الكلام في التجري 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 9916


ــ[17]ــ
 

الكلام في التجرِّي

 وقبل الشروع في البحث عنه لابدّ من التنبيه على أمر: وهو أنّ بحث التجري لا يختص بالقطع، بل يعم جميع الأمارات المعتبرة والاُصول العملية، بل يعم كل منجز للتكليف ولو كان مجرد احتمال، كما في موارد العلم الاجمالي بالتكليف، فإنّ الاقتحام في بعض الأطراف داخل في التجري، وإن لم يكن فيه إلاّ احتمال المخالفة للتكليف، وكذا الحال في الشبهات البدوية قبل الفحص. والجامع بين الجميع هو مخالفة الحجّة، أي ما يحتج به المولى على العبد، فلو ثبت كون مائع خمراً بالبيّنة أو الاستصحاب وشربه، ولم يكن في الواقع خمراً كان متجرياً. ولو احتمل كون شيء حراماً وارتكبه قبل الفحص، وانكشف عدم كونه حراماً كان متجرياً، وهكذا. فذكر القطع ليس لاختصاص التجري به، بل إنّما هو لكونه أظهر الحجج وأوضح المنجّزات.

 وربّما يتوهّم عدم جريان التجري في موارد الأمارات والاُصول العملية الشرعية، والجامع هو الحكم الظاهري، بدعوى أنّ الأحكام الظاهرية مجعولة في ظرف الجهل بالواقع، فبكشف الخلاف ينتهي أمدها وتنتفي بانتفاء موضوعها، لا أ نّه يستكشف به عدم ثبوت الحكم من الأوّل، فيكون بمنزلة انقلاب الخمر خلاً، فكما أ نّه إذا انقلبت الخمر خلاً تنتفي الحرمة من حين الانقلاب بانتفاء موضوعها، لا أ نّه بعد الانقلاب يستكشف أ نّه لم يكن حراماً من الأوّل، كذلك الحال في الأحكام الظاهرية، حيث إنّ موضوعها الجهل بالواقع، فبكشف الواقع تنتفي بانتفاء موضوعها، فلا يتصور كشف الخلاف في

ــ[18]ــ

نفس الحكم الظاهري، فتكون مخالفته العصيان دائماً لا التجري.

 وهذا التوهم فاسد من أساسه، إذ هو مبني على القول بالسببية، وأنّ المجعول في مورد الطرق والأمارات هي الأحكام، وهو فاسد لاستلزامه التصويب الباطل. والصحيح أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو الحجّية والطريقية فقط على ما سيجيء الكلام فيه (1) إن شاء الله تعالى.

 إذا عرفت ذلك فيقع الكلام في حكم التجري من حيث الحرمة واستحقاق العقاب، ولا بدّ من البحث في مقامين:

 المقام الأوّل: في البحث عن حرمة الفعل المتجرى به وعدمها.

 المقام الثاني: في البحث عن أنّ التجري هل يوجب استحقاق العقاب من جهة كونه هتكاً وجرأةً على المولى بنفسه، مع بقاء الفعل المتجرى به على ما هو عليه في الواقع من المحبوبية أو المبغوضية أم لا ؟

 أمّا المقام الأوّل: فيقع الكلام فيه أيضاً في جهتين:

 الجهة الاُولى: في البحث عن حرمة الفعل المتجرى به بنفس ملاك الحرام الواقعي، باعتبار شمول إطلاق الأدلة لما تعلّق به القطع ولو كان مخالفاً للواقع.

 الجهة الثانية: في البحث عن حرمة الفعل المتجرى به لا بملاك الحرام الواقعي، بل بملاك التمرد على المولى.

 والفرق بين الجهتين من حيث المفهوم ـ بعد اشتراكهما في أنّ البحث في كل منهما بحث اُصولي تتفرع عليه النتيجة الفقهية، وهي حرمة الفعل المتجرى به ـ هو أنّ الجهة الاُولى هي البحث عن حرمة الفعل المتجرى به بعنوانه الأوّلي، والجهة الثانية هي البحث عن حرمته بعنوانه الثانوي وهو عنوان التمرد. ومن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 120 ـ 122.

