المقام الثالث : دوران الأمر بين محذورين مع تعدد الواقعة 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4287


 المقام الثالث: في دوران الأمر بين المحذورين مع تعدد الواقعة. والتعدّد تارةً يكون عرضياً واُخرى يكون طولياً.

 أمّا القسم الأوّل: فهو كما لو علم إجمالاً بصدور حلفين تعلّق أحدهما بفعل أمر، والآخر بترك أمر آخر، واشتبه الأمران في الخارج، فيدور الأمر في كل منهما بين الوجوب والحرمة، فقد يقال بالتخيير بين الفعل والترك في كل منهما، بدعـوى أنّ كلاً منهما من موارد دوران الأمر بين المحذورين، مع استحالة

ــ[394]ــ

الموافقة القطعية والمخالفة القطعية في كل منهما، فيحكم بالتخيير، فجاز الاتيان بكلا الأمرين كما جاز تركهما معاً.

 ولكنّه خلاف التحقيق، لأنّ العلم الاجمالي بالالزام المردد بين الوجوب والحرمة في كل من الأمـرين وإن لم يكن له أثر، لاستحالة الموافقة القطعية والمخالفة القطعية في كل منهما كما ذكر، إلاّ أ نّه يتولد في المقام علمان إجماليان آخران: أحدهما: العلم الاجمالي بوجوب أحد الفعلين. والثاني: العلم الاجمالي بحرمة أحدهما، والعلم الاجمالي بالوجوب يقتضي الاتيان بهما تحصيلاً للموافقة القطعية، كما أنّ العلم الاجمالي بالحرمة يقتضي تركهما معاً كذلك، وحيث إنّ الجمع بين الفعلين والتركين معاً مستحيل، يسقط العلمان عن التنجيز بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية، ولكن يمكن مخالفتهما القطعـية بايجاد الفعلين أو بتركهما، فلا مانع من تنجيز كل منهما بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية، فانّها المقدار الممكن على ما تقدّم بيانه(1). وعليه فاللازم هو اختيار أحد الفعلين وترك الآخر تحصيلاً للموافقة الاحتمالية وحذراً من المخالفة القطعية.

 وأمّا القسم الثاني: وهو ما كان التعدد فيه طولياً، كما إذا علم بتعلّق الحلف بايجاد فعل في زمان وبتركه في زمان ثان واشتبه الزمانان، ففي كل زمان يدور الأمر بين الوجوب والحرمة، فقد يقال فيه أيضاً بالتخيير بين الفعل والترك في كل من الزمانين، إذ كل واقعة مستقلّة دار الأمر فيها بين الوجوب والحرمة، ولا يمكن فيها الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية، ولا وجه لضم الوقائع بعضها إلى بعض، بل لا بدّ من ملاحظة كل منها مستقلاًّ، وهو لا يقتضي إلاّ التخيير، فللمكلف اختيار الفعل في كل من الزمانين، واختيار الترك في كل منهما، واختيار الفعل في أحدهما والترك في الآخر.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في المقام الثاني في ص 389.

ــ[395]ــ

 ولكن التحقيق أن يقال: إنّه إن قلنا بتنجيز العلم الاجمالي في الاُمور التدريجية كغيرها، فلا يفرق بين القسمين المذكورين، لاتحاد الملاك فيهما حينئذ، وعليه فالعلم الاجمالي منجّز بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية، فاللازم اختيار الفعل في أحد الزمانين واختيار الترك في الآخر حذراً من المخالفة القطعية وتحصيلاً للموافقة الاحتمالية. وإن قلنا بعدم تنجيز العلم الاجمالي في التدريجيات، فيحكم بالتخيير بين الفعل والترك في كل زمان، إذ لم يبق سوى العلم الاجمالي بالالزام المردد بين الوجوب والحرمة في كل من الزمانين، وقد عرفت أنّ مثل هذا العلم لا يوجب التنجيز، لعدم إمكان الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية، فيتخيّر المكلف بين الفعل والترك في كل من الزمانين.

 ثمّ إنّه إذا دار الأمر بين المحـذورين مع تعدد الواقعة واحتمل أهمّية أحد الحكمين، فهل يتقدّم ما احتمل أهميّته، فتجب موافقته القطعية وإن استلزم المخالفة القطعية للتكليف الآخر أم لا؟ وجهان.

 والصحيح هو الثاني، لأنّ الحكمين المردد كل منهما بين الوجوب والحرمة وإن لم يكونا من قبيل المتعارضين، إذ لا تنافي بينهما في مقام الجعل بعد فرض أنّ متعلق كل منهما غير متعلق الآخر، إلاّ أ نّهما ليسا من قبيل المتزاحمين أيضاً، إذ التزاحم بين التكليفين إنّما هو فيما إذا كان المكلف عاجزاً من امتثال كليهما، والمفروض في المقام قدرته على امتثال كلا التكليفين، غاية الأمر كونه عاجزاً عن إحراز الامتثال فيهما، لجهله بمتعلق كل منهما وعدم تمييزه الواجب عن الحرام، فينتقل إلى الامتثال الاحتمالي بايجاد أحد الفعلين وترك الآخر، فلا وجه لاجراء حكم التزاحم وتقديم محتمل الأهمّية على غيره بايجاد كلا الفعلين لو كان محتمل الأهمّية هو الوجوب، أو ترك كليهما لو كان محتمل الأهمّية هي الحرمة.

