ما يمكن أن يستدل للتفصيل المذكور - التفصيل بين الثابت بالدليل الشرعي والثابت بالدليل العقلي 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4713


ــ[30]ــ

 الكلام في المقام الثاني، وهو ذكر الدليل للتفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع في حجية الاستصحاب، فنقول: الوجه في هذا التفصيل ـ على ما يستفاد من ظاهر كلام الشيخ(1) (قدس سره) كما فهمه صاحب الكفاية(2) وغيره ـ أنّ المراد من اليقين في قوله (عليه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» هو المتيقن، ففي مورد يكون المتيقن مما له دوام في نفسه يكون أمراً مبرماً مستحكماً ويصح إسناد النقض إليه، وفي مورد لا يكون المتيقن كذلك لا يصح إسناد النقض إليه، لأنّ النقض حلّ شيء مبرم مستحكم، كما في قوله تعالى: (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّة أَنكَاثاً)(3) فلا يكون مشمولاً لقوله (عليه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك».

 ويرد عليه: ما في الكفاية من أ نّه لا وجه لارتكاب المجاز بارادة المتيقن من لفظ اليقين مع صحة إرادة نفس اليقين وصحة إسناد النقض إليه بما له من الابرام والاستحكام، ولكن يمكن أن يكون مراد الشيخ (قدس سره) ما نذكره ـ وإن كان ظاهر عبارته قاصراً عنه ـ وهو أنّ المراد من لفظ اليقين هو نفس اليقين لا المتيقن، لما فيه من الابرام والاستحكام كما في الكفاية، فانّ اليقين بمعنى الثابت من اليقن بمعنى الثبوت، فيصح إسناد النقض إليه دون العلم والقطع، وإن كان الجميع حاكياً عن شيء واحد وهو الصورة الحاصلة من الشيء في النفس، إلاّ أنّ العلم يطلق باعتبار انكشاف هذا الشيء في قبال الجهل، والقطع يطلق باعتبار الجزم القاطع للتردد والحيرة، واليقين يطلق باعتبار كون هذا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 574 و 575.

(2) كفاية الاُصول: 390.

(3) النحل 16: 92.

ــ[31]ــ

الانكشاف له الثبات والدوام بعد ما لم يكن بهذه المرتبة. ولعلّه لما ذكرنا لايطلق القاطع والمتيقن عليه تعالى لاستحالة الحيرة وعدم ثبات الانكشاف في حقّه تعالى. ويطلق عليه العالم لكون الأشياء مكنشفةً لديه، فالمراد من اليقين هو نفسه لا المتيقن، إلاّ أنّ إسناد النقض إلى اليقين ليس باعتبار صفة اليقين ولا باعتبار الآثار المترتبة على نفس اليقين.

 أمّا الأوّل: فلأنّ اليقين من الصفات الخارجية وقد انتقض بنفس الشك إن اُخذ متعلقه مجرداً عن الزمان، ولا يمكن نقضه إن اُخذ مقيداً بالزمان، فإنّا إذا علمنا بعدالة زيد يوم الجمعة مثلاً ثمّ شككنا في بقائها يوم السبت، فإن اُخذ اليقين بعدالة زيد مجرّداً عن التقييد بيوم الجمعة، فقد انتقض هذا اليقين بالشك، فلا معنى للنهي عنه، وإن اُخذ مقيداً بيوم الجمعة فهو باق، فطلب عدم نقضه طلب للحاصل.

 وأمّا الثاني: فلعدم ترتب حكم شرعي على وصف اليقين من حيث هو، ولو فرض فهو يقين موضوعي خارج من مورد أخبار الاستصحاب، إذ من المعلوم أنّ موردها القطع الطريقي، لعدم ترتب الحكم المأخوذ في موضـوعه صفة اليقين على الشك قطعاً، فلا بدّ من أن يكون المراد من عدم نقض اليقين هو ترتيب آثار المتيقن والجري العملي بمقتضاه، على ما تقدّم(1) في أوّل بحث القطع من أ نّه بنفسه طريق إلى المتيقن وموجب للجري العملي وترتيب آثار المتيقن، فيكون رفع اليد عن ترتيب الآثار على المتيقن نقضاً لليقين وقد نهى الشارع عنه.

 هذا فيما إذا كان المتيقن مما له الدوام والثبات في نفسه لولا الرافع، وأمّا إذا لم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في الجزء الثاني من هذا الكتاب ص 13 ـ 16.

