وجه تقديم الأمارة على الاستصحاب - الفرق بين الورود والحكومة والتخصيص 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 8992


 الأمر الثاني: أ نّه لا إشكال ولا خلاف في عدم جريان الاستصحاب مع قيام الأمارة على ارتفاع المتيقن، بل يجب العمل بها، وإنّما الكلام في وجه تقديم الأمارة على الاستصحاب، وأ نّه من باب التخصيص أو الورود أو الحكومة، فذهب بعضهم إلى أ نّه من باب التخصيص، بدعوى أنّ النسبة بين أدلة الاستصحاب وأدلة الامارات وإن كانت هي العموم من وجه، إلاّ أ نّه لا بدّ من تخصيص أدلة الاستصحاب بأدلة الأمارات وتقديمها عليها، لأنّ النسبة المتحققة بين الأمارات والاستصحاب هي النسبة بينها وبين جميع الاُصول العملية، فلو عمل بالاُصول لم يبق مورد للعمل بالأمارات، فيلزم إلغاؤها، إذ من الواضح أ نّه لا يوجد مورد من الموارد إلاّ وهو مجرى لأصل من الاُصول العملية مع قطع النظر عن الأمارة القائمة فيه.

 وفيه أوّلاً: أنّ أدلة الاستصحاب في نفسها بعيدة عن التخصيص، فان ظاهر قوله (عليه السلام): «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك»(2) إرجاع الحكم إلى قضية ارتكازية، وهي عدم جواز رفع اليد عن الأمر المبرم بأمر غير مبرم، وهذا المعنى آب عن التخصيص، إذ مرجعه إلى أ نّه في مورد خاص يرفع اليد عن الأمر المبرم بأمر غير مبرم، وهو خلاف الارتكاز. ونظير المـقام أدلة حرمة العمل بالظـن، فانّ مثل قـوله تعالى: (إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ

ــــــــــــ
(2) تقدّمت الرواية في ص 58.

ــ[294]ــ

 

شَيْئاً)(1) غير قابل للتخصيص، إذ مرجعه إلى أنّ الظن الفلاني يغني عن الحق، ولا يمكن الالتزام به كما هو ظاهر.

 وثانياً: مع الغض عن إبائها عن التخصيص، أنّ التخصيص في رتبة متأخرة عن الورود والحكومة، لأنّ التخصيص رفع الحكم عن الموضوع، ومع انتفاء الموضوع بالوجدان كما في الورود أو بالتعبد كما في الحكومة لا تصل النوبة إلى التخصيص، وسنبين أ نّه لا موضوع للاستصحاب مع الأمارة على وفاقه أو على خلافه.

 وذهب صاحب الكفاية(2) (قدس سره) وبعض من المحققين إلى أنّ تقديم الأمارات على الاُصول من باب الورود لوجوه:

 الوجه الأوّل: أنّ ذكر اليقين في قوله (عليه السلام): «ولكن تنقضه بيقين آخر»(3) ليس من باب كونه صفةً خاصةً، بل من باب كونه من مصاديق الحجة، فهو بمنزلة أن يقال: انقضه بالحجة، وإنّما ذكر خصوص اليقين لكونه أعلى أفراد الحجة، لكون الحجية ذاتية له وغير مجعولة، فخصوصية اليقين مما لا دخل له في رفع اليد عن الحالة السابقة بل ترفع اليد عنها مع قيام الحجة على الارتفاع، بلا فرق بين اليقين وغيره من الأمارات المعتبرة، فموضوع الاستصحاب هو الشك في البقاء مع عدم قيام الحجة على الارتفاع أو البقاء، فمع قيام الأمارة ينتفي موضوع الاستصحاب، والورود ليس إلاّ انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه.

 وفيه: أنّ تصور هذا المعنى وإن كان صحيحاً في مقام الثبوت، إلاّ أنّ مقام

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يونس 10: 36، النجم 53: 28.

(2) كفاية الاُصول: 429.

