تعارض المفهوم مع العموم 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4983


ــ[451]ــ
 

تعارض المفهوم مع العموم

هل يقدّم المفهوم على العموم أو بالعكس أو لا هذا ولا ذاك؟ فيه وجوه.
قيل: بتقدم العموم على المفهوم بدعوى أنّ دلالة العام على العموم ذاتية أصلية ودلالة اللفظ على المفهوم تبعية، ومن الطبيعي أنّ الدلالة الأصلية تتقدم على الدلالة التبعية في مقام المعارضة.
ويرد عليه: أنّ دلالة اللفظ على المفهوم لا تخلو من أن تكون مستندةً إلى الوضع أو إلى مقدمات الحكمة فلا ثالث لهما.
وبكلمة اُخرى: قد تقدم في مبحث المفاهيم(1) أنّ دلالة القضية على المفهوم إنّما هي من ناحية دلالتها على خصوصية مستتبعة له، ومن المعلوم أنّ دلالتها على تلك الخصوصية إمّا من جهة الوضع أو من جهة مقدمات الحكمة، والمفروض أنّ دلالة العام على العموم أيضاً لا تخلو من أحد هذين الأمرين، يعني الوضع أو مقدمات الحكمة، فاذن ما هو معنى أنّ دلالة العام على العموم أصلية ودلالة القضية على المفهوم تبعية. فالنتيجة: أ نّه لم يظهر لنا معنىً محصّل لذلك.
وقيل: بتقدم المفهوم على العموم ولا سيما إذا كان من المفهوم الموافق، ببيان أنّ دلالة القضية على المفهوم عقلية ودلالة العام على العموم لفظية، فلا يمكن
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 198 وما بعدها.

ــ[452]ــ

رفع اليد عن المفهوم من جهة العموم. وبتعبير واضح أنّ المفهوم لازم عقلي للخصوصية التي كانت في المنطوق، ومن الطبيعي أ نّه لا يعقل رفع اليد عنه من دون أن يرفع اليد عن تلك الخصوصية، ضرورة استحالة انفكاك اللازم عن الملزوم، ومن المعلوم أنّ رفع اليد عن تلك الخصوصية بلا موجب، لفرض أ نّها ليست طرفاً للمعارضة مع العام، وما هو طرف لها ـ وهو المفهوم ـ فرفع اليد عنه بدون رفع اليد عنها غير معقول. أو فقل: إنّ رفع اليد عن المفهوم بدون التصرف في المنطوق مع أنّ المفروض لزوم المفهوم له أمر غير ممكن، والتصرف في المنطوق ورفع اليد عنه مع أ نّه ليس طرفاً للمعارضة بلا مقتض وموجب، وعليه فلا محالة يتعين التصرف في العموم وتخصيصه بغير المفهوم.
ويرد عليه: أنّ التعارض بين المفهوم والعام يرجع في الحقيقة إلى التعارض بين المنطوق والعام، والسبب فيه: أنّ المفهوم كما عرفت لازم عقلي للخصوصية الموجودة في طرف المنطوق، ومن الطبيعي أنّ انتفاء الملزوم كما يستلزم انتفاء اللازم كذلك انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم، فلا يعقل انفكاكٌ بينهما لا ثبوتاً ولا نفياً، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أنّ القضية التي هي ذات مفهوم فقد دلت على تلك الخصوصية بالمطابقة وعلى لازمها بالالتزام، غاية الأمر إن كان اللازم موافقاً للقضية في الايجاب والسلب سمي ذلك بالمفهوم الموافق، وإن كان مخالفاً لها في ذلك سمي بالمفهوم المخالف.
ومن ناحية ثالثة: أنّ الدليل المعارض قد يكون معارضاً للملزوم ويسمى ذلك بالمعارض للمنطوق، وقد يكون معارضاً للازم ويسمى ذلك بالمعارض للمفهوم، ولكن على كلا التقديرين يكون معارضاً لكليهما معاً، ضرورة أنّ ما يكون معارضاً للملزوم ويدل على نفيه فلا محالة يدل على نفي لازمه أيضاً،

