تنقيح البحث 

الكتاب : القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول) - ج3   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6998

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 527‌

[الجزء الثالث]

[قاعدة لا ضرر]

و تنقيح البحث فيها يتمّ بذكر أمور:

الأوّل: أنّ هذا المضمون قد نقل عن الفريقين بطرق مختلفة.

و حكى الشيخ- قدّس سرّه- في الرسائل عن فخر الدين في الإيضاح في باب الرهن تواتر الأخبار عليه «1». و لكنّه- قدّس سرّه- في رسالته المستقلّة التي صنّفها في قاعدة «لا ضرر» لم يسند هذه الدعوى إليه، بل قال: حكي عنه ذلك و لم أجده في كتاب الرهن من الإيضاح «2».

فلعلّه- قدّس سرّه- راجع ثانيا فوجده و أسند إليه في الرسائل.

و كيف كان، متن الحديث الشريف ورد على وجوه:

الأوّل: «لا ضرر و لا ضرار» بلا تذييل بذيل «في الإسلام» أو «على مؤمن» كما هو المشهور عند الفريقين «3».

الثاني: «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام» كما حكي عن ابن الأثير في نهايته «4». و عن التذكرة «5» أنّه أرسله كذلك. و في الوسائل في باب الميراث:

______________________________
(1) فرائد الأصول: 313، و انظر: إيضاح الفوائد 2: 48.

(2) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب): 372.

(3) الكافي 5: 292- 2 و 293- 294- 6، الفقيه 3: 147- 648، التهذيب 7: 146- 147- 651، الوسائل 25: 428- 429، الباب 12 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 3 و 5، سنن ابن ماجة 2: 784- 2340 و 2341، سنن الدار قطني 4: 227- 83.

(4) النهاية 3: 81.

(5) تذكرة الفقهاء 1: 522 (الطبعة الحجريّة).

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 528‌

و قال الصدوق: و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «الإسلام يزيد و لا ينقص» قال: و قال عليه السلام:

«لا ضرر و لا ضرار في الإسلام، فالإسلام يزيد المسلم خيرا و لا يزيده شرّا» «1» إلى آخره.

الثالث: «لا ضرر و لا ضرار على مؤمن» كما في رواية ابن مسكان عن زرارة، المذكورة في الكافي «2».

و لا ثمرة مهمّة في تحقيق أنّ الحديث مذيّل أو لا، و على تقدير كونه مذيّلا ذيله كلمة «في الإسلام» أو «على مؤمن»، إذ لا يفرق في المعنى [1].

هذا، مضافا إلى أنّ الحديث لم يصدر مرّة واحدة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله حتى نحتاج إلى إثبات الصادر و أنّه بأيّ كيفيّة صدر، بل تكرّر صدوره في روايات متعدّدة، فمن الممكن صدوره عنه عليه السلام بوجوه، بل هو الّذي يلزم الالتزام به، فإنّه بلا تذييل منقول عن الفريقين.

و بتزييد كلمة «في الإسلام» مرويّ في مجمع البحرين «3». و منقول عن الصدوق «4» قدّس سرّه، و روايته موثّقة.

______________________________
[1] أقول: الحقّ هو تأثير وجود قيد «في الإسلام» و عدمه في مفاد «لا» فإن كان موجودا، فالمراد من «لا» هو النفي و يوجب نفي الحكم الضرري في الدين، و يكون «لا ضرر» ك‍ «لا حرج» و إن لم يكن موجودا، فالمراد من «لا» هو النهي ك‍ «لا رفث» و يدلّ على حرمة الإضرار بالغير، و لا ربط له بما نحن فيه. (م).

______________________________
(1) الوسائل 26: 14، الباب 1 من أبواب موانع الإرث، الحديث 9 و 10، و انظر: الفقيه 4:

243- 776 و 777.

(2) الكافي 5: 294- 8، و راجع الوسائل 25: 429، الباب 12 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 4.

(3) مجمع البحرين 3: 373 «ضرر».

(4) تقدّم تخريجه في الهامش (1).

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 529‌

و احتمال الإرسال- كما استظهره شيخنا الأستاذ «1» قدّس سرّه- مدفوع بما ذكرنا مرارا من أنّ نقل الرواية عن المعصوم عليه السلام إذا كان بلفظ «روي»- كما إذا قال:

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله كذا- فهو مرسل، و إن كان بالإسناد إليه عليه السلام- بأن قال: قال النبي صلّى اللّه عليه و آله كذا- فهو مسند لا يمكن عدّه في المراسيل، ضرورة أنّ الناقل المتديّن العادل لا يسند شيئا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله من دون إثبات صدق الخبر بالعلم أو بطريق معتبر، فإسناد الصدوق- قدّس سرّه- الرواية إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله توثيق منه- قدّس سرّه- لرواته، و هو يكفي في حجّيّتها، و يدخل في عداد الروايات الموثّقة، فلا بدّ من الأخذ بها.

و بتزييد كلمة «على مؤمن» مذكور في الكافي «2» الّذي هو أوثق من غيره.

و لا يدخل المقام في كبرى دوران الأمر بين الزيادة و النقيصة حتى يقال بأنّ احتمال الزيادة أبعد بمراتب من احتمال النقيصة، و الأخذ بالزائد أمر ارتكازي عند العقلاء، لما عرفت من أنّ مورده ما كان الصدور مرّة واحدة لا مرارا متعدّدة، كما في المقام.

ثمّ على تقدير كون المقام صغرى من صغريات تلك الكبرى فلا بدّ من الأخذ بما في الكافي، لأوثقيّته من غيره.

