الشكّ في الاستحالة 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الرابع:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 6102


ــ[154]ــ

ومع الشك في الاستحالة لا يحكم بالطهارة ((1)) (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   (1) الكلام في ذلك يقع في مقامين :

   أحدهما : أنه إذا شك في الاستحالة في الأعيان النجسة .

   وثانيهما : ما إذا شك في الاستحالة في المتنجسات .

   أمّا المقام الأوّل : فحاصل الكلام فيه أن الشبهة قد تكون موضوعية ويكون الشك في الاستحالة مسبباً عن اشتباه الاُمور الخارجية ، وقد تكون الشبهة مفهومية ويكون الشك في الاستحالة ناشئاً عن الشك في سعة المفهوم وضيقه . والأوّل كما إذا وقع كلب في المملحة وشككنا بعد يوم في أنه هل استحال ملحاً أم لم يستحل . والثاني كما إذا صارت العذرة فحماً وشككنا بذلك في استحالتها ، نظراً إلى الشك في أن لفظة العذرة هل وضعت على العذرة غير المحروقة فاذا اُحرقت خرجت عن كونها عذرة، أو أنها وضعت على الأعم من المحروقة وغيرها فلا يكون الاحراق سبباً لاستحالتها فالشك في سعة المفهوم وضيقه .

   أما إذا كانت الشبهة موضوعية فلا مانع من التمسك باستصحاب كون العين النجسة باقية بحالها وعدم صيرورتها ملحاً أو تراباً ، بأن يشار إلى الموضوع الخارجي ويقال إنه كان كلباً أو عذرة سابقاً والأصل أنه الآن كما كان ، لتعلق الشك حينئذ بعين ما تعلق به اليقين واتحاد القضيتين المتيقنة والمشكوك فيها ، وبهذا يترتب عليه جميع الآثار المترتبة على النجس ، هذا .

   وقد يقال بعدم جريان الاستصحاب حينئذ ، نظراً إلى أن مع الشك في الاستحالة لا يمكن إحراز بقاء الموضوع في الاستصحاب لعدم العلم بأن الموجود الخارجي كلب أو ملح ، إذ لو كنّا عالمين بكونه كلباً أو عذرة لم يشك في نجاستهما ، بل قلنا بنجاستهما بعين الدليل الاجتهادي الذي فرضناه في المسألة ، ومع الشك في الموضوع لا يبقى للاستصحاب مجال وتنتهي النوبة إلى قاعدة الطهارة لا محالة .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هذا فيما إذا كانت الشبهة موضوعية ، وأما إذا كانت مفهومية فالأظهر هو الحكم بالطهارة .

ــ[155]ــ

   وهذه الشبهة من الضعف بمكان ، وذلك لأن المعتبر في الاستصحاب إنما هو اتحاد القضيتين : المتيقنة والمشكوك فيها ، بمعنى كون الشك متعلقاً بعين ما تعلق به اليقين ولا يعتبر الزائد على ذلك في الاستصحاب .

   ثم ان الموضوع في القضيتين يختلف باختلاف الموارد ، فقد يكون الموضوع فيهما هو نفس الماهية ـ الكلية أو الشخصية ـ المجردة عن الوجود والعدم بحيث قد تتصف بهذا وقد تتصف بذاك ، كما إذا شككنا في بقاء زيد وعدمه ، حيث إن متعلق اليقين حينئذ هو الماهية الشخصية في الزمان السابق ، ونشك في نفس تلك الماهية في الزمان اللاّحق ، فالقضيتان متحدتان ولا يمكن أن يكون الموضوع في مثله هو الوجود أو العدم ، لأنهما أمران متباينان ومتقابلان تقابل السلب والايجاب ، فلا يتصف أحدهما بالآخر ليشك في أن الوجود مثلاً هل صار عدماً في الزمان اللاّحق أم لم يصر ، وإنما القابل لذلك هو الماهية كما مرّ ، لامكان أن تكون الماهية المتصفة بالوجود في الآن السابق متصفة بالعدم في الآن اللاّحق وليس كذلك الوجود والعدم . على أن لازم ذلك عدم جريان الاستصحاب في وجود الشيء أو عدمه إذا شك في بقائه على حالته السابقة ، لعدم احراز الوجود أو العدم في زمان الشك فيهما .

