13 ـ استصحاب حكم المخصص مع العموم الأزماني 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5301


ــ[257]ــ
 

التنبيه الثالث عشر

 في جريان استصحاب حكم المخصص مع العموم الأزماني وعدمه، فنقول:

 إذا ورد حكم عام ثمّ خرج عنه بعض الأفراد في بعض الأزمنة، فشك في حكم هذا الفرد بالنسبة إلى ما بعد ذلك الزمان، فهل يرجع إلى العموم أو إلى استصحاب حكم المخصص؟ ذهب إلى كل جماعة.

 ولا يخفى أنّ انعقاد هذا البحث ليس من جهة ملاحظة التعارض بين العموم والاستصحاب، فانّ الاستصحاب أصل عملي لا مجال للرجوع إليه مع وجود الدليل من عموم أو إطلاق، ولا مانع من الرجوع إليه إن لم يكن هناك دليل، بل انعقاد البحث إنّما هو لتعيين موارد الرجوع إلى العموم وتمييزها عن موارد التمسك بالاستصحاب، فالاشكال والخلاف إنّما هو في الصغرى بعد الاتفاق في الكبرى.

 إذا عرفت تحرير محل النزاع، فاعلم أ نّه ذكر الشيخ(1) (قدس سره) أنّ العموم الازماني تارةً يكون على نحو العموم الاستغراقي، ويكون الحكم متعدداً بتعدد الأفراد الطولية، وكل حكم غير مرتبط بالآخر امتثالاً ومخالفةً، كوجوب الصوم ثلاثين يوماً، كما أنّ الأمر في الأفراد العرضية كذلك، فانّه إذا قال المولى: أكرم العلماء مثلاً، يكون الحكم متعدداً بتعدد أفراد العلماء الموجودين في زمان واحد، ولكل حكم إطاعة ومعصية وامتثال ومخالفة.

 واُخرى يكون على نحو العموم المجموعي، ويكون هناك حكم واحد مستمر،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 680 ـ 681 / التنبيه العاشر من تنبيهات الاستصحاب.

ــ[258]ــ

كوجوب الامساك من طلوع الفجر إلى المغرب، فانّه لا يكون وجوب الامساك تكليفاً متعدداً بتعدد آنات هذا اليوم. فإن كان العموم من القسم الأوّل، فالمرجع بعد الشك هو العموم، لأ نّه بعد خروج أحد الأفراد عن العموم، لا مانع من الرجوع إليه لاثبات الحكم لباقي الأفراد، وإن كان من القسم الثاني، فالمرجع هو الاستصحاب، لأنّ الحكم واحد على الفرض، وقد انقطع يقيناً، وإثباته بعد الانقطاع يحتاج إلى دليل، ومقتضى الاستصحاب بقاء حكم المخصص. هذا ملخص كلامه (قدس سره).

 وذكر صاحب الكفاية(1) (قدس سره) أنّ مجرد كون العموم الأزماني من قبيل العموم المجموعي لا يكفي في الرجوع إلى الاستصحاب، بل لا بدّ من ملاحظة الدليل المخصص أيضاً، فان اُخذ الزمان فيه بعنوان الظرفية، كما أ نّه بطبعه ظرف لما يقع فيه كالمكان، فلا مانع من التمسك بالاستصحاب، وإن كان الزمان مأخوذاً على نحو القيدية، فلا يمكن التمسك بالاستصحاب، لأ نّه مع فرض كون الزمان قيداً للموضوع يكون إثبات الحكم في زمان آخر من إسراء حكم ثابت لموضوع إلى موضوع آخر، وهو قياس محرّم، فلا بدّ من الرجوع إلى أصل آخر من البراءة أو الاشتغال حسب ما يقتضيه المقام، هذا كله على تقدير كون العموم على نحو العموم المجموعي.