(3) ورد مضمونه في صحيحة زرارة الاُولى وقد تقدّمت في ص 14.

ــ[295]ــ

الاثبات لا يساعد عليه، إذ ظاهر الدليل كون خصوص اليقين موجباً لرفع اليد عن الحالة السابقة، وكون اليقين مأخوذاً من باب الطريقية مسلّم، إلاّ أنّ ظاهر الدليل كون هذا الطريق الخاص ناقضاً للحالة السابقة.

 الوجه الثاني: أنّ المحرّم هو نقض اليقين استناداً إلى الشك على ما هو ظاهر قوله (عليه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» ومع قيام الأمارة لا يكون النقض مستنداً إلى الشك، بل إلى الأمارة، فيخرج عن حرمة النقض خروجاً موضوعياً، وهو معنى الورود.

 وفيه أوّلاً: أنّ دليل الاستصحاب لا يساعد على هذا المعنى، إذ ليس المراد من قوله (عليه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» حرمة نقض اليقين من جهة الشك واستناداً إليه، بحيث لو كان رفع اليد عن الحالة السابقة بداع آخر، كاجابة دعوة مؤمن مثلاً لم يحرم النقض، بل المراد حرمة نقض اليقين عند الشك بأيّ داع كان.

وثانياً: أنّ المراد من الشك خلاف اليقين، كما ذكرناه سابقاً (1) واختاره صاحب الكفاية(2) (قدس سره) أيضاً، فيكون مفاد الرواية عدم جواز النقض بغير اليقين ووجوب النقض باليقين، والنتيجة حصر الناقض في اليقين، فيكون مورد قيام الأمارة مشمولاً لحرمة النقض لعدم كونها مفيدةً لليقين على الفرض.

 الوجه الثالث: أنّ رفع اليد عن المتيقن السابق لقيام الأمارة على ارتفاعه ليس إلاّ لأجل اليقـين بحجية الأمارة، إذ الاُمور الظنية لا بدّ وأن تنتهي إلى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في التنبيه الرابع عشر في ص 268.

(2) كفاية الاُصول: 425 / التنبيه الرابع عشر.

ــ[296]ــ

العلم، وإلاّ يلزم التسلسل، وقد ذكرنا (1) عند التعرض لحرمة العمل بالظن أنّ المراد حرمة العمل بما لا يرجع بالأخرة إلى العلم، إمّا لكونه بنفسه مفيداً للعلم وإمّا للعلم بحجيته، فبعد العلم بحجية الأمارات يكون رفع اليد عن المتيقن السابق لأجـل قيام الأمـارة من نقض اليقـين باليقـين، فلا يبقى موضوع للاستصحاب.

 وفيه: أنّ ظاهر قوله (عليه السلام): «ولكن تنقضه بيقين آخر» كون اليقين الثاني متعلقاً بارتفاع ما تعلق بحدوثه اليقين الأوّل، ليكون اليقين الثاني ناقضاً لليقين الأوّل، بل بعض الأخبار صريح في هذا المعنى، وهو قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة: «لا، حتى يستيقن أ نّه قد
نام»(2) فجعل فيه الناقض لليقين بالطهارة اليقين برافعها وهو النوم. وليس اليقين الثاني في مورد قيام الأمارة متعلقاً بارتفاع ما تعلق به اليقين الأوّل، بل بشيء آخر وهو حجية الأمارات، فلا يكون مصداقاً لنقض اليقين باليقين، بل من نقض اليقين بغير اليقين.

 فتحصّل مما ذكرناه في المقام: أنّ تقديم الأمارات على الاستصحاب لا بدّ من أن يكون من باب الحكومة، لما ظهر من بطلان التخصيص والورود، وتقريب كونه من باب الحكومة يحتاج إلى بيان الفرق بين التخصيص والورود والحكومة.

 فنقول: التخصيص هو رفع الحكم عن الموضوع بلا تصرف في الموضوع كقوله (عليه السلام): «نهى النبي (صلّى الله عليه وآله) عن بيع الغرر»(3) فانّه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في الجزء الثاني من هذا الكتاب ص 133.

