هل المتيقن في مقام التخاطب مانع عن الاطلاق ؟ 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5367

ومن ذلك يظهر: أنّ التقييد بدليل منفصل لا يضر بكونه في مقام البيان ولا يكشف عن عدمه، وإنّما يكشف عن أنّ المراد الجدي لا يكون مطابقاً للمراد الاستعمالي، وقد تقدم أ نّه قد يكون مطابقاً له وقد لا يكون مطابقاً له، ولا فرق في ذلك بين العموم الوضعي والعموم الاطلاقي، ولذا ذكرنا سابقاً(1) أنّ التخصيص بدليل منفصل لا يكشف عن أنّ المتكلم ليس في مقام البيان، مثلاً قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(2) في مقام البيان مع ورود التقييد عليه بدليل منفصل في غير مورد، وكذا الحال فيما إذا افترضنا أنّ للآية عموماً تدل عليه بالوضع.
وعلى الجملة: فلا فرق من هذه الناحية بين العموم والمطلق، فكما أنّ التخصيص بدليل منفصل لا يوجب سقوط العام عن قابلية التمسك به، فكذلك التقييد بدليل منفصل، ويترتب على ذلك: أنّ تقييد المطلق من جهة لا يوجب سقوط إطلاقه من جهات اُخرى إذا كان في مقام البيان من هذه الجهات أيضاً، فلا مانع من التمسك به من تلك الجهات إذا شك فيها، كما إذا افترضنا أنّ الآية في مقام البيان من جميع الجهات وقد ورد عليها التقييد بعدم كون البائع صبياً أو مجنوناً أو سفيهاً، وشك في ورود التقييد عليها من جهات اُخرى، كما إذا شك في اعتبار الماضوية في الصيغة أو الموالاة بين الايجاب والقبول، فلا مانع من التسمك باطلاقها من هذه الجهات والحكم بعدم اعتبارها.
وأمّا الأمر الثاني: فالمعروف والمشهور بين الأصحاب هو استقرار بناء
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 425.
(2) البقرة 2: 275.

ــ[536]ــ

العقلاء على حمل كلام المتكلم على كونه في مقام البيان إذا شك في ذلك، ومن هنا قالوا إنّ الأصل في كل كلام صادر عن متكلم هو كونه في مقام البيان، فعدم كونه في هذا المقام يحتاج إلى دليل.
ولكنّ الظاهر أ نّه غير تام مطلـقاً، وذلك لأنّ الشك تارةً من جهة أنّ المتكلم كان في مقام اصل التشريع أو كان في مقام بيان تمام مراده، كما إذا شك في أنّ قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللهُ ا لْبَيْعَ) في مقام بيان أصل التشريع فحسب كما هو الحال في قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ)(1) أو في مقام بيان تمام المراد، ففي مثل ذلك لا مانع من التمسك بالاطلاق لقيام السيرة من العقلاء على ذلك الممضاة شرعاً. واُخرى يكون الشك من جهة سعة الارادة وضيقها، يعني أ نّا نعلم بأنّ لكلامه إطلاقاً من جهة ولكن نشك في إطلاقه من جهة اُخرى، كما في قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ)(2) حيث نعلم باطلاقه من جهة أنّ حلية أكله لا تحتاج إلى الذبح ـ سواء أكان إمساكه من محل الذبح أو من موضع آخر، كان إلى القبلة أو إلى غيرها ـ ولكن لا نعلم أ نّه في مقام البيان من جهة اُخرى، وهي جهة طهارة محل الامساك ونجاسته، ففي مثل ذلك لا يمكن التمسك بالاطلاق كما عرفت، لعدم قيام السيرة على حمل كلامه في مقام البيان من هذه الجهة.
الثالث: أن لا يأتي المتكلم بقرينة لا متصلة ولا منفصلة وإلاّ فلا يمكن التمسك باطلاق كلامـه، لوضوح أنّ إطلاقه في مقام الاثبات إنّما يكشف عن الاطلاق في مقام الثبوت إذا لم ينصب قرينةً على الخلاف، وأمّا مع وجودها،
ـــــــــــــــــــــ
(1) البقرة 2: 43.
(2) المائدة 5: 4.

