العبادة والخضوع - السجود لغير الله 

الكتاب : البيان في تفسـير القرآن - خطبـة الكتاب   ||   القسم : التفسير   ||   القرّاء : 14874

العبادة والخضوع:
لا ينبغي الريب في أنه لا بد للمخلوق من أن يخضع ويتذلل لخالقه، فان ذلك مما حكم به العقل، وندب إليه الشرع.
وأما الخضوع والتذلل للمخلوق فهو على أقسام:
أحدها: الخضوع لمخلوق من دون إضافة ذلك المخلوق إلى الله بإضافة خاصة وذلك: كخضوع الولد لوالده، والخادم لسيده والمتعلم لمعلمه، وغير ذلك من الخضوع المتداول بين الناس، ولا ينبغي الشك في جواز هذا القسم ما لم يرد فيه نهي كالسجود لغير الله، بل جواز هذا القسم مقتضى الضرورة، وليس فيه أدنى شائبة للشرك، وقد قال عز من قائل:
{وَاخْفِضْ لَهما جناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَمَا رَبَّيانِي صَغِيرا} (17 : 24).

ــ[472]ــ

أفترى أنه سبحانه أمر بعبادة الوالدين، حيث أمر بالتذلل لهما؟ مع أنه قد نهى عن عبادة من سواه قبل ذلك:
{وَ قَضَى رَبُّكَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الا إِيّاهُ وَبِالوالِدَيْنِ إحْساناً} (17 : 23).
أم ترى أن خفض الجناح من الذلّ - كما تفعله صغار الطير - هو من الإحسان الذي أمرت به الآية الكريمة، وجعلته مقابلا للعبادة، وإذاً فلا يكون كل خضوع وتذلل لغير الله شركاً بالله تعالى.
ثانيها: الخضوع للمخلوق باعتقاد أن له إضافة خاصة إلى اللّه يستحق من أجلها أن يخضع له، مع أن العقيدة باطلة، وأن هذا الخضوع بغير إذن من الله كما في خضوع أهل الأديان والمذاهب الفاسدة لرؤسائهم. ولا ريب في أنه إدخال في الدين لما لم يكن منه، فهو تشريع محرّم بالأدلة الأربعة، وافتراء على الله تعالى.
{فَمن أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً}(18: 15).
ثالثها: الخضوع للمخلوق والتذلل له بأمر من الله وإرشاده، كما في الخضوع للنبي (صلى الله عليه وآله) ولأوصيائه الطاهرين (عليهم السلام) بل الخضوع لكل مؤمن، أو كل ما له إضافة إلى الله توجب له المنزلة والحرمة، كالمسجد والقرآن والحجر الأسود وما سواها من الشعائر الإلهية. وهذا القسم من الخضوع محبوب لله فقد قال تعالى:
{فَسَوْفَ يَأْتِي اللّه بِقَوْمٍ يُحِبّهم وَ يُجِبُّونَهُ أذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } (5: 45).
بل هو لدى الحقيقة خضوع لله، وإظهار للعبودية له فمن اعتقد بالوحدانية الخالصة لله، واعتقد أن الإحياء والإماتة والخلق والرزق والقبض والبسط والمغفرة والعقوبة كلها بيده ثم اعتقد بأن النبي (صلى الله عليه وآله) وأوصياءه الكرام (عليهم السلام):

