1 ـ مقتضى الأصل اللفظي \ المسألة الاُولى 

الكتاب : مصابيح الاُصول - الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4292


المقام الأول : في الأصل اللفظي .

المقام الثاني : في الأصل العملي .

أمّا البحث عن المقام الأول : فالمعروف بين القوم أنّ الإطلاق لا يثبت توصّلية الواجب . وإن شئت فقل : إنّه ليس لنا في المقام إطلاق يمكن التمسّك به لنثبت به التوصّلية ، وذلك لأمرين :

الأمر الأول : أنّ داعي الأمر يستحيل أخذه قيداً في الواجب .

الأمر الثاني : أنّه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق ، لكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، والملكة هي التقييد . والملكة وعدمها يشترط فيهما قابلية المحل  ، فالمحل الذي لا يكون قابلا للملكة لا يكون قابلا لعدمها ، ولأجل هذا لابدّ أن يقع بحثنا فعلا في مسألتين :

ــ[236]ــ

المسألة الاُولى : أنّ تقييد الواجب بداعي الأمر مستحيل أو ممكن .

المسألة الثانية : أنّه بعد فرض استحالته وأنّ تقييد الواجب به غير ممكن فهل الإطلاق مستحيل أيضاً لما ذكر ؟

أمّا المسألة الاُولى : فقد استدلّ القائل بالاستحالة على المدّعى بوجوه :

الوجه الأول : ما ذهب إليه شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) من أنّ كل قيد خرج عن الاختيار ففي مقام الجعل لابدّ وأن يؤخذ مفروض الوجود ، بحيث يكون وجود ذلك الأمر غير الاختياري على تقدير تحقّقه بنفسه شرطاً في فعلية الوجوب مثل : إذا زالت الشمس فصلّ . فإنّ الصلاة أمر اختياري للمكلّف ، باعتبار القدرة على فعلها وتركها . كما وأنّ تقيّدها بالزوال أيضاً اختياري له ، فله القدرة على إيقاع الصلاة عند الزوال ، وله القدرة على العدم ، ولكن نفس القيد ـ وهو الزوال ـ غير اختياري له ، لانتفاء قدرته على إيجاده خارجاً .

فمثل هذه القيود لو اُخذت في مقام الطلب لا يراد منها إلاّ فرض وجودها أي تفرض موجودة أولا ، ثمّ يتعلّق الطلب بالفعل المقدور ثانياً ، ويصير معنى ذلك : أنّه متى حصل وقت الزوال فالصلاة واجبة . وليس معناه تجب الصلاة ويجب تحصيل الوقت ، فإنّه تكليف بغير المقدور . فالقضايا الحقيقية هي التي اُخذ موضوعها مفروض الوجود ، ولا يكون الحكم فيها فعلياً إلاّ بفعلية الموضوع .

ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ المولى لو أمر بالصلاة بداعي الأمر فموضوع خطابه الصلاة ونفس الداعي ، وكل منهما اختياري للمكلّف ، ولكن متعلّق الداعي ـ  وهو الأمر ـ غير اختياري له كالزوال ، باعتبار أنّ أمر المولى لا يقدر المكلّف على إيجاده ، بل القادر عليه نفس المولى ، فلابدّ وأن يؤخذ في الواجب على نحو فرض

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 1 : 160 وما بعدها .

ــ[237]ــ

الوجود ، كسائر القيود غير الاختيارية . وهذا غير معقول ، لاستلزامه اتّحاد الموضوع مع حكمه ، لأنّ الموضوع المأخوذ مفروض الوجود هو الأمر ، والحكم المرتّب عليه هو نفس الأمر ، وهذا مستحيل .

ومن هذا ينشأ امتناع آخر ، وهو الدور ، وذلك فإنّ فعلية كل حكم إنّما هي بفعلية موضوعه ، فإنّ القضايا الحقيقية ترجع إلى القضايا الشرطية ، ولا شكّ أنّ فعلية الجزاء إنّما هي بفعلية الشرط ، وهذا واضح . فإذا أمر المولى بواجب مقيّد بداعي الأمر ، ففعلية خطابه ـ وهو أمره ـ يتوقّف على فعلية موضوعه ، وهو الأمر نفسه على الفرض . فيتوقّف فعلية الأمر على فعلية نفسه .