ــ[453]ــ

وكذا بالعكس، أي ما يكون معارضاً للازم ويدل على نفيه، فبطبيعة الحال يدل على نفي ملزومه أيضاً، لما أشرنا إليه آنفاً من أنّ نفي الملزوم كما يستلزم نفي اللازم، كذلك نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم، إلاّ أن يكون اللازم أعم من الملزوم أو أخص منه، فعندئذ لا ملازمة بينهما. وأمّا إذا كان اللازم لازماً مساوياً له كما هو الحال في المفهوم حيث إنّه لازم مساو للمنطوق فلا يعقل رفع اليد عنه بدون رفع اليد عن المنطوق، لأنّ مردّه إلى انفكاك اللازم عن الملزوم وهو مستحيل.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث: هي أنّ العام المعارض للمفهوم بعمومه ـ كما هو مفروض مسألتنا هذه ـ فهو في الحقيقة معارض للمنطوق ويدل على نفيه، نظراً إلى ما عرفت من أنّ التصرف في المفهوم ورفع اليد عنه بدون التصرف في المنطوق ورفع اليد عنه غير ممكن حتى يعقل كونه طرفاً للمعارضة مستقلاً، فاذا افترضنا أنّ العام بعمومه يكون منافياً للمفهوم فبطبيعة الحال يكون منافياً للمنطوق أيضاً ولا محالة يمنع عن دلالة القضية على الخصوصية المستتبعة له (المفهوم) وإلاّ فلا يعقل كونه منافياً له ومانعاً عن دلالة القضية عليه بدون منعه عن دلالتها على تلك الخصوصية، لاستلزام ذلك انفكاك اللازم عن الملزوم وهو مستحيل. فاذن المعارضة في الحقيقة لا تعقل إلاّ بينه وبين المنطوق كما هو الحال في جميع موارد يكون الدليل معارضاً للمفهوم، هذا.
وقد فصّل المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في المقام وإليك نصّه: وتحقيق المقام أ نّه إذا ورد العام وما له المفهوم في كلام أو كلامين ولكن على نحو يصلح أن يكون كل منهما قرينةً للتصرف في الآخر، ودار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم، فالدلالة على كل منهما إن كانت بالاطلاق

ــ[454]ــ

بمعونة مقدمات الحكمة أو بالوضع فلا يكون هناك عموم ولا مفهوم، لعدم تمامية مقدمات الحكمة في واحد منهما لأجل المزاحمة، كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعاً لظهور الآخر كذلك، فلا بدّ من العمل بالاُصول العملية فيما دار فيه بين العموم والمفهوم، إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر، وإلاّ كان مانعاً عن انعقاد الظهور أو استقراره في الآخر. ومنه قد انقدح الحال فيما إذا لم يكن بين ما دلّ على العموم وما له المفهوم ذاك الارتباط والاتصال، وأ نّه لا بدّ أن يعامل مع كل منهما معاملة المجمل لو لم يكن في البين أظهر، وإلاّ فهو المعوّل والقرينة على التصرف في الآخر بما لا يخالفه بحسب العمل(1).
أقول: ما أفاده (قدس سره) يحتوي على نقطتين:
الاُولى: أن يكون العام وما له المفهوم في كلام واحد أو في كلامين يكونان بمنزلة كلام واحد، فعندئذ لا يخلوان من أن تكون دلالة كل منهما على مدلوله بالاطلاق ومقدمات الحكمة أو بالوضع، أو إحداهما بالوضع والاُخرى بالاطلاق ومقدمات الحكمة.
فعلى الأوّل والثاني لا ينعقد الظهور لشيء منهما، أمّا على الأوّل فلأنّ انعقاد ظهور كل منهما في مدلوله يرتكز على تمامية مقدمات الحكمة فيه، والمفروض أ نّها غير تامة في المقام، حيث إنّ كلاً منهما مانع عن جريانها في الآخر. وأمّا على الثاني فلفرض أنّ كلاً منهما يصلح أن يكون قرينةً على الآخر، وعليه فيدخل المقام في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية، ومعه لا محالة لا ينعقد الظهور لشيء منهما. إذن يكون المرجع في مورد المعارضة هو الاُصول العملية.
ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول: 233 ـ 234.

