تقدم الاطلاق الشمولي على البدلي - قاعدة أولوية دفع المفسدة من جلب المصلحة 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 7010

وهذا بخلاف الاطلاق في طرف دليل الأمر فانّه بدلي، وذلك لأنّ الأمر المتعلق بصرف الطبيعة من دون تقييدها بشيء يقتضي كون المطلوب هو صرف وجودها في الخارج بعد استحالة أن يكون المطلوب هو تمام وجودها، ومن المعلوم أنّ صرف الوجود يتحقق بأوّل الوجود فيكون الوجود الثاني والثالث وهكذا غير مطلوب، وهذا معنى كون الاطلاق في طرف الأمر بدلياً، وقد بينّا السر في أنّ الاطلاق في طرف الأوامر المتعلقة بالطبائع بدلي والاطلاق في طرف النواهي المتعلقة بها شمولي في أوّل بحث النواهي بصورة مفصّلة فلاحظ(2) ولذلك ـ أي لكون الاطلاق في طرف النهي شمولياً، وفي طرف الأمر بدلياً ـ ذكروا أنّ الاطلاق الشمولي يتقدم على الاطلاق البدلي في مقام المعارضة، وذهب إليه شيخنا العلاّمة الأنصاري(قدس سره)(3) وتبعه على ذلك شيخنا الاُستاذ(قدس سره)(4) واستدلّ عليه بوجوه ثلاثة وقد تقدمت تلك الوجوه
ــــــــــ
(2) المجلد الثالث من هذا الكتاب ص 295 وما بعدها.
(3) مطارح الأنظار: 49.
(4) أجود التقريرات 1: 235.

ــ[111]ــ

مع المناقشة عليها بصورة مفصّلة في بحث الواجب المشروط(1) وملخصها:
1 ـ أنّ تقديم الاطلاق البدلي على الاطلاق الشمولي يقتضي رفع اليد عن بعض مدلوله، وهذا بخلاف تقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي، فانّه لا يقتضي رفع اليد عن بعض مدلوله لفرض أنّ مدلوله واحد وهو محفوظ، غاية الأمر أنّ ذلك يوجب تضييق دائرة انطباقه على أفراده.
2 ـ أنّ ثبوت الاطلاق البدلي يحتاج إلى مقدمة اُخرى زائداً على كون المولى في مقام البيان وعدم نصب قرينة على الخلاف، وهي إحراز تساوي أفراد المأمور به في الوفاء بالغرض ليحكم العقل بالتخيير بينها، وهذا بخلاف الاطلاق الشمولي، فانّه لا يحتاج إلى أزيد من المقدمات المعروفة المشهورة، وبتلك المقدمات يتمّ الاطلاق وسريان الحكم إلى جميع أفراده، وإن كانت الأفراد مختلفة من جهة الملاك المقتضي لجعل الحكم عليها، ومن المعلوم أ نّه مع وجود الاطلاق الشمولي لا يمكن إحراز تساوي الأفراد في الوفاء بالغرض، وهذا معنى تقديم الاطلاق الشمولي على البدلي في مورد الاجتماع، لفرض عدم ثبوت الاطلاق له بالاضافة إلى هذا الفرد.
3 ـ أنّ حجية الاطلاق البدلي تتوقف على عدم المانع في بعض الأطراف عن حكم العقل بالتخيير، والاطلاق الشمولي يصلح أن يكون مانعاً، فلو توقف عدم مانعيته على وجود الاطلاق البدلي لدار.
ولنأخذ بالمناقشة عليها، أمّا الوجه الأوّل فيرد عليه:
أوّلاً: أنّ العبرة في تقديم أحد الظهورين على الآخر إنّما تكون بقوته، ومجرد
ـــــــــــــــــــــ
(1) في المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 158.

