أقسام الحكومة - إشكالان على أصل حجية خبر الواحد 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5237


 هذا ملخّص الاشكال الذي ذكره بعض الأعاظم(1) بتوضيح منّا، والانصاف أ نّه كلام علمي دقيق وإن كان غير تام، إذ يمكن الجواب عنه بأنّ الحكومة على قمسين:

 القسم الأوّل: هو ما ذكر في الاشـكال وهو أن يكون الحاكم ناظراً إلى المحكوم وشارحاً له بالتصرّف في الموضوع تضـييقاً أو توسـعة بلحاظ الأثر الثابت له في الدليل المحكوم وقد ذكر أمثلته، وهذا النوع من الحكومة إنّما هو فيما إذا لم يكن الموضـوع بنفسـه قابلاً للتعبد كالخمر في قوله (عليه السلام):

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) نهاية الأفكار 3: 115.

ــ[195]ــ

«الفقّاع خمر استصغره الناس» (1)، وكذا الرِّبا بين الوالد والولد، فانّ الفقّاع ليس من أفراد الخمر بالوجدان فكيف يمكن التعبد بأ نّه خمر مع قطع النظر عن الأثر الشرعي، وكذا الرِّبا بمعنى الزيادة موجود بين الوالد والولد بالوجدان، فكيف يمكن التعبد بأ نّه لا ربا بينهما مع قطع النظر عن الأثر الشرعي، فلا محالة يكون التعبد ناظراً إلى الأثر الشرعي الثابت للموضوع فيثبته لغيره كما في قوله (عليه السلام): «الفقّاع خمر» أو ينفيه عن بعض مصاديقه كما في قوله (عليه السلام): «لا رِبا بين الوالد والولد» (2) غاية الأمر أنّ إثبات الأثر ونفيه إنّما هو بلسان نفي الموضوع وإثباته.

 القسم الثاني من الحكـومة: ما إذا كان الموضـوع بنفسه قابلاً للتعـبد بلا احتياج إلى لحاظ أثر شرعي فيتعبد بموضوع ولو لم يكن له أثر شرعي أصلاً كالعلم فانّه يصح أن يعتبر الشارع أمارةً غير علمية علماً وإن لم يكن للعلم أثر شرعي أصلاً، فيترتب على الأمارة الآثار العقلية للعلم من التنجيز والتعذير، والمقام من هذا القبيل فانّه بعد ما استفدنا من المفهوم عدم وجوب التبين عن خبر العادل يستكشف منه أنّ خبر العادل قد اعتبر علماً للملازمة بينهما، فيكون خبر العادل خارجاً عن عموم التعليل موضوعاً بالتعبد، وهو من الحكومة بهذا المعنى الثاني لا بمعنى أنّ خبر العادل قد اعتبر علماً بلحاظ أثره الشرعي وهو عدم وجوب التبين عنه فانّه ليس من آثار العلم بل لا معنى له، إذ العلم هو نفس التبين فلا يعقل أن يكون عدم وجوب التبين من آثاره، ومن هذا النوع من الحكومة حكومة الأمارات على الاُصول العملية وحكومة قاعدة الفراغ والتجاوز على الاُصول الجارية في الشبهات الموضـوعية، فلا مانع من كون المفهوم حاكماً على عموم التعليل مع قطع النظر عن لحاظ ترتب الأثر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1)، (2) تقدّم استخراجهما في ص 193.

ــ[196]ــ

وهو عدم وجوب التبين فلاحظ وتأمّل.

 وقد يستشكل أيضاً على كون المفهوم حاكماً على التعليل: بأنّ المفهوم متفرع على المنطوق ومترتب عليه، لأنّ دلالة اللفظ على المعنى الالتزامي فرع دلالته على المعنى المطابقي كما هو ظاهر، فالمفهـوم متأخر رتبة عن المنطوق تأخر المعلول عن علّته، وحيث إنّ المنطوق متأخر رتبة عن التعليل لكونه معلولاً له فلا يعقل أن يكون المفهوم حاكماً على التعليل، إذ ما يكون متأخراً عن الشيء رتبة لا يمكن أن يكون حاكماً عليه.

