كيفية جمع الشيخ بين الحكم الواقعي والظاهري - الآخوند - النائيني 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6308


 منها: ما ذكره شيخنا الأنصاري (1) (قدس سره) وملخص ما أفاده: أ نّه يعتبر في التضاد ما يعتبر في التناقض من الوحدات الثمان، لأنّ استحالة التضاد إنّما هي لرجوعه إلى التناقض، باعتبار أنّ وجود كل من الضدّين يلازم عدم الآخر، فبانتفاء إحدى الوحدات ينتفي التضـاد. ومن الوحـدات المعتبرة في التناقض هي وحدة الموضوع، إذ لا مضادة بين القيام والقعود مثلاً لو كانا في موضوعين، وعليه فلا مضادة بين الحكم الواقعي والظاهري، لتعدّد موضوعيهما، فانّ موضوع الأحكام الواقعية هي الأشياء بعناوينها الأوّلية، وموضوع الأحكام الظاهرية هي الأشياء بعناوينها الثانوية، أي بعنوان أ نّها مشكوك فيها، فلا تضاد بين الحكم الواقعي والظاهري بعد اختلاف الموضوع فيهما. هذا ملخّص كلامه (قدس سره).

 وفيه: أنّ الاهمال في مقام الثبوت غير معقول كما ذكرناه غير مرّة (2)، إذ لا يتصور الاهمال في مقام الثبوت من نفس الحاكم الجاعل للأحكام، بأن يجعل الحكم لموضوع لا يدري أ نّه مطلق أو مقيد، فالحكم الواقعي بالنسبة إلى حال العلم والشك إمّا أن يكون مطلقاً، فيلزم اجتماع الضدّين، إذ الحكم الظاهري وإن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 1: 353.

(2) راجع محاضرات في اُصول الفقه 1: 534.

ــ[116]ــ

لم يكن في مرتبة الحكم الواقعي، إلاّ أنّ إطلاق الحكم الواقعي يشمل مرتبة الحكم الظاهري.

 وإمّا أن يكون مقيداً بحال العلم، فيلزم التصويب الباطل، للاجماع والروايات (1) الدالة على كون الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل. مثلاً إذا جعلت الاباحة حكماً للمائع المشكوك في كونه خمراً، وكان هناك خمر شكّ في خمريته، فإن كانت الحرمة الواقعية للخمر مطلقة بالنسبة إلى حال العلم بكونه خمراً والجهل به، لزم اجتماع الضدّين، إذ الخمر الواقعي المشكوك في كونه خمراً مباح بمقتضى الحكم الظاهري، وحرام بمقتضى إطلاق الحكم الواقعي، وإن كانت الحرمة مقيدةً بحال العلم، لزم اختصاص الحكم الواقعي بالعالمين، وهو التصويب الباطل.

 ومنها: ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) في حاشيته على الرسائل وفي الكفاية(2)، وحاصل ما أفاده: أ نّه إن قلنا بأنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو الحجية التي هي عبارة عن المنجّزية مع المطابقة، والمعذّرية مع المخالفة، ولا تستتبع حكماً تكليفياً، فلا يلزم اجتماع حكمين أصلاً، لا المثلين ولا الضدّين، إذ ليس المجعول إلاّ الحكم الواقعي فقط.

 وإن قلنا بأنّ الحجية المجعولة للطرق والأمارات تستتبع حكماً تكليفياً، أو أنّ المجعول حقيقةً هو الحكم التكليفي والحجية منتزعة منه، فاجتماع الحكمين وإن كان يلزم، إلاّ أ نّه لا يلزم منه اجتماع المثلين أو الضدّين. ثمّ ذكر في وجه ذلك تعبيرات مختلفة: فذكر تارةً أنّ الحكم الواقعي شأني والحكم الظاهري فعلي،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مرّ ذكر المصدر في ص 110.

(2) كفاية الاُصول: 277 و 287، دُرر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 70 ـ 73.

ــ[117]ــ

واُخرى أنّ الحكم الواقعي إنشائي والحكم الظاهري فعلي، وثالثةً أنّ الحكم الواقعي فعلي من بعض الجهات، والحكم الظاهري فعلي من جميع الجهات، والمضادة بين الحكمين إنّما هي فيما إذا كان الحكمان كلاهما فعليين من جميع الجهات. هذا ملخص كلامه، ولا يخلو من إجمال.

