1 ـ دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء الخارجية 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4980


  أمّا المقام الأوّل: فقال بعضهم بكونه مجرىً لقاعدة الاشتغال، وعدم جريان البراءة العقلية والبراءة النقلية. وذهب جماعة منهم شيخنا الأنصاري (1)(قدس سره) إلى جريان البراءة العقلية والنقلية. وفصّل صاحب الكفاية (2)(قدس سره) وتبعه المحقق النائيني (3) (قدس سره) فقال بجريان البراءة النقلية دون العقلية، فتنقيح البحث يستدعي التكلم في جهتين:

  الجهة الاُولى: في جريان البراءة العقلية وعدمه.

  الجهة الثانية: في جريان البراءة النقلية وعدمه.

  أمّا الجهة الاُولى: فالصحيح فيها ما ذهب إليه شيخنا الأنصاري (قدس سره) من جريان البراءة العقلية، وذكر لتقريبه وجوهاً:

  الوجه الأوّل: ما ذكره الشيخ (4) (قدس سره) في الرسائل من أنّ وجوب الأقل المردّد بين النفسي والغيري متيقن، إذ لو كان الأقل واجباً فوجوبه نفسي،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 460.

(2) كفاية الاُصول: 363 و 366.

(3) أجود التقريرات 3: 489 ـ 494، فوائد الاُصول 4: 151.

(4) فرائد الاُصول 2: 462.

ــ[496]ــ

ولو كان الأكثر واجباً فوجوب الأقل غيري، وأمّا وجوب الأكثر فهو مشكوك فيه فيجري فيه الأصل. وتمامية هذا الوجه يتوقف على إثبات أمرين: الأوّل: اتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري، وإلاّ لم يصحّ القول بأن وجوب الأقل متيقن مردد بين النفسي والغيري، إذ على تقدير عدم اتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري، لايكون هناك إلاّ وجوب نفسي شك في تعلّقه بالأقل أو الأكثر، فلا علم بوجوب الأقل على كل تقدير. الثاني: كون العلم بالوجوب الجامع بين النفسي والغيري موجباً لانحلال العلم الاجمالي بالوجوب النفسي المردّد تعلّقه بالأقل أو الأكثر، إذ على تقدير عدم انحلال العلم الاجمالي لا يكون وجوب الأكثر مورداً لجريان البراءة.

  أمّا الأمر الأوّل: أي اتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري، فهو لم يثبت بل الثابت خلافه، لما بيّناه في بحث وجوب المقدّمة (1) من استحالة اتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري، لأنّ الوجوب الغيري ناشئ عن توقف وجود على وجود آخر، وليس وجود المركب غير وجود الأجزاء كي يتوقف عليه توقف وجود الشيء على وجود غيره، فيترشح من وجوب المتوقف نفسياً وجوب المتوقف عليه غيرياً، بل وجود المركب عين وجود الأجزاء، ولا فرق بينهما إلاّ بمجرد الاعتبار واللحاظ، فانّ الأجزاء إذا لوحظت بشرط الشيء أي بشرط الانضمام فهي المركب، وإذا لوحظت لا بشرط فهي الأجزاء.

  وأمّا الأمر الثاني: أي كون العلم بالوجوب الجامع بين النفسي والغيري موجباً لانحلال العلم الاجمالي بالوجوب النفسي، فقد يقال فيه بعدم الانحلال، بدعوى أ نّه يعتبر في الانحلال أن يكون المعلوم بالتفصـيل من سنخ المعلوم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 2: 117 ـ 119.

ــ[497]ــ

بالاجمال، والمقام ليس كذلك، لأنّ المعلوم بالاجمال هو الوجوب النفسي سواء كان متعلقاً بالأقل أو الأكثر، والمعلوم بالتفصيل هو الوجوب الجامع بين النفسي والغيري، فلا ينحل العلم الاجمالي. ولكن التحقيق هو الانحلال على ما ذكرناه في بحث مقدّمة الواجب مفصلاً (1) ولا نعيد الكلام فيه، لأنّ التقريب المذكور غير تام من جهة عدم تمامية الأمر الأوّل، فلا حاجة إلى إعادة الكلام في تمامية الأمر الثاني وعدمها.

  الوجه الثاني: وهو أيضاً مأخوذ من كلام الشيخ (2) وهو أنّ الأقل واجب يقيناً بالوجوب الجامع بين الوجوب الاستقلالي والوجوب الضمني، إذ لو كان الواجب في الواقع هو الأقل فيكون الأقل واجباً بالوجوب الاستقلالي. ولو كان الواجب في الواقع هو الأكثر، فيكون الأقل واجباً بالوجوب الضمني، لأنّ التكليف بالمركب ينحل إلى التكليف بكل واحد من الأجزاء، وينبسط التكليف الواحد المتعلق بالمركب إلى تكاليف متعددة متعلقة بكل واحد من الأجزاء، ولذا لا يكون الآتي بكل جزء مكلفاً باتيانه ثانياً، لسقوط التكليف المتعلق به، بل الآتي بكل جزء يكون مكلفاً باتيان جزء آخر بعده، لكون التكليف متعلقاً بكل جزء مشروطاً بلحوق الجزء التالي بنحو الشرط المتأخر.

  فتحصّل: أنّ تعلّق التكليف بالأقل معلوم ويكون العقاب على تركه عقاباً مع البيان وإتمام الحجّة، وتعلّقه بالأكثر مشكوك فيه، ويكون العقاب عليه عقاباً بلا بيان. وبعبارة اُخرى: يكون العقاب على ترك الصلاة مثلاً لأجل ترك الأجزاء المعلومة عقاباً مع البيان وهو العلم، ويكون العقاب على تركها لأجل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 2: 121.

(2) فرائد الاُصول 2: 462.

ــ[498]ــ

ترك الأجزاء المشكوك فيها عقاباً بلا بيان، والعقل يحكم بقبحه، وهذا معنى البراءة العقلية.