و لا وجه لما أفاده شيخنا الأستاذ- قدّس سرّه- من أنّه في خصوص المقام لا بدّ من تقديم الناقص على الزائد «3» من جهة أنّ تقديم الزائد- الّذي هو ببناء العقلاء لأجل أبعديّة الغفلة بالنسبة إلى الزيادة من الغفلة بالنسبة إلى النقيصة- إنّما هو فيما إذا تساوى الرّواة في الطرفين، أمّا مع وحدة الراوي‌

______________________________
(1) قاعدة لا ضرر «المطبوعة مع منية الطالب): 192.

(2) تقدّم تخريجه في 528، الهامش (2).

(3) أي تقديم أصالة عدم النقيصة على أصالة عدم الزيادة.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 530‌

في جانب و تعدّده في الآخر- كما في المقام- فلا، ضرورة أبعديّة غفلة جماعة من غفلة واحد «1».

و ذلك لأنّ الراوي الّذي ينقل عن الإمام عليه السلام في المقام واحد في الجانبين، و التعدّد الّذي هو موجب لأبعديّة احتمال الغفلة إنّما هو تعدّد الراوي الأوّل لا من يروي عن الراوي الأوّل، و المقام من هذا القبيل لا من قبيل الأوّل.

ثمّ إنّ هذا الحديث ورد على وجهين:

أحدهما: مستقلاّ من دون أن يكون ذيلا لقضيّة، كما نقل شيخنا الأستاذ- قدّس سرّه- كذلك عن دعائم الإسلام «2»، و نقل عن نهاية ابن الأثير، و التذكرة «3».

ثانيهما: في ذيل قضيّة سمرة بن جندب بلا زيادة كلمة «على مؤمن» على رواية غير الكافي، و معها على روايته. و ذكر في الوسائل في ذيل رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين و المساكن، و قال: لا ضرر و لا ضرار» و في ذيل الرواية الناهية عن منع فضل ماء البئر «4» و منع فضل الماء، الرويّة عن عقبة بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السلام «5».

______________________________
(1) قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب): 191- 192.

(2) قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب): 193، و انظر: دعائم الإسلام 2: 499- 1781.

(3) تقدّم تخريجهما.

(4) هذا بناء على رواية الوافي عن الكافي في ج 18 ص 1015 ح 18721 حيث في الكافي «نفع الشي‌ء» و في الوافي «نقع البئر» و يؤيّده ما في مسند أحمد 6: 447 ذيل حديث 22272 برواية عبادة بن الصامت.

(5) الوسائل 25: 399- 400، الباب 5 من أبواب كتاب الشفعة، الحديث 1، و 420، الباب 7 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 2، و انظر: الكافي 5: 280- 4، و 293- 6، و التهذيب 7: 164- 727.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 531‌

و لكن نقل شيخنا الأستاذ «1»- قدّس سرّه- عن شيخ الشريعة الأصبهاني «2» أنّ أكثر أقضية النبي صلّى اللّه عليه و آله مرويّ في مسند أحمد بن حنبل عن عبادة بن الصامت «3»، و في كتبنا عن عقبة بن خالد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، و بذلك يظنّ أنّ ما روي عن عقبة من قضائه صلّى اللّه عليه و آله ب‍ «لا ضرر و لا ضرار» قضاء مستقلّ، كما رواه كذلك عبادة بن الصامت «4»، لا أنّه في ذيل قضائه صلّى اللّه عليه و آله بالشفعة و قضائه بين أهل المدينة بأنّه «لا يمنع نفع الشي‌ء» و بين أهل البادية بأنّه «لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلأ» و ذلك لأنّ الأقضية التي رواها عبادة مرويّة في مسند ابن حنبل مجتمعة، و حيث إنّ نفس هذه الأقضية مرويّة في كتبنا عن عقبة متفرّقة- سوى ما روي عنه من القضاء ب‍ «لا ضرر» فإنّه مرويّ عنه في ذيل القضاء بالشفعة و غيره- يظنّ أنّها في رواية عقبة أيضا كانت مجتمعة، و إنّما فرّقها أصحاب الحديث و لم يفرّقوا هذا القضاء عن غيره، بل رووه مجتمعا مع القضاء بالشفعة و غيره من باب الجمع في الرواية لا من باب الجمع في المرويّ.

و بعبارة أخرى: جمعوا في مقام النقل و الرواية بين الروايتين و القضاءين أو الأقضية من أقضية النبي صلّى اللّه عليه و آله، لا أنّهم جمعوا جميع ما روي في رواية واحدة من الجملات و الأقضية.

هذا، مضافا إلى أنّه لا مناسبة بين «لا ضرر» و القضاء بالشفعة أو بعدم المنع عن فضل الماء.

أمّا الثاني: فواضح، فإنّ المالك للماء مسلّط على ماله و له أن يمنع غيره‌

______________________________
(1) قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب): 194.

(2) قاعدة لا ضرر و لا ضرار: 38- 40.

(3) مسند أحمد 6: 446- 447- 22272.

(4) مسند أحمد 6: 447 ذيل الحديث 22272.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 532‌

عن فضله، غاية الأمر أنّه منهيّ بنهي تنزيهيّ، و ليس المنع موجبا لتضرّر الغير أصلا، بل موجب لعدم انتفاع الغير به، و عدم النّفع غير الضرر، فلا يدخل تحت القاعدة، و لا مناسبة بينهما أصلا.

و أمّا الأوّل: فلأنّ بين الضرر و ثبوت الشفعة عموما من وجه يجتمعان فيما يترتّب على بيع الشريك ضرر على شريك آخر، و يفترقان فيما إذا كان الشركاء ثلاثة و كان البيع من أحدهما موجبا للضرر على الشريكين الآخرين، فإنّه مورد للضرر، و لا تثبت الشفعة، فإنّها ثابتة في مورد اتّحاد الشريك دون غيره، و فيما إذا كان الشريك واحدا و لم يكن البيع موجبا لضرر الشريك، بل كان المشتري بمراتب أحسن و أولى من شريكه. مع أنّ نفي الضرر عبارة عن نفي الحكم الناشئ منه الضرر، كما يأتي، و هو لا يثبت حقّ الشفعة، فالظاهر عدم ارتباط حديث «لا ضرر» بحديث الشفعة و لا بحديث منع فضل الماء و عدم كونه ذيلا لهما.

