التعرّض لجهات من البحث 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6103

  

ربّ زدني علماً وألحقني بالصالحين، واجعلني مقرّر صدق أكن من الشاكرين، فانّك في الدّارين رجائي وجلَّ قدسك عن حمدي وثنائي، وصلّ اللّهمّ على أشرف أنبيائك المرسلين وأفضل سفرائك المرضيين محمّد وآله الأطهار المعصومين.

 أمّا بعد، فهذه ثمرات اقتطفتها من شجرة طيِّبة، ودُرر كلمات تلقّيتها من أبحاث قيّمة لحضرة سيّدنا الاُستاذ العلاّمة صرّاف نقود العلم بأفكاره الباكرة، غوّاص بحار الفضل بأنظاره العالية، المحدِّث الخبير، والفقيه البصير، والاُصولي الشهير، حجّة الاسلام والمسلمين آية الله العظمى في العالمين سيّدنا ومولانا حضرة الحاج السيّد أبو القاسم الخوئي ( أدام الله ظلّه العالي ومتّع المسلمين بوجوده الشريف).

ــ[1]ــ
 

مباحث الاستصحاب
 

ــ[2]ــ

ــ[3]ــ
 

الكلام في الاستصحاب

 وتحقيق القول فيه يقتضي التكلم في جهات:

 الجهة الاُولى: في تعريفه، وقد ذكر شيخنا الأنصاري (قدس سره) عدّة من التعاريف التي عرّفـوه بها، وقال: إن أسدّها وأخصرها إبقاء ما كان، وليس المراد من الابقاء هو الابقاء التكـويني الخارجي، بل المـراد هو حكم الشارع بالبقاء، فالمراد من الابقاء هو الابقاء بحكم الشارع(1).

 وقال صاحب الكفاية (قدس سره): إن عباراتهم في تعريفه وإن كانت شتى، إلاّ أ نّها تشير إلى مفهوم واحد، وهو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه(2).

 أقول: أمّا ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) من التعريف، فهو شرح لما ذكره الشيخ (قدس سره) لا غيره. وأمّا ما ذكره من كون التعاريف مشيرة إلى معنى واحد، فغير صحيح، لاختلاف المباني في الاستصحاب، وكيف يصح

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 541.

(2) كفاية الاُصول: 384.

ــ[4]ــ

تعريف الاستصحاب بأ نّه حكم الشارع بالبقاء في ظرف الشك بناءً على كون الاستصحاب من الأمارات، فانّ الأمارات ما ينكشف الحكم بها فلا يصح تعريفها بالحكم.

 والذي ينبغي أن يقال: إنّ البحث في الاستصحاب راجع إلى أمرين لا إلى أمر واحد:

 الأوّل: البحث عنه بناءً على كونه من الأمارات.

 والثاني: البحث عنه بناءً على كونه من الاُصول.

 أمّا على القـول بكـونه من الأمارات المفيدة للظن النـوعي، فالصحيح في تعريفه ما نقله الشيخ (قدس سره) عن بعضهم من أنّ الاستصحاب كون الحكم متيقناً في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق. فان كون الحكم متيقناً في الآن السابق أمارة على بقائه ومفيدةٌ للظن النوعي، فيكون الاستصحاب كسائر الأمارات المفيدة للظن النوعي، ويكون المثبت منه حجة أيضاً على ما هو المعروف بينهم، وإن كان لنا كلام في حجية الاستصحاب المثبت حتى على القول بكونه من الأمارات، وسيجيء الكلام فيه(1) إن شاء الله تعالى.

 كما أ نّه على القول باعتباره من باب إفادته الظن الشخصي، فالصحيح في تعريفه أن يقال:

 إنّ الاستصحاب هو الظن ببقاء حكم يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق، فيكون الاستصحاب كبعض الظنون الشخصية المعتبرة شرعاً في بعض المقامات، كالظن في تشخيص القبلة وكالظن بالركعات في الصلوات الرباعية.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 185 و 186.

ــ[5]ــ

وهذا المعنى هو المأخوذ من الكبرى في كلام شارح المختصر على ما نقله الشيخ(1) (قدس سره) من قوله: الحكم الفلاني قد كان متيقناً سابقاً وشك في بقائه، وكلّما كان كذلك فهو مظنون البقاء.

