ضابط الجملة الشرطية التي سيقت لتحقق الموضوع - الاشكالات على دلالة الآية على المفهوم 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5301


 وفيه: أنّ الموضوع في القضيّة هو النبأ، ومجيء الفاسق به شرط لوجوب التبين عنه، فلا تكون القضيّة الشرطية مسوقةً لبيان تحقق الموضوع، توضيح ذلك: أنّ الجزاء تارةً يكون في نفسه متوقفاً على الشرط عقلاً، بلا دخل للتعبد المولوي، كما في قولك: إن رزقت ولداً فاختنه وأمثاله. واُخرى يكون متوقفاً عليه بالتعبد المولوي، كما إذا قال المولى: إن جاءك زيد فأكرمه، فانّ الاكرام غير متوقف على المجيء عقلاً، نظير توقف الختان على وجود الولد، فما كان التعليق فيه من قبيل الأوّل فهو إرشاد إلى حكم العقل، ومسوق لبيان الموضوع فلا مفهوم له، وما كان من قبيل الثاني فهو يفيد المفهوم، وهذا هو الميزان في كون القضيّة الشرطية مسوقةً لبيان الموضوع وعدمه.

 ثمّ إنّ الشرط قد يكون أمراً واحداً وقد يكون مركّباً من أمرين، فإن كان أمراً واحداً فقد تقدّم أ نّه إن كان الأمر المذكور ممّا يتوقف عليه الجزاء عقلاً فلا مفهوم للقضيّة، وإلاّ فتدل على المفهوم. وأمّا إن كان مركّباً من أمرين، فإن كان كلاهما ممّا يتوقف عليه الجزاء عقلاً، فلا مفهوم للقضيّة الشرطية أصلاً، كقولك: إن رزقك الله مولوداً وكان ذكراً فاختنه، وإن كان كلاهما ممّا لا يتوقف عليه الجزاء عقلاً، فالقضيّة تدل على المفهوم بالنسبة إلى كليهما، بمعنى أ نّها تدل على انتفاء الجزاء عند انتفاء كل واحد منهما ولو مع تحقق الآخر، كقولك: إن جاءك زيد وكان معمماً فأكرمه، فانّه يدل على انتفاء وجوب الاكرام عند انتفاء المجيء ولو كان معماً، وعلى انتفاء وجوب الاكرام عند انتفاء كونه معمماً ولو مع تحقق المجيء. وإن كان أحدهما ممّا يتوقف عليه الجزاء عقلاً دون الآخر

ــ[185]ــ

كقولك: إن ركب الأمير وكان ركوبه يوم الجمعة فخذ ركابه، فتدل القضيّة على المفهوم بالنسبة إلى الجزء الذي لا يتوقف عليه الجزاء عقلاً، دون الجزء الآخر الذي يتوقف عليه الجزاء عقلاً. وقد ظهر وجه ذلك كلّه ممّا تقدّم.

 وليعلم أنّ تميّز الجزء الذي اُخذ موضوعاً للحكم في مقام الاثبات عن الجزء الذي علّق عليه الحكم إنّما هو بالاستظهار من سياق الكلام بحسب متفاهم العرف، فانّ الظاهر من قولك: إن جاءك زيد فاكرمه، أنّ الموضوع هو زيد، ومجيئه ممّا علّق عليه وجوب إكرامه، وينعكس الأمر فيما إذا قلت: إن كان الجائي زيداً فأكرمه، فانّ الظاهر منه أنّ الجائي هو الموضوع وكونه زيداً شرط لوجوب إكرامه وهكذا في سائر الأمثلة.

 إذا عرفت ذلك ظهر لك أنّ الشرط في الآية المباركة ـ بحسب التحليل ـ مركب من جزأين: النبأ، وكون الآتي به فاسقاً، ويكون أحدهما وهو النبأ موضوعاً للحكم المذكور في الجزاء، لتوقفه عليه عقلاً، فلا مفهوم للقضـيّة بالنسبة إليه، والجزء الآخر وهو كون الآتي به فاسقاً ممّا لا يتوقف عليه الجزاء عقلاً، فتدل القضيّة على المفهوم بالنسبة إليه، ومفاده عدم وجوب التبين عنه عند انتفاء كون الآتي به فاسقاً وهو المطلوب(1).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ما ذكره (دام ظلّه) من التفصيل وإن كان متيناً جداً، إلاّ أنّ تطبيق تركب الشرط من جزأين على الآية الشريفة لا يخلو من تأمّل، فانّ المراد هو التركيب المستفاد من ظاهر الجملة الشرطية كما مثّل له (دام ظلّه) لا بحسب التحليل، لأنّ التحليل يمكن في كل شرط، فالشرط في قول المولى: إن جاءك زيد فأكرمه، أمر واحد وبحسب التحليل أمران: زيد ومجيؤه، نظير النبأ ومجيء الفاسق به. والمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ =

ــ[186]ــ

 وتوهّم أ نّه لا مناص من أن يكون الموضوع في الآية المباركة هو نبأ الفاسق لا طبيعي النبأ، إذ لو كان الموضوع طبيعي النبأ وكان مجيء الفاسق به شرطاً لوجوب التبين، لزم التبين عن كل نبأ حتّى نبأ العادل عند مجيء الفاسق بنبأ، لأنّ المفروض وجوب التبين عن طبيعي النبأ على تقدير مجيء الفاسق بنبأ، وهذا مقطوع البطلان، فتعيّن أن يكون الموضوع نبأ الفاسق، فتكون القضيّة الشرطية مسوقة لبيان الموضوع ولا تدل على المفهوم.

 مدفوع بأنّ القيود وإن كانت تختلف بحسب مقام الاثبات من حيث الرجوع إلى الحكم تارةً وإلى الموضوع اُخرى، فانّ القيد قد يرجع ـ بحسب ظاهر القضيّة ومقام الاثبات ـ إلى الموضوع كالتوصيف وكذا الشرط فيما إذا كان توقف الجزاء عليه عقلاً، وقد يرجع إلى الحكم كالشرط فيما إذا لم يتوقف الجزاء عليه عقلاً، ولا يكون للقضيّة مفهوم إلاّ فيما إذا كان القيد راجعاً إلى الحكم ليدل على انتفاء الحكم عند انتفائه باعتبار أنّ مفاد أداة الشرط تعليق جملة على جملة بحسب ظاهر الكلام كما صرّح به أهل العربية وعلماء الميزان، إلاّ أ نّه بحسب مقام الثبوت فالقيود بأجمعها ترجع إلى الموضوع، لاستحالة ثبوت الحكم المقيد للموضوع المطلق. وعليه فالحكم بوجوب التبين عن النبأ معلّقاً على كون الجائي به فاسقاً لا يقتضي وجوب التبين عن كل نبأ حتّى نبأ العادل، فانّ مجيء الفاسق بنبأ وإن كان قيداً للحكم إثباتاً، وينشأ منه المفهوم، إلاّ أ نّه يرجع إلى الموضـوع بحسب اللب ومقام الثبوت، ولازمه وجوب التبين عن النبأ الذي جاء به الفاسق، ونظير المقام قوله (عليه السلام): «إذا بلغ الماء قدر

ــــــــــــــــــــــــــــ

= الآية الشريفة لا دلالة لها على المفهوم، فانّ التبيّن عند عدم مجيء الفاسق بنبأ منتف بانتفاء موضوعه كما اعترف به سيّدنا الاُستاذ (دام ظلّه) فيما سيأتي من كلامه في الدورة السابقة. وعليه لا يبقى شيء تحت الثاني أو يكون الباقي قليلاً جدّاً.

ــ[187]ــ

كر لم ينجّسه شيء» (1) فانّ الموضوع بحسب ظاهر القضيّة وإن كان طبيعي الماء، وبلوغه قدر الكر شرط لعدم الانفعال، إلاّ أ نّه لا يقتضي الحكم بعدم انفعال كل ماء بالملاقاة إذا اتّصف فرد منه بالكرية، بل مقتضاه عدم انفعال خصوص الماء الذي بلغ قدر كر.

 وبالجملة: مفاد الكلام بحسب الظهور العرفي عدم انفعال خصوص الماء البالغ قدر الكر، لا عدم انفعال كل ماء حتّى القليل بمجرد اتصاف فرد منه بالكرية، وكذا في المقام فانّ مفاد الكلام بحسب فهم العرف هو وجوب التبين عن الخبر الذي جاء به الفاسق لا وجوب التبين عن كل خبر حتّى خبر العادل بمجرد مجيء الفاسـق بفرد منه. وكأنّ المتوهم خلط بين رجوع القيد إلى الموضوع في مقام الاثبات ورجوعه إليه في مقام الثبوت.