 وهذا الاشكال مردود بوجوه:

 الأوّل: أنّ تأخر المفهوم عن المنطوق إنّما هو في مقام الكشف والدلالة، بمعنى أنّ دلالة القضيّة على المفهوم متأخرة رتبة عن دلالتها على المنطوق، وأمّا نفس المفهوم فليس متأخراً عن المنطوق. وبعبارة اُخرى: عدم وجوب التبين عن خبر العادل ليس متأخراً عن وجوب التبين عن خبر الفاسق، وبعبارة ثالثة واضحة: حجّية خبر العادل ليست متأخرة عن عدم حجّية خبر الفاسق بل المتأخر كشف القضية عن حجية خبر العادل عن كشفها عن عدم حجية خبر الفاسق، والحاكم على التعليل إنّما هو نفس المفهوم لا كشـفه، فما هو متأخر رتبة عن المنطوق ليس حاكماً على التعليل وما هو حاكم عليه ليس متأخراً عن المنطوق.

 الثاني: أ نّه لو سلّم كون المفهوم بنفسه متأخراً عن المنطوق كان ذلك مانعاً عن الحكومة بالمعنى الأوّل، وهي أن يكون الحاكم ناظراً إلى المحكوم وشارحاً له، باعتبار أنّ ما يكون متأخراً عن الشيء رتبةً لا يعقل أن يكون شارحاً له. وأمّا الحكومة بالمعنى الثاني، وهي أن يكون مفاد الحاكم خارجاً موضوعاً عن مفاد المحكوم بالتعبد فلا مانع منها، إذ كون المفهوم متأخراً عن المنطوق رتبة لا يمنع من خروج المفهوم عن عموم التعليل موضوعاً بالتعبد كما هو واضح.

ــ[197]ــ

 الثالث: أ نّه لو سلّم كون التأخر الرتبي مانعاً عن الحكومة بكلا معنييها فانّما هو فيما إذا كان التعليل مولوياً، بأن يكون المراد منه حرمة إصابة القوم بجهالة. وأمّا إذا كان التعليل إرشاداً إلى ما يحكم به العقل من عدم جواز العمل بما لا يؤمن معه من العقاب المحتمل فلا مانع من كون المفهوم حاكماً عليه، إذ بعد حجّية خبر العادل كان العمل به مأمـوناً من العقاب وكان خارجاً عن حكم العقل موضوعاً، وقد ذكرنا سابقاً (1) أنّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم ومنها التعليل في آية النبأ إرشاد إلى حكم العقل.

 الوجه الثاني من الاشكال على الاستدلال بالآية الشريفة: أ نّه إن اُريد بالتبين المذكور في الآية خصوص العلم فيكون العمل به لا بخبر الفاسق، إذ مع العلم الوجـداني كان ضم خـبر الفاسق إليه من قبيل ضمّ الحـجر إلى جنب الانسان، وحيث إنّ العمل بالعلم الوجداني واجب عقلاً كان الأمر به في الآية الشريفة إرشاداً إليه لا محالة، ولا يستفاد المفهوم من الأمر الارشادي، فلا مفهوم للآية الشريفة، وإن اُريد بالتبين مجرّد الوثوق يقع التـنافي بين المفهوم والمنطوق بمعنى عدم إمكان العمل بهما معاً، إذ مقتضى المنطوق حجّية خبر الفاسق الموثوق به، بأن يكون متحرزاً عن الكذب وإن لم يكن عادلاً، ومقتضى المفهوم حجّية خبر العادل وإن لم يحصل الوثوق به كما إذا كان معرضاً عنه عند الأصحاب، والعلماء بين من اعتبر العـدالة في حجّية الخبر ولم يكتف بمجرّد الوثوق، وبين من اعتبر الوثوق ولم يعمل بخبر العادل الذي لا يوجب الوثوق كما إذا كان معرضاً عنه عند الأصحاب. فالجمع بين العمل بخبر الفاسق الموثوق به بمقتضى المنطوق والعمل بخبر العادل وإن لم يوجب الوثوق بمقتضى المفهوم إحداث لقول ثالث. وهذا هو المراد من عدم إمكان العمل بالمنطوق والمفهوم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 132 و 177.