   وقد يكون الموضوع في القضيتين هو الوجود ، كما إذا علمنا بقيام زيد أو طهارة ماء ثم شككنا في بقائه على تلك الحالة وعدمه ، لوضوح أن الموضوع في مثله هو زيد الموجود وبما أ نّا كنّا على يقين من قيامه ثم شككنا فيه بعينه فالقضيتان متحدتان .

   وثالثة يكون الموضوع في القضيتين هو الهيولى والمادة المشتركة بين الصور النوعية ، كما إذا كنّا على يقين من اتصاف جسم بصورة وشككنا بعد ذلك في أنه هل خلعت تلك الصورة وتلبست بصورة اُخرى أم لم تخلع ، فانّ الموضوع في القضيّتين هو المادة المشتركة فيشار إلى جسم معيّن ويقال : إنه كان متصفاً بصورة نوعية كذا والأصل أنه الآن كما كان . ومقامنا هذا من هذا القبيل فنشير إلى ذلك الموجود الخارجي ونقول إنه كان كلباً سابقاً والآن كما كان ، للعلم بأن المادة المشتركة كانت متصفة بالصورة الكلبية فاذا شك في بقاء هذا الاتصاف يجري استصحاب كونها متصفة بالصورة الكلبية .

ــ[156]ــ

   ولا نريد أن نقول أنه كلب بالفعل ليقال إنه لو كان كلباً فعلاً لم نحتج إلى الاستصحاب ، بل حكمنا بنجاسته حسب الدليل الاجتهادي ، كما لا نريد أنه ملح كذلك ليقال : إن مع العلم بالاستحالة نعلم بطهارته فلا حاجة أيضاً إلى الأصل ، بل نريد أن نقول إنه كان كلباً سابقاً ولا منافاة بين العلم بالكلبية السابقة وبين الشك في الكلبية فعلاً . بل دعوى العلم بكونه كلباً سابقاً صحيحة حتى مع العلم بالاستحالة الفعلية نظير قوله عزّ من قائل : (أ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ) (1) حيث اُطلقت النطفة على الانسان المستحيل منها فكأنه قال للانسان : إنك كنت نطفة مع العلم باستحالتها انساناً . نعم الأثر إنما يترتب على كونه كلباً سابقاً فيما إذا شككنا في الاستحالة دون ما إذا علمنا أن المادة المشتركة قد خلعت الصورة الكلبية وتلبست بصورة نوعية اُخرى ، هذا كله في الشبهات الموضوعية .

   وأمّا الشبهات المفهومية فلا سبيل فيها إلى الاستصحاب ، لا في ذات الموضوع ولا في الموضوع بوصف كونه موضوعاً ولا في حكمه . مضافاً إلى ما نبهنا عليه غير مرّة من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية الإلهيّة .

   أمّا عدم جريانه في ذات الموضوع الخارجي فلأنه وإن تعلق به اليقين إلاّ أنه ليس متعلِّقاً للشك بوجه للعلم بزوال وصف من أوصافه واتصافه بوصف جديد ، حيث لم تكن العذرة مثلاً محروقة فاحترقت ، ومع عدم تعلق الشك به لا يجري فيه الاستصحاب، لتقوّمه باليقين السابق والشك اللاّحق ولا شك في الموضوع كما عرفت.

   وأما عدم جريانه في الموضوع بوصف كونه موضوعاً ، فلأنه عبارة اُخرى عن استصحاب الحكم ، فان الموضوع بوصف كونه موضوعاً لا معنى له سوى ترتب الحكم عليه ، ويتّضح بعد سطر عدم جريان الاستصحاب في الحكم .

   وأما عدم جريانه في نفس الحكم فلأ نّا وإن كنّا عالمين بترتب النجاسة على العذرة سابقاً وقبل إحراقها ونشك في بقائه ، إلاّ أن القضية المتيقنة والمشكوك فيها يعتبر إحراز اتحادهما ، ومع الشك في بقاء الموضوع لا مجال لاحراز الاتحاد ، لاحتمال أن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) القيامة 75 : 37 .

