الثالثة : حقيقة الوضع 

الكتاب : مصابيح الاُصول - الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5028


وأمّا الجهة الثالثة ـ وهي بيان حقيقة الوضع ، وأنّه هل الوضع من الاُمور الواقعية ، أو من الاُمور الاعتبارية : ففيها أقوال :

القول الأول : كما عن بعض أعاظم المحقّقين (قدّس سرّهم)(1) ـ بتوضيح منّا ـ أنّ الوضع من الاُمور الواقعية الحقيقية ، وليس من سنخ الجواهر والأعراض ، لأنّ الأول منحصر بالاُمور الخمسة : العقل ، والهيولى ، والنفس ، والصورة ، والمادّة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهو المحقّق العراقي في نهاية الأفكار 1 : 25 ـ 26 .

ــ[37]ــ

والوضع لا يعود إلى واحد منها .

كما أنّه ليس من الثاني ، لأنّ الأعراض منحصرة في المقولات التسع ، والوضع أجنبي عنها . مضافاً إلى أنّ الأعراض تتوقّف في وجودها على وجود معروضاتها بخلاف الوضع فإنّه وإن كان يعرض على متعلّق ، إلاّ أنّه لا وجود له خارجاً ، بل طبيعي اللفظ يوضع لطبيعي المعنى . أمّا اللفظ الخارجي فليس بموضوع للمعنى ، وإلاّ لانعدم الوضع بانعدام ذلك الموجود ، بل ربما يوضع اللفظ لشيء لا وجود له كالعنقاء ، أو يجعل لشيء مستحيل بحسب الوجود كشريك الباري .

وكيف كان ، فالوضع بحسب الحقيقة ليس من قبيل الجواهر والأعراض ، بل هو من سنخ الملازمات العقلية غير القابلة للانفكاك . وهذه الملازمات العقلية من الاُمور الواقعية ، وهي سنخ من الوجودات التي يدركها العقل . فلو قلنا : العدد إن كان زوجاً فهو قابل للقسمة على المتساويين ، فالملازمة بين الزوجية وقبول القسمة على المتساويين أمر واقعي ، وسنخ من الوجود يتعقّله العقل ، والقضية الشرطية تصدق بصدق الملازمة وإن لم يكن طرفاها صادقين ، كالملازمة بين تعدّد الآلهة والفساد في قوله تعالى : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا ...)(1).

ولكن هذه الملازمة العقلية تارةً لا تنتهي إلى جعل جاعل ، بل تكون موجودة وثابتة من الأزل حتّى النهاية ، كالملازمات التكوينية . واُخرى تنتهي إلى جعل جاعل على نحو لم تكن ثابتة من البداية أزلا ، وإنّما جعلت ابتداءً فأصبحت ثابتة بين الأمرين من حين جعلها ، وهي مع ذلك من الاُمور الواقعية .

أمّا الوضع فهو من قبيل الثاني ، حيث إنّ الواضع ـ قبل وضعه ـ تصوّر اللفظ مجرّداً عن المعنى ، وتصوّر المعنى من دون اللفظ ، وليس بين الاثنين ملازمة ، ثمّ بعد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأنبياء 21 : 22 .

ــ[38]ــ

ذلك جعل ما تصوّره من اللفظ على المعنى المتصوّر ، فأوجد علقة وربطاً بينهما وصار كلّما يطلق اللفظ في مورد يلزم منه الانتقال إلى المعنى الموضوع له ، فالعلقة والملازمة جعلية من قبل الواضع ، وهي من الاُمور الواقعية .

ولا يخفى أنّ الملازمة ـ المدّعى ثبوتها بين اللفظ والمعنى المستوجبة للانتقال  ـ إن اُريد بها ثبوتها مطلقاً في حقّ كل واحد من دون اختصاص لها بالعالمين بالوضع ، فهو باطل بالبداهة ، لأنّنا نجد الأشخاص الذين لم يطّلعوا على الوضع لا يمكنهم الانتقال بمجرد سماع اللفظ . ولو كانت الملازمة ثابتة بينهما على الإطلاق لما أمكن الانفكاك ، وإن اُريد بها ثبوتها في خصوص من علم بالوضع دون غيره فذلك أمر معقول ، ولكنّه خلاف الفرض ، إذ المفروض أنّ الملازمة عين الوضع ، وهنا الملازمة متأخّرة عن الوضع برتبتين .