 وظهر بما ذكرناه في المقام الاشكال على ما ذكره في الكفاية: من دلالة الآية على حجّية خبر العادل ولو كانت القضيّة مسوقة لبيان الموضوع، بدعوى ظهورها في حصر وجوب التبين في خبر الفاسق فيستفاد عدم وجوبه عن غيره(2)، وذلك لما تقدّم من أنّ القضيّة الشرطية لو كانت مسوقة لبيان الموضوع لا تفيد إلاّ كون الموضوع للحكم أمراً كذا، ومن الواضح أنّ إثبات الحكم لموضوع لا يدل على انتفائه عن موضوع آخر. وبعبارة اُخرى: استفادة الحصر من الآية المباركة تتوقف على دلالتها على المفهوم، وبعد تسليم أ نّها مسوقة لبيان الموضوع لا مفهوم لها فكيف تصح دعوى ظهورها في الحصر.

 هذا وقد ذكرنا في الدورة السابقة أنّ دلالة القضيّة الشرطية على المفهوم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1: 158 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 1.

(2) كفاية الاُصول: 296.

ــ[188]ــ

متوقفة على أن يكون الموضوع مفروض الوجود وكان له حالتان، وقد علّق الحكم على إحدى حالتيه تعليقاً مولوياً، بأن لا يكون متوقفاً عليها عقلاً، وهذا هو الميزان الكلّي في دلالة القضيّة الشرطية على المفهوم، ففي قولنا: إن جاءك زيد فأكرمه، كان الموضوع المفروض وجوده هو زيد، وله حالتان المجيء وعدمه، وعلّق وجوب الاكرام على مجيئه تعليقاً مولوياً، إذ لا يكون الاكرام متوقفاً على المجيء عقلاً، فتدل القضيّة على انتفاء وجوب الاكرام عند انتفاء المجيء، بخلاف قولنا: إن ركب الأمير فخذ ركابه، فانّ الموضوع فيه وهو الأمير وإن كان له حالتان الركوب وعدمه، إلاّ أنّ تعليق أخذ الركاب على ركوبه عقلي، فتكون القضيّة مسوقةً لبيان الموضوع وإرشاداً إلى حكم العقل، فلا مفهوم لها، وعليه فإن كان الموضوع في الآية المباركة هو النبأ وله حالتان مجيء الفاسق به ومجيء غير الفاسق به، إذ النبأ قد يجيء به غيره، وقد علّق وجوب التبين عنه على مجيء الفاسق به مولوياً، إذ لا يكون متوقفاً عليه عقلاً، ويكون مفاد الكلام حينئذ: إنّ النبأ إن جاءكم به فاسق فتبيّنوا، فلا محالة تدل القضيّة على المفهوم، وانتفاء وجوب التبين عند انتفاء مجي الفاسق به، وكذلك الحال إن كان الموضوع هو الجائي بالنبأ المستفاد من قوله تعالى: (إِن جَاءَكُمْ) فانّ الجائي بالنبأ قد يكون فاسقاً وقد يكون غير فاسق، وقد علّق وجوب التبين على كونه فاسقاً، ولا يكون متوقفاً عليه عقلاً، ويكون مفاد الكلام حينئذ: أنّ الجائي بالنبأ إن كان فاسقاً فتبينوا، فتدل القضيّة على المفهوم وانتفاء وجوب التبين عند انتفاء كون الجائي بالنبأ فاسقاً.

 وأمّا إن كان الموضوع هو الفاسق وله حالتان، لأنّ الفاسق قد يجيء بالنبأ وقد لا يجيء به، وعلّق وجوب التبين على مجيئه بالنبأ، ويكون مفاد الكلام حينئذ: أنّ الفاسق إن جاءكم بنبأ فتبينوا، فلا دلالة للقضيّة على المفهوم، لأنّ

ــ[189]ــ

التبين متوقف على مجيئه بالنبأ عقلاً، فتكون القضيّة مسوقةً لبيان الموضوع، إذ مع عدم مجيئه بالنبأ كان التبين منتفياً بانتفاء موضوعه، فلا مفهوم للقضيّة الشرطية في الآية المباركة. هذه هي محتملات الآية الشريفة بحسب التصور ومقام الثبوت.