ــ[537]ــ

فان كانت متصلةً فهي مانعة عن أصل انعقاد الظهور، وإن كانت منفصلةً فالظهور وإن انعقد إلاّ أ نّها تكشف عن أنّ الارادة الاستعمالية لا تطابق الارادة الجدية، وأمّا إذا لم يأت بقرينـة كذلك فيثبت لكلامه إطلاق كاشف عن الاطلاق في مقام الثبوت، لتبعية مقام الاثبات لمقام الثبوت، ضرورة أنّ إطلاق الكلام أو تقييده في مقام الاثبات معلول لاطلاق الارادة أو تقييدها في مقام الواقع والثبوت.
وعلى الجملة: فالارادة التفهيمية هي العلة لابراز الكلام وإظهاره في مقام الاثبات، فانّ المتكلم إذا أراد تفهيم شيء يبرزه في الخارج بلفظ، فعندئذ إن لم ينصب قرينةً منفصلةً على الخلاف كشف ذلك عن أنّ الارادة التفهيمية مطابقة للارادة الجدية وإلاّ لم تكن مطابقةً لها.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة: وهي أنّ المتكلم إذا كان متمكناً من الاتيان بقيد وكان في مقام البيان ومع ذلك لم يأت بقرينة على الخلاف لا متصلةً ولا منفصلةً كشف ذلك عن الاطلاق في مقام الثبوت، وهذا مما قد قامت السيرة القطعية من العقلاء على ذلك الممضاة شرعاً، ولا نحتاج في التمسك بالاطلاق إلى أزيد من هذه المقدمات الثلاث، فهي قرينة عامة على إثبات الاطلاق، وأمّا القرائن الخاصة فهي تختلف باختلاف الموارد فلا ضابط لها.
بقي في المقام أمران: الأوّل أنّ القدر المتيقن بحسب التخاطب هل يمنع عن التمسك بالاطلاق؟ فيه وجهان.
ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)(1) أ نّه يمنع عنه.
ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول: 247.

ــ[538]ــ

وتفصيل الكلام في المقام: أ نّه يريد تارةً بالقدر المتيقن القدر المتيقن الخارجي، يعني أ نّه متيقن بحسب الارادة خارجاً من جهة القرائن، منها: مناسبة الحكم والموضوع.
ومن الواضح أنّ مثل هذا المتيقن لا يمنع عن التمسك بالاطلاق، ضرورة أ نّه لا يخلو مطلق في الخارج عن ذلك إلاّ نادراً، فلو قال المولى: أكرم عالماً فانّ المتيقن منه هو العالم الهاشمي الورع التقي، إذ لا يحتمل أن يكون المراد منه غيره دونه، وأمّا احتمال أن يكون المراد منه ذلك دون غيره فهو موجود. ومن هذا القبيل قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللهُ ا لْبَيْعَ)(1) فانّ القدر المتيقن منه هو البيع الموجود بالصيغة العربية الماضوية، إذ لا يحتمل أن يكون المراد منه غيره دونه.
واُخرى يريد به القدر المتيقن بحسب التخاطب، وهذا هو مراد صاحب الكفاية (قدس سره) دون الأوّل، وقد ادعى (قدس سره) منعه عن التمسك بالاطلاق.
ولكنّ الظاهر أ نّه لا يمكن المساعدة على هذه الدعوى، والسبب فيه: أنّ المراد بالقدر المتيقن بحسب التخاطب هو أن يفهم المخاطب من الكلام الملقى إليه أ نّه مراده جزماً، ومنشأ ذلك اُمور: عمدتها كونه واقعاً في مورد السؤال، مثلاً في موثقة ابن بكير «سأل زرارة أبا عبدالله (عليه السلام) عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر، فأخرج كتاباً زعم أ نّه إملاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إنّ الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شيء منه فاسد، لا تقبل تلك الصلاة
ـــــــــــــــــــــ
(1) البقرة 2: 275.