ــ[198]ــ

معاً، فيدور الأمر بين رفع اليد عن أحدهما، ولا ينبغي الشك في أنّ المتعيّن هو رفع اليد عن المفهـوم لأ نّه مترتب على المنطوق ومتفرع عليه فلا يمكن الأخذ به مع رفع اليد عن المنطوق، فتكون النتيجة أ نّه لا مفهوم للآية المباركة على كلا التقديرين.

 وهذا الاشكال غير وارد على الاستدلال بالآية، سواء كان المراد من التبين هو خصوص العلم أو مجرد الوثوق، وذلك لأ نّه إن كان المراد منه خصوص العلم لايلزم منه انتفاء المفهوم، إذ ليس في الآية أمر بالعمل بالعلم ليكون إرشاداً إلى حكم العقل، بل أمر بتحصيل العلم عند إرادة العمل بخبر الفاسق، ومفهومه عدم وجوب تحصيل العلم عند العمل بخبر العادل، ولازمه حجّية خبر العادل وهو المطلوب.

 وإن كان المراد مجرد الوثوق لا يلزم التنافي بين المنطوق والمفهوم أصلاً، إذ مقتضى المنطوق حجّية خبر الفاسق الموثوق به كما ذكر ولا كلام فيه، ومقتضى المفهوم حجّية خبر العادل وإن لم يوجب الوثوق كما إذا أعرض الأصحاب عنه.

 فإن قلنا بأنّ إعراض المشهور لايوجب سقوط الخبر عن الحجّية ولا عملهم بخبر ضعيف يوجب الانجبار على ما اخترناه أخيراً (1)، فلا محذور حينئذ، إذ يؤخذ بالمفهوم على إطلاقه، ويحكم بحجّية خبر العادل ولو مع إعراض المشهور عنه.

 وإن قلنا بأنّ إعراض المشهور يوجب سقوط الخبر عن الحجّية، واعتمادهم يوجب الانجبار كما هو المشهور، فيرفع اليد عن إطلاق المفهوم ويقيّد بما إذا لم يكن معرضاً عنه عند الأصحاب، وليس فيه تناف بين المنطوق والمفهوم ولا إحداث قول ثالث.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يأتي الكلام فيه في ص 235.

ــ[199]ــ

 هذا كلّه مضافاً إلى أ نّه ليس المراد من التبين خصوص العلم ولا خصوص الوثوق، بل المراد منه هو الجامع الأعم منهما، على ما سيجيء تحقيقه قريباً (1)إن شاء الله تعالى.

 الوجه الثالث من الاشكال: أنّ مورد الآية هو الاخبار بارتداد بني المصطلق، ولا إشكال في عدم صحّة الاعتماد على خبر العدل الواحد في ارتداد شخص واحد فضلاً عن ارتداد جماعة، فلو كان للآية الشريفة مفهوم لزم خروج المورد، وهو أمر مستهجن لا يمكن الالتزام به، فيستكشف من ذلك أ نّه لا مفهوم لها.

 وأجاب عنه شيخنا الأنصاري (2) (قدس سره) بما حاصله: أنّ الموضـوع لوجوب التبين عن النبأ هو طبيعي الفاسق، فيشمل الواحد والاثنين والأكثر، ما لم يصل إلى حدّ التواتر، فيكون الموضوع في المفهوم أيضاً طبيعي العادل، وإطلاقه وإن كان يشمل الواحد والأكثر، إلاّ أ نّه يرفع اليد عن الاطلاق في خصوص المورد ويقيد بالمتعدد، وليس فيه خروج المورد عن المفهوم.

