الامتثال بعد الامتثال - الفور والتراخي 

الكتاب : مصابيح الاُصول - الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4804


الامتثال بعد الامتثال

إنّما النزاع فيما لو أراد العبد أن يمتثل المأمور به ثانياً ، بعد أن امتثله أولا وصدقت الطبيعة على ما أتى به خارجاً ، فهل يمكن ذلك ؟ ويسمّى بالامتثال بعد الامتثال .

اختار صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1) التفصيل في المقام بين بقاء الغرض الأقصى وعدمه ، حيث أفاد (قدّس سرّه) أنّ الامتثال لو كان علّة تامّة لتحقّق الغرض الأقصى فلا معنى للامتثال بعده ، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك ، فإنّه لا يبعد صحّة تبديل الامتثال باتيان فرد آخر أحسن منه ، بل مطلقاً ، كما كان له ذلك من قبل . مثلا لو أمر المولى عبده باتيان الماء لرفع عطشه ، وأتى العبد بذلك للمولى ، ولكن المولى بعد تسلّمه الإناء لم يشرب ما فيه ، فللعبد في هذه الصورة أن يبادر مرّة اُخرى ويأتي بماء آخر ، لبقاء الغرض الأقصى ، وعدم سقوطه بعد الامتثال الأول.

والصحيح أن يقال بعدم تجويز الامتثال ثانياً بعد الامتثال الأول ، وذلك للزوم التناقض بين تعلّق الأمر بالطبيعة والحكم بجواز الامتثال ثانياً ، فإنّ معنى القضية الاُولى ـ التي هي تعلّق الأمر بالطبيعة ـ هو حصول الامتثال للمأمور به بالمرّة الاُولى ، وانطباق الطبيعة على الموجود الخارجي انطباقاً قهرياً ، ولازمه سقوط الغرض في المأمور به ، فلا أمر ليمتثل مرّة ثانية . وأنّ معنى القضية الثانية ـ التي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 79 .

ــ[267]ــ

هي جواز الامتثال ثانياً ـ هو عدم حصول الامتثال أولا ، وعدم سقوط الغرض بما أتى به ، فالامتثال الثاني لازم ، وهذان المعنيان لا يجتمعان.

وبتعبير آخر : أنّ متعلّق التكليف بالنسبة إلى الخصوصية التي أتى بالطبيعة معها أولا ، إمّا أن يكون مطلقاً ، أو مقيّداً بعدمها .

فعلى الأول فالإتيان بالمأمور به خارجاً موجب لصدق الطبيعة عليه فيسقط لا محالة . فلو أراد أن يأتي به ثانياً فبأي داع يأتي به ؟

وعلى الثاني فلا يكون من الامتثال عقيب الامتثال ، لعدم تحقّق الامتثال أولا .

إذن ففرض كون المطلوب هو الطبيعة أنّ الامتثال الأول يجزي ـ كما يأتي بيانه في بحث الإجزاء(1) إن شاء الله تعالى ـ فلا وجه للامتثال ثانياً .

وأمّا ما جاء في الكفاية فغير تامّ ، لأنّ الغرض المبحوث عنه هنا إنّما هو الغرض المترتّب على نفس المأمور به ، لا غيره ممّا لا يترتّب عليه فقط ، فإنّ غرض الآمر ـ كرفع العطش مثلا ـ إنّما يترتّب على فعل الآمر نفسه ، وليس بقابل لأن يمتثله العبد ، نعم المقدور للعبد تمكين المولى من الشرب وتهيئة المقدّمات له ، وهذا حاصل بمجرّد الامتثال الأول . فليس بعد ذلك غرض يمكن امتثاله ثانياً .

نعم في بعض الروايات الشريفة جاء ما يوهم ذلك ، فقد ورد في باب الصلاة أنّ من صلّى فرادى واُقيمت الجماعة فله أن يعيد صلاته مرّة اُخرى(2)، وورد أيضاً في صلاة الآيات أنّ من صلّى صلاة الآيات فله أن يعيد صلاته مرّة اُخرى ما دامت

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص275 .

