الاستدلال على حجّية الخبر بالاجماع 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6089


 وممّا استدلّ به على حجّية الخبر: الاجماع وتقريره من وجوه:

 الوجه الأوّل: الاجماع المنقول من الشيخ الطوسي (قدس سره) على حجّية خبر الواحد (1).

 الوجه الثاني: الاجماع القولي من جميع العلماء ـ عدا السيّد المرتضى وأتباعه (2) ـ عليها، وخلافهم غير قادح في حجّية الاجماع.

 الوجه الثالث: الاجماع القولي من جميع العلماء حتّى السيّد وأتباعه، بدعوى أ نّهم اختاروا عدم الحجّية لاعتقادهم انفتاح باب العلم بالأحكام الشرعية، ولو كانوا في زماننا المنسدّ فيه باب العلم لعملوا بخبر الواحد جزماً.

 الوجه الرابع: الاجماع العملي من جميع العلماء على العمل بالأخبار التي بأيدينا، ولم يخالف فيه أحد منهم.

 الوجه الخامس: الاجماع العـملي من جميع المتشرعة من زمن الصحابة إلى زماننا هذا على ذلك، فيكون كاشفاً عن رضا المعصوم (عليه السلام).

 والانصاف أنّ شيئاً من هذه الوجوه لا ينهض دليلاً على حجّية الخبر.

 أمّا الوجه الأوّل: فالأمر فيه واضح، لأنّ حجّية الاجماع المنقول عند القائل بها إنّما هي لكونه من أفراد الخبر، فكيف يصحّ الاستدلال به على حجّية الخبر. مضافاً إلى ما تقدّم في بحث الاجماع المنقول (3) من عدم الملازمة بين حجّية

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) عدّة الاُصول 1: 337.

(2) راجع الذريعة إلى اُصول الشيعة 2: 528، السرائر 1: 51.

(3) في ص 156 ـ 158.

ــ[228]ــ

الخبر وحجّية الاجماع المنقول، وإمكان التفكيك بينهما، والأمر كذلك لاختصاص أدلة الحجّية بالخبر الحسّي على ما تقدّم بيانه.

 وأمّا الوجه الثاني: ففيه أ نّه ليس في المقام إجماع تعبدي ليكون كاشفاً عن رضا المعصوم (عليه السلام) للعلم بأنّ مستند المجمعين هو الآيات والروايات المتقدمة ولا أقل من احتمال ذلك.

 وأمّا الوجه الثالث: فيرد عليه ـ مضافاً إلى ما ذكرناه في الوجه الثاني ـ أ نّه إجماع تقديري لا نجزم به، إذ من المحتمل أنّ السيّد وأتباعه ـ على تقدير الالتزام بالانسداد ـ لا يلتزمون بكون الخبر حجّة بالخصوص، بل يرونه من أفراد الظن المطلق كالمحقق القمي(1) (قدس سره).

 وأمّا الوجه الرابع: ففيه أنّ عمل المجـمعين ليس مستنداً إلى حجّية خبر الواحد، لأنّ عمل جملة منهم وإن كان مبنياً عليها، إلاّ أنّ عمل جملة اُخرى منهم مبني على كون ما بأيدينا من الأخبار مقطوع الصدور، وعمل بعض آخر منهم مبني على كون ما في الكتب الأربعة مقطوع الصدور. وقد ادّعى بعضهم كون الأخبار الموجودة في الكافي مقطوعة الصدور، فلا يكون هناك إجماع عملي على حجّية خبر الواحد ليكون كاشفاً عن رضا المعصوم (عليه السلام).

 وأمّا الوجه الخامس: ففيه أنّ عمل المتشرعة من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) والتابعين بخبر الثقة وإن كان غير قابل للانكار، إذ من المقطوع به أنّ جميع المكلفين في عصر النبي والأئمة (عليه وعليهم السلام) لم يأخذوا الأحكام من نفس النبي (صلّى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام) بلا واسطة شخص آخر، ولا سيّما النساء، بل لم يتمكنوا من ذلك في جميع أوقات الاحتياج، ولا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قوانين الاُصول 1: 440.

ــ[229]ــ

سيّما أهل البوادي والقرى والبلدان البعيدة، فانّ كل واحد من المكلفين لايتمكن من الوصول إلى المعصوم (عليه السلام) في كل وقت من أوقات الحاجة إلى السؤال، بل كانوا يرجعون إلى الثقات يأخذون الأحكام منهم، وهذا كلّه ظاهر.