 وأمّا إن كان العموم على نحو العموم الاستغراقي، فالمتعين الرجوع إلى العام إن لم يكن له معارض، وإلاّ فيتمسك بالاستصحاب إن كان الزمان في الدليل المخصص مأخوذاً بنحو الظرفية، وإن كان مأخوذاً بنحو القيدية، لايمكن التمسك بالاستصحاب أيضاً، فلا بدّ من الرجوع إلى أصل آخر، فتكون الصور على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 424 ـ 425 / التنبيه الثالث عشر من تنبيهات الاستصحاب.

ــ[259]ــ

ما ذكره أربع:

 الاُولى: أن يكون العام من قبيل العموم الاستغراقي مع كون الزمان مأخوذاً في دليل التخصيص بنحو الظرفية.

 الثانية: هي الاُولى مع كون الزمان مأخوذاً على نحو القيدية.

 وحكمهما الرجوع إلى العام مع عدم المعارض، وإلاّ فيرجع إلى الاستصحاب في الصورة الاُولى، وإلى أصل آخر في الصورة الثانية.

 الثالثة: أن يكون العموم من قبيل العام المجموعي مع كون الزمان ظرفاً.

 الرابعة: هي الثالثة مع كون الزمان قيداً.

 وحكمهما الرجوع إلى الاستصحاب في الثالثة وإلى أصل آخر في الرابعة. وتشتركان في عدم إمكان الرجوع إلى العام فيهما إلاّ فيما إذا كان التخصيص من الأوّل، كخيار المجلس مع قطع النظر عن النص الدال على لزوم البيع بعد الافتراق، وهو قوله(عليه السلام): «فاذا افترقا وجب البيع»(1) فيصح في مثله الرجوع إلى العام، لعدم كون التخصيص في هذه الصورة قاطعاً لاستمرار الحكم حتى يكون إثبات الحكم بعده محتاجاً إلى الدليل، فيرجع إلى استصحاب حكم الخاص، بل التخصيص يوجب كون استمرار الحكم بعد هذا الزمان، فيتعين الرجوع إلى العام بعد زمان التخصيص، بخلاف ما إذا كان التخصيص في الوسط، كخيار الغبن على ما هو المعروف من كون مبدئه زمان الالتفات إلى الغبن، فانّ التخصيص قاطع للاستمرار، وإثبات الحكم بعده يحتاج إلى دليل، هذا ملخص ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 18: 9 / أبواب الخيار ب 2 ح 4.

ــ[260]ــ

أقول: أمّا ما ذكره من أنّ مجرد كون العموم مجموعياً لا يكفي في جريان الاستصحاب، بل يحتاج إلى كون الزمان ظرفاً لا قيداً، فمتين.

 وأمّا ما ذكره من إمكان الرجوع إلى العموم المجموعي مع كون التخصيص في الأوّل، فهو صحيح فيما إذا كان العموم والاستمرار مستفاداً من الدليل الخارجي، بأن يدل دليل على إثبات الحكم في الجملة، ودليل آخر على استمراره، فحينئذ يمكن الفرق بين كون التخصيص في الأوّل وكونه في الوسط، بامكان الرجوع إلى العام في الأوّل، لكون التخصيص دالاً على أنّ الاستمرار ثابت للحكم المذكور بعد هذا الزمان، بخلاف ما إذا كان التخصيص في الوسط، فانّ الاستمرار قد انقطع، وإثبات الحكم بعده يحتاج إلى دليل.

 أمّا إذا كان الاستمرار مستفاداً من نفس الدليل الدال على ثبوت أصل الحكم كما في المقام، فانّ اللزوم والاستمرار كليهما مستفاد من قوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(1) فلا فرق بين كون التخصيص في الأوّل أو في الوسط، لأنّ الدليل يدل على حكم مستمر، فاذا انقطع يحتاج إثباته بعد التخصيص إلى دليل على مذاقه.

