التنبيه السادس : العلم الاجمالي في التدريجيات 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4248


التنبيه السادس

 هل العلم الاجمالي منجّز للواقع إذا تعلّق بالاُمور التدريجية، مثل ما إذا تعلّق بالاُمور الدفعية أم لا؟ قولان.

 ولا بدّ لنا قبل الشروع في تحقيق الحال في المقام من التنبيه على أمر، وهو أنّ محل الكلام في هذا البحث هو ما إذا لم تكن أطراف العلم الاجمالي مورداً للاحتياط في نفسها مع قطع النظر عن العلم الاجمالي، فانّه لو كانت كذلك كما إذا علم إجمالاً بأ نّه يبتلى في هذا اليوم بمعاملة ربويّة من جهة الشبهة الحكمية،

ــ[430]ــ

فلا إشكال في وجوب الاحتياط، سواء قلنا بتنجيز العلم الاجمالي في التدريجيات أم لم نقل به، والوجه فيه: أنّ كل معاملة يحتمل فيها الرِّبا مع قطع النظر عن العلم الاجمالي مورد للاحتياط لكون الشبهة حكمية، ولا يجوز فيها الرجوع إلى البراءة قبل الفحص، هذا من جهة الحكم التكليفي. وأمّا من جهة الحكم الوضعي، فيحكم بالفساد في كل معاملة تقع في الخارج، لأصالة عدم النقل والانتقال.

 وتوهم جواز الرجوع إلى العمومات الدالة على صحّة كل معاملة، كقوله تعالى: (أَوْفُوا بِالعُقُودِ) (1) مدفوع بأنّ العمومات مخصّصة بالمعاملة الربوية، فالشك في الصحّة والفساد إنّما هو من جهة الشك في الانطـباق، لا من جهة الشك في التخصيص، وفي مثله لايمكن التمسك بالعموم كما هو ظاهر. هذا مضافاً إلى أنّ التمسك بالعموم أيضاً مشروط بالفحص، كما أنّ الأمر كذلك في الرجوع إلى البراءة.

 إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ تدريجية أطراف العلم الاجمالي على أقسام:

 القسم الأوّل: أن تكون مستندةً إلى اختيار المكلف مع تمكنه من الجمع بينها، كما إذا علم بغصبية أحد الثوبين، وكان متمكناً من لبسهما معاً ولكنّه اقترح لبس أحدهما في زمان ولبس الآخر في زمان متأخر. ولا إشكال في خروج هذا القسم عن محل الكلام، فانّ العلم بالتكليف الفعلي مع تمكن المكلف من الموافقة القطعية والمخالفة القطعية يوجب التنجز على ما تقدّم بيانه.

 القسم الثاني: أن تكون التدريجية مستندةً إلى عدم تمكن المكلف من الجمع بين الأطراف مع تمكنه من ارتكاب كل منها بالفعل مع ترك الآخر، كما إذا علم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5: 1.

ــ[431]ــ

بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة، فانّه وإن لم يتمكن من الجمع بينهما في زمان واحد، إلاّ أ نّه متمكن من الاتيان بأ يّهما شاء، ونظيره العلم بحرمة أحد ضدّين لهما ثالث. ولا ينبغي الاشكال في تنجيز العلم الاجمالي في هذا القسم أيضاً، للعلم بالتكليف الفعلي، وسقوط الاُصول في الأطراف للمعارضة.

 القسم الثالث: أن تكون التدريجية مستندةً إلى تقيد أحد الأطراف بزمان أو بزماني متأخر. والتكليف المعلوم في هذا القسم تارةً يكون فعلياً على كل تقدير، واُخرى لا يكون فعلياً إلاّ على تقدير دون تقدير.

 الأوّل: كما إذا علم بتعلّق النذر بقراءة سورة خاصّة في هذا اليوم أو في الغد، فانّه بناءً على كون الوجوب بالنذر فعلياً من باب الواجب التعليقي، نعلم بتكليف فعلي متعلِّق بالقراءة في اليوم أو بالقراءة في الغد، فالتدريجـية في المتعلق وأمّا الوجوب فهو حاصل بالفعل، وفي مثل ذلك لا مناص من القول بتنجيز العلم الاجمالي، لما عرفت من أنّ الميزان في التنجيز هو العلم بالتكليف الفعلي، وهو متحقق على الفرض.

 الثاني: وهو ما لا يكون العلم فيه متعلقاً بالتكليف الفعلي على كل تقدير، كما إذا علم بوجوب مردّد بين كونه فعلياً الآن وكونه فعلياً فيما بعد، كما إذا تردد الواجب بين كونه مطلقاً أو مشروطاً بشرط يحصل فيما بعد، ففي مثل ذلك ذهب صاحب الكفاية (1) إلى جواز الرجوع إلى الأصل في كل من الطرفين. واختار المحقق النائيني (قدس سره) (2) عدم جواز الرجوع إلى الأصل في شيء

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 359 و 360.

