أقسام السببية - الوجه الثاني لاستحالة التعبّد بالظن 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6901


 أنّ السببية تتصوّر على أقسام ثلاثة:

 الأوّل: ما هو المنسوب إلى الأشاعرة من أ نّه ليس في الواقع حكم مع قطع النظر عن قيام الأمارة، بل يكون قيامها سبباً لحدوث مصلحة موجبة لجعل الحكم على طبق الأمارة، وعلى القول بالسببية بهذا المعنى يرتفع الاشكال من أصله، إذ عليه لا يكون في الواقع حكم حتّى يكون التعبد بالأمارة موجباً لفواته على المكلف (1).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ولا يتصوّر فيه كشف خلاف كما هو واضح.

ــ[110]ــ

 ولكن السـببية بهذا المعنى غير معـقول في نفسه على ما ذكرناه في بحث الإجزاء(1)، لاستلزامه الدور، فانّ قيام الأمارة على الحكم فرع ثبوته واقعاً، فكيف يتوقف ثبوته على قيامها. هذا مضافاً إلى كونه مخالفاً للاجماع والروايات الدالة على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل.

 الثاني: السـببية المنسوبة إلى المعـتزلة، وهي أنّ الحكم الواقعي وإن كان متحققاً مع قطع النظر عن قيام الأمـارة، إلاّ أنّ قيامها ـ من قبيل طروء العناوين الثانوية كالحرج والضرر ـ موجب لحدوث مصلحة في المؤدى أقوى من مصلحة الواقع، وإذا انكشف الخلاف كان ذلك من قبيل تبدل الموضوع. وعلى هذا القول لا مجال للاشـكال المذكور أيضاً، إذ مع قيام الأمارة على خلاف الحكم الواقعي يكون الحكم الواقعي الأهم هو مؤداها، فلا يلزم تفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة.

 إلاّ أنّ السببية بهذا المعنى وإن كانت أمراً معقولاً في نفسه، وليست كالسببية بالمعنى الأوّل، ولكنها أيضاً باطلة بمقتضى الاجماع والروايات (2) الدالة على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل، وأنّ الواقع لا يتغيّر عمّا هو عليه بقيام الأمارة.

 الثالث: السببية بمعنى المصلحة السلوكية، والمراد بها أنّ في تطبيق العمل على الأمارة والسلوك على طبقها مصلحةً يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع على تقدير مخالفتها له، وحيث إنّ المصلحة السلوكية تابعة للسلوك على طبق الأمارة، فهي تتفاوت بتفاوت مقدار السـلوك قلّةً وكثرةً، فإذا فرض

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 2: 85.

(2) [ ذكر (قدس سره) في محاضرات في اُصول الفقه 2: 87 أنّ الروايات الدالة على الاشتراك هي الدالة على ثبوت الأحكام مطلقاً، وروايات الاحتياط والبراءة... ].

ــ[111]ــ

قيامها على وجوب صلاة الجمعة مثلاً، وعمل بها المكلف، فانكشف خلافها قبل خروج الوقت وأنّ الواجب في يوم الجمعة هو صلاة الظهر، فلا يتدارك بالأمارة القائمة على وجوب صلاة الجمعة إلاّ المصلحة الفائتة بالعمل بها، وهي مصلحة وقت الفضيلة، وأمّا مصلحة أصل صلاة الظهر أو مصلحة إتيانها في الوقت فلا يتدارك بها، لعدم فواتهما بسبب السلوك على طبق الأمارة، لتمكن المكلف من إتيانها في الوقت بعد انكشاف خلاف الأمارة. ولو فرض انكشاف الخلاف بعد خروج الوقت، فيتدارك بها مصلحة الصلاة في الوقت، دون مصلحة أصل الصلاة، لتمكّن المكلف من تداركها بعد خروج الوقت بالقضاء. نعم، لو لم ينكشف الخـلاف أصلاً لا في الوقت ولا في خارجه، يتدارك بها مصلحة أصل الصلاة أيضاً الفائتة بسبب العمل بالأمارة.

