(الرابع) الاستحالة 

الكتاب : فقه الشيعة - كتاب الطهارة ج‌5   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 8813

فقه الشيعة - كتاب الطهارة؛ ج‌5، ص: 291

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌5، ص: 291‌

[ (الرابع) الاستحالة]

(الرابع) الاستحالة: و هي تبديل حقيقة الشي‌ء و صورته النوعيّة إلى صورة أخرى (1).

______________________________
ما هي الاستحالة

(1) عدّ [1] الفقهاء الاستحالة من المطهّرات، و هي عبارة عن تبدل حقيقة الشي‌ء، و صورته النوعيّة إلى صورة أخرى و لو عرفا- كما أشار في المتن.

توضيح المقام: و أنواع التبدّلات.

إنّ التبدّلات الحاصلة في الأشياء- التي تستدعي تبدّل أسمائها- تكون على ثلاثة أنواع، و بعضها توجب تغيّر الحكم أيضا، دون بعض، و ذلك من جهة تبدّل الحقيقة- و لو العرفيّة- إلى حقيقة أخرى مقارنا مع تبدّل الاسم في بعض الموارد، دون بعض، و يظهر ذلك بملاحظة هذه الأنواع، فنقول:

(الأول) تبدّل الأشياء في أوصافها- الشخصيّة أو النوعيّة- مع بقائها على حقائقها الذاتيّة العرفية.

و هذا كتبدّل الحنطة إلى الطحين، و منه الى العجين، و منه إلى‌

______________________________
[1] الجواهر ج 6 ص 278 و حكى «قده» عن حواشي الشهيد على القواعد أنها عند (الفقهاء عبارة عن «تغيير الإجزاء و انقلابها من حال الى حال» و عنه (في ص 281) انها عند الأصولين عبارة عن «تغيير الصورة النوعيّة».

و قال «قده» (في ص 278) انه «لا حاجة الى التعريف بعد ظهور معناها العرفي الذي هو المدار، دون التدقيق الحكمي المبنى على انقلاب الطبائع بعضها الى بعض و عدمه».

أقول لم يرد في شي‌ء من الأدلة الشرعيّة ان الاستحالة من المطهرات كي يحمل على معناها العرفي أو غيره، كما هو الشأن في جميع الألفاظ الواردة في الأدلة، و انما عدّها الفقهاء من المطهّرات باعتبار تحقق الإجماع على طهارة المحال إليه في بعض الموارد كإحالة الأعيان النجسة إلى الرّماد بالنار- كما أشار إليه (في ص 266)-، و نحوها من الموارد و من هنا جعلوها قاعدة كليّة، فالواجب علينا إنّما هو ملاحظة كيفيّة التبدّلات الحاصلة في الأشياء، و أن أيا منها تستدعي الحكم بطهارة المتبدل اليه دون اخرى من دون حاجة الى التدقيق في مفهوم الاستحالة.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌5، ص: 292‌

..........

______________________________
الخبز، و الحليب الى الجبن أو اللبن، و تبدّل القطن الى الثوب، و نحو ذلك، و هذه التبدّلات و إن كانت مغيّرة للأسماء، إلا أنها لا توجب تبدّلا في حقيقة الشي‌ء و ماهيّته، حتى في نظر العرف.

و مثله لا يوجب تغيّرا في الحكم، لعدم دخل الأوصاف- الشخصية أو النوعيّة- في ترتب الأحكام الشرعيّة، كالطهارة و النجاسة، فإذا تنجّست الحنطة ثم جعلت طحينا أو خبزا لا يحكم بطهارته، لعدم دخل الأوصاف- كتماسك الأجزاء- في الحكم بالنجاسة بنظر العرف، و مثله خارج عن الاستحالة المعدّة من المطهّرات.

(الثاني) تبدّل الأشياء في ماهيّتها النوعيّة عقلا، و ذلك بتبدل الصورة النوعيّة إلى صورة أخرى حقيقة، و هو في مقابل النوع الأول تماما.

و هذا كما في تبدّل الدّم أو النطفة إلى الحيوان، و صيرورة العذرة دودا أو ترابا، و الكلب ملحا، و نحو ذلك مما يكون تبدّل الاسم مقارنا لتبدل الصورة النوعيّة حقيقة.

و هذا مما لا إشكال في كونه موجبا لتبدل الحكم، بتبدل موضوعه واقعا، فان كان المحال اليه مما ثبتت طهارته بدليل اجتهادي، فيحكم بطهارته، لشمول ذلك الدليل له، فلو استحال المني إلى شاة، أو إنسان، و الكلب الى الملح- و نحو ذلك مما ثبتت طهارته بالدليل- يحكم بطهارته واقعا.

و أما إذا لم تثبت طهارة المحال اليه بدليل اجتهادي بحيث شككنا في طهارته فالمرجع حينئذ تكون قاعدة الطهارة، لأنه من الشبهة الحكمية في المشكوك طهارته و نجاسته، فتكون مجرى للقاعدة المذكورة، و لا يجرى استصحاب النجاسة، لعدم بقاء الموضوع، لأن المفروض تغيير الصورة النوعيّة حقيقة، و من هنا لو كان المحال اليه من الأعيان النجسة يحكم بنجاسته أيضا بمقتضى عموم دليله، كما في استحالة الدم إلى المني ثم الى الكلب- مثلا.

و بالجملة: المحال اليه إما أن يكون معلوم الطهارة أو معلوم النجاسة أو مشكوكها، ففي الأول يحكم بالطهارة الواقعية، و في الثاني يحكم بنجاسته‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌5، ص: 293‌

..........