 إلاّ أ نّه لا يكشف عن كون الخبر حجّة تعبدية، لأنّ عمل المتشرعة بخبر الثقة لم يكن بما هم متشرعة، بل بما هم عقلاء، فان سيرة العقلاء قد استقرّت على العمل بخبر الثقة في جميع اُمورهم، ولم يردع عنها الشارع، فانّه لو ردع عن العمل بخبر الثقة لوصل إلينا، كما وصل منعه عن العمل بالقياس، مع أنّ العامل بالقياس أقل من العامل بخبر الثقة بكثير، وقد بلغت الروايات المانعة عن العمل بالقياس إلى خمسمائة رواية تقريباً (1)، ولم تصل في المنع عن العمل بخبر الثقة رواية واحدة، فيستكشف من ذلك كشفاً قطعياً أنّ الشارع قد أمضى سيرة العقلاء في العمل بخبر الثقة.

 فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ العمدة في دليل حجّية الخبر هي سيرة العقلاء الممضاة عند الشارع، ولا يرد عليها شيء من الاشكال إلاّ توهم أنّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم رادعة عن هذه السيرة، وقد أفاد في الكفاية(2) متناً وهامشاً في دفع هذا التوهم وجوهاً:

 الوجه الأوّل: ما ذكره في المتن، وهو أن كون الآيات رادعة عن السيرة متوقف على عدم كون السـيرة مخصصة لها، وإلاّ فلا تشـملها، وعدم كونها مخصصة لها متوقف على كونها رادعة عنها، فكون الآيات رادعة عن السيرة مستلزم للدور. ثمّ أورد على نفسه بأنّ إثبات حجّية الخبر بالسيرة أيضاً دوري،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منها ما روي في الوسائل 27: 35 / أبواب صفات القاضي ب 6 والمستدرك 17: 252 / أبواب صفات القاضي ب 6 وبحار الأنوار 2: 283 / كتاب العلم ب 34.

(2) كفاية الاُصول: 303 و 304.

ــ[230]ــ

لأ نّه متوقف على عدم كون الآيات رادعة عنها، وهو متوقف على كون السيرة مخصصة لها، وهو متوقف على عدم كون الآيات رادعة عنها. وأجاب عنه: بأنّ كون السيرة مخصصة للآيات غير متوقف على عدم الردع واقعاً بل على عدم ثبوت الردع، فلا دور في تخصيص الآيات بالسيرة، بخلاف العكس فانّ كون الآيات رادعة متوقف على عدم كون السيرة مخصصة لها واقعاً.

 الوجه الثاني: ما ذكره في الهامش، وحاصله: أ نّه على تقدير الالتزام بعدم صلاحية كل من الآيات والسيرة لرفع اليد به عن الآخر للزوم الدور، تصل النوبة إلى الأصل العملي، والمرجع هو استصحاب الحجّية الثابتة قبل نزول الآيات.

 الوجه الثالث: ما ذكره في الهامش أيضاً، وهو أنّ نسبة السيرة إلى الآيات هي نسبة الخاص المتقدم إلى العام المتأخر في أنّ الأمر دائر بين أن يكون الخاص مخصصاً للعام، وأن يكون العام ناسخاً للخاص، وقد ذكرنا في مبحث العموم والخصوص أنّ المتعين هو الأوّل، لأنّ الخاص المتقدم قرينة على المراد من العام، وتأخير البيان عن وقت الحاجة بلا مصلحة ملزمة وإن كان قبيحاً، إلاّ أنّ تقديمه على وقت الحاجة ممّا لا قبح فيه أصلاً. والمقام من صغريات هذه الكبرى، فلا بدّ من الالتزام بكون السيرة مخصصة للعمومات. هذا ملخص ما ذكره متناً وهامشاً.

 والتحقيق: عدم تمامية شيء من الوجوه الثلاثة:

 أمّا الوجه الأوّل ففيه:

 أوّلاً: أ نّه لو كان عدم ثبوت الردع كافياً في صحّة تخصيص الآيات بالسيرة لكان عدم ثبوت التخصيص كافياً في الردع أيضاً، ولا يظهر وجه لمنع التوقف في أحدهما دون الآخر.

ــ[231]ــ

 وثانياً: أنّ التحقيق عكس ما ذكره (قدس سره) لأنّ تخصيص العمومات بالسيرة متوقف على حجّيتها المتوقفة على الامضاء، فلا يكفي في التخصيص عدم ثبوت الردع على ما أفاده (قدس سره) بل لا بدّ من ثبوت عدم الردع فيكون التخصيص دورياً، بخلاف الردع، فانّه غير متوقف على ثبوت عدم التخصيص، بل يكفيه عدم ثبوت التخصيص، إذ العمومات حجّة ببناء العقلاء ما لم يثبت خلافها، وعليه فالمتعين هو الالتزام بكون الآيات رادعة عن السيرة، لا أنّ السيرة مخصصة للآيات.