الأمر الثاني: في معنى ألفاظ الحديث الشريف.

و الظاهر أنّ الضرر اسم مصدر- مصدره الضرّ- في مقابل المنفعة- كما أنّ الضرّ في مقابل النّفع- و ليس مقابلا للنفع كما في الكفاية «1» فإنّه اسم مصدر و النّفع مصدر، و ليس تقابلهما تقابل العدم و الملكة كما قال به صاحب الكفاية «2»، فإنّ معناه هو النقصان في المال أو العرض أو البدن أو الجهة من الجهات الاعتباريّة، و الجامع هو فقدان ما وجد كما أنّ المنفعة هو وجدان ما فقد، فهو و المنفعة بمنزلة النقيصة و الزيادة، و ليس معناه عدم النّفع في مورد شأنيّة حصول النّفع، ضرورة أنّه لا يصدق على من تمكّن من تجارة مربحة في صورة الترك: أنّه تضرّر.

______________________________
(1) كفاية الأصول: 432.

(2) كفاية الأصول: 432.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 533‌

و يقال: ضرّه و أضرّ به إذا أوقعه في الضرر، يتعدّى ثلاثيّة بنفسه و مزيده بالباء بعكس سائر الأفعال. و يقال: تضرّر إذا وقع في الضرر.

و أمّا الضرار فهو مصدر إمّا للثلاثي ك‍ «كتاب» أو لباب المفاعلة، و هو:

ضارّ يضارّ، ك‍ «قتال» ل‍ «قاتل» و بذلك ظهر أنّ الضرار ليس بمعنى الضرر، فإنّه مصدر لو حظ فيه انتسابه إلى فاعل مّا، و الضرر اسم مصدر لم يلحظ فيه ذلك.

و الظاهر- كما يستفاد من موارد استعماله في القرآن و غيره- أنّ باب المفاعلة ليس لفعل الاثنين، و إنّما يكون باب التفاعل كذلك، بل غالب موارد استعماله- لو لم يكن جميعها- في مقام إرادة إيقاع المادّة على الغير و القيام مقامه سواء وقع أو لم يقع، مثل: «قاتل معه» بمعنى أنّه قام في مقام قتله، لا أنّه قتله و هو أيضا قتله. و أظهر موارد استعماله في هذا المعنى هو قوله تعالى:

يُخٰادِعُونَ اللّٰهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ مٰا يَخْدَعُونَ إِلّٰا أَنْفُسَهُمْ وَ مٰا يَشْعُرُونَ «1» فإنّ معناه بحسب الظاهر- و اللّٰه العالم- أنّ المنافقين يقومون مع اللّٰه و المؤمنين مقام الخدعة و لكن لا تقع الخدعة على اللّٰه تعالى و المؤمنين، بل تقع على أنفسهم، فهم بأنفسهم ينخدعون و لا يشعرون. و هذا من تحقيقات شيخنا المحقّق الشيخ محمد حسين الأصبهاني الكمپاني «2». فالمنفي في الحديث أمران: أحدهما:

الضرر، و الآخر: القيام مقام إضرار الغير، كما هو الظاهر من قوله صلّى اللّه عليه و آله لسمرة- الّذي كان من الأشقياء- بعد إبائه: «إنّك رجل مضارّ» «3» إذ لا معنى لكونه فعلا للاثنين، فإنّ الأنصاري لم يضرّ بسمرة، فالمعنى على الظاهر: إنّك رجل قمت‌

______________________________
(1) البقرة: 9.

(2) انظر: نهاية الدراية 4: 437.

(3) الكافي 5: 294- 8، الوسائل 25: 429، الباب 12 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 4.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 534‌

في مقام الإضرار، و ليس لك مقصود إلاّ ذلك.

ثمّ إنّه بقي شي‌ء ينبغي التنبيه عليه، و هو: أنّ رواية سمرة بن جندب، المعروفة المذيّلة بذيل «لا ضرر و لا ضرار» «1» لا تنطبق على موردها حيث إنّ أمره صلّى اللّه عليه و آله الأنصاري بقلع العذق «2» و الرمي إلى وجهه لا ينطبق على القاعدة، لأنّ وجود العذق في بستان الأنصاري أو داره لم يكن موجبا للضرر على الأنصاري حتى يرفع سلطنته على إبقاء عذقه في الدار أو البستان بقاعدة «لا ضرر» بل الموجب إنّما هو دخول سمرة في بستان الأنصاري بلا استئذان.

و هذا الإشكال إنّما تعرّض له شيخنا الأنصاري «3»- قدّس سرّه- و لم يذكر له مدفعا و التزم به و أفاد أنّ عدم معلوميّة كيفيّة تطبيق هذه الكبرى الكلّيّة على موردها لنا لا يضرّ بلزوم الأخذ بهذه الكبرى الكلّيّة.