 ثمّ إنّه لا يمكن المساعدة على ما تسالم عليه الشيخ وصاحب الكفاية (قدس سرهما) من أ نّه إذا كان العموم من قبيل العموم المجموعي لا يمكن الرجوع إليه، ويتعين الرجوع إلى الاستصحاب ـ إمّا مطلقاً كما عليه الشيخ، أو فيما إذا كان الزمان في الدليل المخصص ظرفاً كما عليه صاحب الكفاية (قدس سره) ـ وذلك لما نقحناه في بحث العام والخاص(2) من عدم الفرق في جواز الرجوع إلى العام

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5: 1.

(2) [ لم نعثر عليه في مظانه ].

 
 

ــ[261]ــ

بين كونه استغراقياً أو مجموعياً، فكما لا فرق بينهما في الأفراد العرضية ويرجع إلى العموم في غير ما علم خروجه بمخصص متصل أو منفصل، سواء كان بنحو العموم الاستغراقي، كما إذا قال المولى: أكرم العلماء، وكان مراده إكرام كل واحد من العلماء على نحو الاستقلال، ثمّ خرج منه زيد يقيناً، وشك في خروج فرد آخر فنرجع إلى العموم، ونحكم بعدم خروجه، لأنّ التخصيص بالنسبة إلى فرد لا يمنع شمول العام للأفراد الاُخر، أو كان بنحو العموم المجموعي كما إذا قال المولى: أكرم هذه العشرة، وكان مراده إكرام مجموع العشرة من حيث المجموع، ثمّ علمنا بخروج زيد من هذه العشرة، وشككنا في خروج جزء آخر، فنرجع إلى العموم ونحكم بعدم الخروج، إذ التخصيص باعتبار جزء لا يمنع شمول العام للأجزاء الاخر.

 فكذا لا فرق بين العموم الاستغراقي والعموم المجموعي بالنسبة إلى الأفراد الطولية في جواز الرجوع إلى العام مع الشك في التخصيص، غاية الأمر أ نّه يثبت بالرجوع إلى العموم الاستغراقي حكم استقلالي، وبالعموم المجموعي حكم ضمني للجزء المشكوك فيه، فلا فرق بين العموم الاستغراقي والمجموعي من هذه الجهة.

 لا يقال: إنّه في العموم المجموعي يكون الحكم واحداً وقد انقطع، وإثباته ثانياً يحتاج إلى دليل.

 فانّه يقال: إنّ الحكم الواحد قد انقطع بالنسبة إلى جزء واحد، وخروج باقي الأجزاء يحتاج إلى دليل، كما يقال في العموم الاستغراقي: إنّ خروج فرد واحد إنّما هو للمخصص، وخروج باقي الأفراد يحتاج إلى دليل.

 وحيث إنّ ظاهر كلام الشيخ (قدس سره) في المقام مخالف للقاعدة الثابتة في

ــ[262]ــ

بحث العام والخاص من صحة التمسك بالعموم، بلا فرق بين العموم الاستغراقي والعموم المجموعي، فتصدى المحقق النائيني(1) (قدس سره) لتوجيه كلامه، وقال: إنّ ظاهر كلامه في الرسائل وإن كان موهماً للفرق بين العام الاستغراقي والعام المجموعي، إلاّ أنّ هذا الظاهر ليس مراده، بل مراده على ما يظهر من كلامه في بحث خيار الغبن من المكاسب(2) الفرق بين ما إذا كان الاستمرار قيداً لمتعلق الحكم، وما إذا كان قيداً لنفس الحكم.