 ولا بدّ لنا من التعرّض لكل واحد من محتملاته والجواب عنه، فنقول:

 أمّا ما ذكره من أنّ الحكم الواقعي شأني، فإن كان مراده من الشأنية مجرد ثبوت المقتضي للحكم الواقعي من دون أن يكون مؤثراً في إنشاء الحكم الواقعي مع فرض قيام الأمارة على خلافه، ففيه: أ نّه لا يكون حينئذ للجاهل حكم واقعي غير مؤدى الأمارة، وهذا هو التصويب المنسوب إلى الأشاعرة، وقد دلّ الاجماع والروايات (1) على بطلانه. مضافاً إلى كونه غير معقول في نفسه لاستلزامه الدور، لأنّ قيام الأمارة على حكم فرع ثبوته واقعاً، فلو توقف ثبوته واقعاً على قيام الأمارة عليه لزم الدور.

 وإن كان مراده أنّ الحكم الواقعي وإن كان ثابتاً للشيء بعنوانه الأوّلي وبطبعه، إلاّ أ نّه لا يمنع من طروء عنوان عرضي يوجب تبدّله ـ وهو قيام الأمارة على خلافه ـ إذ لا منافاة بين حكمين أحدهما مجعول للشيء بطبعه، والآخر مجعول له بعنوان عرضي طارئ عليه، كما يقال إنّ لحم الغنم حلال بطبعه وإن كان قد يعرضه ما يوجب حرمته كعنوان الضرر، ولحم الأسد حرام بطبعه وإن كان قد يطرأ عليه ما يوجب حلّيته كعنوان الاضطرار، فكما لا منافاة بين الحلية الطبعية والحرمة العرضية أو العكس في هذه الموارد، كذلك لا منافاة بين الحكم الواقعي المجعول للشيء بطبعه، والحكم الظاهري المجعول له بعنوان عرضي،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّم ما يرتبط بالمقام في ص 110.

ــ[118]ــ

وهو قيام الأمارة على الخلاف، ففيه: أنّ هذا تصويب منسوب إلى المعتزلة، وهو وإن لم يكن كسابقه في الشناعة، إلاّ أ نّه أيضاً فاسد بالاجماع والروايات، كما تقدّم مراراً (1).

 وإن كان مراده أنّ الحكم الواقعي ثابت مع قطع النظر عن قيام الأمارة على نحو الاهمال ـ فلا يكون مطلقاً حتّى يلزم التضاد، ولا مقيداً بالعلم كي يلزم التصويب ـ ففيه: ما ذكرناه مراراً من أنّ الاهمال في مقام الثبوت غير معقول(2)، فلا مناص من أن يكون مطلقاً، فيلزم محذور اجتماع الضدّين، أو مقيداً فيلزم التصويب.

 وأمّا ما ذكره من أنّ الحكم الواقعي إنشائي، فإن أراد منه الانشاء المجرد عن داعي البعث والزجر، كما إذا كان بداعي الامتحان أو الاستهزاء أو غيرهما، ففيه: أنّ الالتزام بذلك نفي للحكم الواقعي حقيقةً، إذ الانشاء بلا داعي البعث والزجر لا يكون حكماً، وإنّما يكون مصداقاً لما كان داعياً إلى الانشاء، من الامتحان والاستهزاء ونحوهما، وعليه فالتصويب باق بحاله. مضافاً إلى أ نّه إذا لم يكن الانشاء بداعي البعث والزجر، ولم يكن الحكم الواقعي حكماً حقيقياً، لاتجب موافقته ولا تحرم مخالفته، فلا يبقى مجال لوجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية قبل الفحص، ولا لاستحبابه بعده فيها وفي الشبهات الموضوعية مطلقاً، بل لا يبقى مورد للفحص، إذ ليس هناك حكم يجب الفحص عنه. وكل ذلك خلاف المتسالم عليه بين الفقهاء، ومنهم صاحب الكفاية (قدس سره) نفسه.

 وإن أراد منه الانشاء بداعي البعث والزجر، فهذا هو الحكم الفعلي من قبل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع محاضرات في اُصول الفقه 2: 86 ـ 87.

(2) راجع محاضرات في اُصول الفقه 1: 534.

ــ[119]ــ

المولى، وإن لم يكن محرّكاً للعبد نحو العمل إلاّ بعد تحقق الموضوع بجميع قيوده خارجاً، وتحققه في الخارج ممّا لا ربط له بالمولى الجاعل للحكم، فإذا قال المولى يجب الحج على المستطيع، فقد تمّ الحكم من ناحية المولى وصار فعلياً من قبله، وتحقق الاستطاعة خارجاً ممّا لا ربط له بتمامية الحكم من قبل المولى.

