نقد ما ذكره النائيني في المقام - الوجه الأوّل لاستحالة التعبد بالظن - نقد كلام ابن قبة 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5118


 وزاد المحقق النائيني (1) (قدس سره) إشكالاً رابعاً، وهو أنّ بناء العقلاء على الامكان ـ عند الشك فيه على تقدير التسليم ـ إنّما هو في الامكان التكويني دون الامكان التشريعي الذي هو محل الكلام.

 هذا، والانصاف تمامية ما ذكره الشيخ (قدس سره) ولا يرد عليه شيء من هذه الاشكالات، وذلك لأنّ ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) مبني على أن يكون مراد الشيخ (قدس سره) هو البناء على الامكان مطلقاً، ولكن الظاهر أنّ مراده هو البناء على الامكان عند قيام دليل(2) معتبر على الوقوع، كما إذا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 3: 109، فوائد الاُصول 3: 88.

(2) نسأل سيّدنا الاُستاذ (دام ظلّه) عن شأن هذا الدليل ونقول: إن كان ظنّياً فالكلام في إمكان العمل به، وإن كان قطعياً فلم يبق مجال للبحث عن الامكان بعد وجود الدليل القطعي على الوقوع كما هو واضح. والانصاف أنّ مراد الشيخ (طاب ثراه) كما يظهر من مراجعة كلامه هو البـناء على الامكان مع قطع النظر عن وجود الدليل على الوقوع. وحينئذ يرد عليه ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) من الاشكالات الثلاثة المذكورة.

ــ[105]ــ

دلّ ظاهر كلام المولى على حجية الظن، ولا أقل من احتمال ذلك في كلام الشيخ (قدس سره). وحينئذ تترتب الثمرة على البحث عن الامكان والاستحالة، إذ على تقدير ثبوت الامكان لا بدّ من الأخذ بظاهر كلام المولى والعمل بالظن. وعلى تقدير ثبوت الاستحالة لا مناص من رفع اليد عن الظهور، للقرينة القطعية العقلية، ولا ينبغي الشك في أنّ بناء العقلاء في مثل ذلك على الامكان والعمل بالظاهر ما لم تثبت الاستحالة، فلو أمر المولى عبده بشيء وشكّ العبد في إمكان وجوبه واستحالته لاحتمال أن يكون ذا مفسدة، واستحال أن يأمر المولى العالم الحكيم بما فيه المفسدة، فاحتمل أن لا يكون ظاهر الكلام مراده، ويكون أمره للامتحان أو غيره ممّا ليس فيه طلب جدّي، فهل يشك أحد في بناء العقلاء على الأخذ بظاهر كلام المولى وعدم الاعتناء باحتمال الاستحالة، وهل يشك أحد في إمضاء الشارع لهذا البناء من العقلاء. فاندفع جميع ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) من الوجوه الثلاثة.

 وأمّا ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) ففيه: أنّ الامكان والاستحالة من الاُمور الواقعية التي يدركها العقل، وليس للامكان قسمان تكويني وتشريعي، بل الامكان دائماً تكويني، غاية الأمر أنّ متعلقه قد يكون من الاُمور التكوينية كما إذا قيل: إنّ نزول المطر في يوم كذا ممكن، وقد يكون من الاُمور التشريعية كما إذا قيل: إنّ الحكم الكذائي ممكن أو التعبد بالظن ممكن.

ــ[106]ــ

 فتحصّل: أنّ ما ذكره الشـيخ (قدس سره) متين ولا يرد عليه شيء من الاشكالات المذكورة.

 ثمّ إنّ القائل بالاستحالة استند إلى وجهين: أحدهما راجع إلى الملاك، والآخر إلى التكليف.

