نذر الاحرام قبل الميقات والصوم في السفر - دوران الأمر بين التخصيص والتخصص 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4494

وأمّا المقام الثاني: فلأنّ الالتزام بصحة الإحرام قبل الميقات وصحة الصوم في السفر من جهة النذر ليس من ناحية التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر، بل هو من ناحية الروايات الخاصة الدالة على صحتهما كذلك بالنذر. وعلى

ــ[389]ــ

ذلك فامّا أن نجعل هذه الأدلة مخصصةً لما دلّ على اشتراط صحة النذر برجحان متعلقه، وإمّا أن نقول بكفاية الرجحان الناشئ من قبل النذر في صحته كما التزم بذلك السيد الطباطبائي (قدس سره) في العروة(1).
ولكن أورد على ذلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره)(2) بأن لازم هذه النظرية إمكان تصحيح النذر في المحرّمات أيضاً بالرجحان الناشئ من قبله فضلاً عن المكروهات، وهو كما ترى.
وفيه: أن ما أورده (قدس سره) على هذه النظرية خاطئ جداً، والسبب في ذلك: أنّ ما دل على حرمة شيء أو كراهته باطلاقه يشمل ما قبل النذر وما بعده، يعني أ نّه كما يدل على حرمته قبل النذر كذلك يدل عليها بعده، بداهة أنّ دليل وجوب الوفاء بالنذر لا يصلح أن يكون مقيداً لاطلاقه وإلاّ لأمكن تحليل جميع المحرّمات والواجبات فعلاً وتركاً بالنذر كما أفاده، والسر فيه: أنّ دليل وجوب الوفاء به لا يكون ناظراً إلى أنّ ما تعلق به النذر راجح أو ليس براجح، وعليه فلا بدّ من إحرازه من الخارج. نعم، قد يكون تعلق النذر به ملازماً لانطباق عنوان راجح عليه فحينئذ يصح النذر، إذ لا يعتبر في صحته أن يكون متعلقه راجحاً قبله أي قبل النذر زماناً، بل يكفي فيها مقارنته معه زماناً.
وعلى الجملة: فدليل وجوب الوفاء بالنذر لا يكون سبباً وموجباً لحدوث الرجحان في متعلقه حتى يستلزم انقلاب الواقع بأن يجعل المبغوض محبوباً والحرام راجحاً، حيث إنّه غير ناظر إلى أنّ متعلقه راجح أو غير راجح حرام
ـــــــــــــــــــــ
(1) العروة الوثقى 1: 381 المسألة 17 [ 1207 ].
(2) العروة الوثقى (المحشّاة): 2: 274 المسألة 17 / فصل في أوقات الرواتب.

ــ[390]ــ

او ليس بحرام وهكذا، بل لا بدّ من إحراز ذلك من الخارج، فان أحرزنا أ نّه راجح صح النذر، وإن لم يحرز ذلك ـ سواء أحرزنا أ نّه مرجوح كالمكروه أو الحرام أم لم يحرز ـ فهو غير صحيح.
وعليه فبما أنّ ما دل على حرمة شيء كشرب الخمر مثلاً أو كراهته باطلاقه يدل عليها حتى بعد تعلق النذر به أيضاً، فلا محالة لا يكون مثل هذا النذر صحيحاً لمرجوحية متعلقه ولا يشمله عموم وجوب الوفاء بالنذر لما عرفت، ولا يقاس ذلك بمسألتي صحة الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات بالنذر، فانّ صحته في تلك المسألتين إنّما هو من ناحية الروايات الخاصة، ومن الواضح أ نّنا نستكشف من هذه الروايات أنّ تعلق النذر بهما ملازم لانطباق عنوان راجح عليهما أو موجب له، ولأجله يصح النذر ويجب الوفاء به، فتكون تلك الروايات مقيدةً لاطلاق أدلة عدم مشروعية الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات بغير صورة النذر.
وبكلمة اُخرى: أنّ الظاهر كفاية الرجحان الناشئ من قبل النذر، يعني أنّ تعلقه بشيء إذا كان موجباً لانطباق عنوان راجح عليه أو ملازم له ولكن إحراز ذلك يحتاج إلى دليل ففي كل مورد قد دل الدليل على ذلك ولو بالدلالة الالتزامية فلا إشكال في صحة النذر فيه كما هو الحال في تلك المسألتين، وأمّا إذا لم يكن دليل على ذلك فلا يمكن إحرازه، وبدونه لا يمكن الحكم بصحة النذر أصلاً.
فالنتيجة في نهاية الشوط: هي أنّ صحة الصوم في السفر بالنذر وكذا الإحرام قبل الميقات إنّما هي من ناحية أحد أمرين، إمّا من ناحية أن ما دل على صحتهما بالنذر يكون مقيداً لاطلاق ما دل على اعتبار الرجحان في متعلقه،