 بيان ذلك: أنّ الحكم كالوجوب يحتاج إلى متعلق كالصوم، وإلى موضوع كالمكلف أو الماء والحجر مثلاً، وحيث إنّ الموضوع غالباً من الجواهر غير المتقدرة بالزمان، لا يعقل كون الزمان مفرّداً له، فانّ الماء يوم الجمعة ويوم السبت شيء واحد لا فردين من الماء، وكذا غيره من الموضوعات الخارجية. نعم، كون الزمان مفرّداً يتصور في نفس الحكم وفي متعلقه، فانّ الحكم من الاُمور الاعتبارية، وأمر وحدته وتعدده بيد الجاعل ـ وهو الشارع ـ فيمكن أن يعتبر الوجوب مقيداً بزمان خاص، فيكون الوجوب في غير هذا الزمان فرداً آخر من الوجوب، ويمكن أن يعتبر الوجوب غير مقيد بزمان خاص، فيكون وجوباً واحداً في جميع الأزمنة. وكذا في المتعلق له أن يعتبر الصوم مقيداً بزمان خاص متعلقاً للوجوب، فيكون الصوم في غير هذا الزمان فرداً آخر، ويمكن أن يعتبره غير مقيد بزمان خاص، فيكون الصوم المستمر متعلقاً للوجوب.

 إذا عرفت ذلك، ففي العموم الازماني تارةً: يكون الاستمرار مأخوذاً في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 4: 168 ـ 171، فوائد الاُصول 4: 532 ـ 545.

(2) المكاسب 5: 208.

ــ[263]ــ

متعلق الحكم، ويكون الحكم وارداً على الاستمرار، كما إذا قال المولى: الصوم الأبدي واجب. واُخرى: يكون الاستمرار وارداً على الحكم وحكماً من أحكامه، كما إذا قال المولى: يجب عليكم الصوم، ثمّ قال: إنّ هذا الحكم أبدي، فيكون الحكم موضوعاً للاستمرار.

 والفرق بين كون الاستمرار وارداً على الحكم وكونه مأخوذاً في متعلقه من وجهين:

 الأوّل: أنّ الاستمرار المأخوذ في متعلق الحكم يمكن إثباته بنفس الدليل المتكفل لاثبات الحكم، والاستمرار المأخوذ في الحكم لا يمكن إثباته بنفس الدليل المتكفل لبيان الحكم على ما تقدّم.

 الثاني: أ نّه إذا ورد التخصيص فيما إذا كان الاستمرار مأخوذاً في متعلق الحكم، لا مانع من الرجوع إلى الدليل الدال على الاستمرار عند الشك في خروج بعض الأفراد، فانّ أصالة عدم التخصيص من الاُصول المحكّمة في مقام الشك، سواء كان العموم استغراقياً أو مجموعياً.

 وأمّا إذا ورد التخصيص فيما إذا كان الاستمرار مأخوذاً في نفس الحكم، لا يمكن الرجوع إلى دليل الاستمرار عند الشك في التخصيص، لما ذكرناه من أنّ الاستمرار قيد للحكم فلا مجال للرجوع إلى دليل الاستمرار بعد الشك في أصل الحكم، فانّه إذا ورد حكم من الأحكام كالاباحة مثلاً، ثمّ دل دليل على أنّ الاباحة المذكورة دائمية، فعند الشك في ثبوت الاباحة لبعض الأفراد لا مجال للرجوع إلى دليل الاستمرار، فانّه متكفل لبيان الاستمرار للاباحة الثابتة، فلا يصح الرجوع إليه لاثبات الاباحة، كما أ نّه إذا شككنا في إباحة شرب التتن مثلاً، فهل يمكن إثبات إباحته بمثل قوله (عليه السلام): «حلال

ــ[264]ــ

محمّد (صلّى الله عليه وآله) حلال إلى يوم القيامة... »(1) والمقام من هذا القبيل بعينه.

 هذا ملخص ما ذكره توجيهاً لكلام الشيخ (قدس سره) ثمّ ذكر كلاماً طويلاً لبيان الضابطة لتمييز موارد كون الاستمرار قيداً للحكم عن موارد كونه قيداً للمتعلق، ليرجع إليها عند الشك في كون الاستمرار قيداً للحكم أو للمتعلق.