 وأورد عليه بعض الأعاظم (3) بأ نّه إن كان التبين بمعنى العلم، كان العمل به واجباً عقلاً، فيكون الأمر به إرشادياً لا مفهوم له على ما تقدّم (4)، وإن كان بمعنى الوثوق لزم خروج المورد من منطوق الآية، ضرورة عدم جواز الاعتماد على خبر الفاسق المـوثوق به في الارتداد، وخروج المورد أمر مسـتهجن كما تقدّم.

 وفيه أوّلاً: ما تقدّم من أ نّه لو كان المراد من التبين هو العلم لا يلزم كون

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في آخر الصفحة.

(2) فرائد الاُصول 1: 172.

(3) لاحظ نهاية الأفكار 3: 117.

(4) في الوجه الثاني من الإشكال.

ــ[200]ــ

الأمر في الآية إرشادياً، إذ الواجب عقلاً هو العمل بالعلم، والمستفاد من الآية هو تحصيل العلم لا العمل به.

 وثانياً: أنّ التبين المذكور في الآية ليس بمعنى العلم ليلزم كون الأمر إرشادياً، ولا بمعنى الوثوق ليلزم خروج المورد عن المنطوق، بل المراد منه المعنى اللغوي وهو الظهور، كما يقال إنّ الشيء تبين إذا ظهر، فالأمر بالتبين أمر بتحصيل الظهور وكشف الحقيقة في النبأ الذي جاء به الفاسق، وهو كناية عن عدم حجّية خبر الفاسق في نفسه، فيجب عند إرادة العمل بخبره تحصيل الظهور وكشف الواقع من الخارج. ومن الظاهر أنّ ظهور الشيء بطبعه إنّما هو بالعلم الوجداني، وأمّا غيره فيحتاج إلى دليل يدل على تنزيله منزلة العلم، ومفهوم الآية عدم وجوب التبين في خبر العادل، فيدل بالملازمة العرفية على حجّيته، فيكون ظاهراً بنفسه بلا احتياج إلى تحصيل الظهور من الخارج، فلو كنّا نحن والآية الشريفة لم نعمل بخبر الفاسق في شيء من الموارد بمقتضى المنطوق، وعملنا بخبر العادل في جميع الموارد بمقتضى المفهوم. إلاّ أ نّه في كل مورد ثبتت حجّية خبر الثقة فيه كما في الأحكام الشرعية، إذ قد ثبتت حجّيته فيها بالسيرة القطعية الممضاة عند الشارع، على ما سيجيء الكلام فيها قريباً (1) إن شاء الله تعالى، بل في الموضوعات أيضاً إلاّ فيما اعتبرت فيه البيّنة الشرعية، كما في موارد الترافع مثلاً.

 فيستكشف من دليل حجّية خبر الثقة أنّ الشارع قد اعتبره ظهوراً، فلا يلزم منه رفع اليد عن المنطوق، لأنّ مفاد المنطوق تحصيل الظهور عند العمل بخبر الفاسق، وبعد كون خبر الثقة حجّة في مورد بحكم الشارع يحصل الظهور به في ذلك المورد، وفي كل مورد ثبت من الشرع اعتبار البيّنة الشرعية وعدم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 229.

 
 

ــ[201]ــ

جواز الاعتماد على خبر العدل الواحد فيه، فضلاً عن خبر الثقة غير العادل، كما في موارد الترافع، وفي الاخبار عن مثل الارتداد يستكشف منه أنّ الشارع لم يعتبر خبر العدل الواحد فيه ظهوراً، فيلزم تقييد المفهوم الدال على حجّية خبر العادل على الاطلاق بما إذا كان متعدداً، كما ذكره الشيخ (قدس سره).

 فتحصّل: أنّ عدم صحّة الاعتماد على خبر الفاسق الموثوق به في مورد الآية ـ وهو الاخبار عن الارتداد ـ إنّما هو لدليل دلّ على اعتبار البيّنة الشرعية في مثله، فيستكشف منه أنّ الشارع لم يعتبره ظهوراً، فليس فيه خروج عن المنطوق، بل مطابق للمنطوق، وكذا عدم صحّة الاعتماد في المورد على خبر العدل الواحد إنّما هو لما دلّ على اعتبار البيّنة الشرعية، فيكون تقييداً للمفهوم بالدليل الخارج لا رفع اليد عن المفهوم، فلا يكون هناك خروج المورد عن المنطوق ولا عن المفهوم.