ــ[32]ــ

يكن المتيقن بنفسه مقتضياً للجري العملي لاحتمال كونه محدوداً بزمان معيّن، فلايكون عدم ترتيب الآثار عليه نقضاً لليقين، فلا يشمله قوله (عليه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» هذا هو الوجـه في التفصـيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع.

 وقد يقال في المقام رداً على الشيخ (قدس سره) في التفصيل المذكور: إنّ دليل الاستصحاب غير منحصر في الأخبار المشتملة على لفظ النقض حتى يختص بالشك في الرافع، بل هناك خبران آخران لا يشتملان على لفظ النقض، فيعمّان موارد الشك في المقتضي أيضاً، الأوّل: رواية عبدالله بن سنان الواردة في من يعير ثوبه للذمي وهو يعلم أ نّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، قال: فهل عليَّ أن أغسله؟ فقال (عليه السلام): لا، لأ نّك أعرته إيّاه وهو طاهر، ولم تستيقن أ نّه نجّسه(1). الثاني: خبر محمّد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) «من كان على يقين فشك فليمض على يقينه فانّ اليقين لا يدفع بالشك»(2).

 والجواب عنهما واضح، أمّا الأوّل: فمورده هو الشك في الرافع، لأنّ الطهارة مما له دوام في نفسه لولا الرافع، فلا وجه للتعدي عنه إلى الشك في المقتضي. وأمّا التعدي عن خصوصية الثوب إلى غيره وعن خصوصية الذمي إلى نجاسة اُخرى وعن خصوصية الطهارة المتيقنة إلى غيرها، فإنّما هو للقطع بعدم دخل هذه الخصوصيات في الحكم، ولكنّ التعدي عن الشك في الرافع إلى الشك في المقتضي يكون بلا دليل.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3: 521 / أبواب النجاسات ب 74 ح 1.

(2) الوسائل 1: 246 و 247 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 6 وفيه: «فانّ الشك لا ينقض اليقين» ومستدرك الوسائل 1: 228 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 4.

ــ[33]ــ

 وأمّا الثاني: ففيه الأمر بالامضاء وهو مساوق للنهي عن النقض، لأنّ الامضاء هو الجري فيما له ثبات ودوام، ويشهد له ما في ذيل الخبر من أنّ اليقين لا يدفع بالشك، لأنّ الدفع إنّما يكون في شيء يكون له الاقتضاء. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب مراد الشيخ (قدس سره).

 وللنظر فيه مجال واسع، تارةً بالنقض واُخرى بالحل.

 أمّا النقض فباُمور:

 الأوّل: استصحاب عدم النسخ في الحكم الشرعي فانّ الشيخ قائل به(1)، بل ادعي عليه الاجماع حتى من المنكرين لحجية الاسـتصحاب، بل هو من ضرورة الدين على ما ذكره المحدث الاسترابادي(2)، مع أنّ الشك فيه من قبيل الشك في المقتضي، لأ نّه لم يحرز فيه من الأوّل جعل الحكم مستمراً أو محدوداً إلى غاية، فانّ النسخ في الحقيقة انتهاء أمد الحكم، وإلاّ لزم البداء المستحيل في حقّه تعالى.

 الثاني: الاستصحاب في الموضوعات، فانّه قائل به مفصّلاً بين الشك في المقتضي والشك في الرافع كما ذكره في أوّل تنبيهات الاستصحاب(3) ومثَّل للشك في الرافع بالشك في كون الحدث أكبر أو أصغر، فتوضأ فيكون الشك شكاً في الرافع، فيجري استصحاب الحدث. ومثَّل للشك في المقتضي بالشك في كون حيوان من جنس الحيوان الفلاني الذي يعيش خمسين سنة أو من جنس الحيوان الفلاني الذي يموت بعد ثلاثة أيّام مثلاً، مع أ نّه يلزم من تفصيله عدم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 655.

(2) الفوائد المدنية: 143.

(3) لاحظ فرائد الاُصول 2: 638.

ــ[34]ــ

حجية الاستصحاب في الموضوعات كحياة زيد وعدالة عمرو مثلاً، فان إحراز استعداد أفراد الموضوعات الخارجية مما لا سبيل لنا إليه، وإن اُخذ مقدار استعداد الموضوع المشكوك بقاؤه من استعداد الجنس البعيد أو القريب، فتكون أنواعه مختلفة الاستعداد، وكيف يمكن إحراز مقدار استعداد الانسان من استعداد الجسم المطلق أو الحيوان مثلاً، وإن اُخذ من الصنف فأفراده مختلفة باعتبار الأمزجة والأمكنة وسائر جهات الاختلاف، فيلزم الهرج والمرج. وهذا هو الاشكال الذي أورده(1) على المحقق القمي بعينه، وحاصله عدم جريان الاستصحاب في الموضوعات لكون الشك فيها شكاً في المقتضي، لعدم إحراز الاستعداد فيها.