 أقول: لا حاجة لنا إلى ذكر الضابطة والتعرض لها، لما سنبيّنه من عدم الفرق في جواز الرجوع إلى العام بين كون الاستمرار قيداً للحكم أو للمتعلق، فلا أثر للشك في كونه قيداً للحكم أو للمتعلق حتى نحتاج إلى بيان الضابطة، فنقول: أمّا ما ذكره من الفرق الأوّل، فغير تام وخلط بين مرحلتي الجعل والمجعول، فانّ ما ذكره من عدم إمكان إثبات الاستمرار من نفس الدليل المتكفل لبيان الحكم إنّما يصح بالنسبة إلى الجعل، فان استمراره عبارة اُخرى عن عدم النسخ. ولا يمكن إثباته بنفس الدليل الدال على الحكم، بل لا بدّ من التماس دليل آخر من استصحاب ـ على القول بجريانه عند الشك في النسخ ـ أو من نحو قوله (عليه السلام): «حلال محمّد (صلّى الله عليه وآله) حلال إلى يوم القـيامة... » وهذا لا دخل له بالمقام، فانّ الكلام في تخصيص المجعول لا في تخصيص الجعل الراجع إلى النسخ، ولا مانع من إثبات استمرار المجعول من نفس دليله، إذ الاستمرار من قيوده، ولا مانع من أخذه في الدليل الدال عليه كبقية القيود.

 والجعل والمجعول يختلفان من حيث الاستمرار وعدمه، فتارةً يكون الجعل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الكافي 1: 58 / باب البدع والرأي والمقاييس ح 19.

ــ[265]ــ

مستمراً دون المجعول كالزوجية الانقطاعية، فانّ المجعول وهو الزوجية غير مستمر، وأمّا الجعل ـ أي جواز العقد الانقطاعي ـ فهو مستمر إلى يوم القيامة، واُخرى يكون بعكس ذلك كالزوجية الدائمية مع فرض نسخ جواز العقد الدائمي، فيكون المجعول ـ وهو الزوجية ـ مستمراً، والجعل ـ وهو جواز العقد الدائمي ـ غير مستمر.

 وملخّص الكلام في المقام: أ نّه لا يمكن إثبات استمرار الجعل بمعنى عدم النسخ بنفس الدليل الدال على الحكم، بل لو صرح في الدليل بكون الحكم دائمياً لا يمكن إثبات عدم النسخ بهذا الدليل، فان للمولى نسخ هذا الحكم الدائمي، ولكنّه خارج عن محل الكلام كما تقدّم. وأمّا استمرار المجعول فلا مانع من إثباته بنفس الدليل.

 وأمّا ما ذكره ـ من الفرق الثاني بين كون الاستمرار راجعاً إلى نفس الحكم وكونه راجعاً إلى المتعلق ـ من أ نّه لا مانع من الرجوع إلى العام عند الشك في التخصيص في الثاني دون الأوّل، ففيه: أ نّه لا مانع من الرجوع إلى العام في المقامين، أمّا في الثاني، فباعتراف منه (قدس سره) وأمّا في الأوّل، فلأنّ العام ظاهر في الشمول لجميع الأفراد العرضية والطولية قبل ورود التخصيص، وهذا الظهور حجة في غير ما خرج بالدليل.

 توضـيح ذلك: أنّ الأحكام تارةً تتعلق بأفعال المكـلفين كما في الأحكام التكليفية، فان حرمة الخمر مثلاً متعلقة بالشرب، ففي مثل ذلك يكون الاستمرار راجعاً إلى متعلق الحكم، كما أنّ التقييد بزمان خاص أيضاً راجع إلى المتعلق، إذ قد يكون الشرب المقيد بزمان خاص متعلقاً للتكليف، وقد يكون الشرب غير المقيد متعلقاً للتكليف. وعلى تقدير كون الشرب المستمر متعلقاً للحرمة

ــ[266]ــ

يسري الاستمرار إلى الحرمة أيضاً لا محالة، فيكون شرب الخمر حراماً مستمراً، فاذا خرج من هذا الاستمرار والعموم الأزماني فرد كما إذا قال المولى: لا بأس بشرب الخمر حال المرض مثلاً، وشككنا في الحرمة بعد البرء، فلا مانع من التمسك بالعموم والحكم بحرمة شرب الخمر في غير ما خرج يقيناً.