______________________________
واقعا، و في الثالث يحكم بالطهارة الظاهريّة.

و السرّ في ذلك كله هو أن المحال اليه يكون موضوعا جديدا يستتبع حكما جديدا، و لو كان هو النجاسة، كما في تبدّل الدم إلى المني أو الكلب، فان نجاسته نجاسة جديدة غير نجاسة المحال منه، و قد تختلف أحكام النجاسة الأولى عن الثانية، كما في استحالة الماء المتنجس الى بول ما لا يؤكل لحمه، لكفاية الغسل مرة واحدة في الأول، دون الثاني، فإنه يجب فيه التعدد- كما مر.

و ظهر مما ذكرنا: أن عدّ الاستحالة من المطهّرات- كما في الموارد المذكورة و نحوها مما يأتي في النوع الثالث- فيه مسامحة واضحة، لأن الاستحالة لا تكون مطهّرة للمحال منه حقيقة، لانعدامه على الفرض، فتكون رافعة لموضوع النجاسة و محققة لموضوع جديد، يستدعي حكما جديدا، و لو كان الحكم الجديد النجاسة.

فالنتيجة: أن عمدة الدليل- و ان ادعى الإجماع في بعض الموارد [1]- في الحكم بطهارة المحال اليه إنما هو عدم تعدّى الأحكام الثابتة للموضوعات النجسة عن موضوعاتها، فمتى صارت «العذرة» «رمادا» لحقها حكم «الرّماد» و ارتفع حكم «العذرة»، إذ لا يعقل بقاء الحكم بعد ارتفاع موضوعه، و قد دل الدليل على نجاسة «العذرة» و «الرّماد» ليس ب‍ «عذرة» فلا يعمّه الدليل، و لو شك في نجاسته، و لم يكن لنا دليل يدل على طهارة «الرّماد» مطلقا- بحيث يعم الفرض- حكم بطهارته للأصل، و لا يجرى استصحاب النجاسة بعد فرض الاستحالة، لأن بقاء الموضوع شرط في الاستصحاب.

(الثالث) تبدّل الأشياء في حقائقها العرفيّة، و ان كانت باقية على حقيقتها الذاتيّة.

و هذا كما في تبدّل الخمر خلّا، و تبدّل دم الإنسان إلى دم البق بامتصاصه من بدن الإنسان.

______________________________
[1] كما في الاستحالة بالنار- كما ذكرنا في التعليقة.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌5، ص: 294‌

فإنها تطهّر النجس (1)

______________________________
و يلحق هذا بالنوع الثاني في تبدّل الحكم بتبدل موضوعه، لأن موضوعات الأحكام الشرعيّة إنّما هي الحقائق العرفية، سواء طابقت الواقعيّة أولا، فإن الخمر و الخل في نظر العرف موضوعان متغايران، لا مانع عندهم من الحكم بنجاسة الأول و طهارة الثاني، و ان اتحدا في حقيقتهما النوعيّة لدى العقل و النظر الفلسفي.

و على الجملة: لو كان التبدّل في الصورة النوعيّة العرفيّة، و كان المتبدل اليه محكوما بالطهارة الواقعيّة أو الظاهريّة كفى ذلك في الحكم بالطهارة، و ان لم يتبدل في صورته النوعيّة بنظر العقل، و أما تبدّل الشي‌ء من هيئته وصفته خاصة فلا يوجب الطهارة و ان أوجب تغيّر الاسم، لبقاء الموضوع السابق.

هل تكون الاستحالة مطهرة للنجس

(1) ظاهر عبارة المتن، بل صريحه، هو أن الاستحالة تكون من المطهّرات [1]، و لكن قد عرفت أنها تكون مغيّرة للموضوع و رافعة له، فتكون السالبة بانتفاء الموضوع، لا المحمول، لعدم بقاء موضوع النجاسة مع الاستحالة، فان المحال إليه موضوع جديد مغاير للأول، و يتبعه حكمه.

و السرّ في ذلك هو أن الحكم بالنجاسة في أعيان النجاسات تترتب على الصور النوعيّة، كعنوان «الدم» و «المنى» و «البول» و نحو ذلك من عناوين النجاسات، فإذا تبدّلت زالت النجاسة، لانتفاء موضوعها، فإذا استحال الدّم فيلحظ المحال إليه كعنوان «التراب» أو «الإنسان» أو شي‌ء آخر و يحكم بحكمه، و ان بقيت المادّة الأصلية المشتركة، كعنوان الجسم- في كلتا الصورتين- فإنها ليست موضوعا للنجاسة [2] في نظر العرف، فالنتيجة:

______________________________
[1] كما جاء في تعبيرات غيره منهم صاحب الحدائق ج 5 ص 471.

[2] و هكذا سائر الأحكام، كالحرمة فان الدم يحرم أكله و لكن لو أكله حيوان محلل الأكل و صار جزء من لحمه جاز أكله، نعم ربما لا يكون للعناوين الخاصة دخل في ثبوت الحكم

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌5، ص: 295‌

بل المتنجّس (1) كالعذرة تصير ترابا، و الخشبة المتنجسة إذا صارت رمادا، و البول أو الماء المتنجس بخارا، و الكلب ملحا، و هكذا، كالنطفة تصير حيوانا، و الطعام النجس جزأ من الحيوان.

______________________________
ان شأن الاستحالة هو تغيير الموضوع، دون الحكم فليست كالماء يطهّر المغسول به مع بقائه على حاله، فالتعبير عنها بالمطهّر لا يخلو عن مسامحة واضحة- كما ذكرنا.

استحالة المتنجس

(1) لنفس ما ذكرناه في استحالة الأعيان النجسة من تبدّل الموضوع، فيزول حكم الأول و يجرى حكم الثاني، بل ربما يقال «1» بأولويّته منها، فان الرّماد المستحال من الخشبة المتنجسة بالنار يكون أولى بالطهارة من رماد العذرة.

هذا و لكن مع ذلك حكى شيخنا الأنصاري «قده» [1] عن بعض المتأخرين القول بالتفصيل بين النجس و المتنجس ففرّق بين استحالة عين النّجس و المتنجّس فحكم بطهارة الأول بها لزوال الموضوع دون الثاني، لبقائه على حاله، فيبقى على حكمه.

