أقسام الأحكام الوضعية - الفرق بين الاُمور الاعتبارية والانتزاعية 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 8915


 ذكر صاحب الكفاية(1) (قدس سره) تفصيلاً في المقام حاصله: أنّ الأحكام الوضعية على أقسام ثلاثة:

 الأوّل: ما لا يكون مجعولاً بالجعل التشريعي أصلاً، لا استقلالاً ولا تبعاً للتكليف، وإن كان مجـعولاً بالجعل التكـويني تبعاً لجعل موضوعه كالسـببية والشرطية والمانعية والرافعية للتكليف.

 الثاني: ما يكون منتزعاً من التكليف كالشرطية والمانعية للمكلف به، فانّ المولى تارةً يأمر بشيء بلا تقييده بشيء وجودي أو عدمي، واُخرى يأمر بشيء مع التقييد بشيء وجوداً كالطهارة مثلاً فتنتزع منه الشرطية، أو عدماً كالنجاسة مثلاً فتنتزع منه المانعية.

 الثالث: ما يكون مجعولاً بالجعل التشريعي مستقلاً كالملكية والزوجية. وذكر أنّ الوجه في عدم كون القسم الأوّل مجعولاً بالجعل التشريعي أنّ اتصاف الأسباب والشروط بالسببية والشرطية ليس قابلاً للجعل الشرعي، ولا منتزعاً من التكليف لكونه متأخراً عنه حدوثاً وبقاءً، بل الاتصاف إنّما هو لخصوصية مؤثّرة في التكليف، وإلاّ يلزم أن يكون كل شيء مؤثراً في كل شيء، وهذه الخصوصية والربط شيء خارجي لا يحصل بمجرد الجعل التشريعي والانشاء، ولا يكون منتزعاً من التكليف لكونه متأخراً عنه كما ذكرنا، هذا ملخص كلامه (قدس سره).

 وقبل التعرض لتحقيق الأقسام المذكورة، لا بدّ من التنبيه على أمر، وهو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 400.

ــ[95]ــ

أ نّه كما تنتزع الاُمور الانتزاعية من الأشياء الخارجية، كذلك تنتزع من الاُمور الاعتبارية، فانّه إذا ترتب وجود شيء على شيء آخر في الخارج، تنتزع منه السببية والمسببية لهما، فكذلك الحال في الاُمور الاعتبارية، فاذا جعل المولى حكمه مترتباً على شيء كما إذا قال: من حاز ملك، أو من مات فما تركه لوراثه، فتنتزع منه السببية ويقال: إنّ الحيازة سبب لملكية الحائز، وموت المورّث سبب لملكية الوارث وهكذا، فلا فرق من هذه الجهة بين الاُمور الخارجية والاُمور الاعتبارية فانّها أيضاً من الاُمور الواقعية المحققة التي تترتب عليها الآثار، غاية الأمر أنّ تحققها إنّما هو في عالم الاعتبار وأمرها بيد المولى.

 وبما ذكرنا ظهر الفرق بين الاُمور الاعتبارية والانتزاعية، فانّ الاُمور الانتزاعية ليس بازائها شيء سوى منشأ الانتزاع، بخلاف الاُمور الاعتبارية فانّ لها تحققاً في عالم الاعتبار، وتترتب عليها الآثار، وليست من الاُمور الخيالية.

 فتحصّل مما ذكرنا أنّ هاهنا اُموراً أربعة، الأوّل: الاُمور المتأصلة الخارجية كالجواهر والأعراض. الثاني: الاُمور الاعتبارية التي أمرها بيد المولى. الثالث: الاُمور الانتزاعية، وهي على قسمين، لأنّ منشأ الانتزاع لها إمّا أن يكون من الاُمور الخارجية، وإمّا أن يكون من الاُمور الاعتبارية، وقد ذكرنا مثال القسمين. إذا عرفت ذلك فنقول:

 أمّا القسم الأوّل من الأحكام الوضعية الذي ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) فهو من قيود التكليف، فانّ المولى تارةً يجعل التكليف بلا قيد فيكون مطلقاً، واُخرى يجعله مقيداً بوجود شيء في الموضوع فيكون شرطاً، وثالثةً بعدمه فيكون مانعاً، فالسببية والشرطية والمانعية بالنسبة إلى التكليف

ــ[96]ــ

منتزعة من جعل التكليف مقيداً بوجود شيء في الموضوع أو عدمه.