و يمكن أن يقال: إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله حيث أمر سمرة بالاستئذان فلم يقبل ثمّ ساومه بعذق و أكثر إلى أن ساومه بعذق في الجنّة، فلم يرض الشقيّ و صار بذلك معاندا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و ظهر منه عدم اعتنائه بثواب الجنّة، الّذي هو كاشف عن عدم اعتقاده بها، أدّبه النبي صلّى اللّه عليه و آله، بذلك، و هو أولى بالمؤمنين و غير المؤمنين من أنفسهم و أموالهم، و لم يأمر بالقلع من جهة كون إبقاء العذق ضرريّا، و لم يطبّق القاعدة على هذا الحكم أيضا، بل طبّقها على أمر آخر مستفاد من الرواية، و هو السلطنة الثابتة لسمرة على الدخول لأجل وجود عذقه في البستان، فإنّها بلا استئذان كانت موجبة لهتك عرض الأنصاري و الضرر عليه، فرفعها صلّى اللّه عليه و آله،

______________________________
(1) الكافي 5: 292- 2، الفقيه 3: 147- 648، التهذيب 7: 146- 147- 651، الوسائل 25: 428- 429، الباب 12 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 3.

(2) العذق- بالفتح-: النخلة بحملها، الصحاح 4: 1522 «عذق».

(3) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب): 372.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 535‌

فلزوم الاستئذان للدخول مع وجود حقّ الدخول له بلا استئذان من جهة كونه ضرريّا لا إبقاء عذقه.

و الحاصل: أنّ المستفاد من الرواية أنّ سمرة كان في نفسه له حقّان: حقّ الدخول بلا استئذان، و حقّ إبقاء عذقه في ملك الأنصاري بسبب من الأسباب، و أحدهما كان ضرريّا، فرفعه النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: «لا ضرر و لا ضرار» و هو حقّ الدخول بلا استئذان، و الآخر لم يكن كذلك و لكن رفعه أيضا من جهة معارضته للنبي صلّى اللّه عليه و آله و عناده من باب التأديب رغما لأنفه و نقضا لغرضه حتى لا يعود بعد ذلك، لا من باب الضرر [1].

و قد أجاب عنه شيخنا الأستاذ- قدّس سرّه- بجوابين:

أحدهما راجع إلى ما ذكرنا إلاّ أنّه جعل وجه الأمر بالقلع حسم مادّة الفساد.

و ثانيهما: أنّ حقّ إبقاء العذق في ملك الأنصاري و إن لم يكن ضرريّا إلاّ أنّه كان له معلول ضرريّ، و هو الدخول من غير استئذان، و رفع المعلول الضرريّ إنّما يكون برفع علّته، و هذا كما إذا توقّفت الصلاة على مقدّمة ضرريّة كالغسل، فإنّ رفع وجوب الغسل الضرريّ إنّما يكون برفع علّته، و هو وجوب‌

______________________________
[1] أقول: ظاهر الحديث هو استناد رفع حقّ الدخول بلا استئذان و رفع حقّ إبقاء العذق كليهما إلى نفي الضرر بمعنى أنّ حقّ الدخول بلا استئذان و حقّ الإبقاء كليهما ضرريّ، فرفعهما النبي صلّى اللّه عليه و آله، بل ظاهر الحديث هو أنّ نفي الضرر تعليل للحكم الثاني دون الأوّل، خلافا للمستشكل، فعلى هذا لا يرد هذا الإشكال أصلا، لأنّ حقّ الإبقاء نفسه أيضا ضرر كحقّ الدخول، فرفعه النبي صلّى اللّه عليه و آله من باب نفي الضرر لا من باب الولاية.

و أمّا وجه كون حقّ الإبقاء أيضا ضرريا فهو أنّ ضرريّته معلّقة على عدم امتثال النهي عن الدخول، و بما أنّ سمرة لم يمتثل النهي عن الدخول بلا استئذان فصار حقّ الإبقاء ضرريّا و استند الضرر إليه، فرفعه النبي صلّى اللّه عليه و آله، و لا نحتاج إلى ما قاله المحقّق النائيني من أنّ حقّ الإبقاء علّة لضرريّة الدخول بلا استئذان. (م).

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 536‌

الصلاة مع الغسل «1».

و فيه: أنّ لازمه تأسيس فقه جديد، ضرورة أنّ مقتضاه رفع حكم نجاسة مائع نجس ترك شربه ضرريّ لرفع حرمته، فإنّ الحرمة للنجاسة و رفع زوجيّة من يضرّه التمكين لزوجها كرفع وجوب التمكين، لكونه معلولا للزوجيّة و أمثال ذلك ممّا لا يلتزم به فقيه. فالصحيح هو الالتزام برفع حكم نفس ما هو ضرريّ لا معلوله.

و هذا مضافا إلى أنّ الدخول بقيد كونه بلا استئذان لا يكون معلولا لحقّ الإبقاء، بل معلوله مطلق الدخول، و هو غير ضرريّ، و إنّما الضرريّ هو فرد خاصّ منه، و هو المقيّد بعدم الاستئذان.

و قياس المقام بباب ضرريّة المقدّمة مع الفارق، ضرورة أنّ ضرريّة القيد موجبة لضرريّة المقيّد به تكوينا، و لذا يرفع وجوب الصلاة مع الغسل بضرريّته حتى على القول بعدم وجوب المقدّمة، إذ الضرر لم ينشأ من وجوب المقدّمة، بل نشأ من نفس التوقّف كما لا يخفى.

فالحقيق بالتصديق ما ذكرنا كما يظهر من رواية ابن مسكان عن زرارة حيث إنّ الأمر بالقلع فيها بعد قوله عليه السلام: «لا ضرر و لا ضرار» و لتكن هذه الرواية قرينة على أنّ «لا ضرر» في رواية زرارة عن ابن بكير، المذكور بعد الأمر بالقلع يكون متفرّعا على سابقه لا عليه، كما لا يخفى.

الأمر الثالث: في فقه الحديث الشريف و معنى هذه الهيئة التركيبيّة.

و الاحتمالات أربعة:

الأوّل: كون «لا ضرر و لا ضرار» نفيا في مقام النهي بأن كان المراد منه أنّه يحرم على المكلّفين الإضرار.