توضيحه: أن موضوع الحكم بالنجاسة في المتنجسات ليست العناوين الخاصة- كعنوان الخشب مثلا- و إنّما هو الجسم الملاقي للنجس، و لم يزل بالاستحالة، فيحكم بنجاسته، بنفس الدليل على نجاسة الأول، و لا أقل من استصحاب النجاسة، لبقاء الموضوع، لأن الموضوع في المتنجسات هو عنوان‌

______________________________
كالملكية فان الخشبة المتنجسة لو أحرقت بالنار و صارت رمادا لا تزول ملكيّة مالكه، لان موضوعها في نظر العرف نفس الجسم و ان تحول من صورة نوعية إلى أخرى، كتحول الحنطة المتنجسّة زرعا، و النواة المتنجسة شجرا، فإن النجاسة تزول عنها، و لا تزول الملكية، فلا بد من تشخيص موضوعات الأحكام من طريق الشرع أو العرف.

[1] و قد سبقه في النقل في الجواهر ج 6 ص 270 قائلا أن في المسألة وجهين بل قولين و ان قوّى القول بالطهارة.

______________________________
(1) الجواهر ج 6 ص 270 س 1 و 2.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌5، ص: 296‌

..........

______________________________
الملاقي للنجس، لا أكثر و هو الجسم، و هذا بخلاف أعيان النجاسات، فان الموضوع فيها- كما هو ظاهر أدلتها- هي العناوين الخاصة، كالعذرة، و البول، و الدّم، و الكلب، و نحوها، فإذا زالت بالاستحالة زال حكمها أيضا.

و قد أجاب عنه شيخنا الأنصاري «قده» بما حاصله: أن المتنجسات كالنجاسات في ترتب الحكم على عناوينها الخاصة أيضا، كالثوب و البدن و الخشب و نحوها، وردت في أسألة الروايات، فلم يثبت ترتب الحكم بالنجاسة في المتنجسات على الصورة الجنسية، أي «مطلق الجسم» و ان اشتهر في الفتاوى و معاقد الإجماعات «ان كل جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجس» الا أنه لا يخفى على المتأمّل أن التعبير بالجسم لأداء عموم الحكم لجميع الأجسام من حيث سببيّة الملاقاة، فهو عنوان انتزعوه عن الموضوعات الخاصة، لا أنه بنفسه موضوع للحكم الشرعي، فيكون نظير قول القائل «ان كل جسم له خاصيّة و تأثير» مع كون الخواص و التأثيرات من عوارض الأنواع، لا الجنس.

فالنتيجة: أن حال المتنجسات تكون كالنجاسات العينيّة في تبدّلها بالاستحالة الى موضوعات جديدة تستتبع حكما جديدا، لترتب الحكم بالنجاسة في كليهما على العناوين، الخاصّة، كالخشبة و الثوب و البدن و الماء و نحو ذلك، و ان جمعها عنوان واحد كعنوان الجسم الملاقي للنجس، و نحو ذلك.

أقول: انه «قده» و إن أطال الكلام و أتعب نفسه الزكية في إثبات أن المتنجس هو العناوين الخاصة دون كلى الجسم الملاقي للنجس الا أنه غير مجد في دفع الإشكال، أما أولا: فلما يظهر منه من تسليمه دعوى الخصم لو كانت الكليّة التي ادعى عليها الإجماع مضمون دليل معتبر، و لم تكن عنوانا انتزاعيّا من العناوين الخاصة، مع أنه قد ورد دليل معتبر على هذه الكليّة و هي ما في.

موثقة عمار الواردة في ماء وقعت فيه فأرة متسلخة من قوله‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌5، ص: 297‌

..........

______________________________
عليه السلام «و يغسل كل ما أصابه ذلك الماء»
«1».

فإنه يدل على تنجس كل جسم لاقاه الماء المتنجس بميتة الفأرة، من دون دخل للعناوين الخاصة، كالثوب و البدن و الخشب- مثلا- في التنجس، فإذا ثبت ذلك تم دعوى الفرق بين النجس و المتنجس على زعمه «قده» لشمول الإطلاقات للمتنجس المحال اليه كما يشمل المحال منه، لانه جسم لاقى النجس و لو تبدّل من الخشب الى الرماد- مثلا- و لو نوقش في الإطلاق كفى استصحاب نجاسته، لبقاء الموضوع، و هو الجسم الملاقي للنجس، مع أنّا لا نسلم دعوى الفرق بين النجس و المتنجس في مطهّرية الاستحالة لهما، و ان سلّمنا كليّة العنوان في المتنجسات، دون النجاسات.

و ثانيا: ان الظاهر عدم دخل عناوين المتنجسات- كالثوب، و البدن، و الماء، و الخشب، و الأرض، و نحو ذلك، مما يلاقيه النجس- في الحكم بالتنجس، فإنّه مقتضى الفهم العرفي، و المرتكز عند المتشرعة، فإن الموضوع عندهم هو الجسم الملاقي للنجس، و لا يحتمل- في نظرهم- دخالة عنوان الثوب، أو البدن، و نحوهما في التأثر بملاقاة النجس، و هذا بخلاف عناوين النجاسات العينيّة، كالدم، و العذرة، و البول، فان كلا منها نوع من النجاسات الموجبة للاجتناب عنها مستقلا.

فهذا الجواب غير تام، فلا بد من جواب آخر.