 والظاهر منها في مقام الاثبات بحسب الفهم العرفي هو المعنى الثالث، فانّه لا فرق بين الآية الشريفة وبين قولنا: إن أعطاك زيد درهماً فتصدق به من حيث المفهوم. والظاهر من هذا الكلام ـ بحسب متفاهم العرف ـ وجوب التصدق بالدرهم على تقدير إعطاء زيد إيّاه. وامّا على تقدير عدم إعطاء زيد درهماً، فالتصدق به منتف بانتفاء موضوعه، وذلك لأنّ الموضوع بحسب فهم العرف هو زيد، وله حالتان فانّه قد يعطي درهماً وقد لا يعطيه، وقد علّق وجوب التصدق بالدرهم على إعطائه إيّاه، وهو متوقف عليه عقلاً، إذ على تقدير عدم إعطاء زيد درهماً يكون التصدق به منتفياً بانتفاء موضوعه، فالقضيّة مسوقة لبيان الموضوع، ولا دلالة لها على المفهوم وانتفاء وجوب التصدق بالدرهم عند إعطاء غير زيد إيّاه، والآية الشريفة من هذا القبيل بعينه، فلا دلالة لها على المفهوم، ولا أقل من الشك في أنّ مفادها هو المعنى الأوّل أو الثاني أو الثالث، فتكون مجملة غير قابلة للاستدلال بها على حجّية خبر العادل.

 فتحصّل: أنّ دلالة الآية الشريفة على المفهوم غير تامّة من ناحية المقتضي مع قطع النظر عن وجود المانع من عموم التعليل أو غيره، على ما سنتكلّم فيه قريباً إن شاء الله تعالى.

 وأمّا الايراد من ناحية وجود المانع عن دلالة الآية الشريفة على المفهوم فمن وجوه:

 الوجه الأوّل: أنّ في الآية قرينة تدل على أ نّه لا مفهوم للقضيّة الشرطية،

ــ[190]ــ

وهي عموم التعليل في قوله تعالى: (أَن تُصِيبُوا قَوْمَاً بِجَهَالَةً) فانّ المراد منه أنّ العمل بخبر الفاسق معرض للوقوع في المفسدة، والتعبير باصابة القوم إنّما هو لخصوصية مورد نزول الآية، وإلاّ فالعمل بخبر الفاسق لا يستلزم إصابة القوم دائماً، لأنّ الفاسق لا يخبر دائماً بما يرجع إلى القوم، بل ربّما يخبر عن ملكية شيء أو زوجية شخص أو غيرهما، فلا محالة يكون المراد من التعليل أنّ العمل بخبر الفاسق معرض للوقوع في المفسدة ومظنّة للندامة، وهذه العلّة تقتضي التبين في خبر العادل أيضاً، لأنّ عدم تعمده بالكذب لا يمنع عن احتمال غفلته وخطئه، فيكون العمل بخبره أيضاً معرضاً للوقوع في المفسدة، فيكون مفاد التعليل عدم جواز العمل بكل خبر لا يفيد العلم، بلا فرق بين أن يكون الآتي به فاسقاً أو عادلاً، فهذا العموم في التعليل قرينة على عدم المفهوم للقضيّة الشرطية في الآية، ولا أقل من احتمال كونه قرينة عليه، فيكون الكلام مقروناً بما يصلح للقرينية، فيكون مجملاً غير ظاهر في المفهوم.

 وفيه أوّلاً: أنّ الايراد المذكور مبني على أن يكون المراد من الجهالة في التعليل عدم العلم، والظاهر أنّ المراد منه السفاهة والاتيان بما لا ينبغي صدوره من العاقل، فانّ الجهالة كما تستعمل بمعنى عدم العلم كذلك تستعمل بمعنى السفاهة أيضاً، وليس العمل بخبر العادل سفاهة، كيف والعقلاء يعملون بخبر الثقة فضلاً عن خبر العادل. وأمّا الاشكال على ذلك بأنّ العمل بخبر الوليد لو كان سفاهة لما أقدم عليه الصحابة، مع أ نّهم أقدموا عليه ونزلت الآية ردعاً لهم، فمندفع بأنّ الأصحاب لم يعلموا بفسق الوليد فأقدموا على ترتيب الأثر على خبره، فأخبرهم الله سبحانه بلسان نبيّه (صلّى الله عليه وآله) بفسقه، وأنّ العمل بخبره بعد ثبوت فسقه سفاهة، ولو فرض علمهم بفسقه كان إقدامهم على العمل بخبره لغفلتهم عن كونه سفاهة، فانّه قد يتّفق صدور عمل من الانسان غفلة،

ــ[191]ــ

ثمّ يلتفت إلى كونه ممّا لا ينبغي صدوره وأ نّه سفاهة.