 وأمّا على القول بكونه من الاُصول، فلا بدّ من تعريفه بالحكم كما وقع في كلام الشيخ وصاحب الكفاية، لكن لا بما ذكراه من أ نّه الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم، فانّ الاستصحاب على هذا التقـدير مأخوذ من الأخبار وعمدتها صحاح زرارة، وليس فيها ما يدلّ على الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم، بل المستفاد منها حرمة نقض اليقين بالشك من حيث العمل، والحكم ببقاء اليقين من حيث العمل في ظرف الشك.

 فالصحيح في تعريفه على هذا المسلك أن يقال: إنّ الاستصحاب هو حكم الشارع ببقاء اليقين في ظرف الشك من حيث الجري العملي.

 الجهة الثانية: في أنّ البحث عن الاستصحاب هل يكون بحثاً عن مسألة اُصولية أو فقهية؟

 فنقول: أمّا على القول باختصاص حجية الاستصحاب بالشبهات الموضوعية وعدم حجيته في الأحكام الكلّية الإلهية كما هو المختار، فالبحث عنه يرجع إلى البحث عن قاعدة فقهية مستفادة من الأخبار، فيكون الاستصحاب من القواعد الفقهية كقاعدة الطهارة وقاعدة التجاوز، ويعتبر فيه حينئذ اليقين السابق والشك اللاحق من المقلد، ولا يكفي تحققهما من المجتهد بالنسبة إلى تكليف المقلد، فلو كان المقلد متيقناً بالطهارة من الحدث وشك في الحدث فرجع إلى المجتهد، فلا بدّ له من الافتاء بابقاء الطهارة عملاً وإن كان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 542.

ــ[6]ــ

المجتهد متيقناً بكونه محدثاً. نعم، اليقين والشك من المجتهد إنّما يعتبران في جريان الاستصحاب بالنسبة إلى تكليف نفسه لا بالنسـبة إلى المقلّد، وكذا جمـيع القواعد الفقهية كقاعدة الفراغ من الصلاة فيما إذا شك في نقصان ركن من أركان صلاته، فيفتي له المجتهد بالصحة لأجل الفـراغ وإن كان هو عالماً بنقصـان ركن من أركان صلاته، ولا يقبل قوله بنقصان الركن إلاّ من باب الشهادة إذا اعتبرنا شهادة العدل الواحد في أمثال هذه المقامات.

 وأمّا على القول بحجيته في الأحكام الكلّية أيضاً بأن يقال: الشك المأخوذ في الاستصحاب شامل لما كان منشؤه عدم وصول البيان من قبل الشارع، أو الاُمور الخارجية، ويشمل الصورتين دليل واحد، كما مرّ(1) نظيره في شمول حديث الرفع للشبهات الحكمية والموضوعية، لكون المراد منه كل حكم مجهول، سواء كان منشأ الجهل عدم تمامية البيان من قبل الشارع كاجمال النص، أو الاُمور الخارجية، ولا يلزم استعمال اللفظ في المعنيين.

 فيكون الاستصحاب حينئذ ذا جهتين، فمن جهة كونه حجةً في الأحكام الكلّية يكون البحـث عنه بحثاً عن مسألة اُصـولية، لما ذكرناه في أوّل هذه الدورة (2) من أنّ الميزان في المسألة الاُصولية إمكان وقوع النتيجة في طريق استنباط الأحكام الشرعية بلا احتياج إلى مسألة اُخرى، أي أنّ المسألة الاُصولية ما يمكن أن تقع نتيجتها في كبرى القياس الذي ينتج نفس الحكم الشرعي بلا احتياج إلى شيء آخر، وحينئذ يعتبر فيه اليقين السابق والشك اللاحق من المجتهد كما في سائر القواعد الاُصولية، فبعد تحقق اليقين السابق

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في الجزء الثاني من هذا الكتاب ص 301، 304.

(2) دراسات في علم الاُصول 1: 24 و 25، محاضرات في اُصول الفقه 1: 4.