 ثمّ إنّه قد استشكل على حجّية خبر الواحد باشكالين لا اختصاص لهما بالاستدلال بآية النبأ، بل يجريان على تقدير الاستدلال بغيرها أيضاً من الأدلة التي اُقيمت على حجّية خبر الواحد، ونذكرهما هنا استغناءً عن ذكرهما عند التعرض لباقي الأدلة:

 الاشكال الأوّل: أ نّه لو كان خبر الواحد حجّة لزم منه عدم حجّيته، إذ من جملة الخبر نقل السيّد المرتضى (قدس سره) الاجماع على عدم حجّية الخبر(1)، ويكون حجّة على الفرض ولزم من حجّيته عدم حجّية الخبر. وهذا الاشكال مردود بوجوه:

 الأوّل: أنّ خبر السيّد حدسي، وقد تقدّم في بحث الاجماع المنقول أ نّه لا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رسائل الشريف المرتضى 1: 24، 3: 309.

ــ[202]ــ

ملازمة بين حجّية الخبر الحسّي والخبر الحدسي (1).

 الثاني: أنّ نقله مـعارض بنقل الشـيخ (قدس سره) الاجماع على حجّية الخبر (2)، فيسقطان، لأنّ أدلة الحجّية غير شاملة للمتعارضين، لعدم إمكان التعبد بالمتناقضين.

 الثالث: أ نّه يستحيل شمول أدلة الحجّية لخبر السيّد (قدس سره) إذ يلزم من وجوده عدمه، لأ نّه لو كان خبر السيّد حجّة لزم منه عدم حجّية كل خبر غير علمي، وبما أنّ خبر السيّد (قدس سره) بنفسه غير علمي، لزم كونه غير حجّة، فيلزم من حجّية خبر السيّد عدم حجّيته، وما لزم من وجوده عدمه محال، بداهة استحالة اجتماع النقيضين.

 الرابع: أ نّه مع الاغماض عن جميع ما تقدّم، دليل الحجّية غير شامل لخبر السيّد (قدس سره) قطعاً، لدوران الأمر بين دخوله في أدلة الحجّية وخروج ما عداه، وبين العكس، والثاني هو المتعيّن، لأنّ الأوّل يستلزم أبشع أنواع تخصيص الأكثر المستهجن، وهو التخصيص إلى الواحد، ومن الواضح أ نّه لا يحتمل أن يكون المراد من مفهوم آية النبأ وآية السؤال وآية النفر وغيرها من أدلة حجّية الخبر خصوص خبر السيّد (قدس سره) كيف وهو مستلزم لبشاعة اُخرى غير تخصيص الأكثر المستهجن، وهي بيان أحد النقيضين بذكر النقيض الآخر، أي بيان عدم حجّية الخبر بعنوان حجّية الخبر، وفيه من القبح ما لا يخفى.

 ودعوى أنّ الأمر دائر بين شمول أدلة الحجّية لخبر السيّد (قدس سره) والأخبار المتحققة قبله، وبين شمولها لجميع الأخبار ما عدا خبر السيّد (قدس سره) باعتبار أنّ أدلة الحجّية تشمل خبر السيّد (قدس سره) من حين تحققه،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّم في ص 156 و 157.

(2) عدّة الاُصول 1: 337.

ــ[203]ــ

وشمولها له من ذلك الحين إنّما يمنع من شمولها للأخبار المتحققة بعده لا الأخبار المتحققة قبله، فانّها كانت مشمولة لأدلة الحجّية في زمان لم يتحقق خبر السيّد (قدس سره) فيه، فهو غير مانع عن شمولها لها، فلا يلزم من دخول خبر السيّد (قدس سره) في أدلة الحجّية تخصيص الأكثر المستهجن.