القول الثاني : أنّ الوضع من الاُمور الاعتبارية ، ومتعلّق ذلك الاعتبار هو الملازمة بين اللفظ والمعنى ، فيكون الوضع عبارة عن جعل الملازمة بينهما بحسب الاعتبار ، لا بحسب الواقع كما تقدّم عن بعض الأعاظم (قدّس سرّهم) .

ولا يخفى أنّ المعنى المذكور وإن كان معقولا في نفسه ، إلاّ أنّه لا يرجع إلى نتيجة ، لأنّه إن اُريد بذلك اعتبار الملازمة بين اللفظ الموجود في الخارج والمعنى الموجود خارجاً ، بأن يعتبر عند تحقّق اللفظ خارجاً وجود المعنى في الخارج ، فهو أمر خال عن الفائدة ، لأنّ الانتقال إلى المعنى إنّما هو من الوجود الذهني للفظ ، فلا أثر لفرض وجود واقع الماء في الخارج عند تحقّق لفظ الماء خارجاً .

وإن اُريد به الملازمة بين وجود اللفظ ذهناً ووجود المعنى ذهناً أيضاً ، فإن كان المراد هو الملازمة بين وجوديهما الذهنيين على وجه الإطلاق فهو باطل ، إذ يلزمه أن يعتبر الجاهل بالوضع ـ عند تصوّره اللفظ ـ عالماً بالمعنى ، مع أنّ اعتبار الملازمة بين تصوّر اللفظ والمعنى بالإضافة إلى الجاهل لغو محض .

ــ[39]ــ

وإن ادّعي أنّ الملازمة الاعتبارية ثابتة في حقّ خصوص من علم بالوضع فهي لا محصّل لها ، فإنّ الملازمة بين اللفظ والمعنى في الوجود الذهني متحقّقة في نفس الأمر مع قطع النظر عن الاعتبار ، وفي مثله لا معنى للاعتبار ، لأنّه من اعتبار ما هو ثابت في حدّ نفسه ، فلا يبقى لاعتبار الملازمة بين اللفظ والمعنى وجه معقول .

القول الثالث : أنّ الوضع من الاُمور الاعتبارية ، وهو عبارة عن اعتبار وجود اللفظ وجوداً للمعنى تنزيلا .

بيان ذلك : أنّ للشيء سنخين من الوجود :

أحدهما : وجود حقيقي ، الذي هو وجوده في نظام الوجود من الجواهر والأعراض .

ثانيهما : وجود اعتباري ، وقوامه الاعتبار والفرض .

فالملكية مثلا لها وجود حقيقي ، وهو إحاطة المحيط بالمحاط إحاطة خارجية ولها وجود اعتباري كاعتبار شيء ما ملكاً لزيد في الوقت الذي يكون بينه وبين ملكه مسافة بعيدة .

وقد ادّعي أنّ الوضع من هذا القسم ، فإنّ الواضع حين يجعل ربطاً بين اللفظ والمعنى لا يقصد من ذلك إلاّ أنّ المعاني توجد بوجود تلك الألفاظ ، بحيث يكون وجود اللفظ وجوداً ثانياً للمعنى تنزيلا ، وهو هو ، ولذلك يسري إليه ما للمعنى من القبح أو الحسن ، ويستحقّ ما يستحقّه المعنى من الإهانة أو التعظيم ، ولهذا كانت أسماء الله تبارك وتعالى محرّمة المسّ على الجنب ، وأنّه لا يجوز تنجيسها ، وما شاكل ذلك . وبالعكس أسماء أعداء الله تعالى ، فإنّها تهان وتهتك بشتّى الأساليب ، وما ذلك إلاّ لأنّ وجود اللفظ وجود للمعنى تنزيلا .

وعليه فالوجودات ثلاثة : حقيقي خارجي ، وحقيقي ذهني ، ووجود لفظي . فالوضع من الاُمور الاعتبارية ، بمعنى أنّ اللفظ يعتبر وجوداً ثانياً للمعنى ، فإذا

ــ[40]ــ

اُطلق اللفظ فقد وجد المعنى .