  وهذا الوجه ممّا لا بأس به، وتوضيحه يستدعي التنبيه على أمر، وهو أنّ محل الكلام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر إنّما هو فيما إذا كان الأقل متعلقاً للتكليف بنحو لا بشرط القسمي، بمعنى أ نّا نعلم أنّ الواجب لو كان هو الأقل لا يضره الاتيان بالأكثر، وأمّا إذا كان الأقل مأخوذاً في التكليف بشرط لا حتّى يضره الاتيان بالأكثر، كما في دوران الأمر بين القصر والتمام، فهو خارج عن محل الكلام، لكون الدوران فيه من قبيل الدوران بين المتباينين. وبعبارة اُخرى: الكلام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر إنّما هو فيما إذا كان مقتضى الاحتياط الاتيان بالأكثر، وإذا كان الأقل مأخوذاً بشرط لا لا يمكن الاحتياط باتيان الأكثر، لاحتمال كون الزائد مبطلاً، بل مقتضى الاحتياط هو الاتيان بالأقل مرّةً وبالأكثر اُخرى، ولذا كان مقتضى الاحتياط عند الشك في القصر والتمام هو الجمع بينهما لا الاتيان بالتمام فقط. وهذا هو الميزان في تمييز دوران الأمر بين الأقل والأكثر عن دوران الأمر بين المتباينين.

  إذا عرفت محل الكلام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر، فاعلم أنّ ذات الأقل معلوم الوجوب وإنّما الشك في أ نّه مأخوذ في متعلق التكليف على نحو الاطلاق أي بنحو اللا بشرط القسمي، أو مأخوذ بشرط شيء وهو الانضمام مع الأجزاء المشكوكة، فانّا نعلم بوجوب ذات الأقل أي الجامع بين الاطلاق والتقييد، وإنّما الشك في خصوصية الاطلاق والتقييد، فانّهما وإن كانا قسمين من الماهية الجامعة بينهما، إلاّ أ نّه لا إشكال في كونهما قسيمين بالنسبة إلى نفسيهما.

  وبالجملة: تعلّق التكليف بذات الأقل متيقن، وإنّما الشك في أ نّه واجب مطلق وبلا تقييد بشيء، أو أ نّه واجب مقيداً بانضمام الأجزاء المشكوكة، وحيث إنّ

ــ[499]ــ

الاطلاق لا يكون تضييقاً على المكلف كما هو ظاهر، فلا معنى لجريان البراءة العقلية أو النقلية فيه، فانّه لا يحتمل العقاب في صورة الاطلاق حتّى ندفعه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان أو بحديث الرفع، فتجري البراءة العقلية في التقييد بلا معارض. وقد ذكرنا مراراً (1) أنّ تنجيز العلم الاجمالي موقوف على تعارض الاُصول في أطرافه وتساقطها، وأ نّه لو لم يجر الأصل في أحد طرفيه في نفسه لا مانع من جريانه في الطرف الآخر، فلا يكون العلم الاجمالي منجّزاً. والمقام كذلك، لما عرفت من أنّ الاطلاق توسعة على المكلف، فلا يكون مورداً للبراءة في نفسه، فتجري البراءة في التقييد بلا معارض، نظير ما إذا علمنا إجمالاً بحرمة شيء أو إباحته، فهذا العلم الاجمالي وإن كان طرفاه متباينين، إلاّ أ نّه حيث لا تجري البراءة العقلية ولا النقلية في طرف الاباحة، لعدم احتمال العقاب فيه كي يدفع بقاعدة قبح العقاب بلا بيان أو بحديث الرفع وأمثاله من الأدلة النقلية، فيكون احتمال الحرمة مورداً لجريان البراءة العقلية والنقلية بلا معارض.

  هذا، وقد ذكر لجريان البراءة موانع:

  منها: ما ذكره صاحب الكفاية (2) (قدس سره) من استحالة انحلال العلم الاجمالي في المقام لاستلزامه الخلف وعدم نفسه. أمّا الأوّل: فلأنّ العلم بوجوب الأقل يتوقف على تنجّز التكليف مطلقاً، أي على تقديري تعلّقه بالأقل وتعلّقه بالأكثر، فلو كان وجوبه على كل تقدير مستلزماً لعدم تنجّزه فيما إذا كان متعلقاً بالأكثر كان خلفاً. وأمّا الثاني: فلأ نّه يلزم من وجود الانحلال عدم تنجّز التكليف على تقدير تعلّقه بالأكثر، وهو مستلزم لعدم وجوب الأقل على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كما في ص 404.

(2) كفاية الاُصول: 364.

ــ[500]ــ

كل تقدير المستلزم لعدم الانحلال. وملاك الاستحالة في التقريبين واحد، وهو أنّ الانحلال يتوقف على تنجّز التكليف على كل تقدير، ومعه لا تنجّز بالنسبة إلى الأكثر، فيلزم الخلف ومن فرض وجود الانحلال عدمه.

  والجواب عن كلا التقريبين كلمة واحدة، وهي أنّ الانحلال لا يتوقف على تنجّز التكليف على تقديري تعلّقه بالأقل وتعلّقه بالأكثر، بل الانحلال وتنجّز التكليف بالنسبة إلى الأكثر متنافيان لا يجتمعان، فكيف يكون متوقفاً عليه، بل الانحلال مبني على العلم بوجوب ذات الأقل على كل تقدير، أي على تقدير وجوب الأقل في الواقع بنحو الاطلاق، وعلى تقدير وجوبه في الواقع بنحو التقييد، فذات الأقل معلوم الوجوب، إنّما الشك في الاطلاق والتقييد، وحيث إنّ الاطلاق لا يكون مجرىً للأصل في نفسه على ما تقدّم بيانه، فيجري الأصل في التقييد بلا معارض، وينحل العلم الاجمالي لا محالة. وهذا واضح لا غبار عليه فلا يكون مستلزماً للخلف، ولا وجود الانحلال مستلزماً لعدمه، وإنّما نشأت هذه المغالطة من أخذ التنجّز على كل تقدير شرطاً للانحلال، وهذا ليس مراد القائل بالبراءة.