ــ[19]ــ

حيث المورد أنّ البحث في الجهة الاُولى مختص بما إذا كان الخطأ في الانطباق، مع كون الحكم مجعولاً في الشريعة المقدّسة، كما إذا قطع بخمرية ماء فشربه، ولا يتصور فيما إذا كان الخطأ في أصل جعل الحكم، كما إذا قطع بحرمة شرب التتن فشربه ولم يكن في الواقع حراماً، بخلاف البحث في الجهة الثانية، فانّه شامل لكلا القسمين، فتكون النسبة بين الجهتين من حيث المورد هي العموم المطلق.

 أمّا الكلام في الجهة الاُولى: فهو أ نّه قد يقال بحرمة الفعل المتجرى به، بدعوى شمول إطلاقات الأدلّة الأوّلية لموارد التجري. ويستدل له بما هو مركب من مقدّمات:

 1 ـ أنّ متعلق التكليف لا بدّ وأن يكـون مقدوراً للمكلف، لعدم صحّة التكليف بغير المقدور كما هو واضح.

 2 ـ أنّ السبب لحركة العضلات نحو العمل إنّما هو القطع بالنفع، كما أنّ الزاجر عن عمل إنّما هو القطع بكونه ضرراً، فانّ المحرّك التكويني هو نفس القطع والانكشاف، وأمّا جهة كونه مطابقاً للواقع أو مخالفاً له فهي أجنبية عن المحركية أو الزاجرية، ولذا لو قطع العطشان بوجود ماء يتحرك نحوه وإن كان في الواقع سراباً، ويموت عطشاً ولا يتحرك نحو ماء موجود، لعدم علمه به. وهذا أمر وجداني بديهي لا يحتاج إلى مؤونة برهان.

 3 ـ أنّ التكليف إنّما يتعلق باختيار الفعل وإرادته، لأنّ الارادة التشريعية إنّما تتعلق بالفعل الصادر عن المكلف بالاختيار، لا بالفعل الصادر عنه ولو اضطراراً، فلا محالة يكون متعلق التكليف هو إرادة الفعل واختياره ليكون الفعل صادراً عنه بالارادة والاختيار، والمفروض أنّ إرادة المكلف تابعة لقطعه بالنفع أو الضرر، فلا محالة يكون متعلق البعث والزجر هو ما تعلق به القطع، سواء كان مطابقاً للواقع أو مخالفاً له، فتكون نسبة العصيان ـ على تقدير التمرّد ـ

ــ[20]ــ

إلى من كان قطعه مطابقاً للواقع، ومن كان قطعه مخالفاً له على حد سواء، إذ مطابقة القطع للواقع ومخالفته له خارجتان عن اختيار المكلف، فلا معنى لاناطة التكليف والعقاب بهما.

 فتحصّل: أنّ متعلق التكليف هو ما تعلّق القطع بانطباق الموضوع عليه فعلاً أو تركاً، فيكون قول المولى: أكرم العلماء، بعثاً نحو إكرام من قطع بكونه عالماً، وقوله: لا تشرب الخمر، زجراً عن شرب مائع قطع بكونه خمراً، وإطلاقهما يشمل صورة مخالفة القطع للواقع أيضاً.

 والجواب عنه أوّلاً: بالنقض بالواجبات، لعدم اختصاص الدليل المذكور بالمحرّمات، فلو فرض أنّ الواجب المستفاد من قول المولى صلّ في الوقت هو اختيار ما قطع بكونه صلاةً في الوقت، فصلّى المكلف مع القطع بدخول الوقت، ثمّ بان خلافه، فلا بدّ من الالتزام بسقوط التكليف، لتحقق المأمور به الواقعي، وهو ما قطع بكونه صلاةً في الوقت، فلزم القول بالإجزاء في موارد الأوامر العقلية الخيالية، ولم يلتزم به أحد من الفقهاء.

 وثانياً: بالحل، بأنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها كما هو المشهور من مذهب العدلية، والمستفاد من ظواهر الأدلة الشرعية، فانّ الظاهر من مثل قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ ا لْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ)(1) أنّ النهي عن الفحشاء والمنكر إنّما هو من آثار نفس الصلاة، لا من آثار ما قطع بكونه صلاةً ولو لم يكن في الواقع صلاة. وكذا الحال في الأوامر الصادرة من الموالي العرفية، فانّها أيضاً تابعة للأغراض الشخصية المتعلقة بنفس العمل، فلا محالة يكون البعث نحو نفس العمل، وإنّما الاختيار طريق إلى حصول العمل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) العنكبوت 29: 45.