(2) الوسائل 8 : 401 / أبواب صلاة الجماعة ب54 ح1 ، 9 ، 10 .

(3) الوسائل 7 : 498 / أبواب صلاة الكسوف والآيات ب8 ح1 .

ــ[268]ــ

الآية باقية(3)، وهذا يدلّ على جواز الامتثال ثانياً بعد الامتثال الأول .

إلاّ أنّ المستفاد منها هو استحباب الإعادة مرّة اُخرى ، توصّلا إلى الثواب .

وبعبارة اُخرى : أنّ للمولى غرضين :

أحدهما : متعلّق بالمصلحة الملزمة ، وهو ما حصل بالامتثال الأول .

ثانيهما : متعلّق بالمصلحة غير الملزمة ، وهو ما يحصل بالامتثال الثاني .

والروايات الشريفة لم تفد جواز الامتثال الثاني ، للزوم التناقض مع تعلّق الأمر بالطبيعة كما عرفت ، بل تفيد استحقاق الثواب على الامتثال ثانياً لتدارك المصلحة غير الملزمة .

نعم بعض الروايات ورد فيها : « يجعلها الفريضة إن شاء »(1) وهي تدلّ على إمكان لزوم الامتثال ثانياً بعد الامتثال أولا ، ولكن القرينة ـ وهي لزوم التناقض كما عرفت ـ موجب لصرف الرواية عن ظهورها ، وحملها على إشاءة جعل الصلاة قضاءً عمّا فات منه من الصلوات الواجبة ، وهذا أجنبي عن جعلها امتثالا للأمر الوجوبي الساقط على الفرض .

الفور والتراخي

تنقسم الواجبات إلى أقسام ثلاثة :

القسم الأول : ما لا يكون الواجب مقيّداً بالتقديم أو التأخير من حيث الزمان ، بل هو مطلق من ناحية كل منهما . فالمكلّف مخيّر في امتثاله ، إن شاء سارع وإن شاء أخّر . ويسمّى بالواجب الموسّع .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 8 : 401 / أبواب صلاة الجماعة ب54 ح1 .

ــ[269]ــ

القسم الثاني : ما يكون الواجب مقيّداً بالتأخير ، فلا يحكم بصحّته لو قدّمه العبد في أوّل أزمنة الإمكان . ويسمّى بالواجب المضيّق .

القسم الثالث : ما يكون الواجب مقيّداً بالتقديم ، وهو على نحوين :

تارةً يراد على نحو وحدة المطلوب ، ومعنى ذلك امتثال الواجب أوّل أزمنة الإمكان فوراً ، وعلى فرض التأخير فالواجب يسقط لا محالة ، ولعلّ من هذا القبيل ردّ السلام .

واُخرى يراد على نحو تعدّد المطلوب ، وهو على قسمين :

القسم الأول : يكون المطلوب فيه هو الواجب المقيّد بالفورية أوّل أزمنة الإمكان ، بحيث لو أخّر العبد امتثال ذلك الواجب لما سقط الواجب ولا الفورية ، بل كانت باقية حتّى الامتثال . ففي كل آن يراد الواجب فوراً ففوراً .

القسم الثاني : يكون المطلوب فيه هو الواجب المقيّد بالفورية ، ولكن تأخير الامتثال عن أوّل الوقت إنّما يسقط الفورية دون أصل الطبيعة ، فللمكلّف بعد ذلك أن يمتثل الطبيعة أيّ وقت شاء . ومن هذا القبيل صلاة الزلزلة ، إذ الواجب على المكلّف الإتيان بها فوراً ، ومع التأخير يجب الإتيان بها ما دام العمر موسّعاً .

هذا كلّه بحسب الثبوت والواقع .

وأمّا بحسب الإثبات فهيئة الأمر لا تدلّ إلاّ على اعتبار شيء في ذمّة المكلّف  ، والمادّة لا تدلّ إلاّ على نفس الطبيعة ، ولازم ذلك الإتيان بالطبيعي مخيّراً عقلا بين الفور والتراخي .

