفع عطشه مثلاً إلى شرب الماء الجامع بين الماء النجس والطاهر، فانّه لا يوجب سقوط الحرمة عن شرب النجس، لفرض عدم الاضطرار إليه، بل هو باق على حرمته ووجوب الاجتناب عنه.
وعلى الجملة: فالخروج واجب بحكم الشرع والعقل من ناحية دخوله في كبرى تلك القاعدة، أعني قاعدة وجوب التخلية بين المال ومالكه، وامتناع كونه داخلاً في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار، ومن المعلوم أنّ عنوان التخلص والتخلية من العناوين المحسّنة عقلاً المطلوبة شرعاً من ناحية اشتمالها على مصلحة إلزامية، وأمّا غيره ـ أي غير الخروج من أقسام التصرف ـ فيبقى على حرمته كما عرفت.
والجواب عن ذلك: أنّ الحركات الخروجية مضادّة لعنوان التخلية والتخلص، ضرورة أنّ تلك الحركات تصرف في مال الغير حقيقةً وواقعاً ومصداق للغصب كذلك، ومعه كيف تكون مصداقاً للتخلية، لوضوح أنّ التخلية هي إيجاد الخلأ في المكان وهو يضاد الاشغال والابتلاء به، ومن الواضح جداً أنّ الحركات الخروجية مصداق لعنوان الاشغال والابتلاء، فكيف يصدق عليه عنوان التخلص والتخلية، فانّهما من العناوين المتضادة فلا يصدق أحدهما على ما يصدق عليه الآخر، بداهة أنّ ظرف تحقق الخلاص وإيجاد الخلأ والفراغ بين المال ومالكه

ــ[95]ــ

حال انتهاء الحركة الخروجية، وعليه فكيف يعقل أن تكون تلك الحركات مصداقاً للتخلية ومعنونةً بعنوان التخلص.
وبكلمة اُخرى: أنّ من يقول بهذه المقالة ـ أي بكون الحركة الخروجية مصداقاً للتخلص والتخلية ـ إن اُريد بمصداقيتها لها بالاضافة إلى أصل الغصب هنا والتصرف في مال الغير، فيردّ ذلك ما عرفت الآن من أ نّه ما دام في الدار سواء اشتغل بالحركات الخروجية أم لا، فهو معنون بعنوان الابتلاء والاشغال بالغصب لا بعنوان التخلص والتخلية، فهما عنوانان متضادان لا يصدقان على شيء واحد. هذا إذا كان عنوان التخلص عنواناً وجودياً وعبارة عن إيجاد الفراغ والخلأ بين المال وصاحبه، كما هو الصحيح. وأمّا إذا فرض أ نّه عنوان عدمي وعبارة عن ترك الغصب فيكون عندئذ نقيضاً لعنوان الابتلاء، ومن الطبيعي استحالة صدق أحد النقيضين على ما يصدق عليه الآخر، وكيف كان فعنوان التخلص سواء أكان عنواناً وجودياً أو عدمياً فهو مقابل لعنوان الابتلاء فلا يصدق أحدهما على ما يصدق عليه الآخر.
وإن اُريد بالاضافة إلى الغصب الزائد على ما يوازي زمان الخروج، ببيان أنّ التصرف في مال الغير في هذا المقدار من الزمان مما لا بدّ منه فلا يتمكن المكلف من تركه، ولأجل ذلك ترتفع حرمته، وأمّا الزائد على ما يوازي هذا الزمان فهو متمكن من تركه بالخروج عنها وقادر على التخلص عنه، فعندئذ لا محـالة تقع الحركات الخروجية مصداقاً للتخلية والتخلص بالاضافة إلى الغصب الزائد، ومعه تكون محبوبة ومشتملة على مصلحة إلزامية فتجب، فيرد على ذلك: أنّ عنوان التخلص لايصدق عليها بالاضافة إلى الغصب الزائد أيضاً، ضرورة أنّ صدق عنوان التخلص عن الشيء فرع الابتلاء به، فما دام لم يبتل بشيء فلا يصدق أ نّه خلص عنه إلاّ بالعناية والمجاز، والمفروض في المقام أنّ

