3 ـ اعتبار الشك الفعلي في البقاء 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5053


التنبيه الثالث

 إذا علمنا وجداناً بحدوث شيء ثم شككنا في بقائه، فهذا هو القدر المتيقن من مورد الاستصحاب.

 وأمّا إذا شك في بقاء شيء على تقدير حدوثه ولم يحرز حدوثه بالوجدان،

ــ[114]ــ

كما إذا قامت الأمارة على حدوث شيء ثمّ شك في بقائه على تقدير حدوثه، ففي جريان الاستصحاب إشكال لعدم اليقين بالحدوث، وهو واضح، بل لعدم الشك في البقاء أيضاً، لأنّ الشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو الشك في بقاء المتيقن، لا مطلق الشك، وليس في المقام شك في بقاء المتيقن، بل الشك في البقاء على تقدير الحدوث، فلا يجري الاستصحاب، لانتفاء كل من اليقين والشك المأخوذين في موضوعه.

 ولا اختصاص لهذا الاشكال بطريقية الأمارات، بل يجري على بعض صور الموضوعية أيضاً، توضيحه: أ نّه بناءً على الطريقية لا يقين بالحكم، لاحتمال عدم مصادفة الأمارة للواقع، بل ولا شك في البقاء على ما ذكرناه، فلا مجال لجريان الاستصحاب. وأمّا بناءً على الموضوعية على ما هو المشهور بينهم من أنّ ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم، فموضوعية الأمارات وسببيتها تتصور على وجهين:

 الوجه الأوّل: أن يكون قيام الأمارة على وجوب شيء مثلاً موجباً لحدوث مصلحة في ذات الفعل، بأن يكون قيام الأمارة من قبيل الواسطة في الثبوت لعروض المصلحة الملزمة في ذات الفعل. ولا إشكال في جريان الاستصحاب على هذا المبنى، إذ بعد قيام الأمارة يكون الوجوب متيقناً، فاذا شك في بقائه لا مانع من جريان الاستصحاب بالنسبة إلى هذا الوجوب الحادث لأجل قيام الأمارة، وإن كان الوجوب الواقعي مشكوكاً من أوّل الأمر.

 الوجه الثاني: أن يكون قيام الأمارة على وجوب شيء مثلاً موجباً لعروض المصلحة للفعل المقيد بكون وجوبه مؤدى الأمارة، بأن يكون قيام الأمارة من قبيل الواسطة في العروض للمصلحة، ولا يجري الاستصحاب على هذا المبنى، إذ الوجوب الواقعي لم يكن متيقناً حتى نجري الاستصحاب فيه، والوجوب

ــ[115]ــ

الحادث لقيام الأمارة معلوم العدم، لأ نّه كان مقيداً بقيام الأمارة، والمفروض عدم دلالة الأمارة على الحكم في الزمان الثاني، وإلاّ لم يقع الشك فيه، فلا مجال لجريان الاستصحاب، بلا فرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية.

 والاُولى كما إذا أفتى مفت بوجوب شيء في زمان مع تردده في الزمان الثاني، فلا يجري استصحاب الوجوب في الزمان الثاني، لكون الوجوب الواقعي مشكوكاً من أوّل الأمر، والوجوب الحادث لفتوى المفتي كان مقيداً بالفتوى، والمفروض كونه متردداً في الزمان الثاني فهو معلوم الانتفاء.

 والثانية كما إذا قامت البينة على نجاسة ماء في الأمس مثلاً، ثمّ شككنا في بقاء نجاسته في اليوم، فلا مجال لجريان الاستصحاب، إذ النجاسة الواقعية مشكوكة من أوّل الأمر، والنجاسة الحادثة لقيام الأمارة مقيدة بحال قيام الأمارة، والمفروض قيام البينة على النجاسة في الأمس دون اليوم، فالنجاسة الحادثة منتفية يقيناً. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح الاشكال.

 وقد أجاب عنه صاحب الكفاية (قدس سره)(1) بأن اعتبار اليقين إنّما هو لأجل التعبد بالبقاء لا بالحدوث، فمفاد أدلة الاستصحاب هو جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء، فيكفي في جريان الاستصحاب الشك في البقاء على تقدير الثبوت، ولا يلزم الشك الفعلي في البقاء، فانّ صدق الشرطية لا يتوقف على صدق طرفيها.