 وأمّا الوجه الثاني: ففيه أوّلاً: عدم حجّية الاستصحاب في الأحكام الكلّية على ما ذكر في محلّه (1) وثانياً: أنّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم رادعة عن الاستصحاب أيضاً، فكل ما يقال في السيرة مع الآيات يجري في الاستصحاب معها أيضاً، فلا وجه للتمسك بالاستصحاب بعد الالتزام بعدم صحّة كون السيرة مخصصة للآيات. وثالثاً: أنّ الدليل على حجّية الاستصحاب هي أخبار الآحاد وعمدتها صحاح زرارة(2)، فكيف يمكن التمسك على حجّية الأخبار بالاستصحاب المتوقف عليها. ورابعاً: أنّ التمسك بالاستصحاب إنّما يصح مع الغض عمّا تقدّم فيما إذا تمكّن الشارع من الردع قبل نزول الآيات ولو بيوم واحد، فانّه حينئذ يستكشف من عدم الردع إمضاؤه لها، وتثبت حجّية السيرة قبل نزول الآيات، فصحّ الرجوع إلى استصحاب الحجّية الثابتة قبل نزول الآيات بعد فرض تساقط كل من السيرة والعمومات. وأمّا إذا لم يتمكن من ذلك كما هو الصحيح، فانّه (صلّى الله عليه وآله) لم يكن متمكناً من الردع عن المحرّمات كشرب الخمر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ص 42.

(2) الوسائل 1: 245 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1، الوسائل 3: 466 / أبواب النجاسات ب 37 ح 1، الوسائل 8: 216 و 217 / أبواب الخلل ب 10 ح 3.

ــ[232]ــ

مثلاً، ولا من الأمر بالواجبات كالصلاة والصوم في صدر الاسلام، ولذا كان (صلّى الله عليه وآله) يقول: «قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا» (1) فلا مجال للتمسك بالاستصحاب، إذ لم تحرز حجّية السيرة قبل نزول الآيات كي يتمسك في بقائها بعد نزولها بالاستصحاب. وبهذا ظهر الاشكال في:

 الوجه الثالث أيضاً، فانّ كون المقام من صغريات دوران الأمر بين التخصيص والنسخ متوقف على إحراز كون السيرة حجّة قبل نزول الآيات لتكون قابلة لتخصيص الآيات، فيدور الأمر بين النسخ والتخصيص، وإحراز كون السيرة حجّة قبل نزول الآيات متوقف على إحراز كون الشارع متمكناً من الردع قبل نزول الآيات، وأنّى لنا باثبات ذلك.

 والصحيح في مقام الجواب ودفع توهّم كون الآيات رادعة عن السيرة أن يقال:

 أوّلاً: أ نّا نقطع بعدم الردع في الشريعة المقدّسة عن هذه السيرة، لبقائها واستمرارها بين المتشرعة وأصحاب الأئمة (عليهم السلام) بعد نزول الآيات، فانّ عمل الصحابة والتابعين بخبر الثقة غير قابل للانكار، على ما تقدّم بيانه في تقريب الاستدلال بالسيرة (2)، ولو كانت الآيات رادعة عنها لانقطعت السيرة في زمان الأئمة (عليهم السلام) لا محالة.

 وثانياً: مع الغض عن ذلك، أنّ الظاهر من لسان الآيات كونها إرشاداً إلى ما يحكم به العقل من تحصيل المؤمّن من العقاب المحتمل، والانتهاء إلى ما يعلم به الأمن، ولذا لا تكون قابلة للتخصيص. وكيف يمكن الالتزام بالتخصيص في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار 18: 202.

(2) تقدّم في ص 229.

ــ[233]ــ

مثل قوله تعالى: (إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(1) بأن يقال إلاّ الظن الفلاني فانّه يغني من الحق. وعليه فلا يكون مفادها حكماً مولوياً ليكون ردعاً عن السيرة.

 وإن شئت قلت: إنّ مفاد الآيات هو الارشاد إلى حكم العقل بدفع الضرر المحتمل إن كان اُخروياً، ويكون الخبر بعد قيام السيرة على حجّيته خارجاً عن الآيات بالورود، كسائر الأمارات المعتبرة، لعدم احتمال العقاب مع العمل بما هو حجّة، ولو على تقدير مخالفتها للواقع، فحال الخبر بعد قيام السيرة على العمل به مع الآيات بعد كونها إرشاداً إلى حكم العقل حال الأمارات مع الاُصول العملية العقلية، فكما أ نّها واردة عليها، كذلك الخبر وارد على الآيات.