 واُخرى تتعلق بغير الأفعال الخارجية، كبعض الأحكام الوضعية كاللزوم، فانّه متعلق بالملكية وهي من الاُمور الاعتبارية، ويكون الاستمرار في مثل ذلك راجعاً إلى نفس الحكم، فاذا دل دليل على استمرار هذا الحكم ثمّ خرج منه فرد، لا مانع من الرجوع إلى العام في غير هذا الفرد الخارج، سواء كان العموم مستفاداً من نفس الدليل الدال على الحكم أو من الدليل الخارج، بلا فرق بين العموم المجموعي والاستغراقي. وما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) ـ من أنّ الدليل الدال على الاستمرار ناظر إلى بقاء الحكم فلا يصح الرجوع إليه عند الشك في ثبوت الحكم كما في موارد الشك في التخصيص ـ مندفع بأنّ العام يدل بظاهره على ثبوت الحكم لجميع الأفراد الطولية والعرضية قبل ورود التخصيص عليه، وهذا الظاهر هو المتبع ما لم يدل دليل على خلافه، فلا مانع من الرجوع إليه في غيرما خرج بالتخصيص القطعي.

 فتحصّل مما ذكرناه: جواز الرجوع إلى العام بلا فرق بين كون الاستمرار راجعاً إلى الحكم أو راجعاً إلى المتعلق، وأنّ ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من الفرق بينهما غير تام في نفسه. ومن الغريب جعله توجيهاً لكلام الشيخ (قدس سره) فانّه ليس مراد الشيخ (قدس سره) قطعاً، ولا يوافقه كلامه في الرسائل ولا في المكاسب، فان صريح كلامه هو الفرق بين العموم الاستغراقي والمجموعي، وقد عرفت ما فيه أيضاً، هذا كلّه من حيث الكبرى.

ــ[267]ــ

 وأمّا من حيث الصغرى وأنّ قوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(1) هل هو من قبيل العموم الاستغراقي أو العموم المجموعي، فيقع الكلام فيها من جهتين:

 الجهة الاُولى: أ نّه لا ينبغي الشك في أنّ المستفاد من قوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) هو حكم واحد متعلق بالوفاء لا أحكام متعددة متعلقة بالوفاء في كل آن من الآنات، إذ الوفاء لا يصدق على عدم الفسخ في كل آن من الآنات، فانّ الوفاء بشيء عبارة عن إتمامه وإنهائه، فمعنى الوفاء بالنذر هو إتمام ما التزم على نفسه لله (سبحانه وتعالى)، وكذا الوفاء بالعقد عبارة عن إنهاء ما التزم على نفسه بالعقد، فلا يصدق الوفاء إلاّ مع إتمام مضمون العقد إلى الآخر، فلا تكون هناك تكاليف متعددة، حتى يكون من قبيل العموم الاستغراقي، بل تكليف واحد على ما عرفت.

 الجهة الثانية: أ نّه لا ينبغي الشك في أنّ وجوب الوفاء المستفاد من الآية المباركة ليس حكماً تكليفياً بحيث يكون الفسخ حراماً تكليفياً، بل هو إرشاد إلى اللزوم، وأنّ الفسخ لا يؤثر شيئاً، فيكون بمنزلة قوله (عليه السلام): «دعي الصلاة أيام أقرائك»(2) فانّه أيضاً إرشاد إلى مانعية الحيض وعدم صحة الصلاة منها في أيام الحيض، وبعد كونه دليلاً على اللزوم، في كل مورد ورد التخصيص يؤخذ به، وفي غيره لا مانع من الرجوع إلى عموم أوفوا بالعقود، والحكم باللزوم كما عليه المحقق
الثاني(3) (قدس سره).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5: 1.

(2) الوسائل 2: 287 / أبواب الحيض ب 7 ح 2.

(3) جامع المقاصد 4: 38.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net