و الصحيح أن يقال: ان موضوع تشريع الحكم بالنجاسة في المتنجسات و ان كان هو الكلى و هو عنوان «الملاقي للنجس» إلا أن النجاسة الخارجيّة لا تعرض إلا على الأفراد الخارجيّة، لا المفاهيم الكليّة، كما هو الحال في خواص الأشياء، كخواص الأدوية، فكل فرد من أفراد الخشبة المتنجسة لها نجاسة تخصّه، سواء أ كانت النجاسة من آثار كلى الجسم الملاقي للنجس، أو الخشبة الملاقية له، فإذا تحول هذا الفرد إلى شي‌ء آخر بالاستحالة يزول حكمه لا محالة، لتغاير الموجودات الخارجيّة، فإن وجود الخشب يغاير وجود‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 1 ص 106 في الباب 4 من أبواب الماء المطلق ح 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌5، ص: 298‌

..........

______________________________
الرماد، و ان تحوّل منه إليه نظير تحوّل التراب أو النطفة إلى الإنسان، فالتراب المتنجس إذا تحوّل إلى النبات و صار تفّاحا- مثلا- لا يعقل فيه بقاء الحكم السابق، إذ لا يعقل بقاء نجاسة فرد متبدّل الى فرد آخر من نوعه أو نوع آخر، لاستحالة انتقال العرض.

فإذا لا مجال للتمسك بإطلاق دليل المتنجّس، كما لا مجال لاستصحاب النجاسة، للقطع بانتفاء الفرد الأول، و تجدّد فرد آخر لا يسري إليه حكم الأول، بل لا بدّ له من حكم جديد من طهارة أو نجاسة، فالمرجع حينئذ قاعدة الطهارة، أو عموم دليل المحال إليه.

و من هنا لو فرضنا أن حيوانا غير مأكول اللحم تغذّى بعذرة الإنسان فعذرته أيضا محكومة بالنجاسة، و لكن لا لبقاء حكم المأكول، بل للآكل حكم مستقل، و هو نجاسة عذرته، لأنه غير مأكول اللحم فرضا.

نعم لو كان التبدّل في أوصاف الفرد و عوارضه، دون ذاته بقي على النجاسة لإطلاق دليله، و لو نوقش فيه كفى استصحاب النجاسة، لبقاء موضوعها، و هذا كما في تبدل الحنطة المتنجسة طحينا أو خبزا، و القطن المتنجس ثوبا، و الخشبة المتنجسة سريرا، و نحو ذلك، و الوجه ظاهر، لبقاء الفرد الأول و إن تبدل حاله و صفته.

فتحصل: أن الاستحالة في المتنجسات تكون كالاستحالة في أعيان النجاسات موجبة لتبدل الموضوع، و لو عرفا، فيكون المحال اليه محكوما بالطهارة، كما أفاد في المتن، بل ادعى «1» عليه الإجماع.

و يؤيّد ذلك ما جرت عليه سيرة المتشرعة من عدم اجتنابهم من لحم الحيوانات المأكولة اللحم إذا أكلت أو شربت شيئا متنجسا، فيأكلون لحم الدّجاجة- مثلا- و إن شربت ماء متنجسا، أو أكلت خبزا متنجسا، و ليس ذلك إلا لاستحالة الماء أو الخبز المتنجس الى جزء من بدنها، كما لا يجتنبون عن فضولاتها، و ذرقها.

______________________________
(1) راجع الأقوال في الجواهر ج 6 ص 270.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌5، ص: 299‌

..........

______________________________
و على الجملة إذا تحققت الاستحالة في المتنجس يحكم بطهارة المحال اليه إما لعموم أو إطلاق دليله، كما في مثل لحم الشاة و البقر و البعير و الطيور لو أكلت غذاء متنجسا، أو لقاعدة الطهارة لو لم يتم الإطلاق المذكور في مورد.

و قد يستدل [1] على مطهّرية الاستحالة في المتنجسات ب‍.

صحيحة حسن بن محبوب قال: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الجص يوقد عليه بالعذرة و عظام الموتى ثم يجصّص به المسجد أ يسجد عليه؟

فكتب بخطه: إن الماء و النار قد طهراه» «2».

بتقريب: أنّ الجص الذي يوقد عليه بالعذرة، و عظام الموتى يتنجس لا محالة بما يصيبه من دسومات العذرة و العظام المفروض كونها من نجس العين لا سيما عند إيقادهما بالنار الموجب لخروج الدّسومات منهما، و مع ذلك قد دلّت الصحيحة على طهارة الجص بالنار، و لا يتم ذلك إلا باستحالة التراب جصّا بالاحتراق بها.

و فيه: أولا، أنه لا دلالة في الرّواية على تحقق الاستحالة في الجص بالنار، و غاية ما هناك أنه يطبخ بها، كطبخ الآجر و الخزف و لا يكون طبخ تراب الجص الا كطبخ اللحم و الخبز غير موجب للاستحالة- كما يأتي- فلو تمت دلالتها لدلت على ان النار تكون مطهّرة للجص من دون استحالة.

و ثانيا: لو سلّمنا ذلك فما معنى ضم الماء إلى النار بعد فرض طهارة الجص بالاستحالة و من هنا حمله بعضهم «3» على نحو من المجاز، أو الاستحباب، إذ المراد به الماء الذي يوضع عليه للبناء، فيكون كرش الثوب و المكان و نحوهما المحتمل نجاستهما استحبابا أو رفعا للنفرة.

و حمله بعض آخر «4» على ارادة ماء المطر، إذ ليس في الرواية كون‌

______________________________
[1] كما عن الشيخ في الخلاف- بنقل الحدائق ج 5 ص 463 في البحث عن طهارة الطين المتنجس إذا طبخ بالنار حتى صار خزفا و آجرا، فلاحظ.

______________________________
(2) وسائل الشيعة ج 2 ص 1099 في الباب 81 من النجاسات ح 1 و ج 3 ص 603 في الباب 10 من أبواب ما يسجد عليه ح 1.

(3) لاحظ الجواهر ج 6 ص 267.

(4) كما عن الذخيرة بنقل الجواهر ج 6 ص 267 س 15.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌5، ص: 300‌

..........