 وبعبارة اُخرى واضحة: إذا قال المولى: يجب الحج على المستطيع، فقد تمّ الحكم من قبل المولى وصار فعلياً بالنسبة إلى المستطيع. وأمّا غير المستطيع فليس عليه الحكم بوجوب الحج أصلاً. وعليه فإن كان الحكم الواقعي مطلقاً لزم اجتماع الضدّين، وإن كان مقيداً بالعلم لزم التصويب على ما تقدّم بيانه.

 ولعلّه لأجل هذه الاشكالات عدل عن التعبيرين المذكورين أخيراً، والتزم بأنّ الحكم الواقعي فعلي من بعض الجهات، والحكم الظاهري فعلى من جميع الجهات، فلا مضادة بينهما.

 وهو أيضاً غير تام، إذ لو أراد منه أنّ الحكم الواقعي قد اُخذ في موضوعه العلم، سواء كان العلم وجدانياً أو تعبدياً كما يظهر من قوله (قدس سره): إن علم به المكلف يكون فعلياً (1)، ففيه: أنّ هذا تصويب يدل على فساده الاجماع والروايات الدالة على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل.

 وإن أراد أنّ العلم لم يؤخذ في موضوع الحكم، ومع ذلك لا يكون فعلياً قبل العلم به، ففيه: أ نّه لا معنى لعدم فعلية الحكم بعد تمامية الجعل من قبل المولى وهو الانشاء بداعي البعث، وتحقق موضوعه خارجاً، فانّه شبيه بتخلّف المعلول عن العلّة التامّة.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [ لعلّه (قدس سره) يشير إلى عبارة الكفاية في ص 278: لو علم به المكلف لتنجّز عليه ].

ــ[120]ــ

 هذا كلّه على القول بأنّ الحجية المجعولة للأمارات مستتبعة للحكم التكليفي، أو أنّ المجعول حقيقةً هو الحكم التكليفي، والحجية منتزعة منه.

 أمّا ما ذكره على القول بأنّ المجعول نفس الحجية من دون أن تكون مستتبعةً للحكم التكليفي، من أ نّه لا يلزم حينئذ اجتماع حكمين أصلاً، ففيه: أنّ محذور اجتماع الضدّين وإن كان مندفعاً على هذا المبنى، إلاّ أنّ المبنى المذكور غير صحيح، لما أشرنا إليه سابقاً ويأتي التعرض له قريباً (1) إن شاء الله تعالى.

 ومنها: ما ذكره المحقق النائيني(2) (قدس سره) وملخص ما أفاده: أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو مجرد الطريقية والكاشفية بالغاء احتمال الخلاف، فلا يكون هناك حكم تكليفي حتّى يلزم اجتماع الضدّين، بل حال الأمارة هي حال القطع، لأنّ الشارع اعتبرها علماً في عالم التشريع، فكما يكون العلم الوجداني منجّزاً مع المطابقة ومعذّراً مع المخالفة، فكذلك العلم التعبدي يكون منجّزاً ومعذّراً، فكما لا مجال لتوهم التضاد عند مخالفة القطع للواقع، فكذلك في المقام. وبالجملة: ليس في مورد الطرق والأمارات حكم تكليفي مجعول كي يلزم اجتماع الضدّين.

 وليعلم أنّ مجرد إمكان أن يكون المجعول فيها ذلك كاف في دفع الشبهة، بلا حاجة إلى إثبات وقوعه، إذ الكلام في إمكان التعبد بالظن، مع أنّ لنا دليلاً على وقوعه أيضاً، وهو أنّ الأمارات المعتبرة شرعاً طرق عقلائية يعملون بها في اُمور معاشهم، وقد أمضاها الشارع، وعليه يكون المجعول الشرعي في باب الأمارات ما تعلّق به واستقرّ عليه بناء العقلاء، ومن الواضح أ نّه لم يتعلق

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّم في ص 39 و 40 ويأتي بعد أسطر.

(2) أجود التقريرات 3: 128 ـ 140، فوائد الاُصول 3: 105 ـ 119.

 
 

ــ[121]ــ

بناؤهم على جعل حكم تكليفي في موارد الطرق، وإنّما استقرّ بناؤهم على المعاملة معها معاملة العلم الوجداني، وقد أمضى الشارع هذا البناء منهم، فليس المجعول إلاّ الطريقية والمحرزية.