 ثمّ استشكل على نفسه بأنّ اليقين جعل موضوع الاستصحاب في لسان الأدلة، فكيف يصح جريانه مع عدم اليقين.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 404 و 405.

ــ[116]ــ

 فأجاب بأنّ اليقين المأخوذ في أدلة الاستصحاب ليس موضوعاً للاستصحاب، بل طريق إلى الثبوت، فيكون التعبد بالبقاء مبنياً على الثبوت لا على اليقين بالثبوت، وذكر اليقين في أدلة الاستصحاب لمجرد كونه طريقاً إلى الثبوت، ففيما إذا قامت الأمارة على الثبوت يتعبد بالثبوت للأمارة، وبالبقاء لأدلة الاستصحاب الدالة على الملازمة بين الثبوت والبقاء.

 وفيه أوّلاً: أنّ ظاهر أدلة الاستصحاب كون اليقين موضوعاً له كالشك، ولا تنافي بين كونه موضوعاً للاستصحاب وطريقاً إلى متعلقه. ولا إشكال في أنّ اليقين في مورد الاستصحاب طريقي بالنسبة إلى متعلقه، لكنّه موضوعي بالنسبة إلى الاستصحاب وعدم جواز نقض اليقين بالشك، لما ذكرنا سابقاً (1) من أن قوله (عليه السلام): «لا ينبغي نقض اليقين بالشك» راجع إلى القضية الارتكازية، وهي أنّ الأمر المبرم لا يرفع اليد عنه لأمر غير مبرم، والمراد من الأمر المبرم في المقام هو اليقين، ومن غير المبرم هو الشك، فلا بدّ من وجود اليقين والشك.

 وثانياً: أنّ الملازمة المدعاة بين الثبوت والبقاء في كلامه إن كان المراد منها الملازمة الواقعية، بأن يكون مفاد أدلة الاستصحاب هو الاخبار عن الملازمة الواقعية بين الحدوث والبقاء فهو مع كونه مخالفاً للواقع، لعدم الملازمة بين الحدوث والبقاء في جميع الأشياء، لكونها مختلفة في البقاء غاية الاختلاف، فبعضها آني البقاء وبعضها يبقى إلى ساعة وبعضها إلى يوم وهكذا، مستلزم لكون أدلة الاستصحاب من الأمارات الدالة على الملازمة الواقعية بين الحدوث

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 21.

ــ[117]ــ

والبقاء، وبعد إثبات هذه الملازمة، تكون الأمارة الدالة على الثبوت دالةً على البقاء، إذ الدليل على الملزوم دليل على اللازم، والإخبار عن الملزوم إخبار عن اللازم وإن كان المخبر غير ملتفت إلى الملازمة، كما سيجيء في بحث الأصل المثبت(1) إن شاء الله تعالى، فيكون التعبد بالبقاء تعبداً به للأمارة لا للأصل العملي المجعول في ظرف الشك، فينقلب الاستصحاب أمارةً بعد كونه من الاُصول العملية، وتكون الملازمة في المقام نظير الملازمة الواقعية الثابتة بين قصر الصلاة وإفطار الصوم بمقتضى الروايات(2) الدالة على أ نّه كلما أفطرت قصّرت وكلّما قصّرت أفطرت، فبعد ثبوت هذه الملازمة يكون الدليل على وجوب القصر دالاً على وجوب الافطار وبالعكس، فكذا في المقام بعد ثبوت الملازمة الواقعية بين الحدوث والبقاء بمقتضى أدلة الاستصحاب يكون نفس الدليل على الحدوث دليلاً على البقاء، فيكون التعبد بالبقاء تعبداً به للأمارة لا للأصل العملي.