 الثالث: استصحاب عدم الغاية ولو من جهة الشبهة الموضوعية، كما إذا شك في ظهور هلال شوال أو في طلوع الشمس، فانّ الشك فيه من قبيل الشك في المقتضي، لأنّ الشك ـ في ظهور هلال شوال ـ في الحقيقة شكٌ في أنّ شهر رمضان كان تسعة وعشرين يوماً أو لا، فلم يحرز المقتضي من أوّل الأمر، وكذا الشك في طلوع الشمس شك في أنّ ما بين الطلوعين ساعة ونصف حتى تنقضي بنفسها أو أكثر فلم يحرز المقتضي، مع أنّ الشيخ قائل بجريان الاستصحاب فيه(2)، بل الاستصحاب مع الشك في هلال شوال منصوص بناءً على دلالة قوله (عليه السلام): «صُم للرؤية وأفطر للرؤية»(3) على الاستصحاب.

 وأمّا الحل: فبيـانه أ نّه إن لوحظ متعلق اليقـين والشك بالنظر الدقي، فلا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 640.

(2) فرائد الاُصول 2: 645.

(3) الوسائل 10: 255 و 256 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 3 ح 13.

ــ[35]ــ

يصدق نقض اليقين بالشك حتى في موارد الشك في الرافع، لأن متعلق اليقين إنّما هو حدوث الشيء والمشكوك هو بقاؤه، لأ نّه مع وحدة زمان المتيقن والمشكوك لا يمكن أن يكون متعلق الشك هو متعلق اليقين، إلاّ بنحو الشك الساري الذي هو خارج عن محل الكلام، فبعد كون متعلق الشك غير متعلق اليقين لا يكون عدم ترتيب الأثر على المشكوك نقضاً لليقين بالشك، ففي مثل الملكية وغيرها من أمثـلة الشك في الرافع متعلق اليقين هو حدوث الملكية، ولا يقين ببقائها بعد رجوع أحد المتبائعين في المعاطاة، فعدم ترتيب آثار الملكية بعد رجوع أحدهما لا يكون نقضاً لليقين بالشك، وهكذا سائر أمثلة الشك في الرافع.

 وإن لوحظ متعلق اليقين والشك بالنظر المسامحي العرفي وإلغاء خصوصية الزمان بالتعبد الشرعي على ما أشرنا إليه سابقاً (1) من أنّ تطبيق نقض اليقين بالشك على مورد الاستصحاب إنّما هو بالتعبد الشرعي، وإن كان أصل القاعدة من ارتكازيات العقلاء، فيصدق نقض اليقين بالشك حتى في موارد الشك في المقتضي، فانّ خيار الغبن كان متيقناً حين ظهور الغبن وهو متعلق الشك بعد إلغاء الخصوصية، فعدم ترتيب الأثر عليه في ظرف الشك نقض لليقين بالشك، وحيث إنّ الصحيح هو الثاني لأن متعلق اليقين والشك ملحوظ بنظر العرف، والخصـوصية من حيث الزمان ملغـاة بالتعبد الشرعي، فتسـتفاد من قوله (عليه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» حجية الاستصحاب مطلقاً، بلا فرق بين موارد الشك في المقـتضي وموارد الشك في الرافع. هذا ملخّـص الكلام في التفصيل الأوّل الذي اختاره الشيخ (قدس سره) تبعاً للمحقق الخوانساري

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 22.

ــ[36]ــ

(قدس سره) (1).

 وأمّا التفصيل الثاني: الذي تفرَّد به الشيخ(2) (قدس سره) فهو التفصيل بين الحكم الثابت بالدليل الشرعي كالكتاب والسنّة والاجماع، والحكم الثابت بالدليل العقلي، فأنكر حجية الاستصحاب في الثاني. والوجه في هذا التفصيل ـ على ما ذكره الشيخ (قدس سره) بتوضيح منّا ـ أ نّه لا بدّ في جريان الاستصحاب من اتحاد الموضوع في القضيتين، فانّه لولا اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة، لا يصدق نقض اليقين بالشك، وحيث إنّه مع بقاء الموضوع بجميع خصوصياته وعدم عروض التغير فيه أصلاً لا يمكن عروض الشك في الحكم، فلا بدّ من حدوث تغير ما بحيث يوجب الشك في الحكم، فانّه مع بقاء التغير في الماء المتنجس بالتغير وعدم حدوث شيء يحتمل كونه مطهراً له كتتميمه كراً لا يمكن الشك في طهارته، وهذا التغير الذي أوجب الشك في الحكم تارةً يوجب تعدد الموضوع في القضية المتيقنة والمشكوكة، فلا يجري الاستصحاب فيه، واُخرى لا يوجبه، فلا مانع من جريانه.