ــ[112]ــ

نّ تقدم أحدهما على الآخر يوجب رفع اليد عن بعض مدلوله دون العكس لا يكون موجباً للتقديم.
وثانياً: أنّ الحكم الالزامي في مورد الاطلاق البدلي وإن كان واحداً متعلقاً بصرف وجود الطبيعة، إلاّ أنّ الحكم الترخيصي المستفاد منه ثابت لكل فرد من أفرادها، وذلك لأنّ لازم إطلاقها هو ترخيص الشارع المكلف في تطبيقها على أيّ فرد من أفرادها شاء تطبيقها عليه، فالعموم بالاضافة إلى هذا الحكم ـ أعني الحكم الترخيصي ـ شمولي لا محالة، فإذن كما يستلزم تقديم الاطلاق البدلي على الشمولي رفع اليد عن بعض مدلوله، كذلك يستلزم تقديم الاطلاق الشمولي على البدلي رفع اليد عن بعض مدلوله، وعليه فلا ترجيح لتقديم أحدهما على الآخر.
وأمّا الوجه الثاني: فيردّه أنّ التخيير الثابت في مورد الاطلاق البدلي ليس تخييراً عقلياً، بل هو تخيير شرعي مستفاد من عدم تقييد المولى متعلق حكمه بقيد خاص، وبذلك يحرز تساوى الأفراد في الوفاء بالغرض من دون حاجة إلى مقدمة اُخرى خارجية، ولذلك لو شك في تعيين بعض الأفراد لاحتمال أنّ الملاك فيه أقوى من الملاك في غيره، يدفع ذلك الاحتمال بالاطلاق، فالاطلاق بنفسه محرز للتساوي بلا حاجة إلى شيء آخر. وعليه فلا وجه لتقديم الاطلاق الشمولي عليه، بل تقع المعارضة بينهما في مورد الاجتماع، فانّ مقتضى الاطلاق البدلي هو تخيير المكلف في تطبيق الطبيعة المأمور بها على أيّ فرد من أفرادها شاء تطبيقها عليه، وهو يعارض مقتضى الاطلاق الشمولي المانع عن إيجاد مورد الاجتماع.
وعلى الجملة: فالنقطة الرئيسية لهذا الوجه أنّ ثبوت الاطلاق للمطلق البدلي يحتاج إلى مقدمة اُخرى زائداً على مقدمات الحكمة، وهي إحراز

ــ[113]ــ

تساوي أفراده في الوفاء بالغرض، وهذا بخلاف ثبوته في المطلق الشمولي، فانّه لا يحتاج إلى مقدمة زائدة على تلك المقدمات، فإذن هو مانع عن ثبوت الاطلاق له، أي للمطلق البدلي بالاضافة إلى مورد الاجتماع، ضرورة أ نّه بعد كون مورد الاجتماع مشمولاً للمطلق الشمولي لا يمكن إحراز أ نّه واف بغرض الطبيعة المأمور بها كبقية أفرادها، وهذا معنى عدم إحراز تساوي أفرادها مع وجود الاطلاق الشمولي.
ولكن تلك النقطة خاطئة جداً، لأ نّها ترتكز على كون التخيير بين تلك الأفراد عقلياً، ولكن عرفت أنّ التخيير شرعي مستفاد من الاطلاق وعدم تقييد الشارع الطبيعة بحصة خاصة، فإذن نفس الاطلاق كاف لاحراز التساوي وإلاّ لكان على المولى التقييد ونصب القرينة، والعقل وإن احتمل وجداناً عدم التساوي إلاّ أ نّه لا أثر لهذا الاحتمال بعد ثبوت الاطلاق الكاشف عن التساوي.
ومن هذا البيان تظهر المناقشة في:
الوجه الثالث أيضاً، وذلك لأنّ هذا الوجه أيضاً يبتني على كون التخيير عقلياً، ولكن بعد منع ذلك وأنّ التخيير شرعي مستفاد من الاطلاق، فان مفاده ترخيص الشارع في تطبيق الطبيعة المأمور بها على أيّ فرد من أفرادها شاء تطبيقها عليه، ومن المعلوم أنّ حجية هذا لا تتوقف على أيّ شيء ما عدا مقدمات الحكمة، فإذن لا محالة يعارض هذا الاطلاق الشمولي المانع عن إيجاد مورد الاجتماع للعلم بكذب أحد هذين الحكمين في الواقع وعدم صدوره من الشارع.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ هذه الوجوه بأجمعها خاطئة ولا واقع موضوعي لها أصلاً.