ــ[96]ــ

المكلف بعدُ غير مبتلى به ليصدق عليه فعلاً أ نّه خلص منه بهذه الحركات الخروجية. نعم، بعد مضي زمان بمقدار يوازي زمان الخروج إن بقي المكلف فيها فهو مبتلى به لفرض بقائه وعدم خروجه، وإن خرج فهو متخلص عنه، فعنوان التخلص عن الغصب الزائد يصدق عليه بعد الخروج وفي ظرف انتهاء الحركة الخروجية إلى الكون في خارج الدار لا قبله، كما هو واضح، وعليه فكيف تتصف تلك الحركة بعنوان التخلص والتخلية.
ودعوى أنّ هذه الحركات وإن لم تكن مصداقاً لعنوان التخلية والتخلص لتكون واجبة بوجوب نفسي، إلاّ أ نّه لا شبهة في كونها مقدمة له فتكون واجبة بوجوب مقدمي خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً، وذلك لأنّ تلك الحركات الخاصة ـ أعني الحركات الخروجية ـ مقدّمة للكون في خارج الدار، ولا يعقل أن تكون مقدمة لعنوان التخلص، فان عنوان التخلص لا يخلو من أن يكون عنواناً وجودياً وعبارة عن إيجاد الفراغ بين المال وصاحبه كما هو الصحيح، أو يكون أمراً عدمياً وعبارة عن عدم الغصب وتركه، وعلى كلا التقديرين فهو ملازم للكون في خارج الدار وجوداً لا أ نّه عينه.
أمّا الثاني فواضح، ضرورة أنّ ترك الغصب ليس عين الكون في خارج الدار، بل هو ملازم له خارجاً، لاستحالة أن يكون الأمر العدمي مصداقاً للأمر الوجودي وبالعكس. وأمّا الأوّل فأيضاً كذلك، لوضوح أنّ عنوان التخلص والتخلية ليس عين عنوان الكون فيه خارجاً ومنطبقاً عليه انطباق الطبيعي على فرده بل هو ملازم له وجوداً في الخارج، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أ نّا قد ذكرنا غير مرّة أنّ حكم أحد المتلازمين لا يسري إلى الملازم الآخر فضلاً إلى مقدمته.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أ نّه لا يمكن الحكم بوجوب تلك الحركات من

ــ[97]ــ

باب المقدمة أيضاً، فان ما هو واجب وهو عنوان التخلص ليست تلك الحركات مقدمة له، وما كانت تلك الحركات مقدمة له وهو الكون في خارج الدار ليس بواجب، ضرورة أنّ الكون فيه ليس من أحد الواجبات في الشريعة المقدسة لتكون مقدمته واجبة.
وبكلمة اُخرى: فقد عرفت أنّ عنوان التخلية إمّا أن يكون مضاداً للحركات الخروجية أو مناقضاً لها، وعلى كلا التقديرين لا يعقل أن تكون تلك الحركات مقدمة له، لما ذكرناه في بحث الضد(1) من استحالة كون أحد الضدين مقدمةً للضد الآخر أو أحد النقيضين مقدمة لنقيضه، كما تقدم هناك بشكل واضح فلاحظ.
ثمّ لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ عنوان التخلص متحد مع عنوان الكون في خارج الدار ومنطبق عليه انطباق الطبيعي على مصداقه، فعندئذ وإن كانت تلك الحركات مقدمة له ـ أي لعنوان التخلية والتخلص ـ إلاّ أ نّه قد تقدم في بحث مقدمة الواجب(2) أ نّه لا دليل على ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته، لتكون تلك الحركات واجبة بوجوبي مقدمي.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أنّ الخروج ليس بواجب لا بوجوب نفسي، لعدم الملاك والمقتضي له، ولا بوجوب مقدمي، لعدم ثبوت الصغرى أوّلاً، وعلى تقدير ثبوتها فالكبرى غير ثابتة.
أضف إلى ذلك: أنّ الخروج ليس عنواناً لتلك الحركات المعدّة للكون في الخارج، بل هو عنوان لذلك الكون فيه، ضرورة أ نّه مقابل الدخول، فكما أنّ
ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 290 وما بعدها.
(2) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 281.