______________________________
(1) قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب): 209- 210.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 537‌

و هذا استعمال شائع وارد في الآيات و الروايات، كقوله تعالى:

فَلٰا رَفَثَ وَ لٰا فُسُوقَ وَ لٰا جِدٰالَ فِي الْحَجِّ «1» و «لا رهبانيّة في الإسلام» «2» و «لا نجش «3» في الإسلام» «4» و «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» «5» و «لا سبق إلاّ في حافر أو نصل» «6».

فدعوى صاحب الكفاية «7» عدم تعاهده في مثل هذا التركيب و إنّما المتعاهد هو الإخبار بوقوع شي‌ء في مقام طلبه، كما في «يعيد صلاته» و «يتوضّأ» أو الإخبار عن عدم شي‌ء بجملة فعليّة في مقام النهي عنه، كقوله تعالى: لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «8» من الغرائب.

______________________________
(1) البقرة: 197.

(2) معاني الأخبار: 113- 114 (باب معنى ألزم) الحديث 1، الخصال: 137- 138- 154، الوسائل 10: 524، الباب 5 من أبواب الصوم المحرّم و المكروه، الحديث 4، و 11: 344، الباب 1 من أبواب آداب السفر، الحديث 4، و فيها: «ليس في أمّتي رهبانيّة».

(3) النّجش: الزيادة في السلعة ليسمع بذلك فيزاد فيه. لسان العرب 14: 54 «نجش».

(4) لم نعثر على نصّه فيما بين أيدينا من المصادر الحديثيّة، و الموجود فيها هو:

«لا تناجشوا» انظر: معاني الأخبار: 284، و الوسائل 17: 459، الباب 49 من أبواب آداب التجارة، الحديث 4، و سنن أبي داود 3: 269- 3438، و سنن الترمذي 3:

597- 1304، و سنن النسائي 6: 72، و سنن ابن ماجة 2: 734- 2174، و سنن الدار قطني 3: 74- 281، و سنن البيهقي 5: 346.

(5) الفقيه 2: 377- 1626، و 4: 273- 828، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 124، الخصال: 139- 158، الوسائل 15: 174، الباب 3 من أبواب جهاد النّفس، الحديث 1، و 16: 154، 155، الباب 11 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 7 و 11، و 27:

129- 130، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 17.

(6) قرب الإسناد: 88- 291، الوسائل 19: 253، الباب 3 من أبواب كتاب السبق و الرماية، الحديث 4.

(7) كفاية الأصول: 433.

(8) الواقعة: 79.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 538‌

الثاني: ما أفاده صاحب الكفاية من أنّه نفي للحكم بلسان نفي الموضوع الضرريّ «1».

و هذا أيضا استعمال شائع وارد في الروايات و غيرها، كما في «لا شكّ لكثير الشكّ» «2» و «لا سهو في سهو» «3» و «لا ربا بين الوالد و الولد» «4» و «لا ربا بين الزوج و الزوجة» «5» و «لا غيبة للمتجاهر» «6» و غيرها.

الثالث: ما أفاده الشيخ- قدّس سرّه- من أنّه نفي للحكم الموجب للضرر بمعنى أنّ الحكم الناشئ منه الضرر- كلزوم العقد الغبني- منفيّ في الشريعة و غير مجعول «7».

و الفرق بينه و بين ما أفاده صاحب الكفاية: أنّ الحكم إذا كان ضرريّا و لم يكن موضوعه ضرريّا- كاللزوم في المعاملة الغبنيّة، فإنّ اللزوم حكم وضعي ضرري و ليس متعلّقه فعلا من أفعال المكلّف موجبا للضرر- يرفع على مبناه قدّس سرّه دون مبنى صاحب الكفاية قدّس سرّه، و أمّا إذا كان الموضوع ضرريّا كالوضوء الضرري فيرفع حكمه على كلا المبنيين.

______________________________
(1) كفاية الأصول: 432.

(2) يستفاد هذا النصّ من أحاديث الباب 16 من أبواب الخلل، من الوسائل 8: 227.

(3) الكافي 3: 358- 359- 5، الفقيه 1: 231- 1028، التهذيب 3: 54- 187، الوسائل 8: 243، الباب 25 من أبواب الخلل، الحديث 2 و 3.

(4) الكافي 5: 147- 1 و 3، الفقيه 3: 176- 791، التهذيب 7: 18- 76، الوسائل 18:

135- 136، الباب 7 من أبواب الرّبا، الحديث 1 و 3 بتفاوت.

(5) الفقيه 3: 176- 792، الوسائل 18: 136، الباب 7 من أبواب الرّبا، الحديث 5 بتفاوت.

(6) ورد في أمالي الصدوق: 42- 7، و الوسائل 12: 289، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 4: «إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له و لا غيبة».

(7) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب): 372.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 539‌

الرابع: ما نسبه الشيخ «1»- قدّس سرّه- إلى بعض الفحول، و هو: أنّ المراد أنّ الضرر غير المتدارك منفيّ و غير مجعول في الشريعة، نظرا إلى أنّ التدارك يوجب سلب عنوان الضرر حقيقة، ضرورة أنّه لا يقال لمن أخرج من كيسه دينارا و اشترى به شيئا يقابل هذا المقدار: إنّه تضرّر، فإذا كان المراد نفي الضرر غير المتدارك و أنّه لا بدّ من تدارك الضرر في الشريعة، يصحّ بلا عناية نفي الضرر و يكون «لا ضرر» نفيا لحقيقة الضرر حقيقة لا ادّعاء.

و لا يخفى أنّ هذا الوجه أردأ الوجوه، لعدم سلب عنوان الضرر بالتدارك أصلا، و المعاملة أجنبية عن باب الضرر و التدارك بالمرّة، و لا يقال لمن كسر كوزه مثلا و لو تدارك عاجلا: لم يتضرّر، إلاّ مسامحة و بالعناية و المجاز.