ــ[391]ــ

وإمّا من ناحية كشفه عن عروض عنوان راجح عليه من جهة النذر على الشكل الذي عرفت.
بقي هنا أمران، الأوّل: ما إذا علم بأنّ إكرام زيد مثلاً غير واجب، ولكن لا ندري أنّ عدم وجوب إكرامه من ناحية التخصيص أي تخصيص عموم إكرام كل عالم بغيره، أو أ نّه من ناحية التخصص، يعني أنّ عدم وجوب إكرامه من ناحية أ نّه ليس بعالم، فدار الأمر في المقام بين التخصيص والتخصص، ومثال ذلك في الفقه مسألة الملاقي لماء الاستنجاء، حيث إنّه غير محكوم بالنجاسة إذا توفّرت فيه الشرائط التي ذكرت لعدم تأثير ماء الاستنجاء فيه ـ الملاقي ـ فحينئذ لا محالة يدور بين أن يكون خروجه عن هذا الحكم بالتخصص أو بالتخصيص، يعني أنّ ما دلّ على طهارة الملاقي له هل يكون مخصصاً لعموم ما دلّ على انفعال الملاقي للماء النجس أو يكون خروجه منه بالتخصص؟
فيه خلاف بين الأصحاب، فذهب بعضهم إلى الأوّل، وآخر إلى الثاني بدعوى أ نّه لا مانع من التمسك بأصالة عدم التخصيص لاثبات طهارة ماء الاستنجاء، نظراً إلى أنّ الاُصول اللفظية كما تثبت لوازمها الشرعية كذلك تثبت لوازمها العقلية والعادية أيضاً، فالنتيجـة أ نّه لا مانع من التمسك بها لاثبات التخصص.
وبكلمة اُخرى: أنّ الحري بنا أن نتكلم في كبرى المسألة فنقول: إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصص، فهل يقدم الأوّل على الثاني؟ فيه قولان. المعروف في الألسنة هو القول الثاني، واستدل عليه بأصالة عدم التخصيص في طرف العام، وهذه الأصالة كما تثبت لوازمها الشرعية كذلك تثبت لوازمها

ــ[392]ــ

العقلية والعادية، نظراً إلى أنّ المثبتات من الاُصول اللفظية حجة. مثلاً إذا علم بخروج زيد عن عموم العام وشك في أنّ خروجه منه بالتخصيص أو بالتخصص فلا مانع من التمسك بأصالة عدم ورود التخصيص عليه لاثبات التخصص.
ولنأخذ بالنقد عليه: وهو أنّ حجية أصالة عدم التخصيص لم تثبت بآية أو رواية حتى نأخذ باطلاقها في أمثال المورد، وإنّما هي ثابتة بالسيرة القطعية من العقلاء، فاذن بطبيعة الحال تتبع حجيتها في كل مورد جريان السيرة منهم على العمل بها في ذلك المورد، وقد ثبت جريان سيرتهم فيما إذا اُحرز فردية شيء لعام وشك في خروجه عن حكمه، ففي مثل هذا المورد لا مانع من التمسك بها، وأمّا إذا كان الأمر بالعكس بأن علم بخروجه عن حكمه وشك في فرديته لعام كما فيما نحن فيه، حيث إنّا نعلم بأن زيداً مثلاً خارج عن حكم العام ولكن لا نعلم أنّ خروجه من ناحية أ نّه ليس بفرد له أو من ناحية التخصيص، فلا نعلم بجريان السيرة منهم على العمل بها، ومع عدم إحرازه لا يمكن الحكم بحجيتها.
أو فقل: إنّ الاُصول اللفظية وإن كانت مثبتاتها حجة، لما ذكرناه في محلّه من أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثاً وبقاءً، يعني في أصل الوجود والحجية، وقد ذكرنا غير مرّة أ نّه لا يمكن بقاء الدلالة الالتزامية على الحجية إذا سقطت الدلالة المطابقية عنها، ضرورة أ نّها تسقط بسقوطها كما حققنا ذلك بشكل موسع في ضمن البحث عن ثبوت الملازمة بين الأمر بشيء والنهي عن ضدّه(1). هذا فيما إذا كانت الدلالة المطابقية موجودةً من جهة ظهور اللفظ أو من جهة بناء العقلاء، وأمّا إذا لم تكن دلالة مطابقية في البين فلا
ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 362.