  
 

ــ[21]ــ

خارجاً في مقام الامتثال، فلا دخل للقطع في متعلق التكليف أصلاً. غاية الأمر أ نّه مع القطع بالتكليف يصح عقاب العبد على المخالفة، لأنّ التكليف الواصل ممّا يصحّ العقاب على مخالفته بحكم العقل، ولا يصحّ العقاب مع الانقياد ولو كان قطعه مخالفاً للواقع، لكونه معذوراً حينئذ، ولهذا نسمّي القطع بالمنجّز مع المطابقة وبالمعذّر مع المخالفة.

 وبهذا ظهر أنّ صحّة العقاب على التمرد ـ على تقدير مصادفة القطع للواقع ـ وعدمها ـ على تقدير عدم المصادفة ـ لاتوجب دخول الأمر الخارج عن الاختيار في حيّز الطلب، ولا إناطة العقاب بأمر خارج عن الاختيار، إذ العقاب مع المصادفة إنّما هو على مخالفة التكليف الواصل مخالفةً بالارادة والاختيار، وعدم العقاب مع عدم المصادفة إنّما هو لعدم تحقق مخالفة التكليف في الواقع ولو بلا اختيار، وعدم العقاب لأمر غير اختياري ممّا لا بأس به، إنّما القبيح هو العقاب على أمر غير اختياري.

 أمّا الكلام في الجهة الثانية: فهو أ نّه قد يدعى حرمة الفعل المتجرى به بملاك التمرد على المولى، ويستدلّ لها بوجوه:

 الوجه الأوّل: أنّ تعلّق القطع بانطباق عنوان ذي مصلحة على شيء يوجب حدوث المصلحة في ذلك الشيء، فيكون واجباً لكون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، وتعلّق القطع بانطباق عنوان ذي مفسدة على شيء يوجب حدوث المفسدة فيه، فيكون حراماً لما تقدّم، فالفعل المتجرى به وإن كان مباحاً بعنوانه الأوّلي، إلاّ أ نّه صار واجباً أو حراماً بعنوانه الثانوي، وهو كونه مقطوع الوجوب أو مقطوع الحرمة.

 وفيه: ما تقدّم من أنّ المصلحة والمفسدة من الاُمور التكوينية المترتبة على نفس العمل، بلا دخل للقطع فيهما أصلاً، إنّما القطع دخيل في التنجيز والتعذير

ــ[22]ــ

فقط ـ كما تقدّم ـ دون المصالح والمفاسد، إذ من الواضـح أنّ القطع بانطـباق عنوان على شيء لا يوجب سلب آثاره التكوينية الواقعية، ولا حدوث أثر آخر فيه، فانّ القطع بكون الماء سمّاً لا يجعله سمّاً، ولا يترتب عليه أثر السم. والقطع بكون السمّ ماءً لا يجعله ماءً من حيث الأثر، بل يترتب على شربه أثر السمّ من الموت. ولو سلّمنا إمكان ذلك لا دليل على وقوعه في المقام. ومجرد الامكان لا يثبت به الوقوع كما هو ظاهر.

 الوجه الثاني: أنّ التجري كاشف عن سوء سريرة العبد وخبث باطنه وكونه في مقام الطغيان على المولى، وهذا يوجب قبح الفعل المتجرى به عقلاً، فيحكم بحرمته شرعاً لقاعدة الملازمة.

 وفيه: أنّ كون الفعل كاشفاً عن سوء سريرة الفاعل وخبث باطنه لايوجب قبح الفعل، إذ قبح المنكشف لا يوجب قبح الكاشف، كما أنّ حسن المنكشف لا يسري إلى الكاشف، فلم يثبت قبح للفعل المتجرى به عقلاً ليحكم بحرمته شرعاً بقاعدة الملازمة. مضافاً إلى ما سيجيء(1) من عدم تمامية قاعدة الملازمة في المقام أيضاً.

 الوجه الثالث: أنّ تعلّق القطع بقبح فعل يوجب قبحه، والقطع بحسن عمل يوجب حسنه، فيحكم بحرمته في الأوّل وبوجوبه في الثاني، لقاعدة الملازمة، فهنا دعويان:

 الاُولى: أنّ القطع من العناوين والوجوه المقبّحة والمحسّنة للفعل.