هذا، مضافا إلى أن حكم الشارع بوجوب التدارك ما لم يقع التدارك خارجا لا يوجب سلب عنوان الضرر بالضرورة، و إلاّ يلزم أن لا يصدق عنوان المتضرّر على كلّ من سرق منه المال، لأنّ الشارع حكم بوجوب التدارك على السارقين و ضمانهم لهم، و أن لا يصدق أيضا عنوان المضرّ على أحد من السارقين، فهذا الوجه ساقط من أصله. مع أنّ لازمه تأسيس فقه جديد، إذ أيّ فقيه أفتى بأنّ الإضرار بالغير مطلقا حتى في غير موارد الإتلاف موجب للضمان و التدارك؟ و هل أفتى فقيه بأنّ من باع متاعه الكثير كالقند و السكّر و غيرهما بثمن رخيص للإضرار بغيره الّذي يكون له متاع مثل ذلك و اشتراه للاتّجار و الاسترباح بحيث يوجب إفلاس هذا المسكين و عدم وفاء ما عنده من المتاع- لتنزّل السوق- لأداء ديونه، ضامن لما تضرّر به هذا المسكين، و يجب عليه تدارك ما فات منه؟

______________________________
(1) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب): 372.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 540‌

نعم، وردت رواية «1» مضمونها أنّ من هدم حائطه إضرارا بجاره بحيث لم يكن له غرض إلاّ ذلك يجبر على البناء ثانيا، فإن كانت معمولا بها فلا مانع من الالتزام بها في موردها و لكن ليس لنا دليل آخر غير دليل الإتلاف يدلّ على وجوب تدارك الضرر و لو لم يكن مصداقا للإتلاف.

و بالجملة، حكم الشارع بالتدارك تكليفا أو وضعا كالحكم بضمان الضارّ لا يجعل الضرر لا ضرر حقيقة و لا يسلب عنوان المتضرّر عمّن سرق ماله الكثير، إذ لا ريب في كون الضرر موضوعا عرفيّا، و العرف يحكم بتضرّر المسروق منه و لو مع حكم الشارع بوجوب التدارك على السارق أو بضمانه بالقطع و اليقين.

و إن كان نظر هذا البعض إلى غير ما ذكر بل إلى أنّ المراد من الضرر هو الضرر غير المتدارك بنحو التقييد، ففيه- مضافا إلى ما ذكرنا من أنّ لازمه تأسيس فقه جديد- أنّ التقييد بلا قرينة عليه غير سديد، كما أفاده في الكفاية «2».

و أمّا الوجوه الثلاثة الاخر فأحسنها ثالثها، و هو نفي الحكم الناشئ منه الضرر في الشريعة المقدّسة. و هذا هو الصواب الّذي ليس فيه ارتياب.

و توضيح المرام و تحقيق المقام يستدعي البسط في الكلام.

فنقول: إنّ هذا التركيب لا ريب في صحّة استعماله في مقام النهي عن المنفيّ ب‍ «لا» كما يمكن استعمال الجملة الخبريّة ك‍ «يعيد صلاته» و غير ذلك في مقام الأمر بالإعادة، و غيرها، فإنّ المولى لشدّة محبوبيّة الشي‌ء أو مبغوضيّته عنده يخبر عن وقوعه أو عن عدمه كناية عن النهي عن الإيجاد أو الأمر به، و قد‌

______________________________
(1) دعائم الإسلام 2: 504- 1805، مستدرك الوسائل 13: 447، الباب 10 من أبواب كتاب الصلح، الحديث 1.

(2) كفاية الأصول: 433.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 541‌

ذكرنا أنّ أمثاله كثيرة في الآيات و الروايات، كقوله تعالى: فَلٰا رَفَثَ وَ لٰا فُسُوقَ وَ لٰا جِدٰالَ فِي الْحَجِّ «1» و «لا عمل في الصلاة» و النفي في أمثال ذلك يتعلّق بأمر خارجي، و ليس له ضابط كلّي.

و هكذا لا شبهة في صحّة استعماله في مقام نفي فرديّة ما هو فرد لطبيعة واقعا، تشريعا، و بيان أنّه ليس مصداقا له، لخصوصيّة فيه، و لعلّ ذلك أغلب موارد استعماله، و أمثلته في الروايات و غيرها كثيرة، كقوله عليه السلام: «لا ربا بين الوالد و الولد» و قوله عليه السلام: «لا غيبة لمن ألقى جلباب الحياء» «2» و قوله عليه السلام:

«لا صدقة و ذو رحم محتاج» «3» و «لا شكّ لكثير الشكّ» و غير ذلك ممّا نفى فرديّة فرد لطبيعة في الخارج، لمكان خصوصيّة موجودة فيه، كخصوصيّة كون الرّبا بين الوالد و الولد، و خصوصيّة كون المغتاب- اسم مفعول- ملقيا لجلباب الحياء، و خصوصيّة كون المتصدّق على الغير و له ذو رحم محتاج، و خصوصيّة كون الشاكّ كثير الشكّ، الموجبة لسلب الشارع صدق الرّبا و الغيبة و الصدقة و الشكّ عن الفرد المتخصّص بها، المستلزم لسلب حكمه من الحرمة كما في الأوّلين، و المحبوبيّة في الثالث، و البطلان أو لزوم البقاء على الأكثر في الأخير، و الوجوب أو الاستحباب، كما في «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» و هذا القسم أيضا لا ضابطة له، و يتعلّق النفي بأمر خارجي.