______________________________
المسجد مسقّفا فيراد المعنى الحقيقي من الطهارة حينئذ فيهما (الماء و النار) و ان كان يرد عليه أيضا أنه لا حاجة الى المطر بعد فرض طهارة الجص بالنار مسبقا.

و توجيه ذلك «1»- بإرادة تطهير الجص بماء المطر- من نجاسة عرضيّة تعرضه بإيقاد العذرة و عظام الموتى عليه، لما فيهما من الدّسومة الملاقية للجص، و تطهير نفس تلك الأجزاء الدّسمة بإحالة النار لها رمادا، فيتم اسناد الطهارة الحقيقية إلى كليهما، فماء المطر يكون مطهّرا للجص المتنجس بملاقاة الدّسومة النجسة، و النار تكون مطهرة لنفس الدّسومة بالاستحالة- توجيه لا دليل عليه، بل هو تأويل لتخريج الرواية عن مشكلة الإجمال.

و قد تعرّضنا لها في بحث المياه.

و قلنا: الظاهر أن المراد هو الماء المستعمل عند إرادة البناء، لأن المتعارف عند تجصيصه هو وضع الجص في إناء ماء، و قد دلت الرواية على طهارته به، و هو مبنى على أمرين «أحدهما» عدم تنجس الغسالة و «ثانيهما» عدم اعتبار ورود الماء على المتنجس، فيكون المراد بمطهّريّة النار هو مطهّريتها للعذرة و عظام الموتى بجعلهما رمادا طاهرا بالاستحالة، و لا بأس منهما على الجص حينئذ، و إن امتزج برمادهما فلو تم هذا التوجيه فهو المطلوب، و ان كان أجنبيا عما نحن فيه من استحالة المتنجس، و الا فهي رواية مجملة لا يمكن الاستناد إليها في شي‌ء، و من هنا تصدّى الأصحاب إلى تأويلات فيها و تفسيرات لا دليل ظاهر على شي‌ء منها «2» و قد أشرنا إلى بعضها.

و كيف كان فلا حاجة الى هذه الرواية فيما نحن بصدده من مطهّرية الاستحالة في المتنجسات، و يكفينا ما ذكرناه من صدق تبدل الموضوع فيها كالأعيان النجسة.

______________________________
(1) كما في الجواهر ج 6 ص 267- 268.

(2) لاحظ الحدائق ج 5 ص 267- 268 و الجواهر ج 6 ص 459- 462 و المستمسك ج 2 ص 89 و مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 632.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌5، ص: 301‌

و أما تبدّل الأوصاف و تفرّق الأجزاء فلا اعتبار بهما (1) كالحنطة إذا صارت طحينا، أو عجينا، أو خبزا، و الحليب إذا صار جبنا، و في صدق الاستحالة على صيرورة الخشب فحما تأمل، و كذا في صيرورة الطين خزفا أو آجرا (2)

______________________________
تبدل الأوصاف لا توجب الاستحالة

(1) لا تتحقق الاستحالة بتبدّل أوصاف النجس، أو تفرّق أجزائه، لعدم تبدّل الموضوع عقلا و لا عرفا- كالأمثلة المذكورة في المتن- فلا يتبدل حكمه كما تقدم في «النوع الأول» من أنواع التبدّلات و هذا بخلاف التبدّل في ذات الشي‌ء و لو عرفا، فإنه المحقق للاستحالة، كما سبق، لأن الميزان الكلي في الاستحالة المطهّرة هو أن يكون التبدّل موجبا لتعدد الموضوع و لو عرفا، بحيث يكون المحال إليه أمرا مغايرا للمحال منه في نظر العرف، و ان تولد منه، و هذا غير متحقق في تبدل الأوصاف، و تفرق الأجزاء لبقاء المتبدل منه على حاله حينئذ، و ان تغيّرت أوصافه أو تفرقت اجزاءه، فيشمله إطلاق دليل النجاسة، و مع عدمه أو الشك فيه يكفى استصحاب النجاسة، لبقاء الموضوع عرفا، و هو الجسم الملاقي للنجس.

حكم الفحم و الخزف و الآجر

(2) اختلفت الفتاوى في صدق الاستحالة في بعض الموارد، كصيرورة الخشب فحما بالإحراق، و صيرورة الطين خزفا أو آجرا بالطبخ، و هو من موارد صدق عنوان الخشب على الفحم، و كذا الطين على الخزف و الآجر، و سنتكلم في موارد الشبهات الموضوعيّة و الحكميّة، و كيف كان فمنهم «1» من جزم بتحقق الاستحالة فيما ذكر و حكم بالطهارة، و رتّب‌

______________________________
(1) كما عن الشيخ في الخلاف و العلامة في النهاية و جمع آخر من الفقهاء- الجواهر ج 6 ص 271 و الحدائق ج 5 ص 463.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌5، ص: 302‌

..........

______________________________
عليه عدم جواز التيمم و السجود على الخزف و الآجر، لخروجهما عن حقيقة ما يصح التيمم و السجود عليه من التراب، و الأرض، و الصعيد.

و لكن الصحيح هو القول ببقائهما على النجاسة كما عن جمع «1» و كذلك الفحم، لعدم تحقق الاستحالة [1] بالتبدّلات المذكورة، للتحفظ على وحدة الموضوع في المتبدّل منه، و المتبدل إليه في نظر العرف، لأن طبخ الطين و صيرورته خزفا أو آجرا لا يزيد على طبخ اللّحم، و صيرورته كبابا- مثلا- أو طبخ العجين و صيرورته خبزا و مجرد تغيّر الاسم بعد الطبخ لا يلازم تغيّر الحقيقة، و هكذا الفجم، فإنّه خشب محروق، لا أكثر، و إن كان له اسم آخر بعد الإحراق، و كم له من نظير.

و يترتب على ذلك جواز السجود و التيمم على الخزف و الآجر، لبقاء العناوين السابقة، فإن الآجر طين أو أرض مطبوخ، و كذلك الخزف.