 الثانية: أنّ قبح الفعل يستتبع حرمة شرعية، وحسنه يستتبع وجوباً شرعياً لقاعدة الملازمة.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 25.

ــ[23]ــ

أمّا الدعوى الاُولى: فأنكرها صاحب الكفاية (1) (قدس سره) وتبعه في ذلك المحقق النائيني(2) (قدس سره).

 أمّا صاحب الكفاية فاستدلّ عليه بما حاصله: أنّ العناوين المحسّنة والمقبّحة لابدّ وأن تكون اختيارية متعلقة لارادة المكلف، وعنوان القطع لا يكون كذلك، لأنّ القاطع إنّما يقصد الفعل بعنوانه الواقعي، لا بعنوان كونه مقطوع الوجوب أو الحرمة أو الخمرية، فبهذا العنوان لا يكون مقصوداً بل لا يكون غالباً بهذا العنوان ممّا يلتفت إليه. بل ذكر في بعض كلماته(3) أ نّه لم يصدر منه فعل بالاختيار، كما إذا قطع بكون مائع خمراً فشربه ولم يكن في الواقع خمراً، وذلك لأنّ شرب الخمر منتف بانتفاء موضوعه، وشرب الماء ممّا لم يقصده، فلم يصدر منه فعل بالارادة والاختيار، إذ ما قصده لم يقع، وما وقع لم يقصده، انتهى ملخّصاً.

 وأمّا المحقق النائيني (قدس سره) فذكر أنّ القطع طريق محض إلى متعلقه لا دخل له في الحسن والقبح، ولم يستدل بشيء، وادّعى أنّ هذا أمر وجداني.

 أقول: أمّا ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) من البرهان، ففيه: أ نّه إن كان مراده من القصد في قوله: إنّ القاطع إنّما يقصد الفعل بعنوانه الأوّلي، هو الداعي كما هو ظاهر كلامه (قدس سره) فهو وإن كان صحيحاً، إذ الداعي لشرب الخمر هو الاسـكار مثلاً، لا عنوان كونه مقطوع الخمرية، إلاّ أ نّه لا يعتبر في الجهات المحسّنة أو المقبّحة أن تكون داعية في مقام العمل، بل المعتبر صدور الفعل بالاختيار، مع كون الفاعل ملتفتاً إلى جهة قبحه، ولذا يكون

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 260.

(2) أجود التقريرات 3: 47، فوائد الاُصول 3: 41.

(3) دُرر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 37.

ــ[24]ــ

ضرب اليتيم مع الالتفات إلى أ نّه يتألم ويتأذى ظلماً وقبيحاً، ولو لم يكن بداعي الايلام والايذاء، بل كان بداعي امتحان العصا مثلاً. وإن كان مراده من القصد هو الالتفات، فلا وجه للترقي والاضراب في قوله: بل لا يكون غالباً ممّا يلتفت إليه، لكونه عين ما ذكره أوّلاً.

 وأمّا قوله (قدس سره): بل لا يكون غالباً ممّا يلتفت إليه، فان كان مراده هو الالتفات التفصيلي، فهو وإن كان صحيحاً، إلاّ أنّ الالتفات التفصيلي غير معتبر في العناوين الموجبة للحسن أو القبح، وإن كان مراده مطلق الالتفات ولو بنحو الاجمال، ففيه: أنّ الالتفات إلى العناوين المحسّنة أو المقبّحة وإن كان معتبراً، إلاّ أنّ عنوان المقطوعية يكون ملتفتاً إليه دائماً بالالتفات الاجمالي الارتكازي، كيف وحضور الأشياء في الذهن إنّما هو بالقطع، ويسمى بالعلم الحصولي، وحضوره بنفسه ويعبّر عنه بالعلم الحضوري، فلا يعقل أن يكون الانسان عالماً بشيء مع كونه غير ملتفت إلى علمه، بل هو ملتفت إليه دائماً ولو بالالتفات الاجمالي الارتكازي.