ــ[114]ــ

فالصحيح: هو ما ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)(1) من أ نّه لا وجه لتقديم الاطلاق الشمولي على البدلي، وذلك لأنّ ثبوت كلا الاطلاقين يتوقف على جريان مقدمات الحكمة وتماميتها على الفرض، ضرورة أ نّه لا مزية لأحدهما بالاضافة إلى الآخر من هذه الناحية أصلاً، فاذن الحكم بجريان مقدمات الحكمة في طرف المطلق الشمولي دون المطلق البدلي ترجيح من غير مرجح، وعليه فيسقط كلا الاطلاقين معاً، بمعنى أنّ مقدمات الحكمة لا تجري في طرف هذا ولا في طرف ذاك، وهذا معنى سقوطهما بالمعارضة، ومجرد كون الاطلاق في أحدهما شمولياً وفي الآخر بدلياً لا يكون سبباً للترجيح بعد ما كان الاطلاق فيه أيضاً شمولياً بالدلالة الالتزامية كما عرفت.
نعم، العموم الوضعي يتقدم على المطلق سواء أكان شمولياً أو بدلياً، والوجه فيه واضح، وهو أنّ سراية الحكم في العموم الوضعي إلى جميع أفراده لا تتوقف على جريان مقدمات الحكمـة وأ نّها فعلية، لأ نّها معلولة للوضع لا لتلك المقدمات، وهذا بخلاف إطلاق المطلق، فانّه معلول لاجراء تلك المقدمات وبدون إجرائها لا إطلاق له أصلاً. وعلى ذلك فالعام بنفسه صالح لأن يكون قرينة على التقييد، ومعه لا تجري المقدمات، إذ من المقدمات عدم نصب قرينة على الخلاف ومن المعلوم أنّ العام صالح لذلك، ومن هنا قالوا إنّ دلالة العام تنجيزية ودلالة المطلق تعليقية.
فالنتيجة قد أصبحت مما ذكرناه: أنّ مجرد كون الاطلاق في طرف النهي شمولياً وفي طرف الأمر بدلياً لا يكون سبباً لتقديمه عليه إذا لم يكن العموم والشمول مستنداً إلى الوضع، فإذن هذا الوجه باطل.
ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول: 106.

ــ[115]ــ

ومنها: أنّ الحرمة تابعة للمفسدة الملزمة في متعلقه والوجوب تابع للمصلحة كذلك في متعلقه، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أ نّهم ذكروا أ نّه إذا دار الأمر بين دفع المفسدة وجلب المنفعة كان دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أ نّه لا بدّ في المقام من ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب، لكونه من صغريات تلك القاعدة.
وغير خفي أنّ هذا الاسـتدلال من الغرائب جداً، وذلك لأ نّه على فرض تسليم تلك الكبرى فالمقام ليس من صغرياتها جزماً، بداهة أ نّه على القول بالامتناع ووحدة المجمع وجوداً وماهية فهو إمّا مشتمل على المصلحة دون المفسدة، أو بالعكس. فإن قلنا بتقديم الوجوب فلا حرمة ولا مفسدة تقتضيه، وإن قلنا بتقديم الحرمة فلا وجوب ولا مصلحة تقتضيه، فليس في مورد الاجتماع مصلحة ومفسدة ليدور الأمر بين دفع المفسدة وجلب المنفعة، ولا موضوع عندئذ لتلك القاعدة، وموضوع هذه القاعدة وموردها هو ما إذا كان في فعل مفسدة ملزمة وفي فعل آخر مصلحة كذلك ولا يتمكن المكلف من دفع الاُولى وجلب الثانية معاً، فلا محالة تقع المزاحمة بينهما، فيقال إنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة، فهذه القاعدة لو تمت فانّما تتم في باب التزاحم، بناءً على وجهة نظر العدلية فحسب لا مطلقاً، وأمّا في باب التعارض فلا تتم أصلاً، وقد تقدم أنّ المسألة ـ أي مسألة الاجتماع ـ على القول بالامتناع داخلة في كبرى باب التعارض. على أ نّه لا أصل لهذه القاعدة في نفسها، لعدم الدليل عليها أصلاً، لا من العقل ولا من الشرع، بل يختلف الحال فيها باختلاف الموارد فقد يقدّم جانب المفسدة على جانب المنفعة، وقد يقدم جانب المنفعة على جانب المفسدة، وهكذا.
أضف إلى ذلك: أنّ هذه القاعدة على فرض تماميتها وكون الأولوية فيها