(2) تقدّمت الصحيحة في ص 14.

(3) الوسائل 17: 448 / أبواب آداب التجارة ب 40 ح 3.

ــ[297]ــ

تخصيص لقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللهُ ا لْبَيْعَ)(1) لكونه رافعاً للحلية بلا تصرف في الموضوع بأن يقال: البيع الغرري ليس بيعاً مثلاً، وكذا سائر أمثلة التخصيص.

 ويقابله التخـصص مقابلة تامة، إذ هو عبارة عن الخروج الموضوعي التكويني الوجداني بلا إعمال دليل شرعي، كما إذا أمر المولى بوجوب إكرام العلماء، فالجاهل خارج عنه خروجاً موضوعياً تكوينياً بالوجدان بلا احتياج إلى دليل شرعي. وما بين التخصيص والتخصص أمران متوسطان: وهما الورود والحكومة.

 أمّا الورود فهو عبارة عن انتفاء الموضوع بالوجدان لنفس التعبد لا لثبوت المتعبد به، وإن كان ثبوته لا ينفك عن التعبد إلاّ أن ثبوته إنّما هو بالتعبد، وأمّا نفس التعبد فهو ثابت بالوجدان لا بالتعبد، وإلاّ يلزم التسلسل، وذلك كالأمارات بالنسبة إلى الاُصول العقلية: كالبراءة العقلية والاحتياط العقلي والتخيير العقلي، فانّ موضوع البراءة العقلية عدم البيان، وبالتعبد يثبت البيان وينتفي موضوع حكم العقل بالبراءة بالوجدان. وموضوع الاحتياط العقلي احتمال العقاب، وبالتعبد الشرعي وقيام الحجة الشرعية يرتفع احتمال العقاب، فلا يبقى موضوع للاحتياط العقلي. وموضوع التخيير العقلي عدم الرجحان مع كون المورد مما لا بدّ فيه من أحد الأمرين، كما إذا علم بتحقق الحلف مع الشك في كونه متعلقاً بفعل الوطء أو تركه، فانّه لا بدّ من الفعل أو الترك، لاستحالة ارتفاع النقيضين كاجتماعهما، ومع قيام الأمارة على أحدهما يحصل الرجحان وينتفي موضوع حكم العقل بالتخيير وجداناً.

 وأمّا الحكومة فهي عبارة عن انتفاء الموضوع لثبوت المتعبد به بالتعبد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البقرة 2: 275.

ــ[298]ــ

الشرعي، وذلك كالأمارات بالنسبة إلى الاُصول الشرعية التي منها الاستصحاب، فانّه بعد ثبوت ارتفاع المتيقن السابق بالتعبد الشرعي لا يبقى موضوع للاستصحاب، إذ موضوعه الشك وقد ارتفع تعبداً، وإن كان باقياً وجداناً لعدم كون الأمارة مفيدةً للعلم على الفرض. وكذا سائر الاُصول الشرعية فانّه بعد كون الأمارة علماً تعبدياً لما في تعبير الأئمة (عليهم السلام) عمّن قامت عنده الأمارة بالعارف والفقيه والعالم(1) لا يبقى موضوع لأصل من الاُصول الشرعية تعبداً.

 فتحصّل مما ذكرناه: أنّ تقديم الأمارات على الاستصحاب ليس من باب الورود، إذ بمجرد ثبوت التعبد بالأمارة لا يرتفع موضوع التعبد بالاستصحاب، لكونه الشك وهو باق بعد قيام الأمارة على الفرض، بل تقديمها عليه إنّما هو من باب الحكومة التي مفادها عدم المنافاة حقيقةً بين الدليل الحاكم والمحكوم عليه.