و لو فرضنا حصول الشك في تحقق الاستحالة «2» بذلك كفى استصحاب النجاسة لبقاء الموضوع عرفا، لما ذكرنا من عدم دخل عناوين المتنجسات في عروض النجاسة، فإن موضوعها «الجسم الملاقي للنجس» و هو باق على حاله، و لا نحتاج الى بقاء عنوان الطين و الخشب و نحوهما في إجراء استصحاب النجاسة.

نعم لا يجرى استصحاب جواز التيمم، و السجود حينئذ لدخل عنوان التراب، و وجه الأرض، و الصعيد في جوازهما، فإذا شككنا في صدق هذه العناوين على الآجر و الخزف و الجصّ لشبهة مفهوميّة- كما هو المفروض- لا يجوز التيمم و السجود عليهما، لعدم إحراز ما يصح وقوعهما عليه، فلا بد من الرجوع الى قاعدة الاشتغال في أمثال ذلك، فلا ملازمة بين استصحاب‌

______________________________
[1] كما جاء في تعليقته دام ظله على قول المصنف «قده» «على صيرورة الخشب فحما تأمل»: (الظاهر عدم تحقق الاستحالة فيه و فيما بعده).

______________________________
(1) نسب إلى جمع من المتأخرين- الحدائق ج 5 ص 463 و الجواهر ج 6 ص 271- 272.

(2) كما عن المحقق في المعتبر و العلامة في موضع من المنتهى، و صاحب المدارك- الحدائق ج 5 ص 463 س 11.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌5، ص: 303‌

و مع الشك في الاستحالة لا يحكم بالطهارة (1) [1].

______________________________
النجاسة في المقام و استصحاب جواز السجود و التيمم، لإحراز موضوع الأول، و هو «الجسم»، و عدم إحراز موضوع الثاني، و هو «الأرض و التراب» و سيأتي: أنه لا يصح الاستصحاب في موارد الشبهات المفهوميّة، كما لا يمكن التمسك بالعمومات، لأنهما من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لدليل الاستصحاب، و عموم العام.

و أما الاستدلال «2» على تحقق الاستحالة في أمثال هذه الموارد بصحيحة ابن محبوب «3» المتقدمة الواردة في الجص الموقد عليه بالعذرة، و عظام الموتى فقد عرفت «4» ما فيه من عدم دلالته على تحقق الاستحالة في الجص، فكيف بغيره.

الشك في الاستحالة

(1) الشك في الاستحالة يتحقق في موردين.

(الأول) في أعيان النجاسات.

(الثاني) في المتنجّسات.

الشك في استحالة الأعيان النجسة أما المورد الأول فالشك فيه قد يكون لشبهة موضوعيّة، و أخرى لشبهة حكميّة مفهوميّة فلا بد من التكلم في كلا الفرضين، و لا بد من التفصيل بينهما.

(الفرض الأول).

______________________________
[1] جاء في تعليقته دام ظله على قول المصنف «قده» «لا يحكم بالطهارة» (هذا فيما إذا كانت الشبهة موضوعيّة و أما إذا كانت مفهوميّة فالأظهر هو الحكم بالطهارة) و يعنى بذلك الشبهة المفهوميّة في أعيان النجاسات، دون المتنجسات، كما يظهر في الشرح.

______________________________
(2) كما عن الشيخ في الخلاف- الحدائق ج 5 ص 463.

(3) وسائل ج 1 ص 1099 في الباب 81 من النجاسات ح 1.

(4) في ص 290.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌5، ص: 304‌

..........

______________________________
الشبهة الموضوعيّة لأعيان النجاسات و هي كما إذا وقع كلب- مثلا- في مملحة، ثم شك- بعد أيام- في استحالته ملحا، لأمر خارجي، مثل كفاية هذا المقدار من الزمان في تحقق الاستحالة، أو لظلمة مانعة عن الرؤية و نحو ذلك، و فيها يجرى الاستصحاب الموضوعي و يترتب عليه الحكم بالنجاسة، فيقال- مثلا- إن هذا الجسم كان كلبا قبل أيام، و الآن كما كان، فتستصحب نفس الصورة النوعيّة التي كانت سابقا فيحكم بنجاستها، و هذا استصحاب موضوعي يترتب عليه الحكم بالنجاسة.

و قد يستشكل في ذلك بتوهم عدم إحراز الموضوع في الاستصحاب المذكور لتردده- على الفرض- بين الكلب و الملح- مثلا- فان الموجود الخارجي لو كان كلبا لكان محكوما بالنجاسة، لا للاستصحاب، بل لعموم الدليل الاجتهادي الدال على نجاسة الكلب، و ان كان ملحا فهو طاهر لدليله أيضا، فمع الشك في الاستحالة لا نحرز موضوع النجاسة كي يجري الاستصحاب، فلا بد حينئذ من الرجوع الى قاعدة الطهارة.

و هذا الإشكال ظاهر الاندفاع، لأن الاستصحاب المذكور موضوعيّ، و موضوعه هو الهيولاء المشتركة بين الصورتين (الكلب و الملح) و هو باق على حاله، فيستصحب بقاء الصورة الأولى لها.

توضيحه: أنه يعتبر في الاستصحاب اتحاد القضيّة المتيقنة و المشكوكة موضوعا و محمولا بمعنى تعلق الشك بنفس ما تعلق به اليقين من النسبة بينهما، إلا أنه يختلف الموضوع باختلاف الموارد، و ليس على نسق واحد إذ.

1- قد يكون الموضوع الماهيّة الكليّة أو الشخصيّة المجردة عن الوجود و العدم، و هذا كما في استصحاب وجود شي‌ء شك في بقائه، كما إذا شك في حيوة زيد- مثلا- فان المستصحب هو وجوده، و الموضوع هي الماهية الشخصيّة المشتركة بين الوجود و العدم، و لا يمكن أن يكون الموضوع في ذلك هو الوجود، لانه يقابل العدم تقابل السلب و الإيجاب، فلا يتصف أحدهما‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌5، ص: 305‌

..........