والحاصل : أنّ اعتبار داعي الأمر في الصلاة ينشأ منه إشكالان بنظر شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه) : أحدهما : اتّحاد الحكم مع موضوعه . ثانيهما : لزوم الدور .

وقد أورد بعض الأساطين(1) على مقالة شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّهما) بما محصّله : أنّ الذي يؤخذ مفروض الوجود إنّما هو موضوعات التكليف ، دون قيود الواجب ، فإنّ قيود الواجب يجب تحصيلها بمجرّد تعلّق التكليف بها ، كالطهارة المأخوذة قيداً في الصلاة ، فإنّ الأمر المتعلّق بالصلاة كما يوجب تحصيل سائر الأجزاء والشرائط يوجب تحصيل الشرائط أيضاً التي من جملتها الطهارة ، نعم موضوعات التكليف ليست كذلك ، كالاستطاعة للحجّ وما شاكلها . وأنّ قصد الأمر فيما نحن فيه حيث كان من قيود الواجب ، وكان المكلّف قادراً على تحصيله ، فحاله حال الطهارة يجب تحصيله إذا تعلّق التكليف به ، ولا معنى لأخذه مفروض الوجود لئلاّ يجب تحصيله .

وغير خفي أنّ ما جاء به (قدّس سرّه) من حيث الكبرى لا نقاش فيه ، إنّما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع مقالات الاُصول 1 : 237 .

ــ[238]ــ

النقاش في الصغرى ، حيث إنّ قصد الأمر وإن كان من قيود الواجب وقابلا لتعلّق التكليف به ، إذ القصد من الاُمور الاختيارية ، لكن نفس الأمر المتعلّق للقصد ليس باختياري للمكلّف ، وإنّما هو من شؤون المولى ، فله أن يأمر وله أن لا يأمر ، وإذا لم يكن اختيارياً للمكلّف فلابدّ من أخذه مفروض الوجود .

وليس غرض شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه) أنّ قصد الأمر لابدّ أن يؤخذ مفروض الوجود ، كما هو مبنى الإشكال المزبور ، بل غرضه (قدّس سرّه) أنّ لازم أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر هو أخذ الأمر نفسه مفروض الوجود ، وهذا يترتّب عليه المحذوران المتقدّمان .

فالصحيح في الجواب أن يقال : إنّ ملاك أخذ الموضوع مفروض الوجود المستلزم لكونه شرطاً لفعلية التكليف ، إمّا الظهور العرفي ، وإمّا حكم العقل بذلك .

ومرادنا بالظهورالعرفي هو أنّ العرف يفهم من القضية أنّ الموضوع اُخذ على نحو فرض الوجود ، وذلك مثل وجوب الانفاق على الزوجة ، وما شاكل هذه القضايا ، فإنّ العرف يفهم من ذلك أنّ الزوجية موضوع لحكم رتّبه الشارع المقدّس على فرض وجودها ، ولم تؤخذ على نحو يجب تحصيلها على المكلّف . وهكذا الأمر في وجوب الوفاء بالنذر ، والعهود ، والأيمان .

أمّا الحكم العقلي فهو إنّما يكون إذا كان القيد المأخوذ في الواجب غير اختياري ، وحيث لا يعقل تعلّق التكليف به ، لأنّه من التكليف بما لا يطاق ، وهو مستحيل ، فلا محالة من أن يؤخذ ذلك على نحو مفروض الوجود ، ويكون التكليف فعلياً على تقدير وجوده .

وفي هذين الموردين نلتزم بأخذ ذلك الموضوع مفروض الوجود ، وأمّا ما عداهما فلا دليل على أنّ التكليف لا يكون فعلياً إلاّ بعد فرض وجوده ، ويكون فعلياً على تقدير وجوده .

ــ[239]ــ

وعلى هذا رتّبنا الالتزام بفعلية الأحكام التحريمية قبل وجود موضوعاتها بمجرّد تمكّن العبد وقدرته على الإيجاد ، كالتحريم الوارد على شرب الخمر ، فإنّه فعلي وإن لم يوجد الخمر خارجاً إذا كان المكلّف قادراً على إيجاده بإيجاد مقدّماته ولذلك يتوجّه التكليف إليه . بخلاف الزوال ، فإنّ المكلّف لا يتمكّن من إيجاد الزوال نفسه ، ولا بالشروع بمقدّماته .