 وثالثاً: أ نّا لو أغمضنا عن ذلك، وقلنا بأنّ مفاد الآيات حكم مولوي وهو حرمة العمل بغير العلم، نقول: إنّ السـيرة حاكمة على الآيات، لأنّ العمل بالحجج العقلائية القائمة على العمل بها سيرة العقلاء لا يكون عملاً بغير العلم في نظر العرف والعقلاء، ولذا لم يتوقف أحد من الصحابة والتابعين وغيرهم في العمل بالظواهر، مع أنّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم بمرأىً منهم ومسمع وهم من أهل اللسان، وليس ذلك إلاّ لأجل أ نّهم لا يرون العمل بالظواهر عملاً بغير العلم بمقتضى قيام سيرة العقلاء على العمل بها، وحال خبر الثقة هي حال الظواهر من حيث قيام السيرة على العمل به، فكما أنّ السيرة حاكمة على الآيات بالنسبة إلى الظواهر، كذلك حاكمة عليها بالنسبة إلى خبر الثقة.

 فتحصّل ممّا ذكرناه في المقام: أنّ العمدة في حجّية الخبر هي السيرة، ولا يرد على الاستدلال بها شيء من الاشكال.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يونس 10: 36.

ــ[234]ــ

 ولا يخفى أنّ مقتضى السيرة حجّية الصحيحة والحسنة والموثقة، فانّها قائمة على العمل بهذه الأقسام الثلاثة، فإذا بلغ أمر المولى إلى عبده بنقل عادل، أو بنقل إمامي ممدوح لم يظهر فسقه ولا عدالته، أو بنقل ثقة غير إمامي، لا يكون العبد معذوراً في مخالفة أمر المولى في نظر العقلاء. نعم، الخبر الضعيف خارج عن موضوع الحجّية، لأنّ العقـلاء لا يعملون به يقيناً، مع أنّ الشك في قيام السيرة على العمل به كاف في الحكم بعدم حجّيته.

 وأمّا توهّم أنّ إطلاق آية النفر يشمل الخبر الضعيف أيضاً، حيث إنّ مفادها وجوب الحذر عند الانذار بلا تقييد بكون المنذر عادلاً أو ثقة، فمدفوع بأنّ الآية الشريفة منزّلة على المتعارف بين العرف والعقلاء، وهم لا يعملون بخبر الفاسق الكاذب. هذا على تقدير كون الآية واردة في مقام جعل حجّية الخبر.

 وأمّا على تقدير كونها كاشفة عن حجّية الخبر قبل نزولها، وأنّ تفريع وجوب الحذر عند الانذار إنّما هو من باب التطبيق كما تقدّمت الاشارة إليه حين الاستدلال بالآية (1) فالأمر واضح، إذ ليس مفادها حينئذ جعل الحجّية ليتمسك باطلاقها، بل مفادها كون حجّية الخبر مفروغاً عنها قبل نزول الآية بمقتضى السيرة العقلائية الممضاة من قبل الشارع، فالمتبع في توسعة موضوع الحجّية وضيقه هي السيرة، وقد تقدّم أنّ السيرة لم تقم على العمل بخبر الضعيف. نعم، الخبر الموجب للوثوق والاطمئنان الشخصي يجب العمل به وإن كان ضعيفاً في نفسه، وليس ذلك لأجل حجّية الخبر الضعيف، بل لأنّ الاطمئنان المعبّر عنه بالعلم العادي حجّة وإن كان حاصلاً ممّا لا يكون حجّة في نفسه كخبر الفاسق أو خبر الصبي مثلاً.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّم في ص 216.

ــ[235]ــ

 بقي في المقام أمران لا بدّ من التعرّض لهما:

 الأمر الأوّل: أنّ الخبر إن كان ضعيفاً في نفسه هل ينجبر ضعفه بعمل المشهور أم لا؟ المشهور بين المتأخرين هو ذلك. وذكر المحقق النائيني (قدس سره) في وجه ذلك: أنّ الخبر الضعيف المنجبر بعمل المشهور حجّة بمقتضى منطوق آية النبأ، إذ مفاده حجّية خبر الفاسق مع التبين، وعمل المشهور من التبين (1). ووافقناه على ذلك في الدورة السابقة، ولكن التحقيق عدم تمامية الوجه المذكور، إذ التبين عبارة عن الاستيضاح واستكشاف صدق الخبر، وهو تارةً يكون بالوجدان، كما إذا عثرنا بعد الفحص والنظر على قرينة داخلية أو خارجية موجبة للعلم أو الاطمئنان بصدق الخبر، وهذا ممّا لا كلام في حجّيته على ما تقدّمت الاشارة إليه. واُخرى: يكون بالتعبد، كما إذا دلّ دليل معتبر على صدقه فيؤخذ به أيضاً فانّه تبين تعبدي، وحيث إنّ فتوى المشهور لا تكون حجّة على ما تقدّم الكلام فيها (2)، فليس هناك تبين وجداني ولا تبين تعبدي يوجب حجّية خبر الفاسق.