 مدفوعة أوّلاً: بأنّ المحكي بخبر السيّد (قدس سره) عدم حجّية طبيعي خبر الواحد في الشريعة المقدّسة، لا خصوص الأخبار المتأخرة، فنفس خبر السيّد (قدس سره) وإن كان متأخراً عن الأخبار المتحققة قبله، إلاّ أنّ الذي يخبر به السيّد (قدس سره) هو عدم حجّية الخبر في الشريعة مطلقاً، لا خصوص الأخبار المتأخرة، فلو كان خبر السيّد (قدس سره) مشمولاً لأدلة الحجّية لزم منه عدم حجّية غيره من الأخبار مطلقاً، متقدمة كانت أو متأخرة، وهذا هو التخصيص المستهجن. ولا يحتمل أن يكون مفاد خبر السيّد (قدس سره) عدم حجيّة الخبر من حين صدوره لا الأخبار الصادرة قبله، وإلاّ كان نسخاً، فلا يكون حجّة بلا خلاف وإشكال، إذ من المعلوم عدم ثبوت النسخ بخبر الواحد.

 وثانياً: بأ نّا نقطع بعدم الفرق بين الأخبار المتقدمة والمتأخرة، وأنّ ملاك الحجّية في الأخبار المتقدمة على خبر السيّد (قدس سره) بعـينه موجود في الأخبار المتأخرة عنه، فالتفصيل بين الأخبار المتقدمة والمتأخرة فاسد قطعاً، فإذن يدور الأمر بين أن يكون خبر السيّد (قدس سره) مشمولاً لأدلة الحجّية دون غيره، وأن يكون غيره حجّة دونه، ولا خفاء في أنّ الأوّل من التخصيص المستهجن، فتعيّن الثاني.

 ثمّ إنّه قد استشكل بعض الأعاظم (1) على شمول أدلة الحجّية لخبر السيّد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) نهاية الأفكار 3: 118.

ــ[204]ــ

(قدس سره) بوجهين:

 الوجه الأوّل: أنّ الموضوع في أدلة الحجّية هو الخبر الذي شكّ في كونه مطابقاً للواقع أو غير مطابق له، إذ لا معنى لحجّية الخبر مع العلم بكونه مطابقاً للواقع أو مع العلم بكونه غير مطابق له، وعليه فكل خبر كان مفاده حجّية الخبر كخبر الشيخ (قدس سره) أو عدم حجّية الخبر كخبر السيّد (قدس سره) لا يكون مشمولاً لأدلة الحجّية، إذ لازم كونه مشمولاً لها أن يكون مشكوك المطابقة للواقع، وحيث إنّ مفاده نفس حجّية الخبر أو عدم حجّيته، لزم فرض الشك في الحجّية في رتبة سابقة على شمول أدلة الحجّية، ومن الواضح أنّ الشك في شيء في رتبة متأخرة عن ذلك الشيء، ولذا نقول إنّ الحكم الظاهري متأخر عن الحكم الواقعي بمرتبتين، إذ الموضوع للحكم الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي، فالحكم الظاهري متأخر عن الشك في الحكم الواقعي تأخر الحكم عن موضوعه، والشك في الحكم الواقعي متأخر عن الحكم الواقعي تأخر العارض عن معروضه، إذ لو لم يكن في الواقع شيء لم يمكن الشك في تعيينه، فيلزم تأخر الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي بمرتبتين.

 وكذا في المقام كان الشك في الحجّية متأخراً عن الحجية تأخر العارض عن المعروض، وحيث إنّ الشك في الحجّية سابق رتبةً على شمول أدلة الحجّية، لما تقدّم من أنّ الموضوع في أدلة الحجّية هو الخبر المشكوك في كونه مطابقاً للواقع، فيلزم أن تكون الحجّية في رتبة سابقة على شمول أدلة الحجّية، والمفروض أنّ الحجّية مستفادة منها، فيلزم كون الحجّية متقدمة ومتأخرة، وهو محال.