______________________________
بالآخر، ليشك في أن الوجود- مثلا- هل صار عدما في الزمان اللاحق أولا، و كذلك العكس، أى صار العدم وجودا، و إنّما القابل للاتصاف بهما هي الماهيّة على سبيل التعاقب، فتتصف الماهيّة بالعدم بعد أن كانت متصفة بالوجود في الآن السابق، أو العكس فالموضوع الباقي في الحالتين انما هي الماهيّة لا غيرها.

2- و قد يكون الموضوع نفس الوجود الخاص، و هذا في استصحاب العوارض كما إذا شك في صفة من صفات زيد كعدالته، فان زيد الموجود يتصف بالعدالة تارة و بعدمها أخرى فالموضوع الباقي في الحالتين هو زيد الموجود أو وجود زيد.

3- و قد يكون موضوعه الهيولاء المشتركة بين الصور النوعيّة، و ذلك كما في موارد الشك في الاستحالة و تبدّل الصورة النوعيّة إلى صورة أخرى، كما في تبدّل التّراب إلى النّبات، و نحوه،- مثلا- لما ثبت في محله و يساعده العرف أيضا من أن هناك أمرا مشتركا و ثابتا في تبدّل الصور النوعيّة يسمى بالهيولاء، فإنها تخلع صورة، و تلبس أخرى، فإن الإنسان- مثلا- كان ترابا، ثم تحول إلى الدّم، ثم إلى النطفة، ثم إلى العلقة، ثم إلى المضغة، ثم إلى العظام و اللحم، ثم تحوّل إلى الإنسان، كما أشار ذلك في الكتاب العزيز، بقوله تعالى «أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنىٰ» «1» فيصح لنا أن نقول ان هذا الشي‌ء كان منيّا و الآن هو انسان، و لا نقول انه منّى في الحال، فعليه لو شككنا في مورد أنه هل تبدّلت صورته النوعيّة أولا صح لنا أن نقول «الآن كما كان» للاستصحاب، و هذا مما لا إشكال فيه، و واضح جدّا، ففي المثال لا مانع من استصحاب الصورة الكلبيّة للهيولاء و الجسم المشترك، و عدم تبدلها إلى الصورة الملحيّة.

فتحصل: أن موضوع الاستصحاب قد يكون ماهيّة الشي‌ء، و هذا كما في استصحاب وجوده، و أخرى يكون وجوده، و هذا في استصحاب صفاته، و ثالثة يكون الهيولاء، و الجسم المشترك، و هذا في استصحاب الصور النوعيّة‌

______________________________
(1) القيامة 75: 37.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌5، ص: 306‌

..........

______________________________
للشي‌ء.

هذا تمام الكلام في الشبهة الموضوعيّة لأعيان النجاسات.

(الفرض الثاني).

الشبهة المفهوميّة لأعيان النجاسات و المراد بها الشك في بقاء الحكم لشبهة في مفهوم اللفظ سعة و ضيقا، كما إذا شك في ان لفظ «الميتة»- مثلا- هل وضع لخصوص ميتة الحيوان مع بقائه على حاله من اللحم و العظم، أو للأعم منه و مما إذا تبدّل الى الفحم بالاحتراق، و تظهر الثمرة في الحكم بنجاستها فيما إذا تحوّلتا الى الفحم على الثاني و عدمه على الأول فهل يجرى الاستصحاب (أى استصحاب النجاسة) لو شك في ذلك أولا؟

الصحيح عدم جريانه فيرجع إلى قاعدة الطهارة [1] كما لا يصح التمسك بعموم الدليل الاجتهادي، لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للشك في صدق الميتة على ما تبدّل منها الى الفحم.

و أما الاستصحاب فقد يقرّر تارة على نحو الاستصحاب الموضوعي و اخرى على نحو الاستصحاب الحكمي و لا يجري شي‌ء منهما في الشبهة المفهوميّة، كما حققنا ذلك في الأصول.

أما الاستصحاب الموضوعي فالمراد به جريانه في ذات الموضوع أو وصفه أما استصحاب ذات الموضوع فممنوع لعدم تعلق الشك بالموجود الخارجي، لأن المفروض العلم بأنه فحم متبدّل من الميتة- مثلا- و هذا لا ترديد فيه و إنما الترديد و الشك في صدق مفهوم «الميتة» على هذا الفحم الخاص، فلا مجال للاستصحاب مع فقد أعظم أركانه و هو الشك في البقاء.

و أما استصحاب وصف الموضوعيّة للفحم- مثلا- فغير جار أيضا لرجوعه الى استصحاب الحكم، لأنهما أمران متضايفان، إذ لا معنى لعنوان الموضوعيّة إلا ترتّب الحكم عليه.

______________________________
[1] كما جاء في تعليقته (دام ظله) على ما تقدم.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌5، ص: 307‌

..........

______________________________
و أما استصحاب حكم النجاسة للفحم فلا يجري أيضا، لعدم إحراز موضوعه، لأن عنوان الميتة لو كان شاملا للفحم المتحول فالموضوع باق و أما لو كان مختصا باللحم و العظم فهو غير باق، و مع الشك في ذلك يشك في بقاء الموضوع، فلا يجرى استصحاب النجاسة، فيرجع إلى قاعدة الطهارة لا محالة.

هذا مضافا إلى عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة الكلية على المختار، كما مرّ غير مرة.