و هنا معنى آخر ربّما تستعمل أمثال هذه التراكيب فيه، و هو نفي الشي‌ء في الشريعة و الدين إمّا من جهة كونه مشروعا في الشرائع السابقة فينتفي في مقام‌

______________________________
(1) البقرة: 197.

(2) الاختصاص: 242، و عنه في البحار 72: 260- 59.

(3) الفقيه 2: 38- 166، و 4: 267- 824 و 273- 828، الوسائل 9: 380 و 384 و 412، الأبواب 7 و 8 و 20 من أبواب الصدقة، الأحاديث 2 و 4 و 4.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 542‌

النسخ له، كما في «لا رهبانية في الإسلام» أو من جهة كونه أمرا متداولا بين العقلاء فينفى في مقام الردع عن سيرتهم و عدم إمضاء رويّتهم كما في «لا نجش في الإسلام» بناء على أنّ المراد من النجش هو الزيادة في الثمن بلا قصد الاشتراء لترغيب المشتري، فإنّه أمر متداول بين العقلاء و شي‌ء جائز عندهم، فنفي الشارع إيّاه، و رفع جوازه العقلائي و حكم بأنّه غير ثابت في دين الإسلام، و هكذا حكم بأنّ الرهبانيّة- التي كانت في شريعة عيسى عليه السلم جائزة- غير ثابتة في هذه الشريعة، و لا تكون محكومة بالجواز. و النفي في هذا القسم يتعلّق بالدين لا بالخارج لا وجود كما في القسم الأوّل و لا انطباقا كما في القسم الثاني.

و معنى سادس، و هو أن يكون النفي أيضا ناظرا إلى الدين كالسابق لكن متعلّقه نفس جعل المولى لا فعل من أفعال المكلّف كما في السابق، كما في قوله تعالى: مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «1» فإنّ الحرج عنوان ينطبق على فعل المولى كما ينطبق على فعل العبد، فكما يصدق أنّ المكلّف أوقع نفسه في الحرج إذا ارتكب أمرا شاقّا كذلك يصدق أنّ الشارع أوقع المكلّفين في الحرج إذا كلّفهم بتكليف شاقّ حرجيّ، فإلزام بني إسرائيل بأن يقرضوا ما أصابه البول من بدنهم- و هذا في غير المخرج، لعدم صدق الإصابة فيه- بالمقاريض- كما دلّت عليه رواية «2»- تكليف شاقّ حرجيّ كان مجعولا في شريعتهم، فالمنفي على هذا نفس الحكم الحرجيّ، و ظرف المنفي الدين الّذي هو عبارة عن مجموعة من الأحكام المجعولة، و النفي على هذا حقيقيّ ليس فيه‌

______________________________
(1) الحجّ: 78.

(2) الفقيه 1: 9- 13، التهذيب 1: 356- 1064، الوسائل 1: 133- 134، الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحديث 4.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 543‌

ادّعاء و لا تنزيل، فالحرج منفي في عالم التشريع حقيقة و غير مجعول بلا عناية.

و قد تلخّص أنّ هنا محتملات في الحديث الشريف:

الأوّل: أن يكون المراد نفي الضرر غير المتدارك. و قد عرفت ما فيه.

الثاني: أنّ يكون إخبارا عن العدم الخارجي بادّعاء وجود المقتضي له، و هو إلزام المولى بالترك، و فقد المانع، و هو عصيان العبد، فإنّ إلزام المولى بشي‌ء بمنزلة العلّة التامّة له بعد كون العبد في مقام الإطاعة و الانقياد.

و الحاصل: أن يكون إخبارا عن العدم الخارجي كناية عن كون الإضرار منهيّا عنه، نظير الإخبار بوجود شي‌ء خارجا كناية عن كونه مأمورا به، كما في «يعيد صلاته».

و هذا الاحتمال و إن كان ممكنا معهودا كما ذكرنا إلاّ أنّه خلاف الظاهر من وجهين:

أحدهما: من جهة وجود كلمة «في الإسلام» في بعض رواياته، فإنّ ظاهره أنّ الضرر منفي في عالم التشريع.

ثانيهما: لزوم ارتكاب الادّعاء و التنزيل الّذي ليس عليه دليل.

الثالث: أن يكون إخبارا عن عدم الانطباق الخارجي و أنّ الغيبة مثلا لا تنطبق على غيبة من ألقى جلباب الحياء، في مقام رفع الحكم عن المنفي و نفي الحرمة عن هذا الفرد من الغيبة.

الرابع: أن يكون إخبارا عن عدم ما كان ثابتا في الشرائع السابقة أو ما جرى عليه سيرة العقلاء في عالم التشريع نسخا أو ردعا.

و هذا أيضا خلاف ظاهر الحديث، فإنّ الإضرار بالغير لم يكن ثابتا في الشرائع السابقة حتى يكون نسخا له، و لا أمرا جاريا بين العقلاء حتى يكون ردعا لهم، فإنّ كلّ عاقل لا يجوّز الإضرار بالنفس أو الغير، بل يعدّه قبيحا.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 544‌

الخامس: أن يكون نفيا للحكم الضرري و إخبارا عن عدم جعل الضرر في عالم التشريع، كما أفاده الشيخ «1».