(2) أجود التقريرات 3: 466 ـ 468، فوائد الاُصول 4: 110 ـ 112.

ــ[432]ــ

من الطرفين. وفصّل شيخنا الأنصاري (قدس سره) (1) بين ما إذا كان الملاك في الأمر المتأخر تاماً من الآن، وما إذا لم يكن كذلك.

 وتحقيق الحال بحيث تتّضح كيفية الاستدلال لجميع الأقوال يستدعي ذكر مقدّمة، وهي أنّ تأخّر التكليف قد يكون مستنداً إلى عدم إمكانه فعلاً مع تمامية المقتضي له، كما إذا تعلّق النذر بأمر متأخر بناءً على استحالة الواجب التعليقي، فانّ الفعل المنذور يتّصف فعلاً بالاشتمال على الملاك الملزم بتعلّق النذر به، إلاّ أنّ الأمر بالوفاء مشروط بمجيء زمانه بناءً على استحالة الأمر الفعلي بالشيء المتأخر، وقد يكون مستنداً إلى عدم تمامية المقتضي لعدم تحقق ما له دخل في تماميته، وهذا كأكثر الشرائط التي تتوقف عليها فعلية التكليف، كما إذا علمت المرأة بأ نّها تحيض ثلاثة أيام مرددة بين جميع أيام الشهر، فلا علم لها بالتكليف الفعلي ولا بملاكه التام، لعدم العلم بالحيض فعلاً المترتب عليه التكليف وملاكه.

 إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ من نظر إلى أنّ تنجيز العلم الاجمالي متوقف على كونه متعلقاً بالتكليف الفعلي، اختار عدم تنجيزه في المقام وجواز الرجوع إلى الاُصول في جميع الأطراف، إذ المفروض تردد التكليف فيه بين أن يكون فعلياً وأن يكون مشروطاً بشرط غير حاصل، فلا علم بالتكليف الفعلي، فلا مانع من الرجوع إلى الأصل بالنسبة إلى الطرف المبتلى به فعلاً، كما لا مانع منه بالنسبة إلى الطرف الآخر في ظرف الابتلاء به.

 ونظر شيخنا الأنصاري (قدس سره) إلى أنّ العلم بالملاك التام الفعلي بمنزلة العلم بالتكليف، فالتزم بعدم تنجيز العلم الاجمالي عند عدم العلم بالملاك التام

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 426 و 427.

ــ[433]ــ

فعلاً، وبتنجيزه فيما إذا علم الملاك التام فعلاً، لأنّ الترخيص في تفويت الملاك الملزم فعلاً بمنزلة الترخيص في مخالفة التكليف الفعلي، إذ عدم فعلية التكليف إنّما هو لوجود المانع مع تمامية المقتضي، وهو لا يرفع قبح الترخيص في تفويت الملاك الملزم. ومن هنا التزم شيخنا الأنصاري (قدس سره) بتنجيز العلم الاجمالي في مسألة العلم بالنذر المردد تعلّقه بأمر حالي أو استقبالي، وبعدم تنجيزه في مسألة علم المرأة بالحيض المردد بين أيام الشهر، فتمسك باستصحاب عدم تحقق الحيض إلى الآن الأوّل من ثلاثة أيام في آخر الشهر، وبالبراءة بعـده، والوجه في رجوعه من الاستصحاب إلى البراءة هو أنّ المرأة بعد تحقق الآن الأوّل من ثلاثة أيام في آخر الشهر يحصل لها العلم بتحقق حيض وطهر قبل ذلك الآن، وبما أنّ تاريخ كل منهما مجهول، فالاستصحاب غير جار للمعارضة على مسلكه(1)، ولعدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين على مسلك صاحب الكفاية (قدس سره) (2)، فلا مجال لجريان الاستصحاب على كل حال فيرجع إلى البراءة.

 والتحقيق هو ما ذهب إليه المحقق النائيني (قدس سره) من تنجيز العلم الاجمالي وعدم جواز الرجوع إلى الأصل في شيء من الطرفين. أمّا فيما تمّ فيه الملاك فعلاً فقد عرفت وجهه. وأمّا فيما لم يتم فلما تقدّم في بحث مقدّمة الواجب من استقلال العقل بقبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه بتعجيز النفس قبل مجيء وقته، كاستقلاله بقبح تعجيز النفس عن امتثال التكليف الفعلي (3). ولا فرق في قبح التفويت بحكم العقل بين كونه مستنداً إلى العبد كما تقدّم، وبين كونه مستنداً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 667.

(2) كفاية الاُصول: 420.

(3) محاضرات في اُصول الفقه 2: 182 و 187.

ــ[434]ــ

إلى المولى بترخيصه في ارتكاب الطرف المبتلى به فعلاً، وترخيصه في ارتكاب الطرف الآخر في ظرف الابتلاء، فانّه ترخيص في تفويت الملاك التام الملزم، وهو بمنزلة الترخيص في مخالفة التكليف الواصل وعصيانه في حكم العقل.
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net