ــ[98]ــ

الدخول عنوان للكون في الداخل فكذلك الخروج عنوان للكون في الخارج، فإذن لو صدق عليه عنوان التخلية والتخلص أيضاً فلا يجدي في اتصاف تلك الحركات بالوجوب كما هو واضح، فما أفاده (قدس سره) من أنّ الخروج مصداق للتخلية بين المال وصاحبه لو سلّمنا ذلك فلا يفيده أصلاً، لأنّ ذلك لا يوجب كون تلك الحركات محبوبة وواجبة، لفرض أ نّها ليست مصداقاً لها، غاية الأمر أ نّها عندئذ تكون مقدمة للواجب، ولكن عرفت أنّ مقدمة الواجب غير واجبة ولا سيّما إذا كانت مبغوضة.
ومن هنا يظهر أنّ قياسه (قدس سره) المقام بالاضطرار إلى الجامع بين المحلل والمحرم قياس في غير محلّه، لما عرفت من أنّ الخروج ليس بواجب ليكون الاضطرار في المقام متعلقاً بالجامع بين الواجب والحرام.
إلى هنا قد تبيّن بوضوح بطلان بقية الأقوال وصحة قول المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وهو أنّ المقام داخل في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار، وقد ظهر وجهها مما تقدم بشكل واضح فلا نعيد.
ثمّ إنّ له (قدس سره)(1) هنا كلاماً آخر وحاصله: هو أ نّا لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ الشارع لا يرضى بالتصرف في مال الغير بدون إذنه في حال من الحالات ولو كان ذلك بعنوان التخلية وردّه إليه كالخروج عن الدار المغصوبة في المقام كما هو ليس ببعيد، فغاية ما يوجب ذلك هو أن يكون حال الخروج هنا حال شرب الخمر المتوقف عليه حفظ النفس المحترمة، بيان ذلك: هو أنّ الشارع بما أ نّه ينهى عن شرب الخمر مطلقاً من أيّ شخص كان وفي أيّة حالة ولا يرضى بشربه أصلاً لما فيه من المفسدة الالزامية، فمن الطبيعي أ نّه
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 194.

ــ[99]ــ

لا يرضى بارتكاب المقدمة التي بها يضطر المكلف إلى شربه، ولكن بعد ارتكاب تلك المقدمة في الخارج ولو باختياره واضطراره إلى شربه من ناحية توقف حفظ النفس عليه لا محالة لا يقع هذا الشرب المتوقف عليه ذلك إلاّ محبوباً للمولى ومطلوباً له عقلاً وشرعاً، وذلك كمن يجعل نفسه مريضاً باختياره وإرادته ويضطر بذلك إلى شربه، أو يأتي بمقدمة يضطر بها في حفظ بيضة الاسلام إلى قتل نفس محترمة مثلاً وهكذا، ولكن بعد جعل نفسه مضطراً إلى ذلك لا يقع الشرب المتوقف عليه حفظ النفس إلاّ مطلوباً عقلاً وشرعاً، وكذا قتل النفس المحترمة المتوقف عليه حفظ الدين لا يقع في الخارج إلاّ محبوباً ومطلوباً.
وما نحن فيه كذلك، فانّ الشارع بما أ نّه لا يرضى بالتصرف في مال الغير بدون إذنه مطلقاً ولو كان ذلك بالخروج وبعنوان التخلية وردّه إلى مالكه، فلا محالة يحكم بحرمة المقدمة التي بها يضطر المكلف إلى الخروج أعني بها الدخول، فعندئذ يقع الدخول محرّماً من ناحية نفسه ومن ناحية كونه مقدمةً للخروج، وأمّا الخروج بعده فيقع محبوباً ومطلوباً، عقلاً وشرعاً.
وعلى الجملة: فالخروج لا يخلو من أن يكون حاله حال ترك الصلاة فيكون مبغوضاً في حال دون آخر، كما في حال الحيض والنفاس وما شاكل ذلك فانّه يجوز للمرأة أن تفعل فعلاً كأن تشرب دواء يترتب عليه الحيض لتترك صلاتها، أو يكون حاله حال شرب الخمر فيكون مبغوضاً في جميع الحالات، ولذا يحرم التسبيب إليه، فإن كان من قبيل الأوّل فهو واجب نفساً من ناحية كونه مصداقاً للتخلية بين المال ومالكه، وإن كان من قبيل الثاني فهو واجب غيري من ناحية كونه مقدمةً لواجب أهم وهو التخلية بين المال ومالكه، فيكون حاله عندئذ حال شرب الخمر المتوقف عليه حفظ النفس المحترمة، فكما أنّه