ــ[157]ــ

يكون ما علمنا بنجاسته زائلاً حقيقة ، وأن هذا الموجود الخارجي موضوع جديد لم تتعلّق النجاسة به وإنما ترتبت على العذرة غير المحروقة ، ومع هذا الاحتمال يكون المورد شبهة مصداقية للاستصحاب فلا يمكن التمسك باطلاق أدلته أو عمومها . وهذا مطلب سيال يأتي في جميع الشبهات المفهومية كما ذكرناه في غير واحد من المباحث منها مبحث المشتقّات حيث قلنا : إن في الشك في مثل مفهوم العالم وإنه يعم ما إذا انقضى عنه التلبس أيضاً لا يجري الاستصحاب في الموضوع لعدم تعلق الشك به ، وإنما نعلم باتصافه بالعلم سابقاً وزواله عنه فعلاً ، ولا يجري في حكمه لأجل الشك في بقاء موضوعه ، ولا يجري في الموضوع بوصف كونه موضوعاً ، لأنه راجع إلى استصحاب الحكم .

   نعم ، الشك في الشبهات المفهومية التي منها المقام يرجع إلى التسمية والموضوع له فان الشك في سعته وضيقه ومآله إلى أن كلمة العذرة مثلاً هل وضعت لمطلق العذرة أو للعذرة غير المحروقة ، وكذا الحال في غير المقام ولا أصل يعين السعة أو الضيق ، ومعه لا بدّ في موارد الشك في الاستحالة من الرجوع إلى قاعدة الطهارة وبها يحكم بطهارة الموضوع المشكوك استحالته ، هذا كله في الأعيان .

   وأمّا المقام الثاني : وهو الشك في الاستحالة في المتنجسات : فان كانت الشبهة موضوعية كما إذا شككنا في استحالة الخشب المتنجِّس رماداً وعدمها فلا مانع من استصحاب بقاء المادة المشتركة بين الخشب والرماد على حالتها السابقة أعني اتصافها بالجسمية السابقة ، فنشير إلى الموجود الخارجي ونقول إنه كان متصفاً بالجسمية السابقة ونشك في بقائه على ذاك الاتصـاف وتبدل الجسم السابق بجسم آخر فنستصحب اتصافه بالجسمية السابقة وعدم زوال الاتصاف به ، وبذلك يحكم بنجاسته .

   وهل تعقل الشبهة المفهومية في الاستحالة في المتنجِّسات ؟

   التحقيق عدم تصوّر الشبهة المفهومية فيها ، وذلك لأن النجاسة في الأعيان النجسة كانت مترتبة على العناوين الخاصة من الدم والعذرة وغيرهما ، ولأجله كنّا قد نتردد

ــ[158]ــ

في سعة بعض تلك المفاهيم وضيقها ، ونشك في أن العذرة اسم لغير المحروقة أو للأعم منها ومن غيرها وهو المعبّر عنه بالشبهات المفهومية .

   وأمّا المتنجِّسات فقد تقدّم أنّ النجاسة بالملاقاة غير مترتبة على العناوين الخاصة من الصوف والقطن وغيرهما ليمكن الشك في سعة بعض المفاهيم وضيقه ، بل إنما ترتبت على عنوان الجسم والشيء ، ولا نشك في سعة مفهومهما ، لوضوح أنهما صادقان على المتنجسات قبل تبدل شيء من أوصافها الشخصية أو النوعية وبعده لأنها جسم أو شيء على كل حال ، فلا يتحقق مورد يشك في سعة المفهوم وضيقة في المتنجسات فاذا شككنا في متنجس أنه استحال أم لم يستحل فهو شبهة موضوعية لا مانع من استصحاب عدم استحالته حينئذ .

   ومن ذلك الشك في استحالة الخشب فحماً أو التراب آجراً أو خزفاً ، فانّه مع الشك في تحقق الاستحالة مقتضى الاستصحاب هو الحكم ببقاء الموجود الخارجي على الجسمية السابقة وعدم تبدّله بجسم آخر ، فلا بدّ من الحكم بالنجاسة في تلك الاُمور . نعم الشك في الاستحالة بالاضافة إلى جواز السجدة أو التيمم على التراب من الشبهات المفهومية لا محالة ، لأن جواز السجدة مترتب على عنوان الأرض ونباتها وجواز التيمم مترتب على عنوان التراب أو الأرض ، ومعنى الشك في الاستحالة هو الشك في سعة مفهوم الأرض والتراب وأنهما يشملان ما طبخ منهما وصار آجراً أو خزفاً ، ومع الشك في المفهوم لا يجري فيه الاستصحاب كما عرفت ، ولا بدّ في جواز الأمرين المذكورين من إحراز موضوعيهما .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net