معنى المفهوم والمنطوق - الفرق بين الملازمة هنا والملازمة في الاستلزامات العقلية 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 10002


ــ[192]ــ
 

مباحث المفاهيم

قد يطلق المفهوم ويراد منه كل معنى يفهم من اللفظ فحسب، سواء أكان من المفاهيم الافرادية أو التركيبية، وقد يطلق على مطلق ما يفهم من الشيء، سواء أكان ذلك الشيء لفظاً أم كان غيره كالاشارة أو الكتابة أو نحو ذلك. وغير خفي أنّ هذين الاطلاقين خارجان عن محل الكلام حيث إنّه في المفهوم المقابل للمنطوق دون ما فهم من الشيء مطلقاً.
وعلى ذلك فلا بدّ لنا من بيان المراد من هذين اللفظين أي المنطوق والمفهوم فنقول:
أمّا المنطوق: فانّه يطلق على كل معنى يفهم من اللفظ بالمطابقة أو بالقرينة العامة أو الخاصة وذلك كقـولنا: رأيت أسداً، فانّه يدل على كون المرئي هو الحـيوان المفترس بالمطابقة وكقـوله تعالى: (وأَنزَلْنا مِنَ السّماءِ مَاءً طَهُوراً )(1) حيث إنّه يدل على طهورية الماء بالمطابقة وعلى طهورية جميع أفراده بالاطلاق والقرينة العامة، كما أنّ قولنا: رأيت أسداً يرمي يدل على كون المرئي هو الرجل الشجاع بالقرينة الخاصة وهكذا. وعلى الجملة: فما دلّ عليه اللفظ وضعاً أو إطلاقاً أو من ناحية القرينة العامة أو الخاصة فهو منطوق، نظراً إلى أ نّه يفهم من شخص ما نطق به المتكلم.
وأمّا المفهوم: فانّه يطلق على معنى يفهم من اللفظ بالدلالة الالتزامية نظراً
ـــــــــــــــــــــ
(1) الفرقان 25: 48.

ــ[193]ــ

إلى العلاقة اللزومية البينة بالمعنى الأخص أو الأعم بينه وبين المنطوق، فتكون دلالة اللفظ على المنطوق أوّلاً وبالذات وعلى المفهوم ثانياً وبالتبع، وهذه الدلالة مستندة إلى خصوصية موجودة في القضية قد دلّت عليها بالمطابقة أو بالاطلاق والقرينة العامة، مثلاً دلالة القضية الشرطية على المفهوم ـ وهو الانتفاء عند الانتفاء مثلاً ـ تقوم على أساس دلالتها على كون الشرط علة منحصرة للحكم وضعاً أو إطلاقاً على ما يأتي.
وبكلمة اُخرى: أنّ انفهام المعنى من اللفظ لا يخلو من أن يكون أوّلاً وبالذات ـ أي لا يحتاج إلى شيء ما عدا الوضع أو القرينة العامة أو الخاصة ـ أو يكون ثانياً وبالتبع، أي يحتاج انفهامه زائداً على ما عرفت إلى خصوصية اُخرى، وتلك الخصوصية تستتبع ذلك، فانّ القضية الشرطية كقولنا: إن جاءك زيد فأكرمه مثلاً بناءً على دلالتها على المفهوم تدل على الثبوت عند الثبوت أوّلاً وبالذات وعلى الانتفاء عند الانتفاء ثانياً وبالتبع، بمعنى أنّ انفهامه منها تابع لانفهام المعنى الأوّل. ومنشأ هذه التبعية هو دلالتها على الخصوصية المزبورة، وهي كون الشرط علةً منحصرةً للحكم، ومن الطبيعي أنّ لازم ذلك هو كون انفهام المفهوم تابعاً لانفهام المنطوق في مقام الاثبات والدلالة.
فالنتيجة في نهاية الشوط: هي أنّ المفهوم في محل الكلام عبارة عما كان انفهامه لازماً لانفهام المنطوق باللزوم البيّن بالمعنى الأخص أو الأعم فلا يحتاج إلى شيء آخر زائداً على ذلك.
ومن ضوء هذا البيان يظهر خروج مثل وجوب المقدمة وحرمة الضد وما شاكلهما عن محل الكلام، فانّ الملازمة على القول بها وإن كانت ثابتة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته، ووجوب شيء وحرمة ضده ونحو ذلك، إلاّ أ نّها ليست على نحو اللزوم البيّن، ضرورة أنّ النفس لا تنتقل من مجرد تصور