ــ[100]ــ

بعد الاضطرار إليه بسوء اختياره واجب بوجوب غيري ومطلوب للشارع، فكذلك الخروج بعد الدخول، غاية الأمر أنّ المقدمة التي بها اضطر المكلف إلى شرب الخمر لحفظ النفس المحترمة سائغة في نفسها، ولكنها صارت محرّمة من ناحية التسبيب والمقدمية، والمقدمة التي بها اضطرّ إلى الخروج محرّمة في نفسها مع قطع النظر عن كونها مفضية إلى ارتكاب محرّم آخر ومقدمة له، ولكن من المعلوم أ نّه لا دخل لذلك فيما نحن فيه أصلاً، بداهة أ نّه لا فرق في وقوع شرب الخمر مطلوباً في هذا الحال بين كون المقدمة التي توجب اضطرار المكلف إليه سائغة في نفسها أو محرّمة كذلك، غاية الأمر على الثاني يكون العقاب من ناحيتين: من ناحية حرمتها النفسية، ومن ناحية التسبيب بها إلى ارتكاب محرّم آخر.
فالنتيجة: هي أنّ الخروج إمّا أن يكون ملحقاً بالقسم الأوّل، وعلى هذا فيكون واجباً في نفسه ومطلوباً لذاته ولا يكون محرّماً أبداً، بمعنى أنّ التصرف في أرض الغير بالدخول والبقاء فيها محرّم لا مطلقاً ولو كان بالخروج، فانّه واجب باعتبار كونه مصداقاً للتخلية بين المال ومالكه، وإمّا أن يكون ملحقاً بالقسم الثاني، وعلى هذا فيكون واجباً غيرياً باعتبار أ نّه مقدمة لواجب أهم، وإن كان محرّماً في نفسه من ناحية أ نّه تصرف في مال الغير وهو محرّم مطلقاً على الفرض، وكيف كان فهو على كلا التقديرين غير داخل في موضوع قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار.
ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قدس سره) وهي أنّ تلك الحركات ـ أعني الحركات التي هي مقدمة للكون في خارج الدار ـ خارجة عن كلا البابين، فكما أ نّها ليست من صغريات الباب الأوّل، فكذلك ليست من صغريات هذا الباب، والوجه في ذلك: ما تقدم من أنّ تلك الحركات بقيت على ما هي عليه

 
 