و ما ذكرناه من المنع يجري في جميع موارد الشبهات المفهوميّة- كما ذكرنا في الأصول- و منها النزاع في بحث المشتق حيث أنه وقع البحث هناك في سعة مفهومه و ضيقه باعتبار وضعه للأعم ممن انقضى عنه المبدء، أو لمخصوص المتلبّس به فيشك- مثلا- في أن لفظ «العالم» هل وضع للأعم ممن كان عالما فعرضه النسيان أو يختص بمن هو عالم بالفعل، و قد ذكرنا هناك أنه لا يمكن التمسك بعموم مثل «أكرم العالم» لإثبات وجوب إكرام من عرضه النسيان، لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقيّة، كما أنه لا يجرى استصحاب وجوب إكرامه للشك في بقاء موضوعه فيكون من موارد الشبهة المصداقية لدليل الاستصحاب أيضا، و هكذا لا يجرى الاستصحاب الموضوعي في «العالم» سواء الذاتي أو الوصفي، لما ذكرناه آنفا، فإذا لا بد من الرجوع الى الأصول العملية الأخرى في كل مورد بحسبه.

هذا كله مع غض النظر عما بنينا عليه من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة.

فتحصل من جميع ما ذكرناه: أنه لا بد من التفصيل بين الشبهة الموضوعيّة و الحكميّة لأعيان النجاسات المشكوك استحالتها، فلا يحكم بالطهارة في الأولى، لاستصحاب النجاسة، بخلاف الثانية، فإنها محكومة بالطهارة، لعدم إمكان استصحاب النجاسة فيها، فيرجع الى قاعدة الطهارة لا محالة.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌5، ص: 308‌

..........

______________________________
الشك في استحالة المتنجسات اما المورد الثاني و هو الشك في استحالة المتنجسات، فالكلام فيه أيضا يقع في فرضين و لا بد من الحكم بالنجاسة في كليهما.

(الفرض الأول) الشبهة الموضوعيّة للمتنجّس و هي كما لو شكّ في استحالة اللّحم المتنجس الواقع في المملحة ملحا، أو الخشب المتنجس رمادا، و أمثال ذلك، و الكلام فيها هو الكلام في أعيان النجاسات بعينه، لان مقتضى الاستصحاب بقاء العنوان السابق، و الإشكال المتوهم بعدم إحراز الموضوع مندفع بما ذكرناه من أنّ موضوعه هو الهيولاء و الجسم المشترك بين الصورتين (المحال و المحال إليه) و هو محرز بالوجدان فنقول- مثلا- هذا الجسم كان خشبا و الآن كما كان، فيحكم بنجاسته.

(الفرض الثاني) الشبهة المفهوميّة للمتنجسات هل يتصور هذه الشبهة في المتنجسات؟ الصحيح عدم تصورها فيها، فلا تقاس من هذه الجهة بأعيان النجاسات.

فلو استحال الخشب المتنجس فحما بالإحراق أو الطين الى الخزف و الآجر و نحو ذلك بحيث شككنا في صدق عنوان الخشب على الفحم- مثلا- فلا نشك في مفهوم موضوع النجاسة، لأن الموضوع في المتنجسات عبارة عن الجسم الملاقي للنجس، و هو باق على كل حال لأن الخشب إذا تبدّل الى الفحم بالإحراق فهو جسم أيضا، فلا مانع من استصحاب نجاسته، فيجري الاستصحاب الحكمي بلا محذور، و هذا بخلاف الأعيان النجسة، فإن موضوع الحكم فيها هي العناوين الخاصة، كعنوان الدم، و البول، و العذرة و الميتة، و نحو ذلك، و أما المتنجسات فالموضوع فيها هو الجامع المشترك الباقي في جميع التحوّلات الطارئة على الجسم المذكور، إذ ليس لعنوان الثوب و البدن‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌5، ص: 309‌

..........

______________________________
و الخشب و نحو ذلك دخل في الحكم بالتنجس فيها، فيكون الشك في الحكم محضا مع إحراز موضوعه، فيستصحب نجاسة الخشب المتبدل فحما، نعم قد عرفت
«1» انه لا يترتب على الاستصحاب المذكور غير النجاسة من الأحكام المترتبة على العناوين الخاصة، كجواز السجدة، و التيمم المترتب على عنوان الأرض و التراب، فلا يصح استصحابه لو تحوّل الطين الى الآجر و الخزف و نحوهما، لتبدل العنوان، و عدم بقاء الموضوع.

فتحصل من جميع ما ذكرناه: أنه لا بد من الحكم بالنجاسة عند الشك في استحالة المتنجسات سواء في الشبهات الموضوعيّة أو الحكميّة (المفهوميّة) لو تصورناها فيها، و أما أعيان النجاسات فلا بد فيها من التفصيل بين الشبهات الموضوعيّة و الحكميّة (المفهوميّة) فيحكم بالنجاسة في الأولى، دون الثانية، فيرجع فيها إلى قاعدة الطهارة، فلا تغفل.

تتمة قد جاء في كلمات الأصحاب [1] عدّ النار من المطهّرات في قبال الاستحالة.

و الصحيح أن النار ليست في نفسها من المطهّرات- كالأرض و الشمس و نحوهما- و الرّوايات [2] التي يستدل بها على ذلك غير تامة، كما تقدم نعم هي سبب للاستحالة، و هي المطهّرة حقيقة، و لكن قد عرفت: أن الاستحالة أيضا لا تكون من المطهّرات، و إنما ترتفع النّجاسة بارتفاع موضوعها، فإطلاق المطهّر على النار يكون مسامحة في مسامحة. و الأمر سهل بعد معلوميّة الحال.

______________________________
[1] كما في متن الشرائع- الجواهر ج 6 ص 266- و في الحدائق ج 5 ص 459 في المسألة الثالثة نسبته إلى المشهور ثم عدّ «الاستحالة» في المسألة الرابعة من المطهّرات في ص 471 في قبال «النار».

[2] كصحيحة ابن محبوب الواردة في الجص الذي يوقد عليه بالعذرة و عظام الموتى المتقدمة في ص 299.

______________________________
(1) ص 293





 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net