ــ[194]ــ

وجوب الشيء ومقدمته إلى وجوبها ما لم تتصور مقدمة اُخرى وهي حكم العقل بالملازمة بينهما. فالنتيجة: أنّ الملازمة في تلك الموارد لا تكون على شكل اللزوم البيّن.
ودعوى أنّ تبعية انفهام معنى لانفهام معنى آخر لا تعقل أن تكون جزافاً فبطبيعة الحال تكون مستندة إلى ملاك واقعي وهو وجود الملازمة بين المعنيين، فلا فرق بين تبعية انفهام المفهوم لانفهام المنطوق في المقام وبين التبعية في تلك الموارد، فكما أنّ تبعية انفهام وجوب المقدمة لانفهام وجوب ذيها مستندة إلى مقدمة خارجية ـ وهي إدراك العقل ثبوت الملازمة بينهما ـ فكذلك تبعية انفهام المفهوم في القضية الشرطية لانفهام المنطوق مستندة إلى مقدمة خارجية ـ وهي كون الشرط في القضية علة منحصرة للحكم ـ فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً، وعليه فلا يكون تعريف المفهوم مطّرداً حيث تدخل فيه الموارد المذكورة.
خاطئة جداً وذلك لأنّ التبعية في المقام تمتاز عن التبعية في تلك الموارد في نقطة واحدة، وهي أنّ التبعية هنا وإن كانت تستند إلى كون الشرط علةً منحصرةً للحكم، إلاّ أ نّه ليس من المقدمات الخارجية فانّه مدلول للجملة الشرطية وضعاً أو إطلاقاً فلا نحتاج في انفهام المفهوم منها إلى مقدمة خارجية، وهذا بخلاف التبعية هناك، فانّها تحتاج إلى مقدمة خارجية وهي حكم العقل المزبور زائداً على مدلول الجملة كصيغة الأمر أو ما شاكلها.
وعلى الجملة: فالنقطة الرئيسية للفرق بينهما هي أنّ التبعية في المقام مستندة إلى الحيثية التي يكون الدال عليها هو اللفظ، والتبعية هناك مستندة إلى الحيثية التي يكون الحاكم بها هو العقل دون اللفظ، ولأجل ذلك تكون الملازمة هنا بين الانفهامين بيّنة حيث لا تحتاج إلى مقدمة خارجية، وهناك غير بيّنة

ــ[195]ــ

لاحتياجها إليها، كما أ نّه ظهر بذلك خروج مثل دلالة الاقتضاء والتنبيه والاشارة وما شاكل ذلك عن محل الكلام، فانّ اللزوم في مواردها من اللزوم غير البيّن فيحتاج الانتقال إلى اللازم فيها إلى مقدمة خارجية. مثلاً دلالة الآيتين الكريمتين على كون أقل الحمل ستة أشهر كما أ نّها ليست من الدلالة المطابقية كذلك ليست من الدلالة الالتزامية التي يعتبر فيها كون اللزوم بيّناً، والمفروض أنّ الملازمة فيها غير بيّنة، بل هي من الدلالة الاقتضائية فتحتاج إلى ضم مقدمة اُخرى وبدونها فلا دلالة. فالنتيجة: أنّ اللزوم في موارد تلك الدلالات غير بيّن.
ومن هنا يظهر ما في كلام شيخنا الاُستاذ (قدس سره)(1) من الخلط بين اللزوم البيّن بالمعنى الأعم واللزوم غير البيّن، حيث إنّه (قدس سره) مثّل للأوّل بتلك الدلالات مع أ نّك عرفت أنّ اللزوم فيها غير بيّن لاحتياجها إلى ضم مقدمة خارجية، فهذا هو نقطة الامتياز بين اللزوم البيّن واللزوم غير البيّن.
وأمّا نقطة الامتياز بين اللزوم البيّن بالمعنى الأعم واللزوم البيّن بالمعنى الأخص فهي أمر آخر، وهو أ نّه يكفي في اللزوم البيّن بالمعنى الأخص نفس تعقل الملزوم في الانتقال إلى لازمه، وهذا بخلاف اللزوم البيّن بالمعنى الأعم فانّه لا يكفي فيه ذلك، بل لا بدّ فيه من تصور اللازم والملزوم والنسبة بينهما في الجزم باللزوم، نعم هما يشتركان في نقطة اُخرى وهي عدم الحاجة إلى ضم مقدمة خارجية.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة: وهي أنّ في كل مورد لم يحتج لزوم انفهام شيء لانفهام شيء آخر إلى ضم مقدمة اُخرى فهو من اللزوم البيّن
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 243.

ــ[196]ــ

ـ سواء أكان بالمعنى الأعم أو الأخص ـ وفي كل مورد احتاج لزوم انفهام شيء لانفهام شيء آخر إلى ضمّها فاللزوم لا يكون بيّناً أصلاً.
فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ هذه الدلالة من اللازم البيّن بالمعنى الأعم في غير محلّه.
ثمّ إنّ لزوم المفهوم للمنطوق هل هو من اللزوم البيّن بالمعنى الأخص أو من اللزوم البيّن بالمعنى الأعم؟ الظاهر هو الأوّل، والسبب في ذلك: هو أنّ اللازم إذا كان بيّناً بالمعنى الأعم قد يغفل المتكلم عن إرادته كما أنّ المخاطب قد يغفل عنه، نظراً إلى أنّ الذهن لا ينتقل إليه من مجرد تصور ملزومه ولحاظه في اُفق النفس، بل لا بدّ من تصوره وتصور اللازم والنسبة بينهما، ومن الطبيعي أنّ اللاّزم بهذا المعنى لاينطبق على المفهوم، لوضوح أنّ معنى كون القضية الشرطية أو ما شاكلها ذات مفهوم هو أ نّها تدل على كون الشرط أو نحوه علةً منحصرةً للحكم، ومن الطبيعي أنّ مجرد تصورها يوجب الانتقال إلى لازمها وهو الانتفاء عند الانتفاء من دون حاجة إلى تصور أيّ شيء آخر، وهذا معنى اللزوم البيّن بالمعنى الأخص.
لحدّ الآن قد انتهينا إلى هذه النتيجة وهي أنّ لزوم المفهوم للمنطوق من اللزوم البيّن بالمعنى الأخص(1).

ـــــــــــــــــــــ
(1) [ وهذا هي الجهة الاُولى من البحث ].




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net