ــ[101]ــ

من المبغوضية من دون أن تعرض لها جهة محبوبية نفسية أو غيرية، بداهة أ نّها تصرف في مال الغير بدون إذنه ومصداق للغصب، ومعه كيف تعرض عليها جهة محبوبية، وقد سبق أ نّها ليست مقدمة لواجب أيضاً ليعرض عليها الوجوب الغيري، غاية ما في الباب أنّ العقل يرشد إلى اختيار تلك الحركات من ناحية أ نّها أخف القبيحين وأقلّ المحذورين، وبما أنّ ذلك منته إلى اختيار المكلف فلا ينافي استحقاق العقاب عليها. وعلى تقدير تسليم كونها مقدمة فقد عرفت أ نّها غير واجبة.
ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا عروض الوجوب الغيري لها، فمن الطبيعي أ نّه لا ينافي مبغوضيتها النفسية واستحقاق العقاب عليها إذا كان الاضطرار إليها بسوء الاختيار، كما هو الحال في المقام، ضرورة أنّ الوجوب الغيري لم ينشأ عن الملاك ومحبوبية متعلقه ليقال إنّها كيف تجتمع مع فرض مبغوضيتها في نفسها، بل هو ناش عن مجرد صفة مقدميتها وتوقف الواجب عليها، ومن المعلوم أ نّها لا تنافي مبغوضيتها النفسية أصلاً.
ومن ذلك يظهر حال المثالين المزبورين أيضاً، وذلك لأنّ العقاب فيهما ليس على التسبيب والاتيان بالمقدمة التي بها يضطر المكلف إلى شرب الخمر أو قتل النفس المحترمة، والوجه في ذلك: هو أنّ تلك المقدمة لو كانت محرّمةً في ذاتها ومبغوضة للمولى لاستحق العقاب على نفسها، سواء أكانت مقدمة لارتكاب محرّم آخر أم لا، وأمّا لو لم تكن محرّمة بذاتها وكانت سائغة في نفسها، فلا وجه لاستحقاق العقاب عليها أصلاً، بل يستحق العقاب عندئذ على ارتكاب المحرم كشرب الخمر مثلاً أو قتل النفس، لفرض أنّ الاضطرار إلى ذلك منته إلى الاختيار، بداهة أ نّه لو لم يكن هذا الشرب أو القتل الذي هو مقدمة لواجب أهم مبغوضاً للمولى، بل كان محبوباً له من ناحية عروض الوجوب الغيري له

ــ[102]ــ

على الفرض، لا معنى لاستحقاق العقاب على التسبيب إليه وكونه ـ أي التسبيب ـ مبغوضاً ومحرّماً لوضوح أنّ التسبيب إلى المحرّم حرام ومبغوض، لا التسبيب إلى غيره، وأمّا إذا فرض كون هذا الشرب أو القتل محبوباً فلا يعقل كون التسبيب إليه محرّماً وهذا واضح. فاذن لا مناص من الالتزام بكون العقاب على نفس هذا الشرب أو القتل باعتبار أنّ الاضطرار إلى ارتكاب ذلك منته إلى الاختيار فلا ينافي العقاب، ومجرد اتصافه بالوجوب الغيري على فرض القول به لا ينافي مبغوضيته في نفسه، لفرض أنّ الوجوب الغيري لم ينشأ عن مصلحة ملزمة في متعلقه، بل هو ناش عن مصلحة في غيره فلا ينافي مبغوضيته أصلاً كما عرفت.
فالنتيجة: أنّ هذين المثالين وما شاكلهما كالخروج جميعاً داخل في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار، وأنّ الجميع بالاضافة إلى الدخول في كبرى تلك القاعدة على صعيد واحد، وأنّ العقل في جميع ذلك يرشد إلى اختيار ما هو أخف القبيحين وأقل المحذورين.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ الصحيح هو ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ الخروج أو ما شاكله ليس محكوماً بشيء من الأحكام الشرعية فعلاً، ولكن يجري عليه حكم النهي السابق الساقط بالاضطرار من جهة انتهائه إلى سوء الاختيار، ومعه لا محالة يبقى على مبغوضيته ويستحق العقاب على ارتكابه وإن كان العقل يرشد إلى اختياره ويلزمه بارتكابه فراراً عن المحذور الأهم، ولكن عرفت أنّ ذلك لا ينافي العقاب عليه إذا كان منتهياً إلى سوء اختياره، كما هو مفروض المقام.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net