ــ[455]ــ

وعلى الثالث فما كانت دلالته بالوضع يتقدم على ما كانت دلالته بالاطلاق ومقدمات الحكمة، حيث إنّ ظهوره في مدلوله لا يتوقف على شيء، دون ذاك فانّه يتوقف على جريان مقدمات الحكمة وهي غير جارية في المقام، لفرض أنّ ظهوره في مدلوله مانع عن جريانها.
الثانية: أن يكونا في كلامين منفصلين، وعندئذ فتارةً تكون دلالة كل منهما على مدلوله بالاطلاق ومقدمات الحكمة، واُخرى تكون بالوضع، وثالثةً تكون إحداهما بالوضع والاُخرى بالاطلاق ومقدمات الحكمة.
فعلى الفرض الأوّل والثاني لا موجب لتقديم أحدهما على الآخر إلاّ إذا كان ظهور أحدهما أقوى من الآخر على نحو يكون بنظر العرف قرينةً على التصرف فيه، فحينئذ يتقدم عليه كما إذا كان أحدهما خاصاً والآخر عاماً.
وعلى الفرض الثالث يتقدم ما كانت دلالته بالوضع على ما كانت دلالته بالاطلاق ومقدّمات الحكمة كما هو ظاهر، هذا.
والصحيح في المقام هو التفصيل بشكل آخر غير هذا الذي أفاده صاحب الكفاية (قدس سره) وسوف يظهر ما فيه من المناقشة والاشكال في ضمن بيان ما اخترناه من التفصيل، بيان ذلك: أ نّك عرفت أنّ التعارض في الحقيقة إنّما هو بين منطوق القضية وعموم العام لا بينه وبين مفهومها فحسب كما هو ظاهر، وعليه فلا بدّ من ملاحظة النسبة بينهما، ومن الطبيعي أنّ النسبة قد تكون عموماً من وجه، وقد تكون عموماً مطلقاً. أمّا على الأوّل فقد ذكرنا في تعارض الدليلين بالعموم من وجه أ نّه إذا كان أحدهما ناظراً إلى موضوع الآخر ورافعاً له دون العكس فلا إشكال في تقديمه عليه من دون ملاحظة النسبة بينهما، لفرض أنّ ما كان ناظراً إلى موضوع الدليل الآخر حاكم عليه.

ــ[456]ــ

ومن الواضح أ نّه لا تلاحظ النسبة بين دليلي الحاكم والمحكوم كما لا تلاحظ بقية المرجحات، لفرض أ نّه لا تعارض بينهما في الحقيقة، كما هو الحال في تقديم مفهوم آية النبأ على عموم العلة فيها، حيث إنّ الآية الكريمة على تقدير دلالتها على المفهوم ـ وهو حجية خبر العادل ـ تكون حاكمةً على عموم العلة ونحوها، فانّ المفهوم يرفع موضوع العام فلا يكون العمل بخبر العادل بعد ذلك من إصابة القوم بجهالة ومن العمل بغير العلم، حيث إنّه علم شرعاً بمقتضى دلالة الآية، ومعه كيف يكون عموم العلة مانعاً عن ظهورها في المفهوم، ضرورة أنّ العلة بعمومها لا تنظر إلى أفرادها ومصاديقها في الخارج لا وجوداً ولا عدماً، يعني أ نّها لا تقتضي وجودها فيه ولا تقتضي عدمها، حيث إنّ شأنها شأن بقية القضايا الحقيقية فلا تدل إلاّ على ثبوت الحكم لأفراد موضوعها على تقدير ثبوتها في الخارج.
ومن هنا لا يمكن التمسك بعمومها في مورد إلاّ بعد إحراز أ نّه من أفرادها ومصاديقها كما هو الحال في غيرها من العمومات، فاذا كان هذا حال عموم العلة أو ما شاكلها فكيف يكون مانعاً عن انعقاد ظهور الآية في المفهوم، لوضوح أنّ ظهورها فيه يمنع عن كون مورد المفهوم فرداً للعام، وقد عرفت أ نّه لا نظر لها إلى كون هذا المورد فرداً لها أو لا، فاذن كيف يعقل أن يكون مزاحماً لما يدل على كون هذا المورد ليس فرداً لها. أو فقل: إنّ جواز التمسك بعموم العام في مورد لاثبات حكمه له يتوقف على كون ذلك المورد في نفسه فرداً للعام، والمفروض أنّ كونه فرداً له يتوقف على عدم دلالة القضـية على المفهوم وإلاّ لم يكن فرداً له، ومعه كيف يعقل أن يكون عموم العام مانعاً عن دلالتها عليه وإلاّ لزم الدور، نظراً إلى أنّ عموم العام يتوقف على كون المورد في نفسه فرداً للعام وهو يتوقف على عدم دلالة القضية على المفهوم، فلو كان