 فإن كان الحكم ثابتاً بالدليل الشرعي، فالمرجع في اتحاد الموضوع في القضيتين وصدق نقض اليقين بالشك هو العرف. ففي مورد حكم العرف بتعدد الموضوع لا يصدق نقض اليقين بالشك، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه، وفي مورد حكم العرف بوحدة الموضوع في القضيتين وصدق النقض يجري فيه الاستصحاب، ونظر العرف في ذلك مختلف، فربّما يحكم بكون وصف تمام

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مشارق الشموس: 75 ـ 77.

(2) فرائد الاُصول 2: 554، راجع أيضاً التنبيه الثالث من تنبيهات الاستصحاب ص 650.

ــ[37]ــ

الموضوع للحكم وإن لم يوجد في الخارج إلاّ في الموصوف، فبعد زواله لا يمكن جريان الاستصحاب، كما في العدالة التي هي الموضوع لقبول الشهادة، والاجتهاد الذي هو الموضوع لجواز التقليد، فلو كان زيد عادلاً ثمّ صار فاسقاً لا يمكن جريان الاستصحاب في قبول شهادته، لأنّ العرف يرى العدالة تمام الموضوع لقبول الشهادة، والفسق موضوع آخر في نظرهم، فعدم ترتيب هذا الأثر ـ أي قبول الشهادة ـ لا يكون نقضاً لليقـين بالشك، وكذا الاجتهاد بالنسبة إلى جواز التقليد، فالوصف تمام الموضوع للحكم في نظر العرف وإن لم يوجد في الخارج إلاّ متعلقاً بموصوف.

 وإن شئت قلت: إنّ الوصف بالنسبة إلى ثبوت الحكم للموصوف من قبيل الواسـطة في العروض، ففي الحقـيقة نفس الوصف موضوع للحكم، ولأجله يعرض الحكم للموصوف بالعرض. وقد يحكم العرف بأنّ الوصف دخيل في ثبوت الحكم للموصوف ويكون الموصوف هو الموضوع فالوصف من قبيل الواسطة في الثبوت كالتغير للماء، فانّه واسطة لثبوت النجاسة للماء والموضوع هو الماء لا التغير، فانّه يقال في العرف إنّ الماء تنجس لتغيره، ولا يقال إنّ المتغير تنجس. ففي مثل ذلك لا إشكال في جريان الاستصحاب فيحكم بنجاسة الماء بعد زوال التغير.

 وقد يشك في كون الوصف من القسم الأوّل لئلاّ يجري الاستصحاب أو من القسم الثاني ليجري الاستصحاب، كما في المسافر الذي كان مسافراً في أوّل الوقت وبلغ إلى وطنه آخره، فمع قطع النظر عن النصوص الواردة في المقام نشك في أنّ الواجب عليه التمام أو القصر، فيحتمل كون وصف السفر تمام الموضوع لوجوب القصر، فلا يجري الاستصحاب، وكونه من قبيل الواسطة في الثبوت لوجوب القصر فيستصحب وجوبه. ففي مثل ذلك لا يمكن جريان

ــ[38]ــ

الاستصحاب أيضاً، لعدم إحراز صدق النقض فيه، فيكون التمسك بقوله (عليه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية. هذا كلّه فيما إذا ثبت الحكم بالدليل الشرعي.