  ومنها: أنّ التكليف المعلوم المحتمل تعلّقه بالأقل والأكثر تكليف واحد متعلق بالأجزاء مقيداً بعضها ببعض ثبوتاً وسقوطاً، إذ المفروض كون الأجزاء ارتباطية، ومعه لا يعقل سقوط التكليف بالاضافة إلى بعض الأجزاء مع عدم سقوطه بالاضافة إلى بعض آخر، لكون التكليف واحداً والأجزاء ارتباطية، وعليه فلا يحصل القطع بسقوط التكليف باتيان الأقل حتّى بالنسبة إلى نفس الأقل المقطوع وجوبه، لاحتمال وجوب الأكثر، واحتمال وجوبه ملازم لاحتمال عدم سقوط التكليف رأساً، لأ نّه ملازم لعدم سقوطه بالاضافة إلى خصوص

 
 

ــ[501]ــ

الأكثر، فيكون المقام من موارد العلم بثبوت التكليف والشك في سقوطه، فيكون مجرىً لقاعدة الاشتغال، لأنّ العلم بشغل الذمّة يقتضي العلم بالفراغ ولا يحصل إلاّ باتيان الأكثر.

  والجواب: أنّ الشك في السقوط تارةً يكون ناشئاً من الشك في صدور الفعل من المكلف بعد تمامية البيان من قبل المولى، كما إذا علمنا بوجوب صلاة الظهر مثلاً وشككنا في إتياننا بها، ففي مثل ذلك تجري قاعدة الاشتغال بلا شبهة وإشكال، لتمامية البيان من قبل المولى ووصول التكليف إلى المكلف، إنّما الشك في سقوط التكليف بعد وصوله، فلا بدّ من العلم بالفراغ بحكم العقل.

  واُخرى يكون ناشئاً من عدم وصول التكليف إلى المكلف، فلا يعلم العبد بما هو مجعول من قبل المولى، كما في المقام فانّ الشك في سقوط التكليف باتيان الأقل يكون ناشئاً من الشك في جعل المولى، ففي مثل ذلك كان جعل التكليف بالنسبة إلى الأكثر مشكوكاً فيه فيرجع إلى الأصل العقلي وهو قاعدة قبح العقاب بلا بيان، والأصل النقلي المستفاد من مثل حديث الرفع، فبعد الاتيان بالأقل وإن كان الشك في سقوط التكليف واقعاً موجوداً بالوجدان، لاحتمال وجوب الأكثر، إلاّ أ نّه ممّا لا بأس به بعد العلم بعدم العقاب على مخالفته لعدم وصوله إلينا، والعقل مستقل بقبح العقاب بلا بيان.

  وبما ذكرناه ظهر الفرق بين المقام وبين دوران الأمر بين المتباينين، فانّه بعد الاتيان بأحد المحتملين يكون سقوط التكليف هناك أيضاً مشكوكاً فيه، ويكون الشك في السقوط ناشئاً من الشك في جعل المولى، إلاّ أ نّه لا يجري الأصل في أحد الطرفين للمعارضة، فيكون العلم الاجمالي منجّزاً لا محالة، بخلاف المقام لجريان الأصل في التقييد بلا معارض على ما عرفت مفصّلاً.

ــ[502]ــ

  ومنها: ما ذكره المحـقق النائيني (قدس سره) (1) من أنّ العلم التفصيلي بوجوب الأقل إنّما هو على نحو الاهمال الجامع بين الاطلاق والتقييد مع الشك في خصوصية الاطلاق والتقييد، وهذا المقدار من العلم التفصيلي هو المقوّم للعلم الاجمالي، لأنّ كل علم إجمالي علم إجمالي بالنسبة إلى الخصوصيات، وعلم تفصيلي بالنسبة إلى الجامع، فلا يكون هذا العلم التفصيلي موجباً للانحلال، وإلاّ لزم انحلال العلم الاجمالي بنفسه.

  وبعبارة اُخرى: انحلال العلم الاجمالي بعد كونه قضيّةً منفصلةً مانعة الخلو إنّما يكون بتبدلها بقضيتين حمليتين: إحداهما متيقنة والاُخرى مشكوكة كما في الأقل والأكثر الاسـتقلاليين، وهذا مفقود في المـقام. وبعبارة ثالثة: الموجب لانحلال العلم الاجمالي هو العلم التفصيلي بوجوب الأقل بنحو الاطلاق، والموجود في المقام هو العلم التفصيلي بوجوب الأقل على نحو الاهمال الجامع بين الاطلاق والتقييد، فما هو موجود لا يكون موجباً للانحلال، بل مقوّم للعلم الاجمالي، وما هو موجب للانحلال لا يكون موجوداً.

  وبالجملة: العلم التفصيلي بالجامع بين الخصوصيات لايكون موجباً للانحلال وإلاّ كان موجباً له في المتباينين أيضاً، لأنّ العلم بالجامع موجود عند دوران الأمر بين المتباينين أيضاً.

  والجواب: أنّ ما ذكره (قدس سره) متين لو قلنا بالانحلال الحقيقي، فانّ العلم التفصيلي بالجامع هو عين العلم الاجمالي باحدى الخصـوصيتين، فكيف يكون موجباً للانحلال الحقيقي، ولكنّا نقول بالانحلال الحكمي، بمعنى أنّ المعلوم بالاجمال وإن كان يحتمل انطباقه على خصوصية الاطلاق وعلى خصـوصية

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 3: 493، فوائد الاُصول 4: 160.