ــ[393]ــ

موضوع للدلالة الالتزامية، لفرض أ نّها متفرعة عليها فكيف يعقل وجودها بدون تلك.
وبعد ذلك نقول: إنّ ما ثبت حجية هذه الأصالة فيه هو ما إذا كان الشيء فرداً لعام وشك في خروجه عن حكمه، ففي مثل ذلك تكون هذه الأصالة حجةً فلا مانع من الأخذ بدلالتها الالتزامية أيضاً، لما عرفت من أ نّها تابعة للدلالة المطابقية في الحدوث والحجية. وأمّا في محل الكلام وهو عكس هذا الفرض تماماً فلا تجري هذه الأصالة، لعدم إحراز بناء العقلاء عليها فيه فما ظنّك بدلالتها الالتزامية. مثلاً لو قال المولى لعبده: بع جميع كتبي الموجودة في مكتبتنا هذه فباع جميعها، فليس للمولى الاعتراض عليه بقوله: لماذا بعت الكتاب الفلاني، بل له إلزام المولى بظهور العام في العموم وعدم نصبه قرينة على الخلاف، وأمّا إذا قال له: بع جميع كتبي ثمّ قال: لا تبع الكتاب الفلاني ونشك في أ نّه وقف أو عارية أو أ نّه ملكه، فعلى الأوّل يكون خروجه من باب التخصص وعلى الثاني من باب التخصيص، فلا يمكن التمسك بأصالة العموم لاثبات التخصص، لعدم إحراز جريان السيرة على التمسك بها في مثل المقام. ومن هذا القبيل الملاقي لماء الاستنجاء حيث إنّ أمره يدور بين أن يكون خروجه عن عموم ما دلّ على انفعال الملاقي للماء النجس بالتخصيص أو التخصص.
بيان ذلك: أنّ في ماء الاستنجاء أقوالاً ثلاثة: الأوّل: النجاسة. الثاني: الطهارة، ونسب هذا القول إلى المشهور بين الأصحاب. الثالث: النجاسة لكن مع العفو بمعنى عدم انفعال الشيء بملاقاته.
أمّا القول الأوّل: فلا أصل له، حيث إنّه يقوم على أساس الأخذ بعموم ما

ــ[394]ــ

دلّ على انفعال الملاقي للماء النجس لما نحن فيه أيضاً، ولكن فساده بمكان من الوضوح، فانّ الملاقي لماء الاستنجاء قد خرج عن هذا العموم جزماً، للنصوص الخاصة الدالة على عدم انفعاله بملاقاته. فاذن هذا القول على تقدير القائل به خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً، فيدور الحق بين القولين الأخيرين، ونقول: إنّ هنا طوائف من الروايات:
الاُولى: ما دلت على انفعال الماء القليل بملاقاة النجس كمفهوم أخبار الكر ونحوه من الروايات المتفرقة الواردة في الموارد الخاصة بعد إلغاء خصوصيات الموارد بنظر العرف.
الثانية: ما دلت على انفعال الملاقي للماء النجس.
الثالثة: ما دلت على عدم انفعال الملاقي لماء الاستنجاء فحسب. ثمّ إنّ هذه الطائفة لا تخلو من أن تكون مخصصةً للطائفة الاُولى بغير ماء الاستنجاء، ونتيجة هذا التخصيص هي طهارته وعدم انفعاله بملاقاة النجس كالبـول أو العذرة، وحينئذ تكون طهارة ملاقيه على القاعدة ومن باب التخصص، أو تكون مخصصةً للطائفة الثانية فتكون نتيجة هذا التخصيص نجاسة ماء الاستنجاء من دون تأثيره في انفعال ملاقيه كالبدن أو الثوب، ولا ثالث لهما، فالاحتمال الأوّل يقوم على أساس إحدى دعويين:




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net