 وأمّا إذا ثبت الحكم بالدليل العقلي والعقل لا يحكم بحكم للموضوع المهمل، لأنّ الاهمال في مقام الثبوت لا يتصور من الحاكم، فلا بدّ في حكم العقل من إدراك الموضوع بجميع قيوده، فلا يحكم العقل بحكم إلاّ للموضوع المقيد بقيود لها دخل في الحكم، فمع عدم انتفاء شيء من هذه القيود لايمكن الشك في الحكم، ومع انتفاء أحدها ينتفي الحكم العقلي يقيناً. والمفروض أنّ الحكم الشرعي في المقام مستفاد من الحكم العقلي بقاعدة الملازمة، فبانتفاء الحكم العقلي ينتفي الحكم الشرعي لا محالـة، فلا يبقى لنا شك في بقاء الحكم الشرعي حتى نرجع إلى الاسـتصحاب، بل هو مقطوع العدم. نعم، يحتمل ثبوت الحكم الشرعي للموضوع المذكور بعد انتفاء أحد القيود بجعل جديد من الشارع، لكنّه شك في حدوث الحكم لا في بقـائه، ومجرى الاستصحاب إنّما هو الشك في البقاء لا الشك في الحدوث، وجريان الاستصحاب ـ في الحكم الشرعي الأعم من الحادث والباقي ـ متوقف على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلّي الذي لا نقول به. هذا توضيح مرام الشيخ في هذا التفصيل.

 فتحصّل: أن إنكاره جريان الاستصحاب في الحكم الثابت بالدليل العقلي مبتن على مقدّمتين: الاُولى: أنّ الاهمال في حكم العقل لا يتصور. والثانية: أنّ حكم الشارع تابع له وينتفي بانتفائه. وقد أورد المحقق النائيني(1) (قدس سره) عليه في المقدمة الاُولى مرّةً، وفي المقـدمة الثانية اُخرى، واكتفى صاحب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 4: 20 و 114، فوائد الاُصول 4: 320 و 449.

ــ[39]ــ

الكفاية(1) (قدس سره) بالايراد على الثانية.

 أمّا إشكاله على المقدمة الاُولى: فهو أن حكم العقل على قسمين: الأوّل: أن يحكم على نحو القضية الشرطية ذات المفهوم، بأن يحكم بثبوت الحكم للموضوع مع وجود القيد، وبعدمه مع انتفاء القيد. والثاني: أن يحكم بحكم لموضوع من باب القدر المتيقن فليس له مفهوم حينئذ، فيحكم بثبوت حكم لموضوع مع اجتماع قيوده، ولا يحكم بعدم الحكم مع انتفاء أحدها، لاحتمال بقاء الملاك، فلا إهمال في حكم العقل بحسب مقام الاثبات لادراكه وجود الملاك، إنّما الاهمال بحسب مقام الثبوت لعدم إحاطته بجميع ما له دخل في الحكم، فحيث لا يحكم العقل بعدم الحكم مع انتفاء أحد القيود، يحتمل بقاء الحكم الشرعي، فيكون مورداً لجريان الاستصحاب. هذا ملخص الاشكال على المقدمة الاُولى.

 أقول: إن كان مراد الشيخ (قدس سره) من الحكم العقلي المستفاد منه الحكم الشرعي حكم العقل بوجود الملاك، بأن كان مراده أنّ العقل إذا حكم بوجود الملاك في موضوع ـ أي المصلحة الملزمة غير المزاحمة بشيء من الموانع، أو المفسدة كذلك ـ فلا محالة يترتب عليه الحكم الشرعي على ما هو المشهور من مذهب العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، فبعد إدراك العقل وجود الملاك يترتب الحكم الشرعي، لكون الصغرى وجدانية والكبرى برهانية، فيقال هذا الشيء مما له المصلحة الملزمة، وكلّما كان كذلك فهو واجب.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 386.

ــ[40]ــ

 فما أورده المحقق النائيني (قدس سره) عليه حق لا مجال لانكاره، لامكان أن يحكم العقل بوجود الملاك من باب القدر المتيقن، فبعد انتفاء أحد القيود لا يحكم العقل بانتفاء الحكم، لاحتمال بقاء الملاك، فيكون مورداً للاستصحاب، إلاّ أنّ هذا مجرد فرض، لأ نّا لم نجد إلى الآن مورداً حكم فيه العقل بوجود الملاك، وأنى للعقل هذا الادراك، وقد ذكرنا في بحث القطع(1) أنّ الأخبار الدالة على أنّ دين الله لا يصاب بالعقول وأ نّه ليس شيء أبعد عن دين الله من عقول الرجال، ناظرة إلى هذا المعنى، وهو استكشاف الحكم الشرعي من حكم العقل بوجود الملاك، وإن كان الحكم الشرعي مترتباً لا محالة لو فرض القطع بوجود الملاك بادراك العقل، لكنّه مجرد فرض كما ذكرنا.