ــ[503]ــ

التقييد، إلاّ أ نّه حيث تكون إحدى الخصوصيتين مجرىً للأصل دون الاُخرى، كان جريان الأصل في إحداهما في حكم الانحلال، لما ذكرناه غير مرّة (1) من أنّ تنجيز العلم الاجمالي متوقف على تعارض الاُصول في أطرافه وتساقطها، فبعد العلم بوجوب الأقل بنحو الاهمال الجامع بين الاطلاق والتقييد وإن لم يكن لنا علم باحدى الخصوصيتين حتّى يلزم الانحلال الحقيقي، إلاّ أ نّه حيث يكون التقييد مورداً لجريان الأصل بلا معارض كان جريانه فيه مانعاً عن تنجيز العلم الاجمالي فيكون بحكم الانحلال. وهذا الانحلال الحكمي لا يكون في المتـباينين، لعدم جريان الأصل في واحد منهما لابتلائه بالمـعارض، فانّ الأصلين في المتباينين يتساقطان للمعارضة، وهذا هو الفارق بين المقامين.

  ومنها: ما ذكره صاحب الكفاية أخذاً من كلام الشيخ (2) (قدس سره) وهو أنّ الأحكام الشرعية تابعة للملاكات في متعلقاتها من المصالح والمفاسد على ما هو الحق من مذهب العدلية، وحيث إنّه يجب تحصيل غرض المولى بحكم العقل، فلا مناص من الاحتياط والاتيان بالأكثر، إذ لا يعلم بحصول الغرض عند الاقتصار بالأقل لاحتمال دخل الأكثر في حصوله.

  وأجاب شيخنا الأنصاري (قدس سره) عن هذا الاشكال بجوابين:

  الأوّل: أنّ الكلام في جريان البراءة وعدمه في المقام لا يكون مبتنياً على مذهب العدلية القائلين بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها بل عام.

  الثاني: أنّ الغرض ممّا لا يمكن القطع بحصوله في المقام على كل تقدير. أمّا على تقدير الاتيان بالأقل فلاحتمال دخل الأكثر في حصوله. وأمّا على تقدير

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع على سبيل المثال ص 404.

(2) كفاية الاُصول: 364 وفرائد الاُصول 2: 461.

ــ[504]ــ

الاتيان بالأكثر فلاحتمال دخل قصد الوجه في حصوله، فلو أتينا بالزائد عن المتيقن بقصد الأمر الجزمي فهو تشريع محرّم لا يحصل معه الغرض قطعاً، وإن أتينا به بقصد الأمر الاحتمالي، فلا يقطع معه بحصول الغرض، لاحتمال اعتبار قصد الوجه في حصوله، فإذن لا يجب علينا تحصيل القطع بتحقق الغرض، لعدم إمكانه، فلا يبقى في البين إلاّ الحذر من العقاب وتحصيل المؤمّن منه، وهو يحصل باتيان الأقل المعلوم وجوبه. وأمّا الأكثر فاحتمال العقاب على تركه يدفع بالأصل وقاعدة قبح العقاب بلا بيان. هذا ملخّص ما أفاده (قدس سره) من الجوابين.

  ولا يخفى ما في كليهما. أمّا الأوّل: ففيه أ نّه جدلي، لأنّ جواز الرجوع إلى البراءة على مسلك الأشعري لا يجدي القائل ببطلانه.

  وأمّا الثاني ففيه أوّلاً: أنّ ما ذكره من عدم إمكان القطع بحصول الغرض لو تمّ فانّما يتمّ في التعبديات دون التوصليات، لعدم توقف حصول الغرض فيها على قصد الوجه قطعاً، فيلزم القول بوجوب الاحتياط في التوصليات دون التعبديات، وهو مقطوع البطلان، ولم يلتزم به أحد حتّى الشيخ نفسه.

  وثانياً: أنّ اعتبار قصد الوجه على القول به يختص بصورة الامكان دون ما لو لم يمكن قصد الوجه أصلاً، لعدم المعرفة بالوجه كما في المقام، إذ القول باعتبار قصد الوجه مطلقاً مستلزم لعدم إمكان الاحتياط في المقام، لأنّ معنى الاحتياط هو الاتيان بما يحصل معه العلم بفراغ الذمّة. وهذا ممّا لا يمكن العلم به بناءً على اعتبار قصد الوجه مطلقاً، إذ لايحصل العلم بالفراغ بالاتيان بالأقل، لاحتمال وجوب الأكثر، ولا بالاتيان بالأكثر لاحتمال اعتبار قصد الوجه، فلا يحصل العلم بالفراغ لا بالاتيان بالأقل ولا بالاتيان بالأكثر. وهذا ممّا لم يلتزم به أحد حتّى الشيخ (قدس سره) نفسه، إذ لا إشكال ولا خلاف في إمكان الاحتياط، بل في حسنه بالاتيان بالأكثر. إنّما الكلام في وجوبه وعدمه، والسر فيه: أنّ

ــ[505]ــ

قصد الوجه على القول بوجوبه يختص بصورة الامكان، ففي مثل المقام لايكون واجباً قطعاً، وإلاّ لزم بطلان الاحتياط رأساً.

  وثالثاً: أنّ احتمال اعتبار قصد الوجه ممّا لم يدل عليه دليل وبرهان، بل هو مقطوع البطلان على ما تقدّم بيانه في بحث التعبدي والتوصلي (1).

  ورابعاً: أنّ اعتبار قصد الوجه مع عدم تمامية دليله إنّما هو في الواجبات الاستقلالية، دون الواجبات الضمنية أي الأجزاء، فراجع الأدلة التي ذكروها لاعتبار قصد الوجه (2).

  وأجاب المحقق النائيني (3) (قدس سره) عن أصل الاشكال بأنّ الغرض تارةً تكون نسبته إلى الفعل المأمور به نسبة المعلول إلى علّته التامّة كالقتل بالنسبة إلى قطع الأوداج، واُخرى تكون نسبته إليه نسبة المعلول إلى العلل الاعدادية. والفرق بينهما واضح، فانّ الغرض على الأوّل مترتب على الفعل المأمور به بلا توسط أمر آخر خارج عن قدرة المكلف، وعلى الثاني لا يترتب على الفعل المأمور به، بل يتوقف على مقدّمات اُخرى خارجة عن قدرة المكلف كحصول السنبل من الحبّة، فانّ الفعل الصادر من المكلف هو الزرع والسقي ونحوهما من المقدّمات الاعدادية. وأمّا حصول السنبل فيتوقف على مقدّمات اُخرى خارجة عن قدرة المكلف، كحرراة الشمس وهبوب الريح مثلاً، فلو علمنا بأنّ الغرض

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [ ذكر (قدس سره) في ذلك البحث أنّ قصد القربة ممّا يمكن أخذه في متعلق الأمر  ومع الشك فيه يُنفى بالاطلاق إن كان وإلاّ فبالبراءة. وهذا الوجه يصلح لنفي اعتبار قصد الوجه أيضاً وقد استدلّ به في ص 87 من هذا الكتاب فراجع ].