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ ما نحن فيه من القسم الثالث ، الذي لا دليل على أنّ الموضوع لابدّ من أخذه مفروض الوجود ، إذ لا علاقة للعرف بهذه الناحية ، كما أنّه لا ملزم لذلك من ناحية العقل ، فإنّ الأمر الذي كان متعلّقاً للداعي يحصل بمجرّد إنشاء المولى تكليفه ، وإذا حصل أمكن الامتثال بداعيه ، ولا حاجة بعد ذلك إلى أخذه مفروض الوجود . وعليه فالمكلّف حين امتثاله يجد أمراً موجوداً قد حصل من إنشاء التكليف ، فيأتي بالفعل بداعي ذلك الأمر ، ولا داعي إلى فرض وجود الأمر حين الإنشاء ، كما كان الأمر كذلك في سائر القيود غير الاختيارية . وعلى ما ذكرناه فلا يلزم من أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر شيء من المحذورين المتقدّمين .

الوجه الثاني من وجوه الاستحالة : ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1)من أنّ أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر نفسه يستلزم تقدّم الشيء على نفسه ، وذلك فإنّ قصد امتثال الأمر متأخّر رتبة عن نفس الأجزاء والشرائط ، لأنّ معنى قصد الامتثال هو الإتيان بالأجزاء والشرائط التي تعلّق التكليف بها بقصد امتثال أمرها  ، فلو اُخذ قصد الامتثال متعلّقاً للتكليف صار كأحد الأجزاء والشرائط ولازمه تقدّم الشيء على نفسه ، وهو محال .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 1 : 162 .

ــ[240]ــ

الوجه الثالث : ما ذكره صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1) من عدم قدرة المكلّف على الامتثال إذا كان قصد الأمر مأخوذاً في المأمور به ، وذلك فإنّ المولى إذا أمر بالصلاة بداعي الأمر كان المأمور به حصّة خاصّة من الطبيعة ، دون نفس الطبيعة . فالصلاة مثلا وحدها لم يكن مأموراً بها كي يتمكّن المكلّف من الإتيان بها بقصد أمرها ، بل المأمور به على الفرض حصّة خاصّة منها ، وهي المقيّدة بداعي الأمر ، ومعه لا يتحقّق الامتثال .

الوجه الرابع : ما ذكره بعض مشايخنا المحقّقين (قدّس سرّه)(2) من أنّ أخذ قصد الأمر في المأمور به يستلزم الخلف ، وذلك فإنّ فرض تعلّق الأمر بالصلاة بداعي الأمر ـ مثلا ـ أنّ الصلاة وحدها ليست مأموراً بها ، بل المأمور به حصّة خاصّة ، وهي المقيّدة بداعي الأمر . وفرض أنّ الإتيان بالصلاة لابدّ أن يكون بداعي امتثال أمرها أنّ ذات الصلاة مأمور بها ، وهذا خلف .

الوجه الخامس : ما ذكره أيضاً بعض مشايخنا المحقّقين (قدّس سرّهم)(3) من أنّ أخذ قصد الأمر في المأمور به يستلزم داعوية الشيء إلى داعوية نفسه ، وهي على حذو علّية الشيء لعلّية نفسه ، وذلك فإنّ الأمر من شأنه تحريك العضلات نحو المأمور به ، فلو تعلّق الأمر بالصلاة بداعي الأمر ـ مثلا ـ فقد دعا إلى إتيان الصلاة وإلى داعوية الأمر ، ومعنى هذا أن يكون الشيء علّة لعلّية نفسه ، وهذا أمر مستحيل  ، فإنّ العلّية منتزعة من ذات العلّة ، وليست بمعلولة له ، وإلاّ لتسلسل .

والصحيح : أنّ شيئاً من هذه الوجوه لا يستقيم ، بيان ذلك : هو أنّ الأمر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 72 .

(2) نهاية الدراية 1 : 327 .

(3) نهاية الدراية 1 : 331 .

 
 

ــ[241]ــ

المتعلّق بالمركّب لا محالة ـ بحسب التحليل ـ ينحلّ إلى الأمر بأجزائه وينبسط على المجموع ، فكل جزء إذا لاحظناه نجده قد اتّخذ حصّة من ذلك الأمر المتعلّق بالمجموع وأصبح مأموراً به بأمر ضمني ، فوجب بوجوب ذلك المركّب وجوباً نفسياً .