ــ[457]ــ

ذلك متوقفاً على عموم العام لزم الدور لا محالة.
ثمّ إنّه لا فرق في ذلك بين كون العام متصلاً بما له المفهوم في الكلام وكونه منفصلاً عنه، فانّه على كلا التقديرين يتقدم المفهوم على العام، حيث إنّ النكتة التي ذكرناها لتقديمه عليه لا يفرق فيها بين الصورتين.
وأمّا إذا لم يكن أحدهما حاكماً على الآخر، فعندئذ إن كان تقديم أحدهما على الآخر موجباً لالغاء العنوان المأخوذ في موضوعه دون العكس تعيّن العكس ويكون ذلك من أحد المرجّحات عند العرف، ولنأخذ لذلك بمثالين:
أحدهما: أنّ ما دلّ على اعتصام ماء البئر وعدم انفعاله بالملاقاة كصحيحة ابن بزيع(1) معارض بما دلّ على انفعال الماء القليل كمفهوم قوله (عليه السلام): «إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه
شيء»(2) بيان ذلك: أنّ الاستدلال بالصحيحة على اعتصام ماء البئر تارةً بملاحظة التعليل الوارد فيها وهو قوله (عليه السلام): «لأنّ له مادة» واُخرى: بملاحظة صدرها بدون حاجة إلى ضم التعليل الوارد فيها وهو قوله (عليه السلام): «ماء البئر واسع لا يفسده شيء».
أمّا إذا كان الاستدلال فيها بلحاظ التعليل فهو خارج عن مورد كلامنا هنا، حيث إنّ التعليل يكون أخص مطلقاً من المفهوم، لأنّ المفهوم يدل بالالتزام على انحصار ملاك الاعتصام ببلوغ الماء حدّ الكر، وينفي وجوده عن غيره، والتعليل نص في أنّ المادة ملاك للاعتصام وهو صريح في النظر إلى الماء القليل، ضرورة أ نّه لا معنى لتعليل اعتصام الكثير بالمادة.
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 1: 172 / أبواب الماء المطلق ب 14 ح 6.
(2) الوسائل 1: 158 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 1 (مع اختلاف).

ــ[458]ــ

ولا فرق في ذلك بين أن يكون التعليل في الصحيحة مسوقاً ابتداءً لبيان اعتصام ماء البئر، وأن يكون مسوقاً كذلك لبيان ارتفاع النجاسـة عنه بعد زوال التغير، حيث إنّ المتفاهم العرفي بالمناسبات الارتكازية أنّ سببية المادة لارتفاع النجاسة عنه إنّما هي من آثار سببيتها لاعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة، لا أنّ مطهريتها له تعبد من الشارع من دون كونها سبباً لاعتصامه.
ودعوى أنّ مطهرية المادة لماء البئر أو نحوه لا تختص بالقليل بل تعم الكثير أيضاً، فلو كانت المطهرية من آثار سببيتها للاعتصام لاختصت بالقليل باعتبار اختصاص سببيتها به حيث لا معنى لكونها سبباً لاعتصام الكثير خاطئة جداً فانّ الاختصاص ليس من ناحية قصور في المادة وأ نّها لا تصلح أن تكون سبباً لاعتصام الكثير، بل من ناحية عدم قابلية المحل حيث إنّ المعتصم في نفسه غير قابل للاعتصام بسبب خارجي، وبما أنّ الكثير معتصم في نفسه فيستحيل أن يقبل الاعتصام ثانياً بسبب خارجي كالمادة. واحتمال أنّ عدم انفعال ماء البئر بالملاقاة إنّما هو من ناحية اعتصامه في نفسه كما هو مقتضى صدر الصحيحة لا من ناحية وجود المادة فيه مدفوع بأنّ هذا الاحتمال خلاف الارتكاز، حيث إنّ العرف لا يرى بالمناسبات الارتكازية خصوصيةً في ماء البئر بها يمتاز عن غيره مع قطع النظر عن وجود المادة فيه، فامتيازه عن غيره إنّما هو بوجودها، ومن هنا قلنا إنّ المتفاهم العرفي من الصحيحة أنّ سبب اعتصامه إنّما هو المادة.
وعلى الجملة: أنّ احتمال دخل خصوصية عنوان البئر في اعتصامه في نفسه غير محتمل جزماً، ضرورة أنّ العرف لا يرى فرقاً بين الماء الموجود في باطن الأرض كالبئر والموجود في سطحها مع غضّ النظر عن المادة.
فالنتيجة في نهاية الشوط: هي أنّ التعليل في الصحيحة وإن فرضنا أ نّه