و هل يكون الحديث من هذا القبيل، كما في مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أو هو ظاهر في الاحتمال الثالث الّذي استظهره صاحب الكفاية «2» قدّس سرّه؟ الظاهر هو الأوّل، لما ذكرنا من أنّ النفي إذا تعلّق بعنوان ينطبق على فعل المكلّف و فعل المولى، كالحرج، ففي مثل هذا العنوان ظاهر في عدم جعله في عالم التشريع، فإنّه نفي حقيقي لا يرتكب فيه تكلّف مجاز و خلاف ظاهر أصلا، و عنوان الضرر من هذا القبيل، فإنّه كما يصدق أنّ المكلّف أوقع نفسه في الضرر بارتكابه ما يوجب الضرر عليه كذلك يصدق أنّ المولى ألقى عبده في الضرر إذا كلّفه بتكليف ضرريّ، و كما أنّ جعل الحكم الناشئ منه الضرر جعل للضرر على المكلّف حقيقة كذلك نفي الحكم الضرري نفي للضرر عن المكلّفين حقيقة بلا عناية أصلا، فمفاد «لا ضرر» بعينه مفاد مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ و استعمال أمثال هذه التراكيب في نفي الحكم بلسان نفي موضوعه، و نفي فرديّة المنفي للطبيعة المحكومة به و إن كان ممكنا شائعا كما في «لا ربا بين الوالد و الولد» و نظائره إلاّ أنّه في خصوص المقام لا يمكن الالتزام به، لأنّ الحكم المنفي في مثل «لا ربا بين الوالد و الولد» هو الحكم الثابت على نفس الموضوع، و هي الحرمة، و في المقام لا يمكن نفي الحكم الثابت على نفس عنوان الضرر بلسان نفيه، فإنّه أوّلا: يفيد ضدّ المقصود، إذ لا نعقل حكما لنفس عنوان الضرّر إلاّ الحرمة، فنفيها يفيد جواز الضرر و ينافي مورد الرواية أيضا في قوله عليه السلام: «إنّك رجل مضارّ و لا ضرر‌

______________________________
(1) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب): 372.

(2) كفاية الأصول: 432- 433.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 545‌

و لا ضرار» «1».

و ثانيا: لا يعقل ذلك حيث إنّ الضرر- سواء كان تمام الموضوع للحرمة أو جزءه أو قيده- يكون من جهة المفسدة المترتّبة عليه مقتضيا للحرمة أو ممّا له دخل في ثبوت الحرمة، و ما يكون كذلك كيف يعقل أن يكون مانعا عن الحرمة!؟

و ثالثا: لا معنى لنفي الضرر فيما يكون جزءا للموضوع أو قيدا له، فإنّ الموضوع حينئذ ضرريّ لا أنّه ضرر، و فرق بيّن بين الضرر و الضرريّ و الحرج و الحرجيّ، ف‍ «لا ضرر في الإسلام» مفاده غير مفاد «لا ضرريّ في الإسلام» و الموضوع- الّذي يكون الضرر قيدا له أو جزءا- ضرري فلا يصحّ نفيه إلاّ ب‍ «لا ضرريّ» فنفي الحكم الثابت على نفس عنوان الضرر- سواء كان تمام الموضوع أو جزءه أو قيده- ليس مرادا من هذه القضيّة قطعا.

و أمّا احتمال كونها متكفّلة لنفي الحكم الثابت على الموضوع في حال الضرر و زمان الضرر بأن يكون المنفي هو الحكم الطبعيّ الثابت على الوضوء مثلا في حال الضرر بلسان نفي الضرر، فهو ليس نفيا لوجوب الوضوء بلسان نفي موضوعه «2»، بل نفي له بلسان نفي ظرف موضوعه، و مثل هذا خارج عن طريق المحاورات العرفيّة، و هل يصحّ في مقام نفي حكم الصوم في حال السفر قولنا: «لا سفر» أو لا بدّ من القول ب‍ «لا صوم في السفر»؟

و قياس المقام برفع الخطأ و النسيان حيث إنّ المرفوع ليس هو الحكم‌

______________________________
(1) الكافي 5: 294- 8، الوسائل 25: 429، الباب 12 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 4.

(2) المراد من الموضوع ما يعمّ المتعلّق. (م).

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 546‌

الثابت على نفس العنوانين قطعا كالدية مثلا، بل هو الحكم الثابت على الفعل الصادر عن خطأ أو نسيان، فهو رفع للحكم بلسان رفع ظرف الفعل، قياس مع الفارق.

أمّا أوّلا: فلأنّ الخطأ و النسيان حيث إنّهما يوجبان وقوع المكلّف في خلاف الواقع، فالمكلّف من جهة خطئه يكذب و من جهة نسيانه يترك السورة، فرفع الخطأ رفع لحكم المعلول و هو الكذب بلسان رفع علّته، و هو موافق للذوق العرفي، بخلاف المقام.

و أمّا ثانيا: فلأنّ الخطأ لا يعقل معنى لرفعه إلاّ رفع حكم الفعل الخطئي، و هكذا النسيان، و ليس ممّا ينطبق على فعل المولى حتى يرفع في عالم التشريع، و لا يكون هو بنفسه قابلا للجعل حتى يصحّ إسناد الرفع و عدم الجعل في الشريعة إليه حقيقة، و هذا بخلاف عنوان الضرر، كما عرفت.

و بالجملة، لا مناص عن الالتزام بأنّ القضيّة متكفّلة لبيان عدم جعل الضرر في الدين، و على ذلك لا يفرّق بين كونه ناشئا من نفس الحكم أو الموضوع، بل الضرر مطلقا- سواء كان في الحكم أو في الموضوع- لم يجعل في الشريعة المقدّسة بمقتضى ظاهر الحديث الشريف.

و هكذا لا يفرّق بين الأحكام التكليفيّة الضرريّة و الأحكام الوضعيّة الضرريّة، بل الكلّ منفيّ بجامع واحد، و هو ما يستتبع جعله جعله الضرر في الدين، و منه جعل ترخيص الإضرار بالغير، فإنّه أيضا مستلزم لذلك، فهو أيضا منفي، و نتيجته حرمة الإضرار بالغير، و على ذلك يصحّ تطبيق القاعدة على مورد رواية سمرة، و يحسن ذكر «لا ضرر و لا ضرار» بعد قوله صلّى اللّه عليه و آله: «إنّك‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌3، ص: 547‌

رجل مضارّ» «1» كما لا يخفى.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net