 وأمّا ما ذكره أخيراً: من أ نّه لم يصدر منه فعل بالاختيار، كما إذا قطع بكون مائع خمراً فشربه ولم يكن في الواقع خمراً... ففيه: أنّ الفعل ـ أي شرب الماء ـ لم يقع في الخارج بلا إرادة وقصد بالضرورة، بل وقع مع القصد إليه بعنوان أ نّه شرب الخمر، وهو عنوان موجب لقبحه. وبعبارة اُخرى: القطع بكون مائع خمراً لا يجعل شربه اضطرارياً غير متصف بالقبح ولا بالحسن، إذ يكفي في كونه اختيارياً صدوره عن إرادة وقصد إليه، ويكفي في قبحه الالتفات الاجمالي إلى جهة قبحه، وهي كونه مقطوع الحرمة.

 وأمّا ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من دعوى الوجدان، ففيه: أنّ الوجدان شاهد على خلافه، وأنّ العقل حاكم بقبح الفعل المتجرى به، بمعنى أ نّه

ــ[25]ــ

يدرك أنّ الفعل المذكور تعدٍّ على المولى وهتك لحرمته، وخروج عن رسوم عبوديته، وأنّ الفاعل يستحق الذم واللوم، كيف ولا خلاف بين العقلاء في حسن الانقياد عقلاً، بمعنى أنّ العقل يدرك أ نّه جري على وظيفة العبودية، وأنّ الفاعل مستحق للمدح والثناء، ولذا أنكر عدّة من العلماء دلالة أخبار من بلغ على الاستحباب الشرعي، وحملها على أنّ المراد إعطاء الأجر والثواب من باب الانقياد، مع أنّ الانقياد والتجري ـ مع التحفظ على تقابلهما ـ من واد واحد، فكما أنّ الانقياد حسن عقلاً بلا خلاف بين العقلاء، كذلك لا ينبغي الشك في أنّ التجري قبيح عقلاً.

 فالانصاف: أنّ الدعوى الاُولى ـ التي هي بمنزلة الصغرى، وهي قبح الفعل المتجرى به عقلاً ـ ممّا لا مناص من التسليم بها. وأمّا الدعوى الثانية ـ التي هي بمنزلة الكبرى، وهي أنّ قبح الفعل عقلاً يستلزم حرمته شرعاً، وحسن الفعل عقلاً يستتبع وجوبه شرعاً لقاعدة الملازمة ـ فهي غير تامّة. وقاعدة الملازمة أجنبية عن المقام، بيان ذلك:

 أنّ حكم العقل إنّما هو بمعنى إدراكه ليس إلاّ، فتارةً يدرك ما هو في سلسلة علل الأحكام الشرعية من المصالح والمفاسد، وهذا هو مورد قاعدة الملازمة، إذ العقل لو أدرك مصلحة ملزمة في عمل من الأعمال، وأدرك عدم وجود مزاحم لتلك المصلحة، علم بوجوبه الشرعي لا محالة، بعد كون الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد. وكذا لو أدرك مفسدة ملزمة بلا مزاحم، علم بالحرمة الشرعية لا محالة.

 لكن الصغرى لهذه الكبرى غير متحققة أو نادرة جداً، إذ العقل لا يحيط بالمصالح الواقعية والمفاسد النفس الأمرية والجهات المزاحمة لها، ولذا ورد في

ــ[26]ــ

الروايات «أنّ دين الله لا يصاب بالعقول» (1) و «أ نّه ليس شيء أبعد عن دين الله من عقول الرجال»(2).

 واُخرى يدرك العقل ما هو في مرتبة معلولات الأحكام الشرعية، كحسن الاطاعة وقبح المعصـية، فانّ هذا الحكم العقلي فرع ثبوت الحكم الشرعي المولوي، وحكم العقل بقبح التجري وحسن الانقياد من هذا القبيل، فقاعدة الملازمة أجنبية عنه، فلا دليل على أنّ حكم العقل بقبح التجري يستلزم الحرمة الشرعية، بل لنا أن ندّعي عدم إمكان جعل حكم شرعي مولوي في المقام، إذ لو كان حكم العقل بحسن الانقياد والاطاعة وقبح التمرد والمعصية كافياً في إتمام الحجّة على العبد، وفي بعثه نحو العمل وزجره عنه ـ كما هو الصحيح ـ فلا حاجة إلى جعل حكم شرعي مولوي آخر، وإن لم يكن كافياً فلا فائدة في جعل حكم آخر، إذ هو مثل الحكم الأوّل، فيكون جعل الحكم لغواً يستحيل صدوره من الحكيم (تعالى وتقدّس).

