المختار في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6367

 هذا، والتحقيق في دفع الاشكال أن يقال: إنّ الأحكام الشرعية لا مضادة بينها في أنفسها، إذ الحكم ليس إلاّ الاعتبار، أي اعتبار شيء في ذمّة المكلف من الفعل أو الترك، كاعتبار الدين في ذمّة المديون عرفاً وشرعاً، ولذا عبّر في بعض الأخبار عن وجوب قضاء الصلوات الفائتة بالدين، كما في قوله (عليه السلام): «إنّ دين الله أحق أن يقضى» (3) ومن الواضح عدم التنافي بين الاُمور الاعتبارية، وكذا لا تنافي بين إبرازها بالألفاظ، بأن يقول المولى: افعل كذا أو لا تفعل كذا كما هو ظاهر، إنّما التنافي بينها في موردين: المبدأ والمنتهى. والمراد بالمبدأ ما يعبّر عنه بعلّة الحكم مسامحةً من المصلحة والمفسدة، كما عليه الإمامية والمعتزلة، أو الشوق والكراهة كما عليه الأشاعرة المنكرين لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد، والمراد من المنتهى مقام الامتثال.

 أمّا التنافي من حيث المبدأ، فلأ نّه يلزم من اجتماع الحكمين ـ كالوجوب والحرمة مثلاً ـ اجتماع المصلحة والمفسدة في المتعلق بلا كسر وانكسار، وهو من اجتماع الضدّين، ولا إشكال في استحالته، وكذا الحال في اجتماع الترخيص مع الوجوب أو الحرمة، فانّه يلزم وجود المصلحة الملزمة وعدم وجودها في

ــــــــــــ
(3) سنن النسائي 5: 118 (باختلاف يسير).

ــ[126]ــ

شيء واحد، أو وجود المفسدة الملزمة وعدم وجودها وهو من اجتماع النقيضين المحال.

 وأمّا التنافي من حيث المنتهى، فلعدم تمكن المكلف من امتثال كلا الحكمين كما هو ظاهر، فيقع التنافي والتضاد في حكم العقل بلزوم الامتثال، ويلزم أن يحكم العقل بالفعل امتثالاً للوجوب، وبالترك امتثالاً للحرمة، أو يلزم أن يحكم العقل بالفعل امتثالاً للوجوب، وأن لا يحكم به للاباحة، وكذا يلزم أن يحكم بالترك امتثالاً للحرمة وأن لا يحكم به للاباحة. وكل ذلك بديهي الاستحالة.

 وإن شئت قلت: إنّه مع وصول كلا الحكمين إلى المكلف، إن كان كلاهما إلزامياً ـ كما في اجتماع الوجوب والحرمة ـ لزم حكم العقل باستحقاق العقاب على الفعل والترك وعدم الاستحقاق على الفعل والترك. أمّا الاستحقاق على الفعل، فلكونه ارتكاب حرام، وأمّا على الترك فلكونه ترك واجب، وأمّا عدم الاستحقاق على الفعل فلكونه فعل واجب، وأمّا على الترك فلكونه ترك حرام. وإن كان أحدهما إلزامياً، لزم حكم العقل باستحقاق العقاب على الفعل أو على الترك، وعدم الاستحقاق عليه. والوجه في جميع ذلك ظاهر كظهور استحالته.

 إذا عرفت ذلك ظهر لك أ نّه لا تنافي بين الحكم الواقعي والظاهري أصلاً، لا من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى، وأنّ هذا التضاد العرضي بين الأحكام يختص بما إذا كان الحكمان من سنخ واحد، بأن كان كلاهما واقعياً أو كلاهما ظاهرياً، بخلاف ما إذا كان أحدهما واقعياً والآخر ظاهرياً، فانّه لا مضادة بينهما من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى.

 أمّا من ناحية المبدأ، فلأنّ المصلحة في الحكم الظاهري إنّما تكون في نفس جعل الحكم لا في متعلقه، كما في الحكم الواقعي، فلا يلزم من مخالفتهما اجتماع المصلحة والمفسدة، أو وجود المصلحة وعدمه، أو وجود المفسدة وعدمه في

ــ[127]ــ

شيء واحد، إذ الأحكام الواقعية ناشئة من المصالح والمفاسد في متعلقاتها، والأحكام الظاهرية ليست تابعةً لما في متعلقاتها من المصالح بل تابعة للمصالح في أنفسها، فانّها مجعولة في ظرف الشك في وجود المصلحة الواقعية، وقد لاتكون مصلحة في المتعلق واقعاً، فكيف يمكن أن تكون تابعةً للمصالح الواقعية في المتعلقات. ففي موارد الاحتياط ـ كما في الشبهة الحكمية قبل الفحص ـ جعل وجوب الاحتياط لمصلحة في نفس الاحتياط ـ وهي التحفظ على مصلحة الواقع على تقدير وجودها، والتحذر عن الوقوع في المفسدة الواقعية أحياناً، وفي موارد الترخيص ـ كما في الشبهة الحكمية بعد الفحص، أو في الشبهة الموضوعية مطلقاً ـ جعل الترخيص لما في نفسه من المصلحة، وهي التسهيل على المكلفين.

 وأمّا عدم التنافي من ناحية المنتهى، فلأنّ الحكم الظاهري موضوعه الشك في الحكم الواقعي وعدم تنجزه، لعدم وصوله إلى المكلف، فما لم يصل الحكم الواقعي إلى المكلف لا يحكم العقل بلزوم امتثاله ولا باستحقاق العقاب على مخالفته، فلا مانع من امتثال الحكم الظاهري، وإذا وصل الحكم الواقعي إلى المكلف وحكم العقل بلزوم امتثاله وباستحقاق العقاب على مخالفته، لا يبقى مجال للحكم الظاهري لارتفاع موضوعه بوصول الواقع.

 وبعبارة اُخرى: حكم العقل بلزوم الامتثال إنّما هو بعد وصول الحكم إلى المكلف، بلا فرق في ذلك بين الحكم الواقعي والظاهري، ووصول كلا الحكمين إلى المكلف في عرض واحد محال، لكون الحكم الظاهري دائماً في طول الحكم الواقعي، فمع وصول الحكم الواقعي ينتفي الحكم الظاهري بانتفاء موضوعه، فلا يحكم العقل إلاّ بلزوم امتثال الحكم الواقعي، ومع عدم وصول الحكم الواقعي لا يحكم العقل إلاّ بلزوم امتثال الحكم الظاهري، فلا تنافي بين الحكمين

ــ[128]ــ

في مقام الامتثال أبداً.

 والمتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام: أنّ الحكم الظاهري في موارد الاُصول غير المحرزة وإن كان متحققاً، إلاّ أ نّه لا مضادة بينه وبين الحكم الواقعي أصلاً، لا بالذات باعتبار لحاظهما بأنفسهما، ولا بالعرض بلحاظ المبدأ والمنتهى.

 وأمّا في موارد الأمارات والاُصول المحرزة، فليس المجعول حكماً تكليفياً ليلزم اجتماع الضدّين في مورد المخالفة للواقع، وعلى تقدير الالتزام بأنّ المجعول فيها أيضاً حكم تكليفي، فالجواب عن محذور اجتماع الضدّين هو ما ذكرناه في الاُصول غير المحرزة. هذا تمام الكلام في إمكان التعبد بالظن.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net