ــ[7]ــ

والشك اللاحق من المجتهد بالنسبة إلى حكم شرعي كلّي كنجاسة الماء المتمم كراً وحرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال، يستصحب هذا الحكم الكلّي ويفتي بنجاسة الماء وحرمة وطء الحائض، ويجب على المقلد اتباعه من باب رجوع الجاهل إلى العالم.

 ومن جهة كونه حجةً في الأحكام الجزئية والموضوعات الخارجية يكون البحث عنه بحثاً عن مسألة فقهية كما ذكرناه سابقاً، ولا مانع من اجتماع الجهتين فيه، فانّه يثبت كونه قاعدةً اُصوليةً وقاعدةً فقهيةً بدليل واحد وهو قوله (عليه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك»(1) فانّ إطلاقه شامل لليقين والشك المتعلقين بالأحكام الكلّية، واليقين والشك المتعلقين بالأحكام الجزئية أو الموضوعات الخارجية كما مرّ نظيره في بحث حجية خبر الواحد(2)، بناءً على حجية الخبر في الموضوعات أيضاً، فانّ إطلاق دليل الحجية يشمل ما لو تعلق الخبر بالأحكام وما لو تعلق بالموضوعات، فبدليل واحد يثبت كونها قاعدة اُصولية وقاعدة فقهية، ولا مانع منه أصلاً.

 الجهة الثالثة: في الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين وقاعدة المقتضي والمانع، فنقول:

 اليقين والشك متضادان، بل باعتبار خصوصية فيهما متناقضان، لأنّ اليقين يعتبر فيه عدم احتمال الخلاف، والشك يعتبر فيه احتمال الخلاف، وبين هاتين الخصوصيتين تناقض، وإن كان بين اليقين والشك المتخصصين بهما هو التضاد. وكيف كان لا يمكن اجتماع اليقين والشك لشخص واحد بالنسبة إلى شيء

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1: 245 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1.

(2) [ أشار إلى ذلك في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ص 200 ].

ــ[8]ــ

واحد، فإذا اجتمع اليقين والشك لشخص،

 فامّا أن يكون متعلق اليقين والشك متباينين بلا ارتباط لأحدهما بالآخر، كما إذا تعلق اليقين بعدالة زيد والشك باجتهاده أو باجتهاد شخص آخر، وهذا لا يتعلق بالبحث عنه غرض في المقام.

 وإمّا أن يكون بينهما نوع ارتباط بأن يكون متعلق اليقين جزء علّة لمتعلق الشك فيكون متعلق اليقين هو المقتضي ـ بالكسر ـ ومتعلق الشك هو المقتضى ـ بالفتح ـ فبعد اليقين بتحـقق المقتضي ـ بالكسر ـ يشك في تحقق المقتضى ـ بالفتح ـ لاحتمال وجود المانع. وهذا هو مورد قاعدة المقتضي والمانع، وسيأتي الكلام فيها (1) بعد الفراغ عن الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

 وإمّا أن يكون متعلق اليقين والشك متحداً ذاتاً ومتغايراً زماناً، فتارة يكون متعلق اليقين مقدّماً ومتعلق الشك مؤخراً، بأن يكون الشيء متيقناً في زمان سابق مشكوكاً في زمان لاحق. وبعبارة اُخرى يكون متيقن الحدوث ومشكوك البقاء، ويسمّى الشك حينئذ بالشك الطارئ، وهذا هو مورد للاستصحاب، ولا فرق فيه بين أن يكون اليقين في حدوثه مقدماً على الشك من حيث الزمان أو مؤخراً عنه أو يكونا متقارنين في الزمان. واُخرى يكون متعلق الشك مقدّماً على متعلق اليقين بأن يكون الشيء مشكوكاً في زمان سابق متيقناً في زمان لاحق، وهذا مورد الاستصحاب القهقري، ولايشمله دليل حجية الاستصحاب، لأن قوله (عليه السلام): «لأ نّك كنت على يقين من طهارتك فشككت»(2) صريح في تقدم متعلق اليقين على متعلق الشك، فلايدل على حجية الاستصحاب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 286.

(2) الوسائل 3: 477 / أبواب النجاسات ب 41 ح 1.