(2) تقدّم ذكرها في ص 88.

(3) أجود التقريرات 3: 501 ـ 503، فوائد الاُصول 4: 165 وما بعدها.

ــ[506]ــ

من القسم الأوّل يجب القطع بحصوله، بلا فرق بين أن يكون الأمر في مقام الاثبات متعلقاً بنفس الغرض أو بعلّته، ففي مثله لو دار الأمر بين الأقل والأكثر كان مورداً للاحتياط، فيجب الاتيان بالأكثر تحصيلاً للقطع بغرض المولى، ولو علمنا كون الغرض من القسم الثاني فلا إشكال في أنّ حصول الغرض ليس متعلقاً للتكليف لعدم صحّة التكليف بغير المقدور، فلا يجب على المكلف إلاّ الاتيان بما أمر به المولى وهو نفس الفعل المأمور به. وفي مثله لو دار الأمر بين الأقل والأكثر وجب الاتيان بالأقل، للعلم بوجوبه على كل تقدير، وكان وجوب الأكثر مورداً للأصل لعدم العلم به. وأمّا لو شككنا في ذلك ولم نعلم بأنّ الغرض من القسم الأوّل ليجب الاحتياط عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر، أو من القسم الثاني ليرجع إلى أصالة البراءة عن الأكثر، فلا مناص من الرجوع إلى الأمر، فإن كان متعلقاً بالغرض كالأوامر المتعلقة بالطهارة من الحدث في مثل قوله تعالى: (إِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(1) يستكشف منه كون الغرض مقدوراً لنا، لأ نّه لو لم يكن مقدوراً لم يأمر المولى الحكيم به، لقبح التكليف بغير المقدور، فيجب الاحتياط عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر تحصيلاً للعلم بغرض المولى، وإن كان متعلقاً بفعل المأمور به كالأوامر المتعلقة بالصلاة والصوم ونحوهما، يستكشف منه كون الغرض غير مقدور لنا، وإلاّ كان تعلّق الأمر به أولى من تعلّقه بالمقدّمة، فلا يجب الاحتياط عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر. والمقام من هذا القبيل، فانّ الأمر قد تعلّق بنفس الفعل المأمور به ويستكشف منه أنّ الغرض ليس متعلقاً للتكليف، فلا يجب علينا إلاّ الاتيان بما علم تعلّق التكليف به وهو الأقل، وأمّا الأكثر فيرجع فيه إلى الأصل.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5: 6.

ــ[507]ــ

  وفيه: ما تقدّم في بحث الصحيح والأعم (1) من أنّ المترتب على المأمور به غرضان، أحدهما: الغرض الأقصى الذي نسبته إلى المأمور به نسبة المعلول إلى العلل الاعدادية، فليس مقدوراً للمكلف ولا متعلقاً للتكليف. ثانيهما: الغرض الاعدادي الذي نسبته إلى الفعل المأمور به نسبة المعلول إلى علّته التامّة، وقد يعبّر عنه في كلام بعض الأساطين (2) بسد باب العدم من ناحية هذه المقدّمة، أي الفعل المأمور به، فعلى القول بوجوب تحصيل الغرض يجب الاتيان بالأكثر تحصيلاً للعلم بهذا الغرض الذي تكون نسبته إلى المأمور به نسبة المعلول إلى علّته التامّة، فكون الغرض الأقصى خارجاً عن قدرة المكلف لا يفيد في دفع الاشكال، بعد الالتزام بوجوب الاحتياط، فيما إذا كان الغرض مترتباً على المأمور به ترتب المعلول على العلّة التامّة، لأنّ الغرض الاعدادي الذي نشك في حصوله باتيان الأقل يكفي لوجوب الاحتياط والاتيان بالأكثر.

  والصحيح في الجواب أن يقال: إنّه إن كان الغرض بنفسه متعلقاً للتكليف كما إذا أمر المولى بقتل زيد، ففي مثل ذلك يجب على المكلف إحراز حصوله والاتيان بما يكون محصّلاً له يقيناً. وأمّا إن كان التكليف متعلقاً بالفعل المأموربه، فلا يجب على العبد إلاّ الاتيان بما أمر به المولى، وأمّا كون المأمور به وافياً بغرض المولى فهو من وظائف المولى، فعليه أن يأمر العبد بما يفي بغرضه، فلو فرض عدم تمامية البيان من قبل المولى لا يكون تفويت الغرض مستنداً إلى العبد، فلا يكون العبد مستحقاً للعقاب.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [ لم يُذكر في بحث الصحيح والأعم على ما في التقريرات وإنّما ذُكر في بحث مقدّمة الواجب، راجع محاضرات في اُصول الفقه 2: 217 ـ 218 ].

(2) نهاية الأفكار 3: 406.

ــ[508]ــ

  وبالجملة: لا يزيد الغرض على أصل التكليف، فكما أنّ التكليف الذي لم يقم عليه بيان من المولى مورد لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، كذلك الغرض الذي لم يقم عليه بيان من المولى مورد لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فإذا دار الأمر بين الأقل والأكثر، فكما أنّ التكليف بالزائد على القدر المتيقن ممّا لم تقم عليه حجّة من قبل المولى، فيكون العقاب عليه عقاباً بلا بيان، كذلك الغرض المشكوك ترتبه على الأقل أو الأكثر، فانّه على تقدير ترتبه على الأقل كانت الحجّة عليه تامّة، وصحّ العقاب على تفويته بترك الأقل. وعلى تقدير ترتبه على الأكثر لم تقم عليه الحجّة من قبل المولى، وكان العقاب على تفويته بترك الأكثر عقاباً بلا بيان.