 وبما ذكرناه ظهر ما في كلام صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ المجعول في باب الأمارات هي الحجية، بمعنى التنجيز عند المصادفة والتعذير عند المخالفة(1)، إذ التنجيز والتعذير بمعنى حسن العقاب على مخالفة التكليف مع قيام الحجّة عليه وعدمه مع عدمه من الأحكام العقلية غير القابلة للتخصيص، فالتصرف من الشارع لا بدّ وأن يكون في الموضوع، بأن يجعل شيئاً طريقاً ويعتبره علماً تعبداً، وبعد قيام ما اعتبره الشارع علماً على التكليف، يترتب عليه التنجيز والتعذير عقلاً لا محالة.

 وكذا الحال في الاُصول المحرزة الناظرة إلى الواقع بالغاء جهة الشك، كالاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز ونحوها، إذ المجعول فيها أيضاً هي الطريقية والكاشفية، لكن لا من جميع الجهات، بل من حيث الجري العملي في موردها فقط، فهي علم تعبدي من هذه الجهة فقط، ولذا تقوم مقام القطع الطريقي والقطع المأخوذ في الموضوع على نحو الطريقية على ما تقدّم بيانه (2). فليس في موردها حكم مجعول حتّى يلزم اجتماع الضدّين.

 وأمّا الاُصول غير المحرزة التي ليست ناظرةً إلى الواقع، بل هي متكفلة لبيان الوظائف العملية عند الشك في الواقع، إمّا تنجيزاً كالاحتياط، أو تأميناً كالبراءة، فالجواب عن الاشـكال فيها يحتاج إلى التنبيه على أمر، وهو أنّ الأحكام

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 277.

(2) راجع ص 40 و 41 من هذا الكتاب، وأجود التقريرات 3: 19.

ــ[122]ــ

بوجوداتها الواقعية لا تكون محرّكةً للعبد نحو العمل وإن بلغت ما بلغت من التأكد، بل لا بدّ في ذلك من الوصول إلى المكلف، كما هو ظاهر. وأمّا إذا لم يصل الحكم إلى المكلف وشكّ فيه، فإن كان ملاك الحكم الواقعي بمرتبة خاصّة من الأهمّية بحيث لا يرضى الشارع بفواته حتّى في ظرف الشك، كما في الدماء والفروج والأموال الخطيرة، فيوجب عليه الاحتياط، ويكون الحكم الواقعي حينئذ واصلاً إلى المكلف بطريقه. وإن لم يكن الملاك بتلك المرتبة من الأهمّية، فيرخّصه في الترك أو الفعل، كما في موارد جريان البراءة عند الشك في الوجوب أو الحرمة.

 والمتحصّل من ذلك: أنّ الحكم الظاهري مجعول في طول الحكم الواقعي وفي فرض الشك فيه، لا في مرتبته، فلا مضادة بينهما. هذا مضافاً إلى أنّ وجوب الاحتياط طريقي، بمعنى أنّ وجوبه إنّما هو للتحفظ على ملاك الحكم الواقعي، فإن صادف الواقع فلا محذور فيه أصلاً، إذ لاتعدّد في الحكم ليلزم اجتماع المثلين، بل الحكم واحد ناشئ من ملاك واحد، إنّما التعدد في الانشاء والابراز، فقد أبرزه المولى تارةً بعنوان وجوب الصلاة مثلاً، واُخرى بعنوان وجوب الاحتياط. وإن لم يصادف الواقع فلا وجوب للاحتياط حقيقةً ليلزم التضاد بينه وبين الترخيص الواقعي، إذ وجوب الاحتياط إنّما هو للتحـفّظ على ملاك الحكم الواقعي، ففي فرض مخالفته للواقع لا وجوب له حقيقةً، بل وجوب الاحتياط حينئذ تخيّلي، بمعنى أنّ المكلف يتخيّل وجوبه ولا وجوب له حقيقةً. وأمّا البراءة فمع مصادفتها للترخيص الواقعي فلا محذور فيها أصلاً، كما تقدّم في الاحتياط، ومع مخالفتها للواقع لا يلزم التضاد، لعدم كونهما في مرتبة واحدة كما تقدّم.

 ثمّ إنّه (قدس سره) أكّد كلامه بأنّ الشك له اعتباران:

ــ[123]ــ

 أحدهما: كونه صفة نفسانية.

 ثانيهما: كونه موجباً لتحيّر المكلف، والمأخوذ في موضوع الأحكام الظاهرية هو الاعتبار الثاني. ويمكن أن لا يكون للأحكام الواقعية إطلاق بالنسبة إلى حال الحيرة، فلا يكون هناك حكم واقعي حتّى يقع التضاد بينه وبين الحكم الظاهري. هذا ملخص كلامه زيد في علوّ مقامه.