 أمّا ما يرجع إلى الملاك، فهو أنّ الأمارة ربّما تقوم على وجوب ما هو مباح واقعاً، أو على حرمة ما هو مباح كذلك، ولازم حجّية الأمارة هو الالزام بشيء من الفعل أو الترك، من دون أن تكون فيه مصلحة ملزمة أو مفسدة ملزمة، مع أ نّا نقول بتبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد، وهذا هو المراد من تحريم الحلال في قولهم، وربّما تقوم على إباحة شيء والترخيص فيه مع أنّ حكمه الواقعي هو الالزام بالفعل أو الترك، فيلزم من حجّية الأمارة تفويت المصلحة الملزمة أو الالقاء في المفسدة الملزمة، وهذا هو المراد من تحليل الحرام في قولهم، وكل ذلك صدوره محال عن الحكيم تعالى.

 وأمّا ما يرجع إلى التكليف، فهو أنّ الأمارة التي يتعبد بها إن كانت موافقة للحكم الواقعي لزم من حجيتها اجتماع المثلين، وهما الحكم الواقعي المفروض وجوده والحكم الظاهري المجعول بمقتضى حجّية الأمارة، وإن كانت مخالفة له لزم اجتماع الضدّين، وكلاهما محال. هذا ملخص ما هو المنسوب إلى ابن قبة بتوضيح من المتأخرين.

 والجواب: أمّا عن إشكال الملاك، فهو أنّ صور الاشكال من ناحية الملاك ثلاث:

 الصورة الاُولى: ما إذا دلّت الأمارة على وجوب ما هو مباح واقعاً أو على حرمته.

ــ[107]ــ

 الصورة الثانية: ما إذا دلّت الأمارة على إباحة ما هو واجب واقعاً أو حرام كذلك.

 الصورة الثالثة: ما إذا دلّت الأمارة على وجوب ما هو حرام واقعاً، أو على حرمة ما هو واجب واقعاً.

 أمّا الصورة الاُولى: فليس فيها إشكال، إذ العقل لا يرى مانعاً من إلزام المولى عبده بفعل ما هو مباح واقعاً أو بتركه تحفظاً على غرضه المهم ـ أي المصلحة الملزمة الموجودة في بعض الأفراد ـ فانّ الأحكام وإن كانت تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها على ما هو المعروف من مذهب العدلية، إلاّ أ نّه تكفي المصلحة النوعية ولا تعتبر وجود المصلحة الشخصية دائماً، إذ قد تكون المصلحة الملزمة في بعض الأفراد، ولكن المولى يجعل الحكم بنحو العموم فيما لم يتميز واجد المصلحة عن غيره، تحفظاً على تلك المصلحة الموجودة في البعض. وقد وقع نظير هذا الحكم في الشرع المقدس ويقع في العرف كثيراً.

 أمّا في الشرع، فكتشريع العدّة، فانّ المصلحة فيه ـ وهي حفظ الانساب وعدم اختلاط المياه ـ وإن لم تكن مطردة في جميع موارد وجوبها، إلاّ أنّ الشارع قد شرّعها بنحو العموم، تحفظاً على تلك المصلحة الموجودة في بعض الموارد، فاكتفى في تشريع العدّة بوجود المصلحة النوعية، وليس دائراً مدار المصلحة الشخصية.

 وأمّا في العرف، فكثيراً ما يتّفق ذلك، كما إذا علم المولى بأنّ أحداً يريد قتله في يوم معيّن، فيأمر عبده بأن لا يأذن لأحد في الدخول عليه في ذلك اليوم تحفظاً على عدم دخول من يريد قتله، فانّ المصلحة وإن كانت تقتضي المنع عن دخول البعض دون جميع الناس، إلاّ أ نّه لعدم معرفة العبد بذلك الشخص يأمره المولى بعدم الاذن في الدخول لأحد من الناس، تحفّظاً على تلك المصلحة الملزمة.

ــ[108]ــ

 فتحصّل: أ نّه لا محذور في أمر المولى بالعمل بالأمارة الدالة على الوجوب أو الحرمة تحفظاً على فعل الواجب وترك الحرام، وإن كان مؤدى الأمارة مباحاً أحياناً.