فلو شككنا في اعتبار شيء زائد على ذلك فمقتضى الأصل اللفظي ـ وهو الإطلاق ـ عدم تقيّد الواجب به ، كما وأنّ مقتضى الأصل العملي ذلك أيضاً ، حيث إنّ البراءة ترفع كل ما يحتمل تقيّده في الواجب من القيود الزائدة ، كالفورية والتراخي .

ــ[270]ــ

فظهر من هذا أنّ المكلّف مخيّر عقلا في التقديم والتأخير ، نعم حيث إنّ من الأحكام العقلية لزوم إحراز الامتثال ، فإذا احتمل المكلّف أنّه لو أخّر العمل عن الزمن الأول فات الواجب منه ـ كما إذا دخل وقت الظهرين وأراد المكلّف أن ينام واحتمل أنّ نومه يستمر حتّى يفوت الواجب منه ـ فلا ريب أنّه يجب عليه الإتيان بالعمل فعلا بحكم العقل .

نعم لو قام دليل خارجي بالخصوص على أنّ الواجب مقيّد بأحدهما ، فالمتّبع ذلك الدليل ، وإن لم يقم دليل بالخصوص على أحدهما فهل الدليل العام يقتضي الفورية أو التراخي ؟

استدلّ القائل بالفورية بالآيتين الشريفتين : (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَة مِنْ رَبِّكُمْ)(1) وقوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)(2) ببيان : أنّ المولى أمر بالاستباق نحو الخير ، والمسارعة نحو المغفرة ، وذلك يقتضي الفورية في كل وقت . فلو أخّر ذلك عن أوّل أزمنة الإمكان ، ففي الآن الثاني لابدّ من المسارعة أيضاً ، ولا تسقط بمجرد التأخير عن الزمن الأول . فثبت بهذا أنّ جميع الواجبات الشرعية تقتضي الفورية على نحو تعدّد المطلوب .

وغير خفي أنّ الأمر بالمسارعة والاستباق ليس مولوياً ، بل إرشاد إلى ما يحكم به العقل من حسن المسارعة إلى تفريغ الذمّة ، والخلاص من الأمر الملزم الملقى على عاتق المكلّف ، ولهذا كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يخاطب بلالا المؤذّن : «  أرحنا يابلال »(3)، وهذا لا دليل فيه على الفورية .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) آل عمران 3 : 133 .

(2) المائدة 5 : 48 .

(3) راجع البحار 80 : 16 ، مسند أحمد 5 : 364 ، مجمع الزوائد 1 : 145 .

ــ[271]ــ

ولو سلّمنا أنّه مولوي فلابدّ من دعوى إفادته الاستحباب لتحصيل الثواب إذ لو حملناه على الوجوب لزم تخصيص الأكثر ، وهو مستهجن ، وذلك لخروج المستحبّات ، لأنّها من الخيرات الموجبة للمغفرة ، فإنّ من الواقع أنّ من المستحبّات كزيارة الحسين (عليه السلام) أكثر دخلا في المغفرة من جملة الواجبات مع أنّ المسارعة ليس بواجب فيها .

وأمّا الواجبات فقسم منها موسّع لا يجب فيه المسارعة  ، وقسم آخر لا يراد منه إلاّ التأخير ، ولم يبق تحت العموم إلاّ قسم واحد ، وهو الواجبات الفورية التي هي على نحو تعدّد المطلوب ، والتي يكون المطلوب فيها فوراً ففوراً ، ولا ريب أنّه أقل قليل ، فلابدّ وأن يكون المراد من الأمر هو الاستحباب نحو المسارعة والاستباق نحو الخير .

فالمتحصّل ممّا ذكر : أنّ الثابت بحسب ظهور الأمر في نفسه هو ثبوت السعة في الواجب ، فهو لا يقتضي التأخير ولا التقديم ، وأمّا الأدلّة العامّة فقد عرفت عدم دلالتها على الفورية .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net