ــ[473]ــ

{عِباد مكْرَمُونَ لا يَسبِقُونَه بِالْقَوْلِ وَهمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (21: 27).
وتوسّل بهم إلى الله، وجعلهم شفعاء إليه بإذنه، تجليلاً لشأنهم وتعظيما لمقامهم، لم يخرج بذلك عن حد الإيمان، ولم يعبد غير الله.
ولقد علم كل مسلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقبل الحجر الأسود، ويستلمه بيده إجلالا لشأنه وتعظيما لأمره. وكان (صلى الله عليه وآله) يزور قبور المؤمنين والشهداء والصالحين، ويسلِّم عليهم، ويدعو لهم.
وعلى هذا جرت الصحابة والتابعون خلفاً عن سلف، فكانوا يزورون قبر النبي (صلى الله عليه وآله) ويتبرَّكون به ويقبَّلونه، ويستشفعون برسول الله، كما كانوا يستشفعون به في حياته. وهكذا كانوا يفعلون مع قبور أئمة الدين وأولياء الله الصالحين، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة، ولا أحد من التابعين أو الأعلام، إلى أن ظهر أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحرّاني فحرّم شدّ الرحال إلى زيارة القبور، وتقبيلها، ومسّها، والاستشفاع بمن دفن فيها، حتى أنه شدد النكير على من زار قبر النبي (صلى الله عليه وآله) أو تبرّك به بتقبيل أو لمس، وجعل ذلك من الشرك الأصغر تارة ومن الشرك الأكبر أخرى.
ولما رأى علماء عصره عامة أنه قد خالف في رأيه هذا ما ثبت من الدين، وضرورة المسلمين، لأنهم قد رووا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حثه على زيارة المؤمنين عامة وعلى زيارته خاصة بقوله (صلى الله عليه وآله): "من زارني بعد مماتي كان كمن زارني في حياتي"(1) وما يؤدي هذا المعنى بألفاظ أخر(2) تبرؤوا منه، وحكموا بضلاله،
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار : 100/ 143، باب 1، الحديث: 27.
(2) انطر التعليقة رقم (17) للوقوف على الروايات التي استفاضت في جواز زيارة القبور ـ وقد ذ كر جملة منها عبد السلام بن تيمية ـ في قسم التعليقات.

ــ[474]ــ

وأوجبوا عليه التوبة، فأمروا يحبسه إما مطلقاً أو على تقدير أن لا يتوب.
والذي أوقع ابن تيمية في الغلط - إن لم يكن عامداً لتفريق كلمة المسلمين - هو تخيله أن الأمور المذكورة شرك بالله، وعبادة لغيره. ولم يدرك أن هؤلاء الذين يأتون بهذه الأعمال يعتقدون توحيد الله، وأنه لا خالق ولا رازق سواه، وأن له الخلق والأمر، وإنما يقصدون بأفعالهم هذه تعظيم شعائر الله، وقد علمت أنها راجعة إلى تعظيم الله والخضوع له والتقرب إليه سبحانه، والخلوص لوجهه الكريم، وأنه ليس في ذلك أدق شائبة للشرك، لأن الشرك - كما عرفت - أن يعبد الإنسان غير الله. والعبادة إنما تتحقق بالخضوع لشيء على أنه رب يعبد، وأين هذا من تعظيم النبي الأكرم وأوصيائه الطاهرين (عليهم السلام) بما هو نبي وهم أوصياء، وبما أنهم عباد مكرمون، ولا ريب في أن المسلم لا يعبد النبي أو الوصي فضلاً عن أن يعبد قبورهم.
وصفوة القول: أن التقبيل والزيارة وما يضاهيهما من وجوه التعظيم لا تكون شركا بأي وجه من الوجوه، وبأي داع من الدواعي، ولو كان كذلك لكان تعظيم الحي من الشرك أيضا، إذ لا فرق بينه وبين الميت من هذه الجهة - ولا يلتزم ابن تيمية وأتباعه بهذا - وللزم نسبة الشرك إلى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وحاشاه فقد كان يزور القبور، ويسلم على أهلها، ويقبل الحجر الأسود كما سبق وعلى هذا فيدور الأمر بين الحكم بأن بعض الشرك جائز لا محذور فيه، وبين أن يكون التقبيل والتعظيم - لا بعنوان العبودية - خارجاً عن الشرك وحدوده، وحيث أنه لا مجال للاول لظهور بطلانه فلابد وأن يكون الحق هو الثاني، فإذاً تكون الأمور المذكورة داخلة في عبادة الله وتعظيمه:
{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}(22: 32).