ــ[116]ــ

أولوية قطعية لا ظنّية، فهي لا صلة لها بالأحكام الشرعية أصلاً، وذلك لوجهين:
الأوّل: أنّ المصلحة ليست من سنخ المنفعة ولا المفسدة من سنخ المضرة غالباً، والظاهر أنّ هذه القاعدة إنّما تكون في دوران الأمر بين المنفعة والمضرة لا بين المصلحة والمفسدة كما لا يخفى.
وبكلمة اُخرى: أنّ الأحكام الشرعية ليست تابعة للمنافع والمضار، وإنّما هي تابعة لجهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها، ومن المعلوم أنّ المصلحة ليست مساوقة للمنفعة والمفسدة مساوقة للمضرة، ومن هنا تكون في كثير من الواجبات مضرة مالية كالزكاة والخمس والحج ونحوها، وبدنية كالجهاد وما شاكله، كما أنّ في عدة من المحرمات منفعة مالية أو بدنية، مع أنّ الاُولى تابعة لمصالح كامنة فيها، والثانية تابعة لمفاسد كذلك، فاذن لا موضوع لهذه القاعدة بالاضافة إلى الأحكام الشرعية أصلاً.
الثاني: أنّ وظيفة المكلف عقلاً إنّما هي الاتيان بالواجبات والاجتناب عن المحرمات بعد ثبـوت التكليف شرعاً، وأمّا دفع المفسـدة بما هي أو استيفاء المصلحة كذلك فليس بواجب لا عقلاً ولا شرعاً، فلو علم المكلف بوجود مصلحة في فعل أو بوجود مفسدة في آخر مع عدم العلم بثبوت التكليف من قبل الشارع لا يجب عليه استيفاء الاُولى ولا دفع الثانية، وأمّا مع العلم بثبوته فالواجب عليه هو امتثال ذلك التكليف لا غيره، فالواجب بحكم العقل على كل مكلف إنّما هو أداء الوظيفة وتحصيل الأمن من العقاب، لا إدراك الواقع بما هو واستيفاء المصالح ودفع المفاسد.
وعلى هذا فلا يمكن ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب من ناحية هذه القاعدة، بل لا بدّ من الرجوع إلى مرجحات وقواعد اُخر لتقديم أحدهما على الآخر إن كانت، وإلاّ فيرجع إلى الاُصول العملية.

ــ[117]ــ

ومن الغريب ما صدر عن المحقق القمي (قدس سره) (1) في المقام حيث إنّه أجاب عن هذا الدليل بأ نّه مطلقاً ممنوع، لأنّ في ترك الواجب أيضاً مفسدة، فاذن لا يدور الأمر بين دفع المفسدة وجلب المنفعة، بل يدور الأمر بين دفع هذه المفسدة وتلك.
ووجه الغرابة واضح، ضرورة أ نّه لا مفسدة في ترك الواجب كما أ نّه لا مصلحة في ترك الحرام، فالمصلحة في فعل الواجب من دون أن تكون في تركه مفسدة، كما أنّ المفسدة في فعل الحرام من دون أن تكون في تركه مصلحة وإلاّ لكان اللازم أن ينحل كل حكم إلى حكمين أحدهما متعلق بالفعل والآخر متعلق بالترك، ولازم هذا أن يستحق عقابين عند ترك الواجب أو فعل الحرام، أحدهما على ترك الواجب والآخر على فعل الحرام، لفرض أنّ ترك الواجب محرّم ولا نظن أن يلتزم بذلك أحد حتى هو (قدس سره) كما هو واضح.
ومنها: الاستقراء، بدعوى أ نّا إذا تتبعنا موارد دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في المسائل الشرعية واستقرأناها، نجد أنّ الشارع قدّم جانب الحرمة على جانب الوجوب، فمن جملة تلك الموارد حكم الشارع بترك العبادة أيام الاستظهار، فانّ أمر المرأة في هذه الأيام يدور بين وجوب الصلاة عليها وحرمتها، ولكنّ الشارع غلّب جانب الحرمة على جانب الوجوب وأمر بترك الصلاة فيها. ومنها: الوضوء أو الغسل بماءين مشتبهين، فانّ الأمر يدور حينئذ بين حرمة الوضوء أو الغسل منهما ووجوبه، ولكنّ الشارع قدم جانب الحرمة على جانب الوجوب وأمر باهراق الماءين والتيمم للصلاة. ومنها: غير ذلك. ومن مجموع ذلك نستكشف أن تقديم جانب الحرمة أمر مطرد في كل مورد دار
ـــــــــــــــــــــ
(1) قوانين الاُصول 1: 153.