ولا يخفى أوّلا : أنّ المعنى المذكور وإن كان معقولا في نفسه ، إلاّ أنّ المانع من الالتزام به أنّه أمر دقّي محتاج إلى التفات ونظر ، بينما نجد الوضع يصدر من الأطفال بل يمكننا أن ندّعي صدور الوضع من بعض الحيوانات ـ على نحو الموجبة الجزئية ـ كما نشاهد في الهرّة عندما تصرخ بصوت وهي تريد جمع أطفالها الصغار ، وربما تصرخ بصوت آخر وهي تريد أن تزجر ما قابلها من العدو ، وما شاكل ذلك .

وثانياً : أنّ الالتزام بهذا المعنى بلا ملزم ، فإنّ الغرض من الوضع الدلالة على الشيء ، وهذا المعنى يقتضي الاثنينية بين الدالّ والمدلول عليه ، فجعله وجوداً واحداً جعل من غير ملزم .

وأمّا ما ورد من دعوى أنّ اللفظ في مرحلة الاستعمال يغفل عنه غالباً ، وهذا آية أنّ المتكلّم يريد إيجاد المعنى في الخارج ، فالجواب عنه أنّ المغفولية وإن كانت تامّة في الغالب ، لأنّ المستعمل ليس من قصده إلاّ إظهار المعنى ، فنظره إلى اللفظ نظر آلي وطريق إلى المعنى ، فهو كالمشاهد في المرآة إذا كان من قصده النظر إلى صورته ، فلا يكاد يلتفت إلى المرآة نفسها إلاّ التفاتاً آلياً ، فتذهب عليه الخصوصيات الموجودة فيها ، أمّا الجاعل للمرآة والواضع للألفاظ فكل منهما ينظر إلى الشيء نظراً استقلالياً ، ويرى جميع الخصوصيات ، إلاّ أنّ هذا لازم أعم لكون الوضع اعتبار وجود اللفظ وجوداً للمعنى .

وكيف كان ، فهذا الوجه غير تام .

القول الرابع : ذهب بعض مشايخنا المحقّقين (قدّس سرّهم)(1) إلى أنّ الوضع من الاُمور الاعتبارية ، وقد استعمل بما له من المعنى اللغوي ، وهو وضع الشيء على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهو المحقّق الإصفهاني في نهاية الدراية 1 : 47 .

 
 

ــ[41]ــ

الشيء ، وهذا يتحقّق تارة في أمر حقيقي خارجي ، كوضع النصب على الأمكنة للدلالة على أنّه رأس الفرسخ وما شاكل ذلك . واُخرى يتحقّق في أمر اعتباري وهو عالم الألفاظ ، فيضع الواضع لفظاً ليدلّ به على المعنى . والوضع بهذا المعنى مستعمل في المعنى اللغوي ، كما يعبّر عنه بالفارسية بـ (گذاشتن) غاية الأمر ليس مصداقه فرداً خارجياً، بل أمر اعتباري .

ولا يخفى ما فيه ، أوّلا : أنّه من الاُمور الدقيقة التي تحتاج إلى إعمال العناية  ، وقد عرفت صدور الوضع حتّى من الصبيان .

ثانياً : أنّه ليس بتامّ في حدّ ذاته ، لأنّ الوضع الخارجي يتقوّم باُمور ثلاثة ففي وضع النصب على الفرسخ لابدّ من الموضوع وهو النصب ، والموضوع عليه وهو المكان ، والموضوع له وهو الدلالة على أنّه رأس الفرسخ الذي هو الغاية .

أمّا الوضع في محلّ الكلام فمشتمل على أمرين : موضوع وموضوع له ، دون الموضوع عليه ، فإنّ اللفظ موضوع ، والدلالة على المعنى موضوع له ، وأمّا الموضوع عليه فليس بموجود .

وربما قيل بأنّ المعنى هو الموضوع عليه ، ولكن ذلك غلط ، بل المعنى موضوع له ، فإنّ اللفظ وضع ليدلّ على المعنى كوضع النصب للدلالة على رأس الفرسخ . فالأركان في الوضع ناقصة . وإن أبيت إلاّ عن كون المعنى هو الموضوع عليه فالمفقود هو الموضوع له .

وكيف كان ، فالوجوه التي ذكرت لبيان حقيقة الوضع كلّها باطلة .

