دوران الأمر بين التخصيص والتخصص - الاشكال في حجية الخبر مع الواسطة 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5919

 وهذا الوجه أيضاً غير تام، لأنّ تقديم التخصص على التخصيص ـ عند دوران الأمر بينهما ـ إنّما هو في خصوص باب المعارضة بين الدليلين، سواء كان التنافي بين مدلوليهما بالذات، كما إذا دلّ أحدهما على وجوب شيء والآخر على عدم وجوبه، أو بالعرض كما إذا دلّ دليل على وجوب صلاة الجمعة والآخر على وجوب صلاة الظهر، فإنّه وإن لم يكن بينهما تناف بالذات، لامكان وجوب صلاة الجمعة والظهر معاً، إلاّ أ نّا نعلم إجمالاً من الخارج بعدم وجوب صلاتين، فلأجل هذا العلم الاجمالي يحصل التنافي والتكاذب بينهما بالعرض.

 وبالجملة: إذا وقع التعارض بين دليلين أو أصلين، وكان الأخذ بأحدهما موجباً لخروج الآخر عن دليل الحجّية من باب التخـصص، والأخذ بالآخر مستلزماً لخروج الأوّل عنه بالتخصيص، كان المتعيّن هو الأخذ بالأوّل، والالتزام

ــ[207]ــ

بالتخصص، عملاً بأصالة العموم أو الاطلاق، كما في التعارض بين الأصل السببي والأصل المسببي، فانّ جريان الأصل السببي يرفع الشك عن المسبب فيكون خارجاً عن أدلة الاُصول من باب التخصص، بخلاف جريان الأصل المسببي فانّه لايرفع الشك عن السبب، فيكون مورده خارجاً عن أدلة الاُصول من باب التخصيص لا محالة، فإذا شككنا في طهارة الثوب المتنجس المغسول بماء مستصحب الطهارة، كان جريان استصحاب الطهارة في الماء موجباً لرفع الشك عن نجاسة الثوب بالتعبد الشرعي، فيخرج عن أدلة الاستصحاب كقوله (عليه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك»(1) من باب التخصص، بخلاف جريان استصحاب النجاسة في الثوب، فانّه لا يرفع الشك عن طهارة الماء، فيكون خروجه عن أدلة الاستصحاب من باب التخصيص. وكذا الحال في سائر موارد دوران الأمر بين التخصيص والتخصص عند تعارض الأدلة الاجتهادية أو الاُصول العملية.

 وهذا بخلاف المقام، فانّه لا تنافي بين خبر السيّد (قدس سره) وغيره من الأخبار بما لهما من المدلول، لا بالذات كما هو ظاهر، لعدم التنافي بين عدم حجّية غير خبر السيّد من الأخبار وبين وجوب شيء وحرمة شيء آخر وغيرهما ممّا هو مفاد الأخبار، ولا بالعرض لعدم علم إجمالي لنا بعدم مطابقة أحدهما للواقع، إذ يمكن أن لا تكون الاخبار حجّة ومع ذلك كان مفادها من الوجوب والحرمة وغيرهما ثابتاً في الشريعة المقدّسة، فلا تنافي بين خبر السيّد (قدس سره) وغيره من الأخبار من حيث المدلول، لا بالذات ولا بالعرض، إنّما التنافي بينهما من حيث شمول دليل الحجّية لهما، لأنّ مفاد خبر السيّد عدم حجّية غيره من الأخبار، فلا يمكن الالتزام بحجّيته وحجّية غيره، وفي مثله لا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1: 245 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1.

ــ[208]ــ

وجه لتقديم التخصص على التخصيص، بل المتعيّن هو العكس، والوجه في ذلك أنّ مرجع تقديم التخصص على التخصيص إلى التمسك بأصالة العموم أو الاطلاق، كما مرّت الاشارة إليه. وفي المقام لا يمكن التمسك بأصالة العموم، لأنّ خبر السيّد الدال على عدم حجّية الاخبار يكون قرينةً عرفية على التخصيص.

 وبعبارة اُخرى: كان خبر السيّد شارحاً للمراد من العموم، فيكون حاكماً على أصالة العموم أو الاطلاق حكومة القرينة على ذيها، فلا يبقى شك في التخصيص كي يتمسك بأصالة الاطلاق. ونظير المقام ما إذا وردت رواية دالّة على وجوب شيء مثلاً، ووردت رواية اُخرى دالة على عدم حجّية الرواية الاُولى، فانّه لا ينبغي الاشكال في الأخذ بالرواية الثانية الدالة على عدم حجّية الرواية الاُولى، وإن لزم منه التخصيص في أدلة حجّية الخبر، ولا يؤخذ بالرواية الاُولى وإن كان الالتزام بدخولها تحت أدلة الحجّية يوجب القطع بعدم مطابقة الرواية الثانية للواقع، فتخرج عن أدلة الحجّية بالتخصص، وذلك لأنّ الرواية الثانية الدالة على عدم حجّية الرواية الاُولى شارحة لأدلة الحجّية، وقرينة عرفية على المراد منها، فهي حاكمة على أصالة العموم أو الاطلاق في أدلة الحجّية. والمقام من هذا القبيل بعينه فلاحظ وتأمل.