 وبعبارة اُخرى: شمول إطلاق أدلة الحجّية لاخبار السيّد (قدس سره) بعدم حجّية الخبر أو لاخبار الشيخ (قدس سره) بحجّيته يستلزم شمول الاطلاق لمرتبة الشك في مضمون نفسها، إذ التعبد بالحجّية لاخبار الشيخ بها أو بعدم الحجّية لاخبار السيّد به إنّما هو في ظرف الشك في الحجّية الذي هو عين الشك

ــ[205]ــ

في مضمون أدلة الحجّية، ومن المعلوم استحالة شمول إطلاق دليل لمرتبة الشك في مضمون نفس هذا الدليل. وإن شئت قلت: إنّه يلزم التعبّد بالحجّية مع التحفّظ بالشك فيها أو يلزم التعبد بشمول إطلاق أدلة الحجّية مع التحـفظ بالشك في مضمونها، وهو واضح البطلان. هذا ملخّص ما ذكره من الاشكال الأوّل بتوضيح منّا.

 وفيه أوّلاً: النقض بما إذا أخبر كاذب بعدم حرمة الكذب في الشريعة، فإنّه لا إشكال في شمول أدلة حرمة الكذب لهذا الخبر، مع أنّ المحذور المذكور ـ على تقدير تماميته ـ يجري فيه أيضاً، فيقال إنّ شمول إطلاق أدلة حرمة الكذب لهذا الخـبر الذي مفاده عدم حرمة الكذب في الشريعة متوقف على كون الخبر المذكور كاذباً في رتبة سابقة على أدلة حرمة الكذب، وكذبه عبارة عن حرمة الكذب في الشريعة، إذ مفاده عدم حرمة الكذب، والمفروض أنّ حرمة الكذب مستفادة من نفس هذه الأدلة.

 وثانياً: الحل بأنّ الاطلاق عبارة عن رفض القيود وإلغائها، لا الأخذ بجميع القيود، فانّ مفاد إطلاق قولنا: الخمر حرام، أنّ الخمر بلا لحاظ كونه أحمر أو أسود وغيرهما من الخصوصيات حرام، لا أنّ الخمر بقيد كونه أحمر وبقيد كونه أسود حرام، وهكذا بالنسبة إلى سائر ما يتصور له من الخصوصيات، فلا يلزم في شمول إطلاق أدلة الحجّية لخبر السيّد (قدس سره) أو لخبر الشيخ (قدس سره) لحاظ ما فيهما من الخصوصية، كي يلزم المحذور المذكور، فلا مانع من شمولها لهما من هذه الجهة.

 الوجه الثـاني من الاشكال: أنّ المقام من صغريات دوران الأمر بين التخصيص والتخصص، إذ على تقدير شمول أدلة الحجّية لما سوى خبر السيّد (قدس سره) من الأخبار يكون خبر السيّد خارجاً موضوعاً، لأ نّا نقطع حينئذ

ــ[206]ــ

بعدم مطابقة خبر السيّد (قدس سره) للواقع، باعتبار أنّ شـمولها لغير خبر السيّد (قدس سره) من الأخبار ملازم لعدم كون خبر السيّد (قدس سره) مطابقاً للواقع، فيكون خارجاً عن أدلة الحجّية من باب التخصص، لما ذكرناه من أنّ الموضوع في أدلة الحجّية هو الخبر المشـكوك مطابقته للواقع. وهذا بخلاف شمول إطلاق أدلة الحجّية لخبر السـيّد (قدس سره) فانّه لا يوجب القطع بعدم مطابقة غيره من الأخـبار للواقع، إذ ليس مفادها حجّية الخبر كي يلزم من شمول أدلة الحجّية لخبر السيّد (قدس سره) القطع بعدم مطابقتها للواقع، بل مفادها اُمور مختلفة من وجوب شيء وحرمة شيء آخر، وجزئية شيء للصلاة مثلاً وشرطية شيء آخر لها. وهكذا، ولا ريب في وجود الشك في هذه الاُمور ولو مع القطع بحجّية خبر السـيّد (قدس سره)، فخروجها عن أدلة الحجّية يكون من باب التخصيص لا محالة، وإذا دار الأمر بين التخصيص والتخصص تعيّن الالتزام بالثاني.

 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net