المختار : وبعد أن استعرضنا الأقوال المتقدّمة التي هي في بيان حقيقة الوضع وبطلانها نقول : إنّ الإنسان لمّا كان محتاجاً إلى التفهيم والتفاهم بمقتضى طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه ، كان مضطرّاً لأن يخترع ما يسدّ به حاجته القائمة على أساس التفاهم ، ليتمكّن من إبراز مقاصده ، وما يكنّه في قرارة نفسه من المعلومات التي 

ــ[42]ــ

يطلب إيصالها للآخرين ، فكانت الغاية المتوخّاة من الوضع ليس إلاّ إحضار المعاني أمام المخاطبين .

ومن البديهي أنّ الإشارة وإن كانت وسيلة للإفهام إلاّ أنّها من العسر جدّاً أن تفي بالغرض الذي تتوقّف عليه حياة الإنسان الاجتماعية . لأجل هذا اتّخذ الإنسان وسيلة اُخرى أقصر من الإشارة ، وأوفى بالمقصود ، تلك هي الألفاظ ، فإنّ الألفاظ تلقي المعنى أمام السامع ، وتبرز مقصود المتكلّم ، وهي وافية بجميع المقصود ، فكان حالها كالإشارة من ناحية إفهام المقابل . فكما أنّ المشير يمكنه أن يلفت نظر المخاطب إلى أنّ المقصود من حركته هو المجيء ، كذلك اللافظ يمكنه أن يعبّر بلفظ (جاء) للدلالة على هذا المعنى ، غاية الأمر الإشارة يمكن أن يلتفت إليها كل أحد ، بينما الألفاظ لا يلتفت إليها إلاّ من اطّلع على معانيها .

وإذا اتّضحت الفائدة والغاية من الوضع فنقول : الوضع حقيقته نفس القرار والإثبات والتعهّد ، فإنّ كل فرد من اُولئك الذين يتكلّمون بلغة خاصّة يتبانى مع جماعته ويأخذ عهداً على نفسه بأنّه متى ما تكلّم بلفظ خاصّ فقد أراد منه معنى مخصوص ، لذا كان كل مستعمل واضعاً ، باعتبار أنّ كل واحد من المستعملين قد أخذ عهداً على نفسه بهذا القرار ، فإذا استعمل اللفظ في مورد فقد جرى على طبق التزامه وتعهّده ، ومن قراره والتزامه هذا وتعهّده على نفسه تنشأ العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى ، وتكون هناك مناسبة بينهما . أمّا قبل قراره فليس في البين علقة وارتباط ، لا تشريعاً ولا تكويناً .

نعم الانتقال إلى المعنى قد يتأتّى من مجرد صدور اللفظ من غير صاحب شعور ، كاصطكاك حجر بحجر ، فيتولّد منه لفظ مخصوص ، إلاّ أنّ منشأ ذلك ليست العلقة الوضعية التي تحصل في موارد الالتزام والتعهّد ، بل السبب في ذلك قبول الذهن ذلك على نحو ينتقل إلى المعنى بمجرد الإطلاق .

 

ــ[43]ــ

فالذي تحصّل من الوضع : أنّه عبارة عن القرار والالتزام والتباني على النفس بأنّه متى ما تكلّم بلفظ خاص أراد منه معنى مخصوص ، وهذا القرار المذكور يتأتّى لدى كل فرد من أفراد المجتمع .

وما ينسب إلى الآباء من أنّهم هم الواضعون ، فذلك للأسبقية ، كما في واضع القانون ، وإلاّ فالكل يشتركون بهذا الالتزام على هذا الاعتبار. نعم ينسب الوضع إلى رئيس القبيلة أو البلد ، لكن من جهة نيابته عن القوم وأنّه لسانهم .

وعلى ما ذكرناه صحّ تقسيم الوضع إلى تعييني ، وتعيّني ، لأنّ التعهّد والالتزام تارةً يحصل ابتداءً من الواضع ، واُخرى بوسيلة ثانية ، وهي كثرة الاستعمال ، بحيث يصبح العرف بمجرد الإطلاق منتقلا إلى المعنى وإن لم يعلم زمان التعهّد وتاريخه .

هذه هي حقيقة الوضع و ـ كما عرفت ـ أنّها من الاُمور الواقعية .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net