ــ[539]ــ

حتى يصلي في غيره مما أحلّ الله أكله»(1) أنّ المتيقن بحسب التخاطب هو مورد السؤال، ضرورة احتمال أنّ الإمام (عليه السلام) أراد غير مورد السؤال دونه غير محتمل جزماً، وأمّا العكس فهو محتمل. ولكنّ الكلام إنّما هو في منعه عن التمسك بالاطلاق، والظاهر أ نّه غير مانع عنه، والسبب فيه: أنّ ظهور الكلام في الاطلاق قد انعقد ولا أثر له من هذه الناحية.
ومن الطبيعي أ نّه لا يجوز رفع اليد عن الاطلاق ما لم تقم قرينة على الخلاف، ولا قرينة في البين. أمّا القرينة المنفصلة فهي مفروضة العدم. وأمّا القرينة المتصلة فأيضاً كذلك بعد فرض أنّ القدر المتيقن المزبور لا يصلح أن يكون مانعاً عن انعقاد الظهور في الاطلاق. وعليه فلا مناص من التمسك به، وبما أنّ مقام الاثبات تابع لمقام الثبوت فالاطلاق في الأوّل كاشف عن الاطلاق في الثاني، ولذا لو سئل عن مجالسة شخص معيّن في الخارج واُجيب بعدم جواز مجالسة الفاسق، لم يحتمل بحسب الفهم العرفي اختصاصه بذاك الشخص المعيّن في الخارج، فلا محالة يعمّ غيره أيضاً.
فالنتيجة: أنّ حال هذا القدر المتيقن حال القدر المتيقن الخارجي، فكما أ نّه لا يمنع عن التمسك بالاطلاق فكذلك هذا، فلو كان هذا مانعاً عنه لكان ذاك أيضاً مانعاً فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.
ثمّ إنّ الماهية تارةً تلحظ بالاضافة إلى أفراد يكون صدقها عليها بالتواطؤ والتساوي. واُخرى تلحظ بالاضافة إلى أفراد يكون صدقها عليها بالتشكيك، حيث قد برهن في محلّه استحالة التشكيك في الماهيات، ونقصد بالتشكيك والتواطؤ هنا التشكيك والتواطؤ بحسب المتفاهم العرفي وارتكازاتهم، وله
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 4: 345 / أبواب لباس المصلي ب 2 ح 1.

ــ[540]ــ

عوامل عديدة:
منها: علوّ مرتبة بعض أفراد الماهية على نحو يوجب انصرافها عنه عرفاً، ومن ذلك لفظ الحيوان فانّه موضوع لغةً لمطلق ما له الحياة فيكون معناه اللغوي جامعاً بين الانسان وغيره، إلاّ أ نّه في الاطلاق العرفي ينصرف عن الانسان.
ومن هنا ذكرنا (1) أنّ المتفاهم العرفي من مثل قوله (عليه السلام): «لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه» هو خصوص الحيوان في مقابل الانسان، فلا مانع من الصلاة في شعر الانسان ونحوه. وكيف كان فلا شبهة في هذا الانصراف بنظر العرف، ولايمكن التمسك بالاطلاق في مثل ذلك، لفرض أنّ الخصوصية المزبورة مانعة عن ظهور المطلق في الاطلاق وتكون بمنزلة القرينة المتصلة التي تمنع عن انعقاد ظهوره فيه.
ومنها: دنوّ مرتبة بعض أفرادها على نحو يكون صدقها عليه مورداً للشك كصدق الماء على ماء الكبريت أو ما شاكله، ففي مثل ذلك لا يمكن التمسك بالاطلاق أيضاً، وذلك لأنّ المعتبر في التمسك به هو أن يكون صدق المطلق على الفرد المشكوك فيه محرزاً، والشك إنّما كان من ناحية اُخرى. وأمّا فيما إذا لم يكن أصل الصدق محرزاً فلا يمكن التمسك به، وما نحن فيه من هذا القبيل حيث إنّ أصل الصدق مشكوك فيه فلايمكن التمسك باطلاق لفظ الماء بالاضافة إلى ماء الكبريت أو نحوه، غاية الأمر أنّ الأوّل من قبيل احتفاف الكلام بالقرينة المتصلة، والثاني من قبيل احتفـافه بما يصلح للقرينية، ولكنّهما يشتركان في نقطة واحدة، وهي المنع عن انعقاد ظهور المطلق في الاطلاق.
ـــــــــــــــــــــ
(1) شرح العروة الوثقى 12: 179.

 
 

ــ[541]ــ

وأمّا الانصراف في غير هذين المـوردين وما شاكلهما فلا يمنع عن التمسك بالاطلاق، فانّه لو كان فانّما هو بدوي فيزول بالتأمل، ومن ذلك الانصراف المستند إلى غلبة الوجود فانّه بدوي ولا أثر له، ولا يمنع عن التمسك بالاطلاق حيث إنّه يزول بالتأمل والتدبر.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net