 وأمّا الصورة الثانية: وهي ما إذا دلّت الأمارة على إباحة ما هو حرام واقعاً، أو واجب كذلك، فمع انسداد باب العلم لا إشكال في جعل المولى حجّية الأمارة أصلاً، إذ على تقدير عدم كون الأمارة حجّةً من قبل المولى كان المكلف مرخصاً في الفعل والترك، لاستقلال عقله بقبح العقاب بلا بيان، وكان له أيضاً أن يحتاط بترك ما هو محتمل الحرمة، والاتيان بما هو محتمل الوجوب، فكذا الأمر بعد حجّية الأمارة، فان مفادها الترخيص على الفرض، فله أن يفعل وأن يترك بمقتضى حجّية الأمارة، وله أن يحتاط إذ حسن الاحتياط ممّا لا مجال لانكاره ولو مع قيام الأمارة على الترخيص، فانّ موضوع الاحتياط هو احتمال التكليف، وهو موجود بالوجدان.

 وبالجملة: بعد فرض عدم تمكن المكلف من الوصول إلى الواقع يدور الأمر بين أن يتركه المولى وعقله المستقل في الترخيص، أو يجعل له طريقاً يوصله إلى الواقع غالباً. لا ينبغي الشك في أنّ الثاني هو المتعين، ومخالفة الأمارة للواقع أحياناً ممّا لا محذور فيه بعد عدم تنجّز الواقع على المكلف وكونه مرخصاً في الفعل والترك بمقتضى حكم العقـل، فلا يستند فوات المصلحة أو الوقوع في المفسدة إلى التعبد بالأمارة.

 وأمّا الصورة الثالثة: وهي ما إذا دلّت الأمارة على وجوب ما كان حراماً في الواقع، أو على حرمة ما كان واجباً في الواقع، فالتعبد بالأمارة فيها وإن كان مستلزماً لتفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة في بعض الموارد، إلاّ أ نّه لا قبح فيه لو يرى المولى العالم كونها غالبة المطابقة للواقع.

 وبعبارة اُخرى: الأمر دائر بين عدم جعل الأمارة حجّةً فيختار المكلف ما

ــ[109]ــ

يشاء من الفعل والترك والمفروض عدم إمكان الاحتياط، وبين جعل الأمارة حجّةً فيفعل المكلف ما دلّت الأمارة على وجوبه، ويترك ما دلّت على حرمته، ولو يرى المولى العالم بالحقائق أنّ تفويت الملاك الواقعي في الصورة الاُولى أكثر من الصورة الثانية تعيّن عليه جعل الأمارة حجّةً وإن استلزم العمل بها فوت الملاك الواقعي أحياناً. والطريقة العقلائية أيضاً كذلك، كما نرى أنّ سيرة العقلاء جرت على الرجوع إلى الأطبّاء مع ما يرون من الخطأ الصادر منهم الموجب للهلاك أحياناً، وليس الرجوع إليهم إلاّ لغلبة مصادفة معالجتهم للواقع.

 هذا كلّه على تقدير انسداد باب العلم، وأمّا مع الانفتاح، فإن كان المراد من العلم هو القطع ـ ولو كان مخالفاً للواقع ـ فلا إشكال في التعبد بالأمارة في هذا الفرض أيضاً، بل التحقيق أنّ هذا الفرض داخل في صورة الانسداد موضوعاً، إذ المراد من الانسداد هو انسداد باب الوصول إلى الواقع، لا انسداد باب القطع ولو كان جهلاً مركباً، إذ الجهل المركب كالجهل البسيط لا يؤثر في حسن التعبد بالأمارة شيئاً. وأمّا إن كان المراد من العلم هو العلم المطابق للواقع، بأن يكون المراد من الانفتاح هو انفتاح باب الوصول إلى الواقع، فلا إشكال في التعبد بالأمارة أيضاً على القول بالسببية، وتوضيح ذلك:




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net