ــ[118]ــ

الأمر بينهما بلا اختصاص بمسألة دون اُخرى وبباب دون آخر.
ويرد عليه أوّلاً: أنّ الاستقراء لا يثبت بهذا المقدار حتى الاستقراء الناقص فضلاً عن التام، فانّ الاستقراء الناقص عبارة عن تتبع أكثر الجزئيات والأفراد وتفحصها ليفيد الظن بثبوت كبرى كلية، في قبال الاستقراء التام الذي هو عبارة عن تتبع تمام الأفراد، ولذلك يفيد القطع بثبوت كبرى كلية، ومن الواضح جداً أنّ الاستقراء الناقص لا يثبت بهذين الموردين.
وثانياً: أنّ الأمر في هذين الموردين أيضاً ليس كذلك، وأنّ الحكم بعدم الجواز فيهما ليس من ناحية هذه القاعدة، بيان ذلك:
أمّا في مورد الاستظهار، فلأنّ الروايات الواردة فيه في باب الحيض والنفاس مختلفة غاية الاختلاف، ولأجل اختلاف تلك الروايات والنصوص في المسـألة اختلفت الأقـوال فيها، فذهب بعضهم كالمحـقق صاحب الكفاية (قدس سره) (1) والسيد والعلاّمة الطباطبائي(قدس سرهم) في العروة(2) إلى استحباب الاستظهار وعدم وجوبه. وجعل المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) اختلاف النصوص قرينة على الاستحباب وعدم اهتمام الشارع بالاستظهار، كما جعل (قدس سره) اختلاف النصوص قرينة على عدم الالزام في غير هذا المورد أيضاً، منها: مسألة الكر. وعلى الجملة: فهذا من الأصل المسلّم عنده (قدس سره) ففي كل مسألة كانت النصوص مختلفة غاية الاختلاف كهذه المسألة مثلاً ولم تكن قرينة من الخارج على أنّ الحكم في المسألة إلزامي جعل الاختلاف قرينة على عدم كون الحكم فيها إلزامياً.
ـــــــــــــــــــــ
(1) كتاب في الدماء الثلاثة: 39.
(2) العروة الوثقى 1: 219 المسألة 23 [ 723 ].

ــ[119]ــ

واختار جماعة وجوبه في يوم واحد والتخيير في بقية الأيام. وهذا هو الصحيح في نظرنا، وأ نّه مقتضى الجمع العرفي بين هذه الروايات، وقد ذكرنا نظير ذلك في مسألة التسبيحات الأربعة وقلنا في تلك المسألة أيضاً بوجوب واحدة منها والتخيير في التسبيحتين الأخيرتين، بمعنى أنّ للمكلف أن يقتصر على الواحدة وله أن يأتي بالبقية أيضاً وهو الأفضل. وذهب جماعة إلى وجوبه ثلاثة أيام. وذهب جماعة اُخرى إلى وجوبه عشرة أيام.
هذه هي الأقوال في المسألة، ومن الواضح جداً أنّ شيئاً من هذه الأقوال لا يرتكز على القاعدة المزبورة، أعني قاعدة وجوب تقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب بالكلية.
أمّا على القول الأوّل فواضح، لأنّ النصوص على هذا القول محمولة على الاستحباب، أي استحباب الاستظهار لا وجوبه، فلم يقدّم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب.
وأمّا على القول الثاني فالأمر أيضاً كذلك، لأنّ إيجاب الاستظهار إذا كان من جهة تقديم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب لوجب الاستظهار إلى عشرة أيام، ولم يختص بيوم واحد، ضرورة أنّ احتمال الحرمة كما هو موجود في اليوم الأوّل كذلك موجود في اليوم الثاني والثالث وهكذا، فاختصاص وجوبه بيوم واحد منها قرينة على أ نّه أجنبي عن الدلالة على القاعدة المزبورة كما هو واضح.
وأمّا على القول الثالث، فلأنّ حاله حال القول الثاني من هذه الناحية، إذ لو كان وجوب الاستظهار من جهة تلك القاعدة لوجب إلى عشرة أيام، لبقاء احتمال الحرمة بعد ثلاثة أيام أيضاً.