 وثانياً: أ نّه على تقدير تسليم أنّ المراد من الجهالة عدم العلم لا السفاهة، لايكون التعليل مانعاً عن المفهوم، بل المفهوم ـ على تقدير دلالة القضيّة الشرطية عليه بنفسها ـ يكون حاكماً على عموم التعليل، إذ خبر العادل حينئذ يكون علماً تعبدياً، على ما ذكرناه مراراً من أنّ مفاد دليل حجّية الطرق والأمارات هو تتميم الكشف، وجعل غير العلم علماً بالاعتبار (1)، فيكون خبر العادل خارجاً عن عموم التعليل موضوعاً، ويكون المفهوم حاكماً على عموم التعليل، نظير حكومة الأمارات على الاُصول العملية.

 وبعبارة اُخرى: الأدلة المتكفلة لبيان الأحكام لا تتكفل لاثبات الموضوع، فانّ مفادها ثبوت الحكم على الموضوع المقدّر وجوده. وأمّا كون الموضوع موجوداً أو غير موجود فهو خارج عن مفادها، وعليه فمفاد التعليل عدم حجّية كل خبر غير علمي. وأمّا كون خبر فلان علمياً أو غير علمي فهو خارج عن مفاده، فيكون المفهوم الدال على كون خبر العادل علماً بالتعبد حاكماً على عموم التعليل، فلا تنافي بينه وبين المفهوم كي يكون عموم التعليل قرينةً على عدم المفهوم للقضيّة الشرطية، نعم لو لم يكن المفهوم حاكماً على التعليل وقع التنافي بينهما، فأمكن الالتزام بأنّ عموم التعليل مانع عن ظهور القضيّة الشرطية في المفهوم، كما إذا قيل: إن كان هذا رماناً فلا تأكله لأ نّه حامض، فانّ مقتضى عموم التعليل المنع عن أكل كل حامض، ومقتضى مفهوم القضيّة الشرطية جواز الأكل إن لم يكن رماناً، فيقع التنافي بينهما في حامض غير الرمان، فيكون عموم التعليل مانعاً عن ظهور القضيّة الشرطية في المفهوم، وهذا بخلاف الآية الشريفة، فانّ المفهوم فيها حاكم على عموم التعليل على ما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّم في ص 120.

ــ[192]ــ

عرفت، فلا تنافي بينهما ليكون التعليل مانعاً عن ظهور الجملة الشرطية في المفهوم.

 ثمّ إنّه ربّما يستشكل على كون المفهوم حاكماً على التعليل بأ نّه لو اقتصر في التعليل بقوله تعالى: (أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةً) لأمكن الالتزام بكون المفهوم حاكماً على التعليل، باعتبار أنّ خبر العادل قد اعتبر علماً بالتعبد، فهو خارج عن الجهالة موضوعاً ببركة التعبد. ولكن التعليل في الآية المباركة مذيّل بما يكون معه مانعاً عن المفهوم، وهو قوله تعالى: (فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) إذ الندم لا يكون إلاّ لأجل الوقوع في مفسدة مخالفة الواقع. وهذا التعليل مانع عن المفهوم، لأنّ العمل بخبر العادل أيضاً لا يؤمن معه من الندم الناشئ من الوقوع في مفسدة مخالفة الواقع.

 وفيه: أنّ الوقوع في مفسدة مخالفة الواقع تارةً يكون مع العمل بالوظيفة المقررة شرعاً. واُخرى يكون مع عدم العمل بها، والأوّل كما إذا عمل بالبيّنة الشرعية في مورد ثمّ انكشف خلافها، والثاني كما إذا عمل بخلاف البيّنة فوقع في مفسدة مخالفة الواقع، والندم في القسم الأوّل ممّا لا أثر له، إذ المكلف فيه معذور في مخالفة الواقع، ولا يكون مستحقاً للعقاب، بخلاف الندم في القسم الثاني، فانّ المكلف لايكون معذوراً في مخالفة الواقع، ويكون مستحقاً للعقاب. وليس المراد من الندم في الآية الشريفة هو القسم الأوّل قطعاً وإلاّ يسقط جميع الأمارات والطرق عن الحجّية في الشبهات الحكمية والموضوعية، لأنّ احتمال الوقوع في مخالفة الواقع موجود في الجميع، بل في القطع الوجداني أيضاً، لاحتمال كونه جهلاً مركباً، وإن لم يكن القاطع ملتفتاً حين قطعه إلى ذلك.

