حمل المطلق على المقيد في المستحبات - التنبيه على أمرين 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5188

فالنتيجة: أ نّه لا فرق في لزوم حمل المطلق على المقيد بين ما إذا كان التكليف في طرف المطلق متعلقاً بصِرف وجوده أو بمطلق وجوده، فلا وجه لما عن المشهور من التفصيل بينهما، وعلى ذلك تترتب ثمرة فقهية في بعض الفروع.
بقي الكلام في الفرق بين المستحبات والواجبات حيث إنّ المشهور بين الأصحاب تخصيص حمل المطلق على المقيد بالواجبات دون المستحبات، فالكلام إنّما هو في الفارق بينهما، فانّ دليل المقيد إذا كان قرينة عرفية على التقييد فلماذا لا يكون كذلك في المستحبات، وإن لم يكن كذلك فلماذا يحمل المطلق على المقيد في الواجبات، ومن هنا ذكر في وجه ذلك وجوه:
أحدها: ما عن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) (2) من أنّ الفارق بين الواجبات والمستحبات في ذلك هو تفاوت المستحبات غالباً من حيث المراتب، بمعنى أنّ غالب المستحبات تتعدد بتعدد مراتبها من القوّة والضعف على عرضهما العريض، وهذه الغلبة قرينة على حمل المقيد على الأفضل والقوي من الأفراد.
ويرد عليه: أنّ مجرد الغلبة لا يوجب ذلك بعد ما افترض أنّ دليل المقيد قرينة عرفية على تعيين المراد من المطلق، ضرورة أنّ الغلبة ليست على نحو تمنع عن ظهور دليل المقيد في ذلك.
ــــــــــــ
(2) كفاية الاُصول: 251.

ــ[551]ــ

ومن هنا ذكر (قدس سره) (1) وغيره أنّ غلبة استعمال الأمر في الندب لا تمنع عن ظهوره في الوجوب عند الاطلاق ورفع اليد عنه. والحاصل: أنّ الظهور متبع ما لم تقم قرينة على خلافه، ولا قرينة في المقام على خلاف ظهور دليل المقيد في تعيين المراد من المطلق، والغلبة لا تصلح أن تكون قرينةً على ذلك.
ثانيها: أيضاً ما ذكره (قدس سره) وحاصله: هو أنّ ثبوت استحباب المطلق إنّما هو من ناحية قاعدة التسامح في أدلة السنن، فانّ عدم رفع اليد عن دليل استحباب المطلق بعد مجيء المقيد وحمله على تأكد استحبابه من التسامح فيها.
ويرد عليه وجوه: الأوّل: أنّ دليل المقيد إذا كان قرينة عرفاً للتصرف في المطلق وحمله على المقيد لم يصدق عنوان البلوغ على المطلق حتى يكون مشمولاً لتلك القاعدة، فان دليل المقيد إذا كان متصلاً به منع عن أصل انعقاد الظهور له في الاطلاق، وإن كان منفصلاً عنه منع عن كشف ظهوره في الاطلاق عن المراد الجدي، وعلى كلا التقديرين لا يصدق عليه عنوان البلوغ.
الثاني: أ نّا قد ذكرنا في محلّه(2) أنّ مفاد تلك القاعدة ليس هو استحباب العمل البالغ عليه الثواب، بل مفادها هو الارشاد إلى ما استقل به العقل من حسن الاتيان به برجاء إدراك الواقع.
الثالث: أ نّا لو سلّمنا أنّ مفادها هو استحباب العمل شرعاً إلاّ أ نّه حينئذ لا موجب لكون المقيد من أفضل الأفراد، حيث إنّ استحبابه ثبت بدليل واستحباب المطلق ثبت بدليل آخر أجنبي عنه، فاذن ما هو الموجب لصيرورة
ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول: 70.
(2) مصباح الاُصول 2: 368 وما بعدها.

ــ[552]ــ

المقيد أفضل من المطلق.
ثالثها وهو الصحيح: أنّ الدليل الدال على التقييد يتصور على وجوه أربعة لا خامس لها:
الأوّل: أن يكون ذا مفهوم، بمعنى أن يكون لسانه لسان القضية الشرطية، كما إذا افترض أ نّه ورد في دليل أنّ صلاة الليل مستحبة وهي إحدى عشرة ركعة، وورد في دليل آخر أنّ استحبابها فيما إذا كان المكلف آتياً بها بعد نصف الليل، ففي مثل ذلك لا مناص من حمل المطلق على المقيد عرفاً، نظراً إلى أنّ دليل المقيد ينفي الاستحباب في غير هذا الوقت من جهة دلالته على المفهوم.
الثاني: أن يكون دليل المقيد مخالفاً لدليل المطلق في الحكم، فاذا دلّ دليل على استحباب الاقامة مثلاً في الصلاة ثمّ ورد في دليل آخر النهي عنها في مواضع كالاقامة في حال الحدث أو حال الجلوس أو ما شاكل ذلك، ففي مثل ذلك لا مناص من حمل المطلق على المقيد، والوجه فيه: ما ذكرناه غير مرّة من أنّ النواهي الواردة في باب العبادات والمعاملات ظاهرة في الارشاد إلى المانعية، وأنّ الحدث أو الجلوس مانع عن الاقامة المأمور بها، ومرجع ذلك إلى أنّ عدمه مأخوذ فيها فلا تكون الاقامة في حال الحدث أو الجلوس مأموراً بها.
الثالث: أن يكون الأمر في دليل المقيد متعلقاً بنفس التقييد لا بالقيد كما إذا افترض أ نّه ورد في دليل أنّ الاقامة في الصلاة مستحبة، وورد في دليل آخر فلتكن في حال القيام أو في حال الطهارة، فالكلام فيه هو الكلام في القسم الثاني حيث إنّ الأمر في قوله: فلتكن، ظاهر في الارشاد إلى شرطية الطهارة أو القيام لها، ولا فرق من هذه الناحية بين كون الاقامة مستحبة أو واجبة، فما هو المشهور من أ نّه لا يحمل المطلق على المقيد في باب المستحبات لا أصل له في