 هذا، إذا كان الترك مسـتنداً إلى العمل بالأمارة، وأمّا إذا لم يكن الترك مستنداً إليه، كما إذا ترك صلاة الظهر في مفروض المثال بعد انكشاف الخلاف، فلم يتدارك المصلحة الفائتة حينئذ، إذ طغيانه كان مفوّتاً لمصلحة الواقع لا السلوك على طبق الأمارة ليتدارك به ما فات من مصلحة الواقع، والمفروض أنّ المصلحة إنّما هي في السلوك فتدور مداره.

 والسببية بهذا المعنى قد اختارها شيخنا الأنصاري (قدس سره) (1)، وتبعه المحقق النائيني (قدس سره) (2). وعليه يندفع الاشكال المذكور أيضاً، إذ عليه يتدارك ما فات من مصلحة الواقع على ما عرفت، فلا يلزم من التعبد بالظن تفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة.

 إلاّ أنّ السببية بهذا المعنى أيضاً ممّا لا يمكن الالتزام به، لكونه مستلزماً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 1: 90 ـ 94.

(2) أجود التقريرات 3: 117، فوائد الاُصول 3: 95 ـ 97.

ــ[112]ــ

لتبدل الحكم الواقعي بنوع من التصويب، إذ لو فرض كون سلوك الأمارة مشتملاً على مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع الفائتة، لا يعقل تعلّق الايجاب بالواقع تعييناً، لكونه ترجيحاً بلا مرجح، بل لا بدّ من تعلّق الايجاب بالواقع وسلوك الأمارة تخييراً. مثلاً لو فرض أنّ مصلحة صلاة الظهر تقوم بأمرين: أحدهما نفس صلاة الظهر، والآخر سلوك الأمارة الدالة على وجوب صلاة الجمعة لمن لم ينكشف له الخلاف، فامتنع من الشارع الحكيم تخصيص الوجوب الواقعي بخصوص صلاة الظهر، لقبح الترجيح بلا مرجح.

 وبعبارة اُخرى: بعد كون الوجوب تابعاً للمصلحة على ما هو مذهب المشهور من العدلية، وكون كلٍّ من الأمرين مشتملاً عليها، تعيّن على الشارع الحكم بوجوبهما تخييراً، فيكون الواجب الواقعي ـ في حق من قامت عنده الأمارة الدالة على وجوب صلاة الجمعة ـ أحد أمرين على سبيل التخيير: إمّا صلاة الظهر أو سلوك الأمارة المزبورة، فلا يكون الحكم الواقعي مشتركاً بين العالم والجاهل بنحو واحد، بل في حقّ العالم تعييني وفي حقّ الجاهل تخييري. وهذا نوع من التصويب، ويدل على بطلانه الاجماع والروايات الدالة على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل، وقد تعرّضنا لتفصيل ذلك كلّه في بحث الإجزاء، فراجع (1).

 ومجمل الكلام في المقام: أنّ الاشكال المنسوب إلى ابن قبة مندفع من أصله على القول بحجية الأمارات من باب السببية بأيّ معنىً من المعاني.

 وأمّا على القول بالطريقية وأ نّه ليس في حجّية الأمارات إلاّ مصلحة الايصال إلى الواقع، فالصحيح في الجواب عن الاشكال المذكور أن يقال: إنّ إلزام المكلّفين بتحصيل العلم وإن فرض انفتاح بابه حرج على نوع المكلفين، ومناف لكون

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 2: 87 ـ 89.

ــ[113]ــ

الشريعة المقدسة سهلةً سمحةً، فلو قدّم الشارع الحكيم مصلحة التسهيل على النوع على مصلحة الواقع الفائتة عند مخالفة الأمارة للواقع لا يتصور فيه قبح، وكم للشارع أحكام مجعولة لغرض التسهيل على النوع مع اقتضاء المصلحة الواقعية خلافها، كالحكم بطهارة الحديد، ومقتضى الروايات الدالة على أنّ في الحديد بأساً شديداً هو الحكم بنجاسته، إلاّ أنّ الله سبحانه وتعالى حكم بطهارته تسهيلاً على
العـباد(1)، لتوقف كثير من اُمور معاشهم على اسـتعمال الحديد، فكان الحكم بنجاسته موجباً للعسر والحرج على المكلفين.