ــ[459]ــ

مسوق ابتداءً لبيان ارتفاع النجاسة عن ماء البئر بعد زوال التغير، إلاّ أنّ العرف يرى بالمناسبات الارتكازية أنّ سببية المادة لطهارته وارتفاع النجاسة عنه إنّما هي من آثار سببيتها لاعتصامه، ولازم ذلك أنّ التعليل فيها مطلقاً بحسب مقام اللب والواقع راجع إلى اعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة كما هو محط البحث والنظر، وإن كان بحسب ظاهر القضية راجعاً إلى ارتفاع النجاسة عنه، وعليه فلا يبقى مجال للنزاع في أنّ التعليل راجع إلى اعتصامه أو إلى ارتفاع النجاسة عنه.
ومن ضوء ما بيّناه من النكتة يظهر خطأ ما قيل من أنّ التعليل إذا افترضنا أ نّه راجع إلى بيان ارتفاع النجاسة دون الاعتصام قابل للتقييد بالكثير، نظراً إلى أ نّه باطلاقه حينئذ يشمل ما إذا كان ماء البئر قليلاً، وبنكتة أنّ الرفع يستلزم أولوية الدفع بالمناسبة الارتكازية العرفية يدل على اعتصامه أيضاً. أو فقل: إنّ سببية المادة لارتفاع النجاسة عنه يستلزم سببيّتها لاعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة بالأولـوية، باعتبار أنّ الدفع أهون من الرفع عرفاً. وعلى هذا فلا محالة يعارض إطلاقه مع إطلاق ما يدل على انفعال الماء القليل بالملاقاة، فانّ مقتضى إطلاق التعليل بلحاظ النكتة المزبورة أنّ الماء القليل إذا كان له مادة لا ينفعل بالملاقاة، فيكون معارضاً لما دلّ على انفعاله ولا يكون أخص منه، فعندئذ يمكن تقييد إطلاق التعليل بخصوص الكثير، يعني أنّ مطهرية المادة تختص بما إذا كان الماء في نفسه كثيراً.
والسبب في خطأ ذلك: أنّ هذا التقييد مضافاً إلى أ نّه خلاف الارتكاز جزماً، حيث إنّ المرتكز عرفاً بمناسبة الحكم والموضوع أ نّه لا فرق في مطهرية المادة بين كون الماء كثيراً في نفسه وكونه قليلاً ولا يرون للكثرة أيّة دخل في المطهرية، أو فقل: إنّ العرف بمقتضى المناسبات الارتكازية يرون الملازمة في

ــ[460]ــ

مطهرية المادة بين كون الماء المطهر ـ بالفتح ـ كثيراً في نفسه وكونه قليلاً فلا يمكن التفكيك بينهما في نظرهم، أنّ ذلك التقييد إنّما يمكن فيما إذا لم يكن ارتفاع النجاسة عنه بالمادة من آثار سببيتها لاعتصامه، وأمّا إذا كان من آثارها كما استظهرناه بمقتضى الفهم العرفي فلا يمكن هذا التقييد، لما عرفت من أنّ سببيّتها للاعتصام تختص بخصوص القليل، حيث لا معنى لتعليل اعتصام الكثير بالمادة فيكون أخص مطلقاً من دليل انفعال القليل.
وبكلمة اُخرى: أنّ للمادة أثرين: الأوّل كونها سبباً للاعتصام. الثاني: كونها سبباً لارتفاع النجاسة، ودليل انفعال الماء القليل إنّما يكون معارضاً للتعليل باعتبار أثرها الأوّل دون أثرها الثاني كما هو ظاهر، وقد عرفت أ نّه بهذا الاعتبار ـ أي باعتبار أثرها الأوّل ـ أخص منه مطلقاً فلا محالة يخصصه بغير مورده.
وأمّا إن كان الاستدلال فيها بلحاظ صدر الصحيحة مع قطع النظر عن التعليل الوارد في ذيلها، نظراً إلى أ نّه لا مانع من الاستدلال به على طهارة ماء البئر وعدم انفعاله بالملاقاة ولو كان قليلاً، فهو حينئذ لا محالة يكون معارضاً بالعموم من وجه مع ما دلّ على انفعال الماء القليل، سواء أكان راكداً أو بئراً، ويتعين عندئذ تقديم إطلاق صدر الصحيحة على إطلاق دليل الانفعال في مورد الالتقاء والاجتماع، بنكتة أ نّنا إذا قدّمنا الصدر فلا يلزم منه إلغاء عنوان الماء القليل عن الموضوعية للانفعال رأساً، بل يلزم منه تضييق دائرة دليل الانفعال وتقييده بغير ماء البئر، وهذا لا مانع منه.
وأمّا إذا عكسنا الأمر وقدّمنا إطلاق دليل انفعـال الماء القليل على صدر الصحيحة، فهو يستلزم إلغاء عنوان البئر عن الموضوعية للاعتصام رأساً، حيث لا يكون عندئذ فرق بين ماء البئر وغيره من المياه أصلاً، فانّ اعتصام الجميع