 وبالجملة: مجرد الندم على الوقوع في مفسدة مخالفة الواقع مع كون المكلف عاملاً بالوظيفة غير مستحق للعقاب لا يكون منشأ لأثر من الآثار، ولا يصحّ

ــ[193]ــ

التعليل به، فالمراد من الندم في الآية الشريفة هو القسم الثاني ـ أي الندامة على الوقوع في مفسدة مخالفة الواقع، مع كونه غير معذور في ذلك مستحقاً للعقاب ـ وخبر العادل على تقدير حجّيته خارج عن هذا التعليل موضوعاً، إذ المكلف العامل بالحجّة المعتبرة معذور في مخالفة الواقع غير مستحق للعقاب، فصحّ ما ذكرناه من أنّ المفهوم على تقدير دلالة الجملة الشرطية عليه بنفسها حاكم على عموم التعليل، لا أنّ التعليل مانع عن المفهوم.

 وقد يستشكل أيضاً على كون المفهوم حاكماً على التعليل بأنّ معنى الحكومة أن يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى المحكوم وشارحاً له بالتوسعة أو بالتضييق في الموضوع بلحاظ الأثر الثابت له في الدليل المحكوم، فيكون الدليل الحاكم مثبتاً لذلك الأثر لغيره، بلسان ثبوت الموضوع، كما في قوله (عليه السلام): «الفقّاع خمر اسـتصغره الناس» (1) أو نافياً له عن بعض مصاديقه بلسان نفي الموضوع كقوله (عليه السلام): «لا رِبا بين الوالد والولد» (2) فيكون الحاكم دائماً ناظراً إلى الأثر الثابت في الدليل المحكوم فيثبته بلسان ثبوت الموضوع أو ينفيه بلسان نفي الموضوع، وهذا هو معنى الحكومة، وهو لا ينطبق على المقام، إذ المستفاد من المفهوم أوّلاً عدم وجوب التبين عن خبر العادل، ويستكشف منه أنّ الشارع قد اعتبره علماً فلا معنى للحكومة بمعنى خروج خبر العادل عن التعليل موضوعاً بلحاظ عدم وجوب التبين عنه، إذ المفروض أنّ عدم وجوب التبين عن خبر العادل هو المستفاد من المفهوم أوّلاً ثمّ يستكشف منه أنّ الشارع قد اعتبره علماً، فكيف يمكن الالتزام بأ نّه خارج عن عموم التعليل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 25: 365 / أبواب الأشربة المحرمة ب 28 ح 1 (باختلاف يسير).

(2) الوسائل 18: 135 / أبواب الرِّبا ب 7 ح 1 و 3 وفيهما: «ليس بين الرجل وولده ربا».

ــ[194]ــ

موضوعاً فلا يجب التبين عنه.

 وإن شئت قلت: إنّ الحكومة إنّما هي فيما إذا كان لسان الدليل الحاكم نفي الموضوع وكان الغرض منه نفي الحكم كما في قوله (عليه السلام): «لا رِبا بين الوالد والولد» وأمّا لو كان لسان الدليل نفي الحكم من أوّل الأمر فليس هناك حكومة بل تخصيص لا محالة كما لو كان لسان الدليل هكذا: لا يحرم الرِّبا بين الوالد والولد فانّه مخصص لأدلة حرمة الرِّبا لا أ نّه حاكم عليها، والمقام من هذا القبيل بعينه، إذ المستفاد من المفهوم أوّلاً عدم وجوب التبين عن خبر العادل ويستكشف منه حجّيته وأ نّه اعتبر علماً فيكون المفهوم مخصصاً للتعليل الدال على وجوب التبين عن كل خبر غير علمي لا أ نّه حاكم عليه، والمفروض عدم إمكان الالتزام بالتخصيص لكون ظهور العام أقوى من ظهور القضيّة الشرطية في المفهوم، بل التعليل بنفسه آب عن التخصيص في نفسه، وكيف
يمكن الالتزام بالتخصيص في مثل قوله تعالى: (أَن تُصِيبُوا قَوْمَاً بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) فيكون التعليل مانعاً عن انعقاد الظهور للقضيّة الشرطية في المفهوم.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net