 والفرق بين السبب والشرط مجرد اصطلاح، فانّهم يعبّرون عما اعتبر وجوده في الحكم التكليفي بالشرط، ويقولون: إنّ البلوغ شرط لوجوب الصلاة مثلاً، والاستطاعة شرط لوجوب الحج وهكذا، ويعبّرون عما اعتبر وجوده في الحكم الوضعي بالسبب، ويقولون: إنّ الملاقاة سبب للنجاسة، والحيازة سبب للملكية، فكلّ ما اعتبر وجوده في الحكم فهو شرط في باب التكليف وسبب في باب الوضع، سواء عبّر عن اعتباره بلفظ القضية الشرطية أو الحملية، فانّه لا فرق بين قول المولى: مَن كان مستطيعاً وجب عليه الحج، وقوله: المستطيع يجب عليه الحج فيما يفهم منهما، فانّ القضية الشرطية ترجع إلى الحملية، كما أنّ القضية الحملية ترجع إلى الشرطية التي مقدّمها تحقق الموضوع، وتاليها ثبوت المحمول له.

 وبالجملة: كلّ ما اعتبر وجوده في الموضوع فهو شرط للتكليف، كالاستطاعة لوجوب الحـج، وكلّ ما اعتـبر عدمه في الموضـوع فهو مانع عن التكليف كالحيض، فالشرطية والمانعية بالنسبة إلى التكليف منتزعة من جعل المولى التكليف مقيداً بوجود شيء في الموضوع أو عدمه، فتكون الشرطية والسببية والمانعية مجعولةً بتبع التكليف.

 فظهر أنّ ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سرة) ـ من عدم كون الشرطية والمانعية والسببية بالنسبة إلى التكليف قابلة للجعل أصلاً، لا بالاستقلال ولا بالتبع ـ خلط بين الجعل والمجعول، فانّ ما ذكره صحيح بالنسبة إلى أسباب الجعل وشروطها من المصالح والمفاسد والارادة والكراهة والميل والشوق، فانّها اُمور واقعية باعثة لجعل المولى التكليف ومبادئ له، وليست قابلةً للجعل التشريعي، لكونها من الاُمور الخارجية التي لا يعقل تعلق الجعل التشريعي

ــ[97]ــ

بها، بل ربما تكون غير اختيارية كالميل والشوق والمصلحة والمفسدة مثلاً، وهي خارجة عن محل الكلام، فانّ الكلام في الشرطية والسببية والمانعية بالنسبة إلى المجعول وهو التكليف، وقد ذكرنا أ نّها مجعولة بتبع التكليف، فكلّ ما اعتبر وجوده في الموضوع، فتنتزع منه السببية والشرطية، وكلّ ما اعتبر عدمه فيه فتنتزع منه المانعية. وظهر بما ذكرناه حال:

 القسم الثاني من الأحكام الوضعية، فانّه أيضاً منتزع من التكليف، والفرق بينه وبين القسم الأوّل، أنّ الشرطية والمانعية بالنسبة إلى التكليف إنّما تنتزعان من اعتبار شيء وجوداً أو عدماً في الموضوع وهو المكلف، بخلاف الشرطية والمانعية بالنسبة إلى المكلف به، فانّهما منتزعتان من اعتبار شيء في متعلق الأمر وهو المكلف به، فان اعتبر فيه شيء وجوداً، فتنتزع منه الشرطية ويقال: إنّ الاستقبال مثلاً شرط للصلاة، أو التستر شرط لها، وإن اعتبر فيه شيء عدماً، فتنتزع منه المانعية، ويقال: إنّ أجزاء غير مأكول اللحم مانعة عن الصلاة.

 فتلخص مما ذكرناه: أ نّه إذا أمر المولى بشيء ولم يقيده بشيء وجوداً ولا عدماً، فليس هنا شرط ولا مانع، لا للتكليف ولا للمكلف به، وإذا أمر بشيء مقيداً بوجود شيء في الموضوع كالاستطاعة، فهو شرط للتكليف، أو بعدمه فيه فهو مانع عنه كالحيض، وإذا أمر بشيء مقيداً بوجود شيء في المكلف به فهو شرط للمكلف به كالاستقبال، أو بعدمه فيه فهو مانع عنه كأجزاء غير المأكول، وإذا لم يقيد المولى المكلف به بشيء فهو مطلق.

 وظهر بما ذكرنا أنّ الجزئية أيضاً أمر منتزع من أمر المولى بالمركب، فاذا أمر بعدة اُمور من التكبير والقراءة والسورة والركوع والسجود وغيرها، تنتزع منه الجزئية ويقال: إنّ السورة مثلاً جزءٌ للصلاة.

ــ[98]ــ

 وأمّا القسم الثالث فالأمر فيه كما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ الملكية والزوجية وأمثالهما مجعولة بالاستقلال، لا أ نّها منتزعة من التكليف كما اختاره الشيخ(1) (قدس سره) فانّ انتزاعها من التكليف وإن كان ممكناً في مقام الثبوت، إلاّ أنّ مقام الاثبات لا يساعد عليه لكونه خلاف ظاهر الأدلة، إذ المستفاد من قوله (عليه السلام): «الناس مسلّطون على أموالهم»(2) أنّ جواز التصرف مسبوق بالملـكية ومن أحكامها، لا أنّ المـلكية منتزعة من جواز التصرف، فانّ الحكم بجواز التصرف يستفاد من قوله (عليه السلام): «مسلطون» والملكية من الاضافة في قوله (عليه السلام): «أموالهم».

 فظاهر الحديث أنّ الملكية متقدمة على جواز التصرف تقدم الموضوع على الحكم، وكذا عدم جواز التصرف في ملك الغير الذي يستفاد من قوله (عليه السلام): «لا يحل مال امرئ إلاّ بطيب نفسه»(3) فظاهره أنّ عدم جواز التصرف من آثار الملكية ومتأخر عنها رتبةً تأخر الحكم عن موضوعه، لا أ نّها منتزعة من عدم جواز تصرف الغير.

 وكذا الزوجية والرقية وغيرهما من الأحكام الوضعية، فانّ الرجوع إلى الأدلة يشهد بأنّ جواز الاستمتاع من آثار الزوجية ومتفرع عليها، لا أنّ الزوجية منتزعة من جواز الاستمتاع له، أو عدم جواز الاستمتاع للغير.

 مضافاً إلى أ نّه لا تلازم بين الملكية وجواز التصرف، ولا بينها وعدم جواز تصرف الغير، فانّ النسبة بين الملكية وجواز التصرف هو العموم من وجه، إذ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 603.

(2) عوالي اللآلي 3: 208 ح 49، بحار الأنوار 2: 272.

(3) الوسائل 5: 120 / أبواب مكان المصلي ب 3 ح 1 (باختلاف يسير).

ــ[99]ــ

قد يكون الشخص مالكاً ولا يجوز له التصرف كالسفيه والعبد على القول بملكه، وكذا في العين المرهونة، وقد يجوز التصرف له مع عدم كونه مالكاً كما في المباحات الأصلية. وكذا النسبة بين الملكية وعدم جواز تصرف الغير أيضاً هو العموم من وجه، فقد يكون الشخص مالكاً لشيء ويجوز لغيره التصرف فيه، كما في حق المارة والأكل عند المخمصة، وقد لا يجوز للغير التصرف مع عدم كون هذا الشخص مالكاً كما في العين المرهونة، فانّه لا يجوز التصرف فيها للراهن مع عدم كونها ملكاً للمرتهن، فكيف يمكن القول بأنّ الملكية منتزعة من جواز التصرف أو من عدم جواز تصرف الغير.

 هذا كلّه مضافاً إلى أ نّه يلزم على ما ذكره الشيخ (قدس سره) عدم جريان الاستصحاب فيما إذا زوّج أحد صغيرةً ثمّ بلغت وشك في أ نّه طلّقها أم لا، فانّه لا يجري الاستصحاب في الحكم الوضعي وهو الزوجية، لكونه منتزعاً من التكليف، فيكون تابعاً لمنشأ الانتزاع حدوثاً وبقاءً، ولا في الحكم التكليفي وهو جواز الوطء لكونه مسبوقاً بالعدم، لعدم جواز وطء الزوجة الصغيرة، إلاّ أن يقال: إنّه يجري الاستصحاب في الحكم التكليفي بنحو التعليق بناءً على حجية الاستصحاب التعليقي فيقال: إنّ هذه المرأة لو بلغت سابقاً كان وطؤها جائزاً والآن كما كان، وعلى ما ذكرنا من كون الزوجية مجعولةً بالاستقلال، يجري الاستصحاب فيها بلا إشكال ويترتب عليه جواز الوطء.

 فالمتحصل مما ذكرناه في المقام: أنّ الأحكام الوضعية على قسمين: قسم منها مجعول بالاستقلال كالملكية والزوجية، وقسم منها منتزع من التكليف إمّا باعتبار شيء في الموضوع أو في المتعلق.

 بقي الكلام في اُمور قد اختلف في أ نّها من الأحكام الوضعية أم لا:




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net