ــ[9]ــ

فيما إذا تقـدم المشكوك على المتيقن، فهذا الاستصحاب لا يكون حجةً إلاّ في موضع واحد، وهو ما إذا كان معنى اللفظ متيقناً في العرف فعلاً وشك في أ نّه هل كان في اللغة أو عرف الأئمة (عليهم السلام) كذلك أم لا، فيحكم بكون اللفظ حقيقةً في اللغة وعرف الأئمة (عليهم السلام) أيضاً بأصالة عدم النقل. وحجية هذا الاستصحاب في خصوص هذا المورد ثابتة ببناء العقلاء، ولولا حجيته لانسدّ علينا باب الاستنباط، لاحتمال كون ألفاظ الأخبار في عرفهم (عليهم السلام) ظاهرةً في غير ما هي ظاهرة فيه في عرفنا الحاضر، وكذا ألفاظ التسجيلات المذكورة في كتب القدماء.

 وإمّا أن يكون متعلق اليقين والشك متحداً ذاتاً ومقارناً زماناً، وهذا لا يتصور إلاّ مع اختلاف اليقين والشك من حيث الزمان، فتارةً يكون الشك مقدّماً على اليقين كما إذا شككنا يوم الخميس في عدالة زيد يوم الأربعاء ثمّ علمنا يوم الجمعة عدالته يوم الأربعاء، وهذا مما لا إشكال فيه، فانّه يجب عليه العمل بوظيفة الشاك ما دام شاكاً، والعمل بوظيفة المتيقن بعد تبدّل شكه باليقين، واُخرى يكون اليقين مقدّماً على الشك، ويسمّى بالشك الساري، لسريانه إلى نفس متعلق اليقين كما إذا علمنا يوم الخميس بعدالة زيد يوم الأربعاء وشككنا يوم الجمعة في عدالته يوم الأربعاء لاحتمال أن يكون علمنا السابق جهلاً مركباً، وهذا مورد قاعدة اليقين، وسيجيء الكلام فيها (1) من حيث شمول أدلة الاستصحاب لها وعدمه، ومن حيث دلالة دليل آخر عليها وعدمها، بعد الفراغ من بحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

 الجهة الرابعة: في تقسيم الاستصحاب على أنحاء:

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 287.

ــ[10]ــ

 فتارةً يقسّم باعتبار المستصحب، فانّه قد يكون حكماً شرعياً، وقد يكون غيره، والحكم الشرعي قد يكون تكليفياً وقد يكون وضعياً، وكذا قد يكون كلّياً وقد يكون جزئياً.

 واُخرى باعتبار منشأ اليقين، فانّه قد يكون العقل وقد يكون غيره من الكتاب والسنّة أو السماع والرؤية كما إذا كان المستصحب من الاُمور الخارجية.

 وثالثةً باعتبار منشأ الشك فانّه قد يكون الشك ناشئاً من احتمال انقضاء استعداده ذاتاً، ويسمّى بالشك في المقتضي، وقد يكون ناشئاً من احتمال طروء المانع مع اليقين بوجود المقتضي، ويسمّى بالشك في الرافع، وغير ذلك من التقسيمات التي تعرَّض لها الشيخ (قدس سره) (1).

 وقد وقع الخلاف بينهم في حجية الاستصحاب مطلقاً، وعدمها مطلقاً، والتفصيل بين الحكم الشرعي وغيره تارةً، وبين ما كان سبب اليقين بالحكم الشرعي الدليل العقلي وغيره اُخرى، وبين الشك في المقتضي والشك في الرافع ثالثة.

 واختار الشيخ (قدس سره) (2) التفصيل باعتبارين: الأوّل التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع. والثاني: التفصيل بين ما كان سبب اليقين بالحكم الشرعي الدليل العقلي وغيره، فأنكر حجية الاستصحاب في الأوّل في التفصيلين، وإن كان إرجاع التفصيل الثاني إلى الأوّل ممكناً، وحيث إنّ استقصاء هذه التفاصيل تطويل بلا طائل، فالعمدة هو النظر إلى الأدلة التي أقاموها على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 549.

(2) فرائد الاُصول 2: 554 و 561.

ــ[11]ــ

حجية الاسـتصحاب، فإن تمّت فننظر إلى مقدار دلالتها من حيث الشمول لجميع التقادير المتقدمة أو بعضها.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net