  هذا كلّه بناءً على ما هو المشهور من مذهب العدلية من تبعية الأحكام للملاكات في متعلقاتها، وأمّا على القول بكونها تابعةً للمصالح في نفسها كما مال إليه صاحب الكفاية في بعض كلماته(1)، وكما هو الحال في الأحكام الوضعية مثل الملكية والزوجية ونحوهما، فالاشكال مندفع من أصله كما هو ظاهر.

  الجهة الثانية: في جريان البراءة الشرعية وعدمه، وملخص الكلام فيه: أ نّه إن قلنا بجريان البراءة العقلية، فلا ينبغي الاشكال في جريان البراءة الشرعية أيضاً بملاك واحد، وهو عدم جريان الأصل في الاطلاق، باعتبار كونه سعة على المكلف، ولا يكون تضييقاً عليه ليشمله حديث الرفع ونحوه، فيجري الأصل في التقييد بلا معارض، فكما قلنا إنّ الأصـل عدم التقييد بمعنى قبح العقاب عليه لعدم البـيان، كذلك نقول برفع المؤاخذة على التقييد لكونه ممّا لا يعلم، فيشمله مثل حديث الرفع. وإن قلنا بعدم جريان البراءة العقلية وعدم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 309.

ــ[509]ــ

انحلال العلم الاجمالي، ففي جواز الرجوع إلى البراءة الشرعية وجهان. ذهب صاحب الكفاية (قدس سره) (1) والمحقق النائيني (قدس سره) (2) إلى الأوّل.

  أمّا صاحب الكفاية فذكر في وجهه أنّ عموم مثل حديث الرفع قاض برفع جزئية ما شكّ في جزئيته، فبمثله يرتفع الاجمال والتردد عمّا تردد أمره بين الأقل والأكثر، ويعينه في الأوّل.

  وأمّا المحقق النائيني (قدس سره) فذكر في وجهه أنّ مفاد حديث الرفع ونحوه عدم التقييد في مرحلة الظاهر، فيثبت به الاطلاق ظاهراً، لأنّ عدم التقييد هو عين الاطلاق، باعتبار أنّ التقابل بينهما هو تقابل العدم والملكة، فالاطلاق عدم التقييد في مورد كان صالحاً للتقييد، فبضميمة مثل حديث الرفع إلى أدلة الأجزاء والشرائط يثبت الاطلاق في مرحلة الظاهر.

  والتحقيق عدم صحّة التفكيك بين البراءة العقلية والشرعية، وأ نّه على تقدير عدم جريان البراءة العقلية كما هو المفروض لا مجال لجريان البراءة الشرعية أيضاً، وذلك لأنّ عمدة ما توهم كونه مانعاً عن جريان البراءة العقلية أمران: الأوّل: لزوم تحصيل الغرض المردد ترتبه على الأقل والأكثر. الثاني: أنّ الأقل المعلوم وجوبه على كل تقدير هو الطبيعة المرددة بين الاطلاق والتقييد، فكل من الاطلاق والتقييد مشكوك فيه، فلا ينحل العلم الاجمالي لتوقفه على إثبات الاطلاق، فما لم يثبت الاطلاق كان العلم الاجمالي باقياً على حاله. وعليه يكون الشك في سقوط التكليف باتيـان الأقل لا في ثبوته، فيكون مجرىً لقاعدة الاشتغال دون البراءة. ومن الظاهر أنّ كلاً من هذين الوجهين لو تمّ لكان مانعاً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 366.

(2) أجود التقريرات 3: 494، فوائد الاُصول 4: 162.

ــ[510]ــ

عن الرجوع إلى البراءة الشرعية أيضاً.

  أمّا الوجه الأوّل: فلأنّ الغرض الواصل بالعلم الاجمالي لو لزم تحصيله على كل تقدير كما هو المفروض، فلا ينفع الرجوع إلى مثل حديث الرفع مع الشك في حصول الغرض باتيان الأقل، إذ غاية ما يدل عليه حديث الرفع ونحوه من أدلة البراءة الشرعية هو رفع الجزئية عن الجزء المشكوك فيه ظاهراً، بمعنى عدم العقاب على تركه، ومن المعلوم أنّ رفع الجزئية عن الجزء المشكوك فيه ظاهراً لا يدل على كون الغرض مترتباً على الأقل.

  وبعبارة اُخرى: أصالة عدم جزئية المشكوك لا يترتب عليها كون الغرض مترتباً على الأقل، لعدم كونه من آثاره الشرعية، فاحراز كون الغرض مترتباً على الأقل بها مبني على القول بالأصل المثبت ولا نقول به، فيجب الاتيان بالأكثر لاحراز حصول الغرض.

  وبعبارة ثالثة: بعد الالتزام بوجوب تحصيل الغرض بحكم العقل وكون المكلف معاقباً بترك تحصيله، لا ينفع الرجوع إلى مثل حديث الرفع، لكونه دالاًّ على عدم العقاب بترك الجزء المشكوك فيه، لا على رفع العقاب بترك تحصيل الغرض. نعم، لو كان ما دلّ على رفع الجزئية من الأمارات الناظرة إلى الواقع لترتبت عليه لوازمه العقلية، فيحكم بترتب الغرض على الأقل، لحجّية مثبتات الأمارات دون الاُصول على ما ذكر في محلّه (1)، كما أ نّه لو كان دليل البراءة الشرعية وارداً في خصوص دوران الأمر بين الأقل والأكثر لزم الحكم بكفاية الأقل وترتب الغرض عليه صوناً لكلام الحكيم عن اللغوية. وأمّا إذا لم تكن أدلة البراءة من الأمارات الناظرة إلى الواقع، بل من الاُصول الناظرة إلى تعيين

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ الجزء الثالث من هذا الكتاب ص 186.