وهذا الأمر المتعلّق بالمركّب لا يسقط إلاّ بالإتيان بجميع أجزائه وشرائطه وعليه فإذا كان المركّب مركّباً من جزأين أو أكثر ، وكان كل جزء أجنبياً عن غيره فلا يمكن الإتيان بجزء بداعي امتثال أمره إلاّ بقصد الإتيان بالأجزاء جميعها ، لأنّ الأمر كما يدعو إلى إيجاد هذا الجزء كذلك يدعو إلى إيجاد الجزء الآخر .

وأمّا إذا كان المركّب مركّباً من الفعل الخارجي وقصد أمره الضمني ، فلو أتى بذلك الفعل بداعي امتثال أمره الضمني ، فلا محالة يتحقّق المركّب في الخارج ويسقط أمره بلا حاجة إلى إتيان الجزء الآخر ، وهو قصد الأمر بقصد أمره ، فإنّ سقوط أمره لا يحتاج إلى قصد امتثاله ، لأنّه توصّلي . ولا محذور في الواجب أن يكون بعض أجزائه عبادياً وبعضه توصّلياً .

وبهذا التقريب أمكن ردّ جميع الوجوه التي استدلّ بها على الاستحالة .

أمّا عن الوجه الثاني : فلأنّ قصد الامتثال إنّما يكون متأخّراً عن الأجزاء والشرائط إذا اُريد منه قصد امتثال المجموع . أمّا لو اُريد منه قصد امتثال الأمر الضمني ـ كما هو الصحيح ـ فذلك لا يقتضي تأخّره عن جميع الأجزاء والشرائط لأنّ قصد امتثال كل جزء بخصوصه إنّما هو متأخّر عن نفس ذلك الجزء ، دون بقية الأجزاء . ولا مانع من لحاظ أمرين أحدهما متقدّم على الآخر شيئاً واحداً وجعلهما متعلّقاً للأمر النفسي ، كما تقدّم في بحث الصحيح والأعم(1).

وأمّا عن الوجه الثالث : فلأنّ التشريع وعدم القدرة إنّما يتأتّيان من العبد لو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص104 .

ــ[242]ــ

أراد امتثال أمر الصلاة بداعي أمرها النفسي الاستقلالي ، وأمّا لو أراد امتثالها بداعي أمرها الضمني ، فهو مقدور له بعد الأمر . والقدرة التي اعتبرت في متعلّقات الأحكام إنّما هي حين الامتثال ، لا حين الأمر .

وأمّا عن الوجه الرابع : فإن اُريد من الأمر المتعلّق بذات الصلاة هو الأمر النفسي الاستقلالي ، فهو مستلزم للخلف ، إذ الأمر الاستقلالي لم يتعلّق بذات الصلاة  . وإن اُريد من ذلك هو الأمر الضمني ، فذات الصلاة مأمور بها ضمناً ، ولا يلزم المحذور من ذلك .

وأمّا عن الوجه الخامس فملخّصه : أنّ الأمر الاستقلالي الذي تعلّق بالصلاة ودعوة الأمر ، إنّما يدعو إلى إيجاد كل من الصلاة التي هي فعل خارجي ، وإلى جعل أمرها داعياً الذي هو من الاُمور النفسية . ولكن دعوة الأمر التي اُخذت في متعلّق الأمر النفسي ليست هي داعوية الأمر النفسي نفسه ، بل المأخوذ في المتعلّق هو داعوية الأمر الضمني ، فكان الأمر النفسي يدعو إلى إيجاد متعلّقه ـ وهو ذات الصلاة ـ وداعوية أمرها الضمني ، فأين دعوة الأمر إلى داعوية نفسه .

وإذا اتّضح بما بيّناه إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّق الخطاب ، فلو شككنا في غرض المولى ثبوتاً ، وأنّه أراد العبادة المجرّدة عن كل قيد ، أو المقيّدة بداعي الأمر فلابدّ من ملاحظة عالم الإثبات ، فإن تمّت مقدّمات الحكمة وقد أطلق كلامه ولم يبيّن ما يدلّ على إرادة التقييد ، لزم التمسّك باطلاق خطابه ، وبذلك يثبت عدم إرادة التقييد .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net