 وإن شئت قلت: إنّ الخبر الضعيف لا يكون حجّة في نفسه على الفرض، وكذلك فتوى المشهور غير حجّة على الفرض أيضاً، وانضمام غير الحجّة إلى غير الحجّة لا يوجب الحجّية، فانّ انضمام العدم إلى العدم لا ينتج إلاّ العدم.

 ودعوى أنّ عمل المشهور بخبر ضعيف توثيق عملي للمخبر به فيثبت به كونه ثقة، فيدخل في موضوع الحجّية، مدفوعة بأنّ العمل مجمل لا يعلم وجهه، فيحتمل أن يكون عملهم به لما ظهر لهم من صدق الخبر ومطابقته للواقع بحسب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 3: 190 و 191.

(2) في ص 167 ـ 170.

ــ[236]ــ

نظرهم واجتهادهم، لا لكون المخبر ثقة عندهم، فالعمل بخبر ضعيف لا يدل على توثيق المخبر به، ولا سيّما أ نّهم لم يعملوا بخبر آخر لنفس هذا المخبر.

 هذا كلّه من حيث الكبرى وأنّ عمل المشهور موجب لانجبار ضعف الخبر أم لا. وأمّا الصغرى وهي استناد المشهور إلى الخبر الضعيف في مقام العمل والفتوى، فاثباتها أشكل من إثبات الكبرى، لأنّ مراد القائلين بالانجبار هو الانجبار بعمل قدماء الأصحاب باعتبار قرب عهدهم بزمان المعصوم (عليه السلام) والقدماء لم يتعرّضوا للاسـتدلال في كتبهم ليعلم استنادهم إلى الخبر الضعيف، وإنّما المذكور في كتبهم مجرد الفتوى، والمتعرض للاستدلال إنّما هو الشيخ الطوسي (قدس سره) في المبسوط، وتبعه من تأخر عنه في ذلك دون من تقدّمه من الأصحاب، فمن أين يستكشف عمل قدماء الأصحاب بخبر ضعيف واستنادهم إليه، غاية الأمر أ نّا نجد فتوى منهم مطابقة لخبر ضعيف، ومجرّد المطابقة لا يدل على أ نّهم استندوا في هذه الفتوى إلى هذا الخبر، إذ يحتمل كون الدليل عندهم غيره.

 فتحصّل: أنّ القول بانجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور غير تام صغرىً وكبرى.

 الأمر الثاني: أنّ الخبر إن كان صحيحاً أو موثقاً في نفسه هل يكون إعراض المشهور عنه موجباً لوهنه وسقوطه عن الحجّية أم لا؟ المشهور بينهم هو ذلك، بل صرّحوا بأ نّه كلّما ازداد الخبر صحّة ازداد ضعفاً ووهناً باعراض المشهور عنه.

 والتحقيق عدم تمامية ذلك أيضاً، إذ بعد كون الخبر صحيحاً أو موثقاً مورداً لقيام السيرة ومشمولاً لاطلاق الأدلة اللفظية على ما تقدّم ذكرها، لا وجه لرفع اليد عنه لاعراض المشهور عنه. نعم، إذا تسالم جميع الفقهاء على حكم

ــ[237]ــ

مخالف للخبر الصحيح أو الموثق في نفسه، يحصل لنا العلم أو الاطمئنان بأنّ هذا الخبر لم يصدر من المعصوم (عليه السلام) أو صدر عن تقيّة فيسقط الخبر المذكور عن الحجّية لا محالة، كما تقدّمت الاشارة إليه (1)، ولكنّه خارج عن محل الكـلام. وأمّا إذا اختلف العلماء على قولين وذهب المشهور منهم إلى ما يخالف الخبر الصحيح أو الموثق وأعرضوا عنه، واختار غير المشهور منهم ما هو مطابق للخبر المذكور فلا دليل لرفع اليد عن الخبر الذي يكون حجّة في نفسه لمجرد إعراض المشهور عنه.
ــــــــــــــ

(1) [ لعلّه (قدس سره) يشير إلى ما ذكره في ص 234 من حجّية الاطمئنان فلاحظ ].




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net