 هذا، ولنا برهان آخر أبسط على عدم إمكان جعل الحكم الشرعي في المقام: وهو أنّ القبح ـ الذي يتوهم استتباعه للحكم الشرعي ـ لو كان مختصاً بعنوان التجري ـ أي مخالفة القطع المخالف للواقع ـ ففيه: مضافاً إلى فساد هذا الاختصاص وأنّ حكم العقل بالقبح في صورة مصادفة القطع للواقع وصورة مخالفته له على حد سواء، إذ ملاكه وهو هتك المولى والجرأة عليه موجود في كلتا الصورتين، أنّ هذا الحكم غير قابل للبعث والمحركية أصلاً، إذ من مبادئ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المستدرك 17: 262 / أبواب صفات القاضي ب 6 ح 25.

(2) [ لم نجد هذا النص في مصادر الحديث المتداولة وإنّما الموجود فيها: «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن»            الوسائل 27: 192 / أبواب صفات القاضي ب 13 ح 41 ].

ــ[27]ــ

قدرة المكلف على الامتثال المعتبرة في صحّة التكليف هو الالتفات إلى الموضوع، والالتفات إلى هذا العنوان ـ أي القطع المخالف للواقع ـ مساوق لزواله، نظير الالتفات إلى النسيان، فكما لا يمكن توجيه التكليف إلى الناسي بعنوان الناسي، إذ الالتفات شرط للتـكليف ومع الالتفات إلى كونه ناسـياً ينقلب النسيان إلى الذكر، وينتفي الموضوع، كذا لا يمكن تكليف القاطع بعنوان مخالفة قطعه للواقع، إذ مع عدم الالتفات لا يصح التكليف، ومع الالتفات إلى مخالفة قطعه للواقع يزول القطع.

 وأمّا لو كان القبح المتوهم استتباعه للحكم الشرعي عاماً شاملاً للتجري والمعصية بجامع الهتك والجرأة على المولى، كان جعل الحكم الشرعي مستلزماً للتسلسل، إذ التجري أو العصيان قبيح عقلاً على الفرض، وقبحهما يستتبع الحرمة الشرعية، وعصيان هذه الحرمة أو التجري فيها أيضاً قبيح عقلاً، والقبح العقلي مستلزم للحرمة الشرعية، وهكذا إلى ما لا نهاية له.

 فتحصّل: أنّ حكم العقل بقبح العصيان والتجري وبحسن الاطاعة والانقياد لا يستلزم حكماً شرعياً مولوياً، بل لا يمكن جعل الحكم في مورده على ما عرفت، ولذا حملوا الأوامر الشرعية الدالة على وجوب الاطاعة، والنواهي الشرعية الدالة على حرمة المعصية على الارشاد دون المولوية. وقد ظهر ممّا ذكرناه الكلام في:

 المقام الثاني: وهو أنّ التجري هل يوجب استحقاق العقاب من جهة كونه جرأة على المولى وهتكاً لحرمته مع بقاء الفعل المتجرى به على ما هو عليه في الواقع من المحبوبية أو المبغوضية أم لا ؟ لأ نّه قد اتّضح ممّا ذكرناه أنّ القبح العقلي وإن لم يكن مستتبعاً للحكم الشرعي، لكنّه يستلزم حكم العقل باستحقاق العقاب على نفس التجري، بمعنى أنّ العقل يدرك كون المتجري مستحقاً للعقاب،

ــ[28]ــ

للتعدي على المولى وهتكه، وخروجه عن رسوم عبوديته كما في المعصية، بلا فرق بينهما من هذه الجهة، وما ذكره صاحب الفصول (قدس سره)(1) من الأمثلة لبيان الفرق بين التجري والعصيان أجنبي عن المقام، لكون الفرق المذكور في الأمثلة لأجل التشفي المستحيل في حقّه تعالى، فإذا أراد عبد قتل ابن المولى وصادفه فلا محالة كان عقابه أشد بنظر المولى ممّن أراد قتل ابن المولى ولم يصادفه، بل صادف عدوّه، إلاّ أ نّه لأجل التشفي، ومع قطع النظر عنه لا فرق بينهما من حيث استحقاق العقاب لوحدة الملاك وهو الهتك.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net