ــ[120]ــ

وأمّا على القول الرابع، فقد يتوهم أنّ الروايات على هذا القول تدل على تلك القاعدة، ولكنّه من المعلوم أ نّه توهم خاطئ جداً، وذلك لأنّ مجرد مطابقة الروايات للقاعدة لاتكشف عن ثبوت القاعدة وابتناء وجوب الاستظهار عليها، فلعله بملاك آخر مثل قاعدة الامكان ونحوها. على أنّ هذا القول ضعيف في نفسه فكيف يمكن أن يستشهد به على ثبوت قاعدة كلية.
أضف إلى ذلك: أنّ الاستشهاد يتوقف على القـول بحرمة العبادة على الحائض والنفسـاء ذاتاً، إذ لو كانت الحرمة تشريعية لم يكن الأمر في أيام الاستظهار مردداً بين الحرمة والوجوب، فايجاب الاستظهار في تلك الأيام يكون أجنبياً عن القاعدة المزبورة بالكلية.
وأمّا المورد الثاني: وهو عدم جواز الوضوء بماءين مشتبهين فقد ظهر حاله مما تقدم، فانّ عدم جواز الوضوء بهما ليس من ناحية ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب، بل هو من ناحية النص الخاص(1) الذي ورد فيه الأمر باهراقهما والتيمم، وإلاّ فمقتضى القاعدة هو الاحتياط بتكرار الصلاة، إذ بذلك يحرز المكلف أنّ إحدى صلاتيه وقعت مع الطهارة المائية، ومن المعلوم أ نّه مع التمكن من ذلك لا تصل النوبة إلى التيمم على تفصيل ذكرناه في بحث الفقه(2).
أضف إلى ذلك: أنّ حرمة التوضؤ منهما ليست حرمة ذاتية بالضرورة، بل هي حرمة تشريعية وهي خارجة عن موضوع القاعدة، ضرورة أنّ موضوعها هو دوران الأمر بين الحرمة الذاتية والوجوب، وأمّا الحرمة التشريعية فهي
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 3: 345 / أبواب التيمم ب 4 ح 1.
(2) شرح العروة 2: 356 المسألة 7 [ 155 ].

 
 

ــ[121]ــ

تابعة لقصد المكلف وإلاّ فلا حرمة بحسب الواقع، وكيف كان فلا أصل لهذه القاعدة أصلاً.
لحدّ الآن قد تبيّن أ نّه لايرجع شيء من الوجوه التي ذكروها لترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب إلى محصّل.
فالصحيح هو ما حققنا سابقاً من أنّ المسألة على القول بالامتناع ووحدة المجمع في مورد الاجتماع تدخل في كبرى باب التعارض، ولا بدّ عندئذ من الرجوع إلى مرجحات ذلك الباب، فإن كان هناك ترجيح لأحدهما على الآخر فلا بدّ من العمل به، وإلاّ فالمرجع هو الاُصول العملية.
نعم، قد تكون في بعض الموارد خصوصية تقتضي تقدم الحرمة على الوجوب وإن كان شمول كل منهما لمورد الاجتماع مستفاداً من الاطلاق، وذلك كاطلاق دليل وجوب الصلاة مع إطلاق دليل حرمة الغصب، فانّ عنوان الغصب من العناوين الثانوية، ومقتضى الجمع العرفي بين حرمته وجواز فعل بعنوانه الأوّلي في مورد الاجتماع حمل الجواز على الجواز في نفسه وبطبعه غير المنافي للحرمة الفعلية، وذلك نظير ما دلّ على جواز أكل الرمان بالاضافة إلى دليل حرمة الغصب، فانّ النسبة بينهما وإن كانت نسبة العموم من وجه إلاّ أ نّه لا يشك في تقديم حرمة الغصب، لما ذكرناه.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net