ــ[511]ــ

الوظيفة عند العجز عن الوصول إلى الواقع، ولم تكن واردةً في خصوص دوران الأمر بين الأقل والأكثر كما هو المفروض، فلا يفيد الرجوع إليها لنفي وجوب الأكثر بعد حكم العقل بوجوب تحصيل الغرض وعدم العلم بترتبه على الأقل.

  وأمّا الوجه الثاني: فلأنّ جريان البراءة عن الأكثر ـ اي عن تقييد الأقل بانضمام الأجزاء المشكوك فيها ـ لايثبت تعلّق التكليف بالأقل على نحو الاطلاق، إلاّ على القول بالأصل المثبت، لما ذكرناه مراراً (1) من أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد بحسب مقام الثبوت هو تقابل التضاد، إذ الاطلاق بحسب مقام الثبوت عبارة عن لحاظ الطبيعة بنحو السريان واللا بشرط القسمي، والتقييد عبارة عن لحاظها بشرط شيء، والطبيعة الملحوظة بنحو لا بشرط مضادة مع الطبيعة الملحوظة بشرط شيء، ومع كون التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل التضاد لايمكن إثبات الاطلاق بنفي التقييد، ومعه لاينحل العلم الاجمالي المقتضي لوجوب الاحتياط، فلا تجري البراءة النقلية كما لا تجري البراءة العقلية. نعم، بناءً على ما ذكرناه (2) من أنّ انحلال العلم الاجمالي لا يحتاج إلى إثبات الاطلاق بل يكفيه جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض، جرت البراءة العقلية والنقلية في المقام بملاك واحد.

  فتلخص ممّا ذكرناه: عدم صحّة التفكيك بين البراءة العقلية والنقلية في المقام، فلا بدّ من القول بجريان البراءة عقلاً ونقلاً كما اختاره شيخنا الأنصاري (قدس سره) وهو الصحيح على ما تقدّم بيانه، أو الالتزام بقاعدة الاشتغال وعدم جواز الرجوع إلى البراءة العقلية والنقلية.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع على سبيل المثال محاضرات في اُصول الفقه 1: 528 ـ 529.

(2) في ص 502.

ــ[512]ــ
 

تنبيه:

  ذكر صاحب الكفاية (1) (قدس سره) في المقام إشكالاً: وهو أ نّه بعد جريان البراءة الشرعية عن وجوب الأكثر كيف يمكن الالـتزام بوجوب الأقل ولا دليل عليه، فانّ الأدلة الأوّلية تدل على وجوب المركب التام، وبعد رفع جزئية الجزء المشكوك فيه بمثل حديث الرفع لا يبقى دليل على وجوب الباقي.

  وأجاب عنه: بأنّ نسبة حديث الرفع إلى أدلة الأجزاء والشرائط نسبة الاستثناء إلى المستثنى منه، فبضميمته إليها يحكم باختصاص الجزئية بغير حال الجهل.

  والتحقيق: أنّ وجوب الأقل لا يحتاج إلى دليل آخر، فانّ نفس العلم الاجمالي بوجوب الأقل المردّد بين كونه بنحو الاطلاق أو التقييد كاف في وجوبه، فالاشكال المذكور وجوابه ساقط من أصله.

  والظاهر والله العالم أنّ الاشكال المذكور نشأ من الخلط بين الجهل والنسيان والاضطرار والاكراه، فانّه في باب الاضطرار بعد رفع جزئية بعض الأجزاء للاضطرار إلى تركه بقوله (صلّى الله عليه وآله): «وما اضطروا إليه»(2) يحتاج وجوب الباقي إلى الدليل، لأنّ الأدلة الأوّلية إنّما دلّت على وجوب المركب التام، وبعد رفع اليد عنها لأدلة الاضطرار لم يبق دليل على وجوب بقية الأجزاء، وكذا الحال في باب الاكراه والنسيان.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 367.

(2) الوسائل 15: 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1.

ــ[513]ــ

 والاشكال المذكور وارد لا مدفع له في هذه الموارد، ولا يفيد ما ذكره صاحب الكفاية في مقام الجواب عنه من أنّ نسبة حديث الرفع إلى أدلة الأجزاء والشرائط هي نسبة الاستثناء إلى المستثنى منه، وذلك لأنّ النسبة المذكورة إنّما تتمّ بعد ما دلّ دليل على وجوب البقـية، والكلام فعلاً في وجود هذا الدليل، ولا يمكن إثباته، أي إثبات وجوب البقية بنفس حديث الرفع، فانّ مفاده نفي وجوب ما اضطرّ إليه، لا إثبات وجوب بقية الأجزاء والشرائط، فبعد رفع اليد عن الأدلة الأوّلية الدالة على المركب التام لأجل الاضطرار لم يبق دليل على وجوب البقية.

  نعم، لو دلّ دليل خاص على وجوب البقية في مورد كما في الصلاة فانّها لا تسقط بحال، فهو المتبّع، أو تمّت قاعدة الميسور كبرىً وصغرى، فيعمل بها، وإلاّ فيشكل الحكم بوجوب البقية كما في الصوم، فانّه بعد الافطار في بعض أجزاء اليوم لأجل الاضطرار لا دليل على وجوب الامساك في بقية أجزاء ذلك اليوم. وأوضح منه الوضوء فيما لم يكن الماء كافياً لغسل جميع الأعضاء، فانّه لا دليل على وجوب غسل بعض الأعضاء دون بعض آخر، وسيجيء التعرّض لتفصيل ذلك في
محلّه(1) إن شاء الله تعالى. وقد عرفت أنّ كل ذلك أجنبي عن المقام، لأنّ العلم الاجمالي بوجوب الأقل المردد بين كونه بنحو الاطلاق أو التقييد كاف في إثبات وجوبه بلا حاجة إلى دليل آخر.