ــ[553]ــ

الأقسام المتقدمة.
الرابع: أن يتعلق الأمر في دليل المقيد بالقيد بما هو كما هو الغالب في باب المستحبات، مثلاً ورد في استحباب زيارة الحسين (عليه السلام) مطلقات وورد في دليل آخر استحباب زيارته (عليه السلام) في أوقات خاصة كليالي الجمعة وأوّل ونصف رجب، ونصف شعبان، وليالي القدر وهكذا، ففي مثل ذلك هل يحمل المطلق على المقيد؟
الظاهر أ نّه لا يحمل عليه، والسبب فيه: أنّ الموجب لحمل المطلق على المقيد في الواجبات هو التنافي بين دليل المطلق والمقيد، حيث إنّ مقتضى إطلاق المطلق ترخيص المكلف في تطبيقـه على أيّ فرد من أفراده شاء في مقـام الامتثال، وهو لا يجتمع مع كونه ملزماً بالاتيان بالمقيد، وهذا بخلاف ما إذا كان دليل التقييد استحبابياً فانّه لا ينافي إطلاق المطلق أصلاً، لفرض عدم إلزام المكلف بالاتيان به، بل هو مرخّص في تركه، فاذا لم يكن تناف بينهما فلا موجب لحمل المطلق على المقيد، بل لا بدّ من حمله على تأكد الاستحباب وكونه الأفضل، وهذا هو الفارق بين الواجبات والمستحبات.
ومن هنا يظهر أنّ دليل المطلق إذا كان متكفلاً لحكم إلزامي دون دليل المقيد فلا بدّ من حمله على أفضل الأفراد أيضاً بعين الملاك المزبور. فالنتيجة: أنّ دليل المقيد إذا كان متكفلاً لحكم غير إلزامي فلا بدّ من حمله على الأفضل، سواء أكان دليل المطلق أيضاً كذلك أو كان متكفلاً لحكم إلزامي، والسر فيه ما عرفت من عدم التنافي بينهما أبداً.
بقي هنا شيئان:
أحدهما: أنّ الاطلاق في مقام الاثبات يكشف عن الاطلاق في مقام الثبوت،

ــ[554]ــ

والتقييد فيه يكشف عن التقييد في ذلك، لتبعية مقام الاثبات لمقام الثبوت، فلو أمر المولى باكرام العالم ولم يقيده بالعدالة أو الهاشمية أو ما شاكل ذلك من القيود وكان في مقام البيـان فالاطلاق في هذا المقام يكشف عن الاطلاق في مقام الثبوت والواقع، وأمّا إذا قيّده بالعدالة فهو يكشف عن التقييد في مقام الثبوت.
ولكن ربّما ينعكس الأمر فالاطلاق في مقام الاثبات يكشف عن الضيق في مقام الثبوت دون الاطلاق والسعة، وذلك كما في إطلاق صيغة الأمر حيث إنّه في مقام الاثبات يكشف عن أنّ الواجب في مقام الثبوت والواقع نفسي لا غيري، وتعييني لا تخييري، وعيني لا كفائي، كل ذلك ضيق على المكلف، فلو أمر المولى بغسل الجـنابة فإن كان مطلـقاً في مقام الاثبات ولم يكن الأمر به مقيداً بايجاب شيء آخر على المكلف، كشف ذلك عن كونه واجباً نفسياً في مقام الثبوت وهو ضيق على المكلف. وإن كان الأمر به مقيداً بهذا كشف ذلك عن كونـه واجباً غيرياً وهو سـعة بالاضـافة إليه. وكذا الحـال بالنسـبة إلى الواجب التعييني والتخييري والعيني والكفائي، فانّ الاطلاق في مقام الاثبات يكشف عن الضيق في مقام الثبوت والتقييد فيه يكشف عن الاطلاق والسعة فيه.
وثانيهما: أ نّا قد ذكرنا غير مرّة أنّ الاطلاق عبارة عن رفض القيود وعدم دخل شيء منها فيه، ونتيجته تختلف باختلاف خصوصيات الموارد والمقامات، فقد تكون نتيجته في مورد تعلق الحكم بصرف الوجود، وقد يكون تعلق الحكم بمطلق الوجود، وقد يكون غير ذلك، وقد تقدم تفصيل ذلك بصورة موسعة في مبحث النواهي(1) فلاحظ.
ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص 296.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net