 الاشكال الثاني على حجّية خبر الواحد الذي لا اختصاص له بالاستدلال بآية النبأ، بل يجري على الاستدلال بجميع الأدلة التي اُقيمت على حجّية الخبر: هو ما ذكره شيخنا الأنصاري (قدس سره) (1) وهو مختص بالأخبار الحاكية لقول الإمام (عليه السلام) بالواسطة، ويقرّر بوجهين:

 الوجه الأوّل: أنّ فعلية كل حكم متوقفة على فعلية موضوعه، فلا بدّ من إحراز الموضوع ليحرز فعلية الحكم، وفي المقام الخبر المحرز لنا بالوجدان هو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 1: 170 ـ 172.

ــ[209]ــ

خبر الكليني (قدس سره) أو الشيخ (قدس سره) أو غيرهما ممّن هو في آخر سلسلة الرواة فيحكم بحجّيته بمقتضى أدلة حجّية الخبر. وأمّا خبر من يروي عنه الكليني (قدس سره) وخبر من تقدّمه من الرواة إلى أن ينتهي إلى المعصوم (عليه السلام)، فهو غير محرز لنا بالوجدان بل يحرز بالحكم بحجّية خبر الكليني (قدس سره) فهو متأخر عن الحكم بالحجّية، فكيف يحكم عليه بهذا الحكم، فانّه من تأخر الموضوع عن حكمه. وبعبارة اُخرى: إنّ موضوع كل حكم متقدم عليه رتبة، لاستحالة فعلية الحكم بلا فعلية موضوعه فيستحيل أن يكون حكم موجباً لاحراز موضوعه، فإذا فرض أنّ حكماً أوجب إحراز موضوع امتنع ثبوت ذلك الحكم له، ففي المقام يحرز خبر من تقدّم على الكليني (قدس سره) بحجّية خبر الكليني، فيمتنع أن يحكم عليه بالحـجّية، وإلاّ لزم تأخر الموضوع عن الحكم.

 ويمكن الجـواب عن هذا الاشكال أوّلاً: بالنقض بالاقرار بالاقرار، فانّه يحكم بنفوذ إقراره الفعلي بمقتضى قاعدة الاقرار، ويثبت به إقراره الأوّل ثمّ يحكم بمقتضاه، وبالبيّنة على البيّنة، فانّه يحكم بحجّيتها بمقتضى أدلة حجّية البيّنة، وبها تثبت البيّنة المشهود بها ثمّ يحكم بحجّيتها.

 وثانياً: بالحل، وهو أ نّه ليس هنا حكم شخصي لموضوعات متعددة كان إحراز بعضها مستنداً إلى ثبوت ذلك الحكم لبعض آخر منها حتّى يتوجه الاشكال المذكور، فانّ حجّية الخبر مجعولة بنحو القضيّة الحقيقية، كما هو الحال في سائر الأحكام الشرعية، وهي منحلة إلى أحكام متعددة حسب تعدد الموضوع، على ما هو الشأن في القضايا الحقيقية، فلا محذور في أن يكون ثبوت الحجّية لخبر الكليني (قدس سره) موجباً لاحراز خبر من يروي عنه الكليني (قدس سره) فيترتب عليه فرد آخر من الحجّية، لا عين الحجّية الثابتة لخبر

ــ[210]ــ

الكليني (قدس سره) التي بها اُحرز هذا الخبر، وهكذا الحال بالنسبة إلى آخر سلسلة الرواة، وكذا الحال في الاقرار بالاقرار والبيّنة على البيّنة، ولا حاجة إلى الاعادة.

 الوجه الثاني: أنّ التعبد بحجّية الخبر يتوقف على أن يكون المخبر به بنفسه حكماً شرعياً أو ذا أثر شرعي مع قطع النظر عن الحجّية، ليصحّ التعبد بها بلحاظه، فانّ التعبد بحجّية الخبر ـ فيما لم يكن المخبر به حكماً شرعياً ولا ذا أثر شرعي ـ لغو محض، وعليه فدليل الحجّية لا يشمل مثل إخبار الشيخ عن خبر المفيد، لأنّ المخبر به وهو خبر المفيد ليس حكماً شرعياً ولا ذا أثر شرعي، مع قطع النظر عن دليل الحجّية، وهذا الاشكال جار في إخبار جميع سلسلة الرواة إلاّ الأخير الذي ينقل عن المعصوم (عليه السلام)، فانّ المخبر به في خبره هو قول المعصوم (عليه السلام) فلا محالة يكون حكماً شرعياً من وجوب أو حرمة أو غيرهما، كما هو ظاهر.

 وهذا الاشكال ساقط من أساسه على المختار من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو الكاشفية والطريقية بتتميم الكشف، بمعنى أنّ الشارع يعتبر الكاشف الناقص كاشفاً تامّاً، والأمارة غير العلمية علماً، إذ عليه يكون التعبد ناظراً إلى نفس الطريقية والكاشفية، بلا حاجة إلى كون المؤدى حكماً شرعياً أو ذا أثر شرعي.