 فتحصّل: أنّ تفويت المصلحة الواقعية أو الالقاء في المفسدة أحياناً لا يوجب امتناع التعبد بالأمارة إذا كان فيه مصلحة نوعية.

 هذا، مضافاً إلى أنّ غالب الأمارات بل جميعها طرق عقلائية لا تأسيسية من قبل الشارع، ومن الواضح أنّ ردع العقلاء عمّا استقرّ بناؤهم عليه في اُمور معاشهم يحتاج إلى مصلحة ملزمة، كما إذا كان الطريق غالب المخالفة للواقع كالقياس، ولذا ورد النهي عن العمل به. وأمّا لو لم تكن مصلحة ملزمة في الردع كما إذا كانت مخالفة الأمارة للواقع قليلةً في جنب مصلحة التسهيل، فلا وجه للردع أصلاً.

 على أنّ الالـتزام بامتناع التعبد بالأمـارة في فرض انفـتاح باب العلم ممّا لا يترتب عليه أثر عملي، إذ الانفتاح مجرد فرض لا واقع له، حتّى في زمان حضور المعصوم (عليه السلام) فانّ العلم بالواقع في جميع الأحكام ـ ولا سيّما في الشبهات الموضـوعية ـ ممتنع عادةً حتّى لأصحاب الإمـام (عليه السلام)، إذ لايمكن الرجوع إلى نفس المعصوم في كل مسألة وكل شبهة حكمية وموضوعية في كل وقت وساعة كما هو واضح.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [ لم نعثر عليه ].

ــ[114]ــ

 فتحصّل: أ نّه لا مانع من التعبد بالأمارة من ناحية الملاك.

 وأمّا الاشكال عليه من ناحية التكليف وأ نّه موجب لاجتماع المثلين أو الضدّين ـ على ما تقدّم بيانه (1) ـ فتحقيق الحال في جوابه يحتاج إلى التكلم في مقامين:

 المقام الأوّل: في البحث عمّا إذا كانت الأمارة مطابقةً للواقع، ودفع توهم اجتماع المثلين.

 المقام الثاني: في البحث عمّا إذا كانت مخالفةً له، ودفع توهم اجتماع الضدّين.

 أمّا الكلام في المقام الأوّل: فهو أ نّه لا مجال لتوهم اجتماع المثلين على القول بالطريقية أصلاً، إذ عليه لا يكون هناك إلاّ حكم واحد، إنّما التعدد في مجرد الانشاء لغرض الوصول إلى المكلف، نظير ما إذا قال المولى لعبده: أكرم زيداً، فلم يصل إليه أو لم يعرفه، فأشـار بيده إليه، وقال: أكرم هذا الرجل ومن الواضح أنّ الحكم في مثل ذلك واحد، إنّما التعدد في إبرازه وإنشائه.

 والمقام من هذا القبيل، فانّ الحكم واحد ينشئه المولى تارةً بعنوانه، ويقول شرب الخمر حرام مثلاً، واُخرى بعنوان حجّية الأمارة، ويقول: صدّق العادل مثلاً.

 وأمّا على القول بالسببية فلا محالة يكون هناك حكمان، إلاّ أ نّه لا يلزم منه اجتماع المثلين، بل يوجب التأكد، إذ النسبة بينهما هي العموم من وجه، باعتبار أنّ الأمارة قد تكون مخالفةً للواقع، وقد يكون الحكم الواقعي متحققاً بلا قيام أمارة عليه، وقد تكون الأمارة مطابقةً للواقع، وهذا مورد الاجتماع، ويكون الحكم فيه متأكداً، كما هو الحال في سائر موارد اجتماع العنوانين، كما إذا قال

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 106.

ــ[115]ــ

المولى: أكرم كل عالم، ثمّ قال: أكرم كل هاشمي، فانّ ملاك الحكم في مورد الاجتماع ـ وهو عالم هاشمي ـ أقوى منه في مورد الافتراق، فيكون الحكم فيه آكد، فلا يلزم اجتماع المثلين أصلاً.

 وأمّا المقام الثاني: وهو ما إذا كانت الأمارة مخالفةً للواقع، فقد اُجيب عن توهم اجتماع الضدّين بوجوه:




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net