  بقي الكلام في الاستصحاب، فقد تمسّك به للاشتغال مرّة وللبراءة اُخرى.

  أمّا التمسّك به للاشتغال فتقريبه: أنّ التكليف متعلق بما هو مردد بين الأقل والأكثر، فالواجب مردد بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في التنبيه الأوّل والثالث، ص 532 و 546.

ــ[514]ــ

فانّ التكليف لو كان متعلقاً بالأقل، فهو مرتفع بالاتيان به يقيناً ولو كان متعلقاً بالأكثر فهو باق يقيناً، فبعد الاتيان بالأقل نشك في سقوط التكليف المتيقن ثبوته قبل الاتيان به، فيستصحب بقاؤه على نحو القسم الثاني من استصحاب الكلّي. وبعد جريان هذا الاستصحاب والحكم ببقاء التكليف تعبداً يحكم العقل بوجوب الاتيان بالأكثر تحصيلاً للعلم بالفراغ، لا أ نّه يترتب الحكم بوجوب الأكثر على نفس الاستصحاب حتّى يكون مثبتاً بالنسبة إليه، بل المترتب على الاستصحاب هو الحكم ببقاء التكليف فقط، وأمّا وجوب الاتيان بالأكثر فانّما هو بحكم العقل بعد إثبات الاشتغال وبقاء التكليف، للملازمة بين بقاء التكليف وحكم العقل بوجوب تحصيل العلم بالفراغ. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال بالاستصحاب للاشتغال.

  ويرد عليه أوّلاً: أنّ جريان القسم الثاني من استصحاب الكلّي متوقف على كون الحادث مردداً بين المرتفع والباقي، لأجل تعارض الأصل في كل منهما، كما إذا تردد الحدث المتحقق ممّن كان متطهراً بين الأصغر والأكبر فانّ أصالة عدم تحقق الأكبر معارضة بأصالة تحقق الأصغر، فبعد الوضوء نشك في ارتفاع الحدث المتيقن حدوثه، لكونه مردداً بين ما هو مرتفع يقيناً وما هو باق كذلك، فيستصحب الحدث الكلّي. وأمّا فيما لم تتعارض فيه الاُصول بل اُحرز حال الفرد الحادث بضميمة الأصل إلى الوجدان فلم يبق مجال للرجوع إلى استصحاب الكلّي، كما إذا كان المكلف محدثاً بالأصغر ثمّ احتمل عروض الجنابة له بخروج بلل يحتمل كونه منياً، ففي مثل ذلك لا معنى للرجوع إلى استصحاب الكلّي بعد الوضوء، لأنّ الحدث الأصغر كان متيقناً، إنّما الشك في انقلابه إلى الأكبر، فتجري أصالة عدم حدوث الأكبر، وبضم هذا الأصل إلى الوجدان يحرز الفرد الحادث وأ نّه الأصغر، فلم يبق مجال لجريان استصحاب الكلّي.

ــ[515]ــ

والمقام من هذا القبيل بعينه، فانّ وجوب الأقل هو المتيقن، وبضميمة أصالة عدم وجوب الأكثر يحرز حال الفرد ويتعيّن في الأقل، فلم يبق مجال لجريان استصحاب الكلّي.

  وبالجملة الرجوع إلى القسم الثاني من استصحاب الكلّي إنّما هو فيما إذا كان الفرد الحادث مردداً بين المرتفع والباقي، وأمّا لو كان أحد الفردين متيقناً والآخر مشكوكاً فيه، فيجري الأصل فيه بلا معارض، فلا تصل النوبة إلى استصحاب الكلّي.

  وثانياً: أنّ الاستصحاب المذكور ـ على تقدير جريانه في نفسه ـ معارض باستصحاب عدم تعلّق جعل التكليف بالأكثر لو لم نقل بكونه محكوماً، فيسقط للمعارضة أو لكونه محكوماً.

  وأمّا التمسّك بالاستصحاب للبراءة فتقريبه بوجوه:

  التقريب الأوّل: استصحاب عدم لحاظ الأكثر حين جعل التكليف.

  وفيه أوّلاً: أنّ عدم اللّحاظ ليس حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكم شرعي، فلا معنى لجريان الاستصحاب فيه.

  وثانياً: أنّ الأمر في المقام دائر بين لحاظ الأقل بشرط شيء الذي هو عبارة عن لحاظ الأكـثر، وبين لحاظ الأقل بنحو اللا بشرط القسمي، بعد العلم الاجمالي بتحقق أحدهما لاسـتحالة الاهمال في مقام الثبوت، وكما أنّ لحاظ الأقل بشرط شيء مسبوق بالعدم ومشكوك الحدوث، كذلك لحاظ الأقل بنحو اللا بشرط القسمي أيضاً مسبوق بالعدم ومشكوك الحدوث، فجريان الاستصحاب في كل منهما معارض بجريانه في الآخر.

  التقريب الثاني: استصحاب عدم الجزئية لما هو مشكوك الجزئية، وحيث

ــ[516]ــ

إنّ الجزئية أمر انتزاعي تنتزع عن الأمر بالمركب، فاستصحاب عدم الجزئية يرجع إلى استصحاب عدم تعلّق الأمر بالمركب من هذا الجزء المشكوك فيه وهو التقريب الثالث.

  ويرد عليه: أنّ هذا الاستصحاب معارض بمثله حسب ما أشرنا إليه آنفاً من أنّ الأقل المتيـقن الذي تعلّق الأمر والتكليف به أمره دائر بين الاطلاق والتقييد، فكما أنّ تعلّق التكليف بالأقل على نحو التقييد مشكوك الحدوث، كذلك تعلّق التكليف به على نحو الاطـلاق أيضاً مشكوك الحدوث، فاجراء الاستصحاب فيهما مناف للعلم الاجمالي، وفي أحدهما ترجيح بلا مرجح.

  فتلخّص ممّا ذكرناه: عدم صحّة التمسّك بالاستصحاب في المقام، لا للاشتغال ولا للبراءة.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net