ــ[475]ــ

وقد مرت الروايات الدالة على استحباب زياره قبر النبي وأولياء الله الصالحين.
السجود لغير الله:
لقد اتضح مما قدمنا أن الخضوع لأي مخلوق إذا نهي عنه في الشريعة لم يجز فعله، وإن لم يكن على نحو التأله، ومن هذا القبيل السجود لغير الله، فقد أجمع المسلمون على حرمة السجود لغير الله، قال عزّ من قائل:
{لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ ولا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلْقَهُنَّ إنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}(41: 37).
فإن المستفاد منه أن السجود مما يختص بالخالق، ولا يجوز للمخلوق وقال تعالى:
{وَأَنَّ المساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً} (72: 18).
ودلالة هذه الآية الكريمة على المقصود مبنية على أن المراد بالمساجد المساجد السبعة، وهي الأعضاء التي يضعها الإنسان على الأرض في سجوده وهذا هو الظاهر، ويدل عليه المأثور(1) وكيف كان فلا ريب في هذا الحكم وأنه لا يجوز السجود لنبي أو وصي فضلاً عن غيرهما.
وأما ما ينسب إلى الشيعة الإمامية من أنهم يسجدون لقبور أئمتهم، فهو بهتان محض، ولسوف يجمع الله بينهم وبين من افترى عليهم وهو أحكم الحاكمين ولقد أفرط بعضهم في الفرية، فنسب إليهم ما هو أدهى وأمض، وادّعى أنهم يأخذون
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع الوسائل: 6 / 345، باب 4، الحديث: 8141 و15 / 169، باب 2، الحديث: 20224، 20218.

ــ[476]ــ

التراب من قبور أئمتّهم، فيسجدون له سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم(1) وهذه كتب الشيعة، قديمها وحديثها مطبوعهاومخطوطها، وهي منتشَرة في أرجاء العالم متفقة على تحريم السجود لغير الله، فمن نسب إليهم جواز السجود للتربة فهو إما مفتر يتعمد البهت عليهم، وإما غافل لا يفرق بين السجود لشيء والسجود عليه.
والشيعة يعتبرون في سجود الصلاة أن يكون على أجزاء الأرض الأصلية: من حجر أو مدر أو رمل أو تراب، أو على نبات الأرض غير المأكول والملبوس ويرون أن السجود على التراب أفضل من السجود على غيره، كما أن السجود على التربة الحسينية أفضل من السجود على غيرها. وفي كل ذلك اتبعوا أئمة مذهبهم الأوصياء المعصومين(2) ومع ذلك كيف تصح نسبة الشرك إليهم و أنهم يسجدون لغير الله(3).
والتربة الحسينيه ليست إلا جزءاً من أرض الله الواسعة التي جعلها لنبيه مسجداً وطهوراً(4) ولكنها تربة ما أشرفها وأعظمها قدراً، حيث تضمنت ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسيد شباب أهل الجنة من فدى بنفسه ونفيسه ونفوس عشيرته وأصحابه في سبيل الدين وإحياء كلمة سيد المرسلين. وقد وردت من الطريقين في فضل هذه التربة عدة روايات عن رسول الله(5) وهب أنه لم يرد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا عن أوصيائه ما يدل على فضل هذه التربة، أفليس من الحق أن يلازم المسلم هذه التربة، ويسجد عليها في مواقع السجود؟ فإن في السجود عليها ـ بعد
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر التعليقة رقم (18) للوقوف على التهمه التي ألصقها الآلوسي بالشيعة في صيامهم ـ في قسم التعليقات.
(2) راجع الوسائل: 5 / 365 و366، باب 15 و16، الحديث: 6806، 6807، 6808، 6809.
(3) انظر التعليقة رقم (19) بشأن حوار جرى بين المؤلف وأحد علماء الحجاز حول التربة الحسينية ـ في قسم التعليقات.
(4) راجع سنن البيهقي: 1 / 212، 213. باب التيمم بالصعيد الطيب.
(5) راجع الوسائل: 5 / 365، أحاديث باب استحباب السجود على تربة الحسين (عليه السلام)، انظر التعليقة رقم (20) بشأن فضيلة تربة الحسين (عليه السلام) في قسم التعليقات.

ــ[477]ــ

كونها مما يصح السجود عليه في نفسه ـ رمزاً و إشارة إلى أن ملازمها على منهاج صاحبها الذي قتل في سبيل الدين وإصلاح المسلمين.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net