ــ[396]ــ

 واختار المحقق النائيني (قدس سره) (1) في بحث دوران الأمر بين شرطية شيء ومانعيته تقديم محتمل الأهمّية، وذكر في وجه ذلك: أنّ كل تكليف واصل إلى المكلف يقتضي أمرين: لزوم الامتثال وإحرازه. وعليه فالوجوب المعلوم بالاجمال في المقام كما يقتضي إيجاد متعلقه، كذلك يقتضي إحراز الايجاد باتيان كلا الفعلين، وكذا الحرمة المعلومة بالاجمال تقتضي ترك متعلقها وتقتضي إحرازه بترك كلا الفعلين، وهذان الحكمان وإن لم يكن بينهما تزاحم من ناحية أصل الامتثال، إذ المفروض تغاير متعلقي الوجوب والحرمة وتمكن المكلف من إيجاد الواجب وترك الحرام، إلاّ أ نّهما متزاحمان من ناحية إحراز الامتثال، إذ قد عرفت أنّ إحراز امتثال الوجوب يستدعي الاتيان بكلا الفعلين، وإحراز امتثال الحرمة يقتضي ترك كليهما، فلا يمكنه إحراز امتثالهما معاً. وقد عرفت أيضاً أنّ إحراز الامتثال من مقتضيات التكليف بحكم العقل، فكما أنّ عدم القدرة على الجمع بين ما يقتضيه الوجوب من الفعل وما تقتضيه الحرمة من الترك يوجب التزاحم بينهما، كذلك عدم القدرة على الجمع بين ما يقتضيه كل منهما من إحراز الامتثال يوجب التزاحم بينهما أيضاً.

 وفيه أوّلاً: النقض بما إذا علم تساوي الحكمين في الأهمّية، فانّ لازم كونهما من المتزاحمين أن يحكم حينئذ بالتخيير، فللمكلف أن يختار الوجوب ويأتي بكلا الفعلين، وله أن يختار الحرمة ويتركهما معاً. مع أنّ المحقق النائيني (قدس سره) لم يلتزم بذلك(2) وذهب إلى لزوم الاتيان بأحد الفعلين وترك الآخر حذراً من المخالفة القطعية في أحد التكليفين.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 3: 540، فوائد الاُصول 4: 263 و 264.

(2) المصدر السابق.

ــ[397]ــ

 وثانياً: أ نّه لو سلّمنا دخول المـقام في باب التزاحم، لا دليل على لزوم الأخذ بمحتمل الأهمّية في باب التزاحم مطلقاً ليجب الأخذ به في المقام، إنّما الوجه في ذلك ما أشرنا إليه سابقاً (1) من أنّ الحكمين المتزاحمين لا مناص من الالتزام بسقوط الاطلاق في كليهما أو في أحدهما، ومن الظاهر أنّ ما لا يحتمل أهمّيته قد علم سقوط إطلاقه على كلا التقديرين، وأمّا ما احتمل أهمّيته فسقوط إطلاقه غير معلوم، فلا بدّ من الأخذ به. هذا فيما إذا كان لدليل كل من الحكمين إطلاق لفظي.

 وأمّا إذا لم يكن لشيء من الدليلين إطلاق، فالوجه في تقديم محتمل الأهمّية هو القطع بجواز تفويت ملاك غيره بتحصيل ملاكه. وأمّا تفويت ملاكه بتحصيل ملاك غيره فجوازه غير معلوم، فتصحّ العقوبة عليه بحكم العقل، فلا مناص من الأخذ بمحتمل الأهمّية، وهذان الوجهان لا يجريان في المقام، إذ المفروض بقاء الاطلاق في كلا الحكمين، لعدم التنافي بين الاطلاقين ليرفع اليد عن أحدهما، وعدم ثبوت جواز تفويت الملاك في شيء منهما، إذ كل ذلك فرع عجز المكلف عن امتثال كلا التكليفين، والمفروض قدرته على امتثالهما لتغاير متعلق الوجوب والحرمة على ما تقدّم.

 وأمّا ما ذكره (قدس سره) من حكم العقل بلزوم إحراز الامتثـال، فهو مشترك فيه بين جميع التكاليف الالزامية، من غير فرق بين ما كان في أعلى مراتب الأهمّية، وما كان في أضعف مراتب الالزام، فلا موجب لتقديم محتمل الأهمّية على غيره والحكم بلزوم موافقته القطعية وإن استلزمت المخالفة القطعية للتكليف الآخر.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 387.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net