 نعم، لو قلنا بأنّ المجعول في باب الطرق هو تنزيل المؤدى منزلة الواقع، يتوجّه الاشكال بأنّ التنزيل المذكور متوقف على أن يكون المؤدى حكماً شرعياً أو ذا أثر شرعي، وإلاّ فلا معنى لتنزيله منزلة الواقع. وسيجيء الجواب عن الاشكال على هذا المسلك قريباً.

 وأمّا على المسلك المختار من أنّ المجعول هو الطريقية والكاشفية، فلا حاجة

ــ[211]ــ

إلى اعتبار كون المؤدى حكماً شرعياً أو ذا أثر شرعي، إذ التعبد ناظر إلى نفس الطريقية والكاشفية لا إلى المؤدى، غاية الأمر أ نّه يلزم أن لا يكون التعبد المذكور لغواً كي يستحيل صدوره من الحكيم. والتعبد بحجّية اخبار الوسائط لا يكون لغواً، لوقوع الجميع في سلسلة إثبات قول المعصوم (عليه السلام) وهذا المقدار كاف في صحّة التعبد بحجّية اخبار الوسائط، فلا ملزم لاعتبار كون المخبر به في كل خبر حكماً شرعياً أو ذا أثر شرعي. وأمّا على المسلك المعروف من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو تنزيل المؤدى منزلة الواقع، فيمكن الجواب عن الاشكال المذكور بوجوه:

 الأوّل: أنّ القضية طبيعية قد حكم فيها بلحاظ طبيعة الأثر، وليس المراد هو الطبيعي المعقولي بمعنى الطبيعة بشرط لا، كقولنا الانسان نوع حتّى لا يسري الحكم من الطبيعة إلى الأفراد، بل المراد هو الطبيعي الاُصولي بمعنى الطبيعة بشرط الوجود السعي، فيسري الحكم إلى الأفراد، فلا مانع من شمول دليل الحجّـية لخبر الشيخ عن المفيد (قدس سره)، مع كون الأثر الشرعي للمخبر به وهو خبر المفيد هو نفس الحجّية ووجوب التصديق، وهكذا إلى آخر الوسائط.

 الثاني: دعوى القطع بتحقق ما هو المناط في سائر الآثار في هذا الأثر، أي وجوب التصديق بعد تحققه بهذا الخطاب، وإن لم يشمله لفظاً لأجل المحذور المذكور.

 الثالث: عدم القول بالفصل بين هذا الأثر وسائر الآثار في وجوب الترتيب لدى الاخبار بموضوع صار أثره الشرعي وجوب التصديق بنفس الحكم في الآية الشريفة، وإن شئت فعبّر بعدم القول بالفصل في الحجيّة بين الخـبر بلا واسطة والخبر مع الواسطة.

ــ[212]ــ

الرابع: ـ وهو أحسن الوجوه ـ أ نّه لم يدل دليل من آية أو رواية على لزوم كون مؤدى الأمارة حكماً شرعياً أو ذا أثر شرعي، وإنّما نعتبر ذلك من جهة حكم العقل بأنّ التعبد بأمر لا يكون له أثر شرعي لغو لا يصدر من الحكيم، ويكفي في دفع محذور اللّغوية وقوع الخبر في سلسلة إثبات الحكم الشرعي الصادر من الإمام (عليه السلام). وبعبارة اُخرى: يكفي في حجّية اخبار الرواة ترتب الأثر الشرعي على مجموعها من حيث المجموع، ولا ملزم لاعتبار ترتب أثر شرعي على كل خبر مع قطع النظر عن خبر آخر، ولا خفاء في ترتب الأثر على اخبار مجموع الرواة الواقعة في سلسلة نقل قول المعصوم (عليه السلام) (1).

 نعم، لو كان في جملة الرواة الواقعة في سلسلة نقل قوم المعصوم فاسق غير موثوق به أو رجل مجهول الحال، لا يشمل دليل الحجّية لاخبار بقية الرواة الواقعة في تلك السلسلة ولو كانوا عدولاً أو ثقات، لعدم ترتب أثر شرعي على المجمـوع من حيث المجموع أيضاً، إذ خبر الفاسق خارج عن أدلة الحجّية موضوعاً، وبخروجه ينقطع اتصال الاخبار إلى المعصوم (عليه السلام) فلا يقع الباقي من الرواة في سلسلة إثبات قول المعصوم (عليه السلام) فلا يكون مشمولاً لأدلة الحجّية، لعدم ترتب أثر شرعي عليه، فيكون التعبد بحجّيته لغواً.
ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) نعم، هو أحسن الوجوه والمتعيّن في المقام، إذ الوجوه السابقة راجعة إلى التقرير الأوّل من الاشكال وهو الذي يرجع إليه ما ذكره سيّدنا الاُستاذ (دام ظلّه) على مختاره من أنّ المجـعول في باب الأمارات هو الكاشفية والطريقية بتتميم الكشف، بلا فرق بين القول بأنّ المجعول هو الكاشفية والطريقية، والقول بأ نّه تنزيل المؤدى منزلة الواقع فتأمّل.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net