 أقول: أمّا ما ذكره في الأمارات ـ من أ نّه ليس المجعول فيها إلاّ الطريقية والكاشفية، فلا يكون هناك حكم تكليفي حتّى يلزم اجتماع الضدّين ـ فمتين جداً، وكذا ما ذكره في الاُصول المحرزة: من أنّ المجعول فيها الطريقية من حيث الجري العملي فقط، بل نقول: الاُصول المحرزة أمارات عند التحـقيق على ما ذكرناه في محلّه (1) ولا ينافي ذلك تقدّم الأمارات عليها، إذ الأمارات أيضاً يتقدّم بعضها على بعض، فانّ البيّنة تتقدّم على اليد، وحكم الحاكم مقدّم على البيّنة، والاقرار مقدّم على حكم الحاكم، فاشكال اجتماع الضدّين في مورد الأمارات والاُصول المحرزة مندفع من أساسه.

 وأمّا ما ذكره في الاُصـول غير المحرزة فغير مفيد في دفع الاشكال، لأنّ اختلاف المرتبة لا يرفع التضاد بين الحكمين، ولذا يستحيل أن يحكم المولى بوجوب شيء ثمّ يرخّص في تركه إذا علم بوجوبه، مع أنّ الترخيص متأخر عن الوجوب بمرتبتين، والسرّ فيه: أنّ المضادة إنّما هي في فعلية حكمين في زمان واحد، سواء كانا من حيث الجعل في مرتبة واحدة أو في مرتبتين.

 وأمّا ما ذكره في الاحتـياط من أنّ وجوبه طريقي، وإنّما هو للتحفظ على الملاك الواقعي، فهو وإن كان صحيحاً، إلاّ أنّ تخصيصه وجوب الاحتياط

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ص 185 و 315.

ــ[124]ــ

بصورة مصادفة الواقع غير تام، لأنّ وجوب الاحتياط ليس تابعاً للملاك الشخصي كي يكون مختصاً بصورة مصادفة الواقع، بل تابع للملاك النوعي، بمعنى أ نّه حيث لايتميّز في الشبهات مورد وجود الملاك الواقعي عن مورد عدم وجوده، فأوجب الشارع الاحتياط كليةً، تحفظاً على الملاك في مورد وجوده، إذ مع ترك الاحتياط قد يفوت الملاك، ولذا كان لسان أدلة الاحتياط مطلقاً غير مقيد بموافقة الواقع، كقوله (صلّى الله عليه وآله): «قفوا عند الشبهة... فانّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (1).

 هذا مضافاً إلى أنّ تقييد الاحتياط بصورة مصادفة الواقع غير معقول، لعدم قابليته للوصول إلى المكلف، لعدم إحرازه الواقع على الفرض، وإلاّ كان الاحتياط منتفياً بانتفاء موضوعه، وهو عدم وصول الواقع إلى المكلف، فيكون إيجاب الاحتياط لغواً محضاً لا يترتب عليه أثر، إذ مع عدم إحراز مصادفته للواقع لا يحرز وجوب الاحتياط، لاحتمال كونه غير مطابق للواقع، فتجري البراءة عنه، ومع إحراز الواقع ينتفي الاحتياط بانتفاء موضوعه، وهو عدم إحراز الواقع.

 وأمّا ما ذكره أخيراً من إمكان أن لا يكون للحكم الواقعي إطلاق بالنسبة إلى حال تحير المكلف، ففيه ما ذكرناه مراراً من أنّ الاهمال في مقام الثبوت غير متصور، فلا محالة يكون الحكم الواقعي إمّا مطلقاً بالنسبة إلى حال تحيّر المكلف وكونه شاكاً، وإمّا مقيداً بعدمه، واعترف هو (قدس سره) أيضاً بذلك، غاية الأمر أنّ الاطلاق أو التقييد يكون على مسلكنا لحاظياً، وعلى مسلكه يكون بنتيجة الاطلاق أو بنتيجة التقييد بمتمم الجعل، على ما تقدّم بيانه في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 20: 259 / أبواب مقدّمات النكاح ب 157 ح 2.

ــ[125]ــ

بحث التعبدي والتوصلي (1) وفي بحث المطلق والمقيد (2)، فإن كان الحكم الواقعي مطلقاً بالنسبة إلى حال الشك لزم التضاد، وإن كان مقيداً بعدمه لزم التصويب، من غير فرق بين أن يكون المأخوذ في موضوع الأحكام الظاهرية هو الشك بما أ نّه صفة خاصّة، أو بما أ نّه موجب للتحيّر.

ــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 533.

(2) محاضرات في اُصول الفقه 4: 531.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net