 توضيح ذلك: أنّ القضايا الحقيقية متكفلة لاثبات الحكم على تقدير وجود الموضوع، وليست متعرضة لبيان وجود الموضوع نفياً وإثباتاً ـ بلا فرق بين كونها من القضايا الشرعية أو العرفية: إخبارية كانت أو إنشائية ـ فانّ مفاد قولنا: الخمر حرام، إثبات الحرمة على تقدير وجود الخمر، وأمّا كون هذا المائع خمراً أو ليس بخمر، فهو أمر خارج عن مدلول الكلام، وحيث إنّ دليل الحاكم شأنه التصرف في الموضوع، فلا منافاة بينه وبين الدليل المحكوم الدال على ثبوت الحكم على تقدير وجود الموضوع، فلا منافاة بين الدليل الدال على حرمة الخمر والدليل الدال على أنّ هذا المائع ليس بخمر. وكذا لا منافاة بين

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 27: 136 / أبواب صفات القاضي ب 11 ح 1 و 6 وغيرهما.

ــ[299]ــ

قوله تعـالى: (وَحَرَّمَ الرِّبَا )(1) وبين قوله (عليه السلام): «لا ربا بين الوالد والولد»(2) إذ مفاد الأوّل ثبوت الحرمة على تقدير وجود الربا، ومفاد الثاني عدم وجوده، وبعد انتفاء الربا بينهما بالتعبد الشرعي تنتفي الحرمة لا محالة.

 وكذا لا منافاة بين أدلة الاستصحاب والأمارة القائمة على ارتفاع الحالة السابقة، فان مفاد أدلة الاستصحاب هو الحكم بالبقاء على تقدير وجود الشك فيه، ومفاد الأمارة هو الارتفاع وعدم البقاء، وبعد ثبوت الارتفاع بالتعـبد الشرعي لا يبقى موضوع للاستصحاب. ولا فرق في عدم جريان الاستصحاب مع قيام الأمارة بين كونها قائمة على ارتفاع الحالة السابقة أو على بقائها، إذ بعد ارتفاع الشك بالتعبد الشرعي لا يبقى موضوع للاستصحاب في الصورتين، فكما لا مجال لجريان استصحاب النجاسة بعد قيام البينة على الطهارة، فكذا لا مجال لجريانه بعد قيام البينة على بقاء النجاسة.

 وظهر بما ذكرناه فساد ما في الكـفاية (3) من أنّ لازم القول بكون تقديم الأمارات على الاستصحاب من باب الحكومة جريان الاستصحاب فيما إذا قامت الأمارة على بقاء الحالة السابقة.

 وقد يتوهم أنّ كون الأمارة حاكمةً على الاستصحاب إنّما يصح على المسلك المعروف في الفرق بين الأمارات والاُصول، من أ نّه قد اُخذ في موضوعها الشك، بخلاف الأمارة فانّ أدلتها مطلقة، فانّ الأمارة مزيلة للشك بالتعبد الشرعي،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البقرة 2: 275.

(2) ورد مضمونه في الوسائل 18 : 135 / أبواب الربا ب 7 ح 1 وغيره.

(3) كفاية الاُصول: 429.

ــ[300]ــ

فينتفي موضوع الاستصحاب. والاستصحاب لايوجب ارتفاع موضوع الأمارة، إذ لم يؤخذ في موضوعها الشك، بخلاف ما سلكناه من المسلك من أنّ الجهل بالواقع مأخوذ في موضوع الأمارات أيضاً على ما بيناه سابقاً (1).

 وهو مدفوع بما ذكرناه في المقام لتقريب حكومة الأمارة على الاستصحاب من أنّ مفاد الحكومة عدم المنافاة حقيقة بين الدليل الحاكم والدليل المحكوم، لأن مفاد الحاكم انتفاء موضوع المحكوم بالتعبد الشرعي، ومفاد المحكوم ثبوت الحكم على تقدير وجود الموضوع، فلا منافاة بينهما، وعليه تكون الأمارة حاكمةً على الاستصحاب على المسلك المختار أيضاً، فانّ الأمارة القائمة على ارتفاع الحالة السابقة تثبت انتفاء المتيقن السابق تعبداً، فلا يبقى موضوع للاستصحاب.
ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في التنبيه الثامن ص 181.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net