 وإن كان مراد الشيخ (قدس سره) من الحكم العقلي المستكشف به الحكم الشرعي حكمه بالحسن أو القبح على ما هو محل الخلاف، فذهب الأشاعرة إلى أنّ الحسن والقبح بيد الشارع، فما حسّنه فهو حسن، وما قبّحه فهو قبيح، ولا سبيل للعقل إلى إدراك الحسن والقبح أبداً، وذهب أهل الحق والمعتزلة إلى أنّ العقل يدرك الحسن والقبح، فيرى الظلم قبيحاً ولو لم يكن شرع، والعدل حسناً كذلك حتى بالنسبة إلى أفعال الله سبحانه، فيرى العقل أنّ الظلم قبيح لا يصدر منه تعالى وأنّ العدل حسن لا يتركه، فكما أنّ العقل يدرك الواقعيات ويسمى عند أهل المعقول بالعقل النظري، فكذلك يدرك ما يتعلق بالنظام من قبح الظلم وحسن العدل ويسمى بالعقل العملي، فلا يرد عليه إشكال المحقق النائيني، لأن حكم العقل بالحسن أو القبح لا يمكن أن يكون مهملاً، فانّ العقل لا يحكم بحسن شيء إلاّ مع تشخيصه بجميع قيوده، وكذلك القبح. والظاهر أنّ مراد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب ص 59.

 
 

ــ[41]ــ

الشيخ (قدس سره) هو الثاني على ما ذكره في تنبيهات الاستصحاب، فلا يرد عليه ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره).

 وأمّا الاشكال على المقدمة الثانية: فبيانه ـ على ما ذكره صاحب الكفاية والمحقق النائيني ـ أ نّه لو سلّم إدراك العقل ملاك الحكم الشرعي بحيث يكون حكمه بوجود الملاك دائراً مدار جميع القيود وينتفي بانتفاء أحدها، لا يلزم من انتفاء الحكم العقلي انتفاء الحكم الشرعي، لامكان بقاء ملاك الحكم الشرعي في الواقع، فانّ انتفاء ما يراه العقل ملاكاً للحكم الشرعي لا يوجب انتفاء الملاك الواقعي له.

 وبعبارة اُخرى: الملازمة بين الحكم الشرعي والحكم العقلي إنّما هي بحسب مقام الاثبات دون مقام الثبوت، لأنّ العقل كاشف عن وجود الملاك للحكم الشرعي، وبعد انتفاء حكم العقل بانتفاء بعض القيود ترتفع كاشفية العقل، ويحتمل بقاء الملاك الواقعي للحكم الشرعي، لأنّ الشرع قد حكم باُمور كثيرة لا يدرك العقل ملاكها أصلاً، كتقبيل الحجر الأسود، وحرمة الارتماس في شهر رمضان، وغيرهما من التعبديات. مضافاً إلى ما في الكفاية من أ نّه لو سلّمنا انتفاء الملاك الواقعي الذي أدركه العقل، يحتمل بقاء الحكم الشرعي لاحتمال وجود ملاك آخر لنفس هذا الحكم، فنجري الاستصحاب في الحكم الشرعي الشخصي لا في الملاك حتى يكون من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلي. وهذا الاشكال لا دافع له. وعليه فالصحيح عدم الفرق في جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي بين كونه مستفاداً من الدليل الشرعي أو الدليل العقلي.

 ثمّ إنّه ذكر الشيخ(1) (قدس سره) أ نّه إذا اشتبه موضوع حكم العقل وشك

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 651.

ــ[42]ــ

في بقائه كما إذا شك في بقاء الاضرار في السم الذي حكم العقل بقبح شربه، يجري استصحاب الضرر، ويحصل منه الظن بالضرر، فيحكم بالحرمة الشرعية.

 وفيه أوّلاً: عدم إفادة الاستصحاب الظن بالضرر لا شخصياً ـ كما اعترف هو به(1) ـ ولا نوعياً.

 وثانياً: أنّ الحرمة الشرعية ليست منوطة بالظن بالضرر، بل بخوف الضرر، وهو ينطبق على مجرد الشك والاحتمال العقلائي، هذا في الضرر. وأمّا غيره فاذا شك في بقاء موضوع حكم العقل كما إذا حكم العقل بحسن إكرام العالم العادل مثلاً، وحكم الشرع بوجوب إكرامه بقاعدة الملازمة، وكان زيد عالماً عادلاً، ثمّ شككنا في بقاء عدالته، فلا إشكال في جريان الاستصحاب والحكم بعدالته بالتعبد الشرعي فيحكم بوجوب إكرامه.
ــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 578.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net