 
 

ــ[461]ــ

إنّما هو بالكثرة وببلوغه حدّ الكر، فاذن يصبح أخذ عنوان ماء البئر في الصحيحة لغواً محضاً، وحيث إنّه لا يمكن بمقتضى الارتكاز العرفي لاستلزامه حمل كلام الحكيم على اللغو، فلا محالة يكون قرينةً على تقديم الصحيحة على دليل الانفعال.
وثانيهما: ما دلّ على طهارة بول الطير وخرئه مطلقاً ولو كان غير مأكول اللحم كقوله (عليه السلام) في معتبرة أبي بصير «كل شيء يطيرفلا بأس ببوله وخرئه»(1) معارض بما دلّ على نجاسة بول غير المأكول مطلقاً ولو كان طيراً، ومورد التعارض والالتقاء بينهما هو البول من الطير غير المأكول، ففي مثل ذلك لا بدّ من تقديم دليل طهارة بول الطير وخرئه على دليل نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه، حيث إنّ العكس يؤدي إلى إلغاء عنوان الطير المأخوذ في موضوع دليل الطهارة، نظراً إلى أنّ الحكم بتقيده حينئذ [ يكون ] بما إذا كان الطير محلل الأكل، ومن الواضح أنّ مرد ذلك إلى إلغاء عنوان الطير رأساً وجعل الموضـوع للطهارة عنوان آخر ـ وهو عنوان ما يؤكل لحمه ـ وهو قد يكون طيراً وقد يكون غيره.
وهذا بخلاف ما لو قيّد دليل نجاسة بول غير المأكول بما إذا لم يكن طيراً، إذ غاية ما يلزم هو رفع اليد عن إطلاق موضوعيته للنجاسة، ومن الطبيعي أ نّه كلّما دار الأمر بين رفع اليد عن إطلاق موضوعية عنوان للحكم ورفع اليد عن أصل موضوعيته له رأساً يتعين الأوّل بنظر العرف، وما نحن فيه كذلك فانّ تقديم دليل نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه على دليل طهارة بول الطير يستلزم إلغاء عنوان الطير المأخوذ في موضوع الطهارة رأساً، وأمّا العكس فلا يستلزم
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 3: 412 / أبواب النجاسات ب 10 ح 1.

ــ[462]ــ

إلاّ تقييد إطلاق موضوعية عنوان غير المأكول للنجاسة، وهذا أخف مؤونة من الأوّل بمقتضى فهم العرف وارتكازهم.
فالنتيجة في نهاية المطاف: هي أنّ المفهوم إن كان حاكماً على المنطوق فلا شبهة في تقديمه عليه وإن كانت النسبة بينهما عموماً من وجه، وكذا لا شبهة في تقديمه عليه إذا كان تقديم المنطوق عليه موجباً لالغاء العنوان المأخوذ في موضوع الحكم فيه رأساً دون العكس. وأمّا إذا لم يكن هذا ولا ذاك فلا بدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب التعارض إن كانت، وإلاّ فالحكم هو التساقط على تفصيل يأتي في مبحث التعادل والترجيح.
وأمّا لو كانت النسبة بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً، فلا شبهة في تقديم الخاص على العام، حيث إنّه يكون بنظر العرف قرينةً على التصرف فيه، ومن المعلوم أنّ ظهور القرينة يتقدم على ظهور ذيها وإن افترض أنّ ظهورها بالاطلاق ومقدّمات الحكمة وظهور ذاك بالوضع، كما إذا افترضنا ورود دليل يدل بالوضع على أنّ كل ماء طاهر لا ينفعل بالملاقاة إلاّ إذا تغيّر لونه أو طعمه أو ريحه، فانّه مع ذلك لا يقاوم مفهوم روايات الكر على الرغم من أنّ دلالته على انفعال الماء القليل بالملاقاة بالاطلاق ومقدمات الحكمة.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة: وهي أنّ حال التعارض بين المفهوم والمنطوق بعينه حاله بين المنطوقين من دون تفاوت في البين أصلاً.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net