 وإن كان المراد من الملازمة هي الملازمة الظاهرية بين الحدوث والبقاء، فلازمه الملازمة الظاهرية بين حدوث التنجيز وبقائه، ولا يمكن الالتزام بها، إذ في موارد العلم الاجمالي بالحرمة مثلاً يكون التكليف منجّزاً، ثمّ لو قامت بينة على حرمة بعض الأطراف بالخصوص ينحل العلم الاجمالي، وبانحلاله يرتفع التنجز، فانّه تابع للمنجّز ومقدّر بقدره، فلا ملازمة بين حدوث التنجيز وبقائه ولا يلتزم بها صاحب الكفاية (قدس سره) أيضاً، فانّه وغيره أجابوا عن استدلال الأخباريين لوجوب الاحتياط بالعلم الاجمالي بواجبات ومحرمات

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ ص 184.

(2) راجع على سبيل المثال الوسائل 8: 503 / أبواب صلاة المسافر ب 15 ح 17.

ــ[118]ــ

كثيرة بأنّ العلم الاجمالي قد انحل بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال من الواجبات والمحرمات، وبعد انحـلاله تنقلب الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي إلى الشبهة البدوية، فيرجع إلى البراءة (1) وهذا الجواب ينادي بعدم الملازمة بين حدوث التنجز وبقائه كما ترى.

 فالانصاف أ نّه على القول بأنّ معنى جعل حجية الأمارات ليس إلاّ التنجيز في صورة الاصابة والتعذير مع المخالفة كما عليه صاحب الكفاية (2) وجماعة من الأصحاب، لا دافع لهذا الاشكال.

 نعم، يمكن الجواب بمسلك آخر، وهو أنّ معنى جعل حجية الأمارات هو جعل الأمارات من أفراد العلم في عالم الاعتبار، فيكون لليقين حينئذ فردان: اليقين الوجداني، واليقين الجعلي الاعتباري، فكما أنّ لليقين الوجداني أثرين: الأوّل: الآثار الواقعية للمتيقن. والثاني: آثار نفس اليقين إذا كان له أثر، كما إذا كان موضوعاً لحكم من الأحكام، فكذا اليقين الجعلي يكون له هذان الأثران، فكما لو علمنا بحكم من الأحكام ثمّ شككنا في بقائه نرجع إلى الاستصحاب، كذلك إذا قامت الأمارة على حكم ثمّ شككنا في بقائه لا مانع من جريان الاستصحاب.

  واليقين المذكور في أدلة الاستصحاب وإن كان موضوعاً للاستصحاب، إلاّ أ نّه مأخوذ في الموضوع بما هو كاشف لا بما هو صفة خاصة، وقد ذكرنا في مبحث القطع(3) أنّ الأمارة تقوم مقام القطع الطريقى والقطع المأخوذ في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 346.

(2) كفاية الاُصول: 277 و 347.

(3) في الجزء الثاني من هذا الكتاب، 37.

ــ[119]ــ

الموضوع بما هو كاشف، وذكرنا أنّ كل مورد اُخذ فيه القطع موضوعاً ظاهره أ نّه موضوع بما هو كاشف، لا بما هو صفة خاصة، لمناسبة الحكم والموضوع بحكم العرف، فانّه إذا قيل: إن تيقّنت بنجاسة ثوبك بعد الصلاة تجب عليك الاعادة، فظاهره أنّ اليقين بما هو كاشف عن النجاسة قد اُخذ في موضوع وجوب الاعادة، لا بما هو صفة خاصة، فاذا كان اليقين مأخوذاً في موضوع الاستصحاب بما هو كاشف، فلا مانع من جريان الاستصحاب في كل مورد ثبت الحكم فيه بكاشف ثمّ شك في بقائه.

 والذي يدلنا على هذا المعنى مع وضوحه: قوله (عليه السلام) في بعض أدلة الاستصحاب: «بل تنقضه بيقين آخر» فانّ المراد من هذا اليقين ليس صفة اليقين يقيناً، إذ لا إشكال في نقض اليقين بالأمارة، كما إذا كان متيقناً بطهارة شيء فقامت البينة على نجاسته، فلا إشكال في وجوب الاجتناب عنه، وكذا إذا كان متيقناً بالنجاسة فقامت البينة على الطهارة لا إشكال في عدم وجوب الاجتناب، فاذا صح الالتزام بقيام الأمارة مقام اليقين الوجداني في قوله (عليه السلام): «بل تنقضه بيقين آخر» لصح الالتزام بقيامها مقامه في قوله (عليه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» والسر في الموضعين هو ما ذكرناه من كون الأمارة يقيناً بالجعل الشرعي، هذا كلّه في الأمارات.

 وأمّا الاُصول فتحقيق الحال في جريان الاستصحاب في مواردها، أ نّها على قسمين:

 القسم الأوّل: ما يكون الأصل المتكفل لبيان الحكم في الزمان الأوّل متكفلاً له في الآن الثاني والثالث إلى زمان العلم بالخلاف، ففي مثل ذلك لا معنى لجريان الاستصحاب.

 مثاله قاعدة الطهارة، فاذا شكننا في مائع أ نّه بول أو ماء، وحكمنا بطهارته

ــ[120]ــ

لقاعدة الطهارة، ثمّ شككنا في بقاء طهارته لاحتمال ملاقاته النجاسة، فانّه لا معنى لجريان الاستصحاب حينئذ، إذ قاعدة الطهارة كما تدل على طهارته في الزمان الأوّل، تدل على طهارته في الزمان الثاني والثالث إلى زمان العلم بالنجاسة. وبعبارة اُخرى: ان أردنا جريان الاستصحاب في الطهارة الواقعية، فلم يكن لنا يقين بها، وإن أردنا جريانه في الطهارة الظاهرية، فلا يكون لنا شك في ارتفاعها حتى نحتاج إلى الاستصحاب، بل هي باقية يقيناً.

 ومن هذا القبيل قاعدة الحل بل الاستصحاب أيضاً، فاذا كان ثوب معلوم الطهارة ثمّ شككنا في ملاقاته البول مثلاً فاستصحبنا طهارته، ثمّ شككنا في ملاقاته الدم مثلاً، فلا معنى لاستصحاب الطهارة بعد تحقق هذا الشك الثاني، إذ نفس الاستصحاب الأوّل متكفل لبيان طهارته إلى زمان العلم بالنجاسة.

 هذا إذا قلنا في أمثال المقام بجريان الاستصحاب في الحكم وهو الطهارة. وأمّا إذا قلنا بجريان الاستصحاب في الموضوع دون الحكم، أي عدم ملاقاة النجاسة، لكون الشك في الطهارة مسبباً عن الشك في الملاقاة، فلا إشكال في جريان الاستصحاب بعد الشك الثاني في المثال، فبالاستصحاب الأوّل نحكم بعدم ملاقاة البول وتترتب عليه الطهارة من هذه الجهة، وبعد الشك في ملاقاة الدم نجري استصحاب عدم ملاقاة الدم ونحكم بالطهارة من هذه الحيثية، وهذا الاستصحاب في الحقيقة خارج عن محل الكلام، إذ الكلام في جريان الاستصحاب في موارد الاُصول العملية، والاستصحاب المذكور بما أ نّه مسبوق بالعلم الوجداني فهو استصحاب في مورد العلم الوجداني لا في مورد الأصل.

 القسم الثاني: أن لا يكون الأصل متكفلاً لبيان الحكم في الزمان الثاني والثالث، كما إذا شككنا في طهارة ماء فحكمنا بطهارته للاستصحاب أو لقاعدة الطهارة ثمّ غسلنا به ثوباً متنجساً، فلولا جريان الاستصحاب أو القاعدة في

 
 

ــ[121]ــ

الماء، لكان مقتضى الاستصحاب في الثوب هو النجاسة، لكنّ الحكم بطهارة الثوب من آثار طهارة الماء الثابتة بالاستصحاب أو القاعدة، فيكون الأصل الجاري في الماء حاكماً على استصحاب النجاسة في الثوب لكونه سببياً، ويكون الأصل الجاري في الماء متكفلاً لحدوث الطهارة في الثوب فقط ولا يكون متكفلاً لطهارته في الزمان الثاني والثالث، فبعد غسل الثوب بالماء المذكور لو شككنا في ملاقاته مع النجاسة لا مانع من جريان الاستصحاب